الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حلقات الدرس والمشرفون عليها
…
حلقات الدروس والمشرفون عليها
ولهذا المسجد حلقات للتدريس في فنون العلم والمحدثون يقرؤون كتب الحديث على كراسي مرتفعة وقراء القرآن يقرؤون بالأصوات الحسنة صباحا ومساءا وبه جماعة من المعلمين لكتاب الله يستند كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد يلقن الصبيان ويقرئهم وهم لا يكتبون القرآن في الألواح تنزيها لكتاب الله تعالى وإنما يقرؤون القرآن تلقينا ومعلم الخط غير معلم القرآن يعلمهم بكتب الأشعار وسواها فينصرف الصبي من التعليم إلى التكتيب وبذلك جاد خطه لأن المعلم للخط لا يعلم غيره ومن المدرسين بالمسجد المذكور العالم الصالح برهان الدين بن الفركاح الشافعي ومنهم العالم الصالح نور الدين أبو اليسر بن الصانع من المشتهرين بالفضل والصلاح ولما ولي القضاء بمصر جلال الدين القزويني وجه إلى أبي اليسر الخلعة والأمر بقضاء دمشق فامتنع من ذلك ومنهم الإمام العالم شهاب الدين ابن جهيل من كبار العلماء هرب من دمشق لما امتنع أبو اليسر من قضائها خوفا من أن يقلد القضاء فاتصل ذلك بالملك الناصر فولي قضاء دمشق شيخ الشيوخ بالديار المصرية قطب العارفين لسان المتكلمين علاء الدين القونوي وهو من كبار الفقهاء ومنهم الإمام الفاضل بدر الدين علي السخاوي رحمة الله عليهم أجمعين.
مشاهير قضاة دمشق وفقهائها:
قد ذكرنا قاضي القضاة الشافعي بها جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني وأما قاضي المالكية فهو شرف الدين خطيب الفيوم حسن الصورة والهيئة من كبار الرؤساء وهو شيخ شيوخ الصوفية والنائب عنه في القضاء شمس الدين بن القفصي ومجلس حكمه بالمدرسة الصمصامية وأما قاضي قضاة الحنفية فهو عماد الدين الحوراني وكان شديد السطوة وإليه تحاكم النساء وأزواجهن. وكان الرجل إذا سمع اسم القاضي الحنفي أنصف من نفسه قبل
الوصول إليه وأما قاضي الحنابلة فهو الإمام الصالح عز الدين بن مسلم من خيار القضاة ينصرف على حمار له ومات بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توجه للحجاز الشريف.
وكان بدمشق من كبار فقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون إلا أن في عقله شيئاً. وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم ويعظهم على المنبر وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي وقال أن هذا الرجل قال كذا وكذا وعدد ما أنكر على ابن تيمية وأحضر العقود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة وقال قاضي القضاة لابن تيمية ما تقول؟ قال لا إله إلا الله فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله فأمر الملك الناصر بسجنه فسجن أعواما. وصنف في السجن كتاب في تفسير القرآن سماه البحر المحيط في نحو أربعين مجلداً ثم أن أمه تعرضت للملك الناصر وشكت إليه فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه ذلك ثانية وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة1 وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه أن قال أن الله ينزل من سماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من درج المنبر فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزاهراء وأنكر ما تكلم به فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيرا حتى سقطت عمامته وظهر على رأسه شاشية حرير فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة فأمر بسجنه وعزره بعد ذلك فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكز وكان من خيار الأمراء وصلحائهم فكتب إلى الملك
1 يظهر من خلال كلام ابن بطوطة تحامله الشديد على شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، وتضاربه في كلامه، فبينما يصفه بأنّه من كبار فقهاء الحنابلة يقول: إلاّ أن في عقله شيئاً، وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم، فكيف يتفق أن يكون من كبار الفقهاء الحنابلة وموضع تعظيم أهل دمشق مع أن في عقله شيئاً؟ ثم إنّه برغم أنه حضره يوم الجمعة يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم وأن من جملة كلامه: أن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، يزعم هذا رغم أنّه لم يصل إلى دمشق إلاّ في يوم الخميس تاسع رمضان، وابن تيمية اعتقل وسجن بقلعة دمشق – باتفاق المؤرّخين – في يوم الاثنين سادس عشر شعبان. جنبنا الله الزلل.
الناصر بذلك وكتب عقداً شرعياً على ابن تيمية بأمور منكرة منها أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة ومنها أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيبا لا يقصر الصلاة وسوى ذلك ما يشبهه وبعث العقد إلى الملك الناصر فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة فسجن بها حتى مات في السجن.
مدارس دمشق:
اعلم أن للشافعية بدمشق جملة من المدارس أعظمها العادلية وبها يحكم قاضي القضاة وتقابلها المدرسة الظاهرية وبها قبر الملك الظاهر وبها جلوس نواب القاضي ومن نوابه فخر الدين القبطي وكان والده من كتاب القبط وأسلم ومنهم جمال الدين بن جملة وقد تولى قضاء قضاة الشافعية بعد ذلك وعزل لأمر أوجب عزله.
وكان بدمشق الشيخ الصالح ظهير الدين العجمي وكان سيف الدين تنكيز ملك المراء يتلمذ له ويعظمه فحضر يوما بدار العدل عند ملك الأمراء وحضر القضاة الأربعة فحكى قاضي القضاة جمال الدين بن جملة حكاية فقال له ظهير الدين كذبت فأنف القاضي من ذلك وامتعض له فقال للأمير كيف يكذبني بحضرتك؟ فقال له الأمير احكم عليه وسلمه إليه وظنه أنه يرضى بذلك فلا يناله بسوء فأحضره القاضي بالمدرسة العادلية وضربه مائتي سوط وطيف به على حمار في مدينة دمشق ومناد ينادي عليه فمتى فرغ من ندائه ضربه على ظهره ضربة وهكذا العادة عندهم فبلغ ذلك ملك الأمراء فأنكره أشد الإنكار وأحضر القضاة والفقهاء فأجمعوا على خطأ القاضي وحكمه بغير مذهبه فإن التعزير عند الشافعي لا يبلغ به الحد وقال قاضي المالكية شرف الدين قد حكمت بتفسيقه فكتب إلى الملك الناصر بذلك فعزله. وللحنفية مدارس كثيرة وأكبرها مدرسة السلطان نور الدين وبها يحكم قاضي الحنفية. وللمالكية بدمشق ثلاث مدارس إحداها الصمصامية وبها سكن قاضي قضاة المالكية وقعوده للأحكام والمدرسة النورية عمرها السلطان نور الدين محمود بن زنكي والمدرسة الشرابشي التاجر، وللحنابلة مدارس كثيرة أعظمها النجمية.
أبواب دمشق:
ولمدينة دمشق ثمانية أبواب منها باب الفراديس ومنها باب الجابية ومنها الباب الصغير، وفيما بين هذين البابين مقبرة فيها العدد الجم من الصحابة والشهداء، فمن بعدهم.
قال محمد بن جزي: لقد أحسن بعض المتأخرين من أهل دمشق في قوله:
دمشق في أوصافها
…
جنة خلد راضيه
أما ترى أبوابها
…
قد جعلت ثمانية.
بعض المشاهد والمزارات في دمشق:
فمنها بالمقبرة التي بين باب الجابية والباب الصغير قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين وقبر أخيها أمير المؤمنين معاوية وقبر بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين وقبر أويس القرني وقبر كعب الأحبار وضي الله عنهما ووجدت في كتاب المعلم في شرح صحيح مسلم للقرطبي أن جماعة من الصحابة صحبهم أويس القرني من المدينة إلى الشام فتوفي في أثناء الطريق في برية لا عمارة فيها ولا ماء فتحيروا في أمره فنزلوا فوجدوا حنوطا وكفنا وماء فعجبوا من ذلك وغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه ثم ركبوا فقال بعضم كيف نترك قبره بغير علامة فعادوا للموضع فلم يجدوا للقبر من أثر. قال ابن جزي: ويقال: أن أويساً قتل بصفّين مع علي عليه السلام، وهو الأصح أن شاء الله ويلي باب الجابية باب شرقي عنده جباية فيها قبر أبي كعب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها قبر العابد الصالح أرسلان المعروف بالباز الأشهب.
ويحكى أن الشيخ الولي أحمد الرفاعي رضي الله عنه كان مسكنه بأم عبيدة بمقربة من مدينة واسط وكانت بين ولي الله تعالى أبي مدين شعيب بن الحسين وبينه مؤاخاة ومراسلة ويقال أن كل واحد منهما كان يسلم على صحبه صباحا ومساء فيرد عليه الآخر وكانت للشيخ أحمد نخيلات عند زاويته فلما كان في إحدى السنين جذها على عادته وترك عذقا منها وقال هذا برسم أخي شعيب فحج الشيخ أبو مدين تلك السنة واجتمعا بالموقف الكريم بعرفة ومع الشيخ أحمد خديمه أرسلان فتفاوضا الكلام. وحكى الشيخ حكاية العذق فقال له
أرسلان عن أمرك يا سيدي آتيه به. فأذن له. فذهب من حينه وأتاه به ووضعه بين أيديهما فأخبر أهل الزاوية أنهم رأوا عشية يوم عرفة بازا أشهب قد انقض على النخلة فقطع ذلك العذق وذهب به في الهواء. وبغربي دمشق جبانة تعرف بقبور الشهداء فيها قبر أبي الدرداء وزوجه أم الدرداء وقبر فضالة بن عبيد وقبر واثلة بن الأسقع وقبر سهل بن حنظلة من الذين بايعوا تحت الشجرة رضي الله عنهم أجمعين. وبقرية تعرف بالمنيحة شرقي دمشق وعلى أربعة أميال منها قبر سعد بن عبادة رضي الله عنه وعليه مسجد صغير حسن البناء وعلى رأسه حجر مكتوب هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً. وبقرية قبلي البلد وعلى فرسخ منها مشهد أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة عليهم السلام ويقال أن اسمها زينب وكناها النبي صلى الله عليه وسلم أم كلثوم لشبهها بخالتها أم كلثوم بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وعليه مسجد كبير وحوله مساكن وله أوقاف ويسميه أهل دمشق قبر الست أم كلثوم وقبر آخر يقال أنه قبر سكينة بنت الحسين بن علي عليه السلام. وبجامع النيرب من قرى دمشق في بيت بشرقية قبر يقال أنه قبر أم مريم عليها السلام، وبقرية تعرف بداريا غرب البلد وعلى أربعة أميال منها قبر أبي مسلم الخولاني وقبر أبي سليمان الداراني رضي الله عنهما، ومن مشاهد دمشق الشهيرة البركة مسجد الأقدام وهو في قبلي دمشق على ميلين منها على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى الحجاز الشريف وبيت المقدس وديار مصر وهو مسجد عظيم كثير البركة وله أوقاف كثيرة ويعظمه أهل دمشق تعظيما شديدا والأقدام التي ينسب إليها هي أقدام مصورة في حجر هناك يقال إنها أثر قدم موسى عليه السلام وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه كان بعض الصالحين يرى المصطفى صلى الله عليه وسلم في النوم فيقول له ها هنا قبر أخي موسى عليه السلام وبمقربة من هذا المسجد موضع يعرف بالكثيب الأخضر وبمقربة من بيت المقدس وأريحا موضع يعرف بالكثيب الأحمر تعظمه اليهود.
وحين نزل الطاعون الأعظم بدمشق في أواخر ربيع الثاني سنة تسع وأربعين شاهدت من تعظيم أهل دمشق لهذا المسجد ما يعجب منه وهو أن ملك الأمراء نائب السلطان أرغون شاه أمر مناديا ينادي بدمشق أن يصوم الناس ثلاثة أيام ويطبخون بالسوق فصام الناس ثلاثة أيام متوالية كان آخرها يوم الخميس ثم اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة والفقهاء وسائر الطبقات على اختلافها في
الجامع حتى غص بهم وباتوا ليلة الجمعة ما بين مصل وذاكر وداع ثم صلوا الصبح وخرجوا جميعا على أقدامهم وبأيديهم المصاحف والأمراء حفاة وخرج جميع أهل البلد ذكورا وإناثا صغارا وكبارا وخرج اليهود بتوراتهم والنصارى بإنجيلهم ومعهم النساء والولدان وجميعهم باكون متضرعون إلى الله بكتبه وأنبيائه وقصدوا مسجد الإقدام وأقاموا به في تضرعهم إلى قرب الزوال وعادوا إلى البلد وصلوا الجمعة وخفف الله تعالى عنهم بعد ما انتهى عدد الموتى إلى ألفين في اليوم الواحد وقد انتهى عددهم بالقاهرة ومصر إلى أربعة وعشرين ألفا في يوم واحد. وبالباب الشرقي من دمشق منارة بيضاء يقال إنها التي ينزل عيسى عليه السلام عندها حسبما ورد في صحيح مسلم.
أرباض دمشق:
وتدور بدمشق من جهاتها ما عدا الشرقية أرباض فسيحة الساحات دواخلها أملح من داخل دمشق لأجل الضيق الذي في سككها وبالجهة الشمالية منها ربض الصالحية وهي مدينة عظيمة لها سوق لا نظير لحسنه وفيها مسجد جامع ومارستان وبها مدرسة تعرف بمدرسة ابن عمر موقوفة على من أراد أن يتعلم القرآن الكريم من الشيوخ والكهول وتجري لهم ولمن يعلمهم كفايتهم من المآكل والملابس. وبداخل البلد أيضا مدرسة مثل هذه تعرف بمدرسة ابن منجا وأهل الصالحية كلهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
جبل قاسيون ومشاهده المباركة:
وقاسيون: جبل في شمال دمشق والصالحية في سفحه وهو شهير البركة لأنه مصعد الأنبياء عليهم السلام ومن مشاهده الكريمة الغار الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام وهو غار مستطيل ضيق عليه مسجد كبير وله صومعة عالية ومن ذلك الغار رأى الكواكب والقمر والشمس حسبما ورد في الكتاب العزيز وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج إليه وقد رأيت ببلاد العراق قرية تعرف بِبُرْص "بضم الباء الموحدة وآخرها صاد مهمل"، ما بين الحلة وبغداد يقال: أن إبراهيم عليه السلام كان بها وهي بمقربة من بلد ذي الكفل عليه
السلام وبها قبره ومن مشاهده بالغرب منه مغارة الدم وفوقها بالجبل دم هابيل بن آدم عليه السلام وقد أبقى الله منه في الحجارة أثراً محمراً وهو الموضع الذي قتله أخوه به وأجتره إلى المغارة ويذكر أن تلك المغارة صلى فيها إبراهيم وموسى وعيسى وأيوب ولوط صلى الله عليهم أجمعين وعليها مسجد متقن البناء يصعد إليه على درج وفيه بيوت ومرافق للسكنى ويفتح في كل يوم اثنين وخميس والشمع والسرج توقد بالمغارة ومنها كهف بأعلى الجبل ينسب لآدم عليه السلام وعليه بناء وأسفل منه مغارة تعرف بمغارة الجوع يذكر أنه أوى إليها سبعون من الأنبياء عليهم السلام وكان عندهم رغيف فلم يزل يدور عليهم وكل منهم يؤثر صاحبه به حتى ماتوا جميعا صلى الله عليهم وعلى هذه المغارة مسجد مبني والسرج توجد فيه ليلاً ونهاراً ولكل مسجد من هذه المساجد أوقاف كثيرة معينة ويذكر أن فيما بين باب الفراديس وجامع قاسيون مدفن سبعمائة نبي وبعضهم يقول سبعين ألفا وخارج المدينة المقبرة العتيقة وهي مدفن الأنبياء والصالحين وفي طرفها مما يلي البساتين أرض منخفضة غلب عليها الماء يقال أنها مدفن سبعين نبيا وقد عادت قرارا للماء ونزهت من أن يدفن فيها أحد1.
وفي آخر جبل قاسيون الربوة المباركة في كتاب الله ذات القرار المعين ومأوى المسيح عيسى وأمه عليهما السلام وهي من أجمل مناظر الدنيا ومنتزهاتها وبها القصور المشيدة والمباني الشريفة والبساتين البديعة والمأوى المبارك مغارة صغيرة في وسطها كالبيت الصغير وإزاءها بيت يقال أنه مصلى الخضر عليه السلام يبادر الناس إلى الصلاة فيها وللمأوى باب حديد صغير والمسجد يدور به وله شوارع دائرة وساقيه حسنة ينزل لها الماء من علو
1 لا أدري كيف انساق ابن بطوطة وراء الخرفات والأكاذيب التي تتناقلها العوام عن دمشق، وذكر ما يزعمون من ولادة إبراهيم الخليل عليه السلام فيها ومولده بالعراق لا في دمشق وذكر كذلك ما يزعمون من كهف آدم، ومغارة الدم وصلاة عدد من الأنبياء فيها: ومدفن الآلاف الكثيرة من الأنبياء في جامع قاسيون، أن مكة أحب بلاد الله إلى الله ورسوله ليس لها من المناقب وليس بها من المشاهد ما زعموه في دمشق، وكان عليه ألاّ يكون حاطب ليلٍ يجمع ويسجل كل ما يصل إلى سمعه، كان عليه أن يمحص وينقد، ويستخدم فكره قبل إيراد ما أورده.
وينصب في شاذروان في الجدار يتصل بحوض من رخام ويقع فيه الماء ولا نظير له في الحسن وغرابة الشكل وبقرب ذلك مطاهر للوضوء يجري فيها الماء وهذه الربوة المباركة هي رأس بساتين دمشق وبها منابع مياهها وينقسم الماء الخارج منها على سبعة أنهار كل نهر أخذ في جهة ويعرف ذلك الموضع بالمقاسم وأكبر هذه الأنهار النهر المسمى بتورة وهو يشق تحت الربوة وقد نحت له مجرى في الحجر الصلد كالغار الكبير وربما انغمس ذو الجسارة من العوامين في النهر من أعلى الربوة واندفع في الماء حتى يشق مجراه ويخرج من أسفل الربوة وهي مخاطرة عظيمة وهذه الربوة تشرف على البساتين الدائرة بالبلد ولها من الحسن واتساع مسرح الأبصار ما ليس لسواها وتلك الأنهار السبعة تذهب في طرق شتى فتحار الأعين في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاعها وانصبابها وجمال الربوة وحسنها التام أعظم من أن يحيط به الوصف ولها الأوقاف الكثيرة من المزارع والبساتين والرباع تقام منها وظائفها للإمام والمؤذن والصادر والوارد وبأسفل الربوة قرية النيرب وقد تكاثرت بساتينها وتكاثفت ظلالها وتدانت أشجارها فلا يظهر من بنائها إلا ما سما ارتفاعه ولها حمام مليح ولها جامع بديع مفروش صحنه بفصوص الرخام وفيه سقاية رائعة الحسن ومطهرة فيها بيوت عدة يجري فيها الماء وفي القبلي من هذه القرية قرية المزة وتعرف بمزة كلب نسبة إلى قبيلة كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وكانت إقطاعاً لهم وإليها ينسب الإمام حافظ الدنيا جمال الدين يوسف بن الزّي الكلبي المزي وكثير سواه من العلماء وهي من أعظم قرى دمشق بها جامع كبير عجيب وسقاية معينة وأكثر قرى دمشق فيها الحمامات والمساجد الجامعة والأسواق وسكانها كأهل الحاضرة في مناحيهم وفي شرقي البلد قرية تعرف ببيت الأحبة وكانت فيها كنيسة يقال أن آزر كان يجلب فيها الأصنام فيكسرها الخليل عليه السلام وهي الآن مسجد جامع بديع مزين بفصوص الرخام الملونة بأعجب نظام وأزين التئام
أخبار الأوقاف بدمشق وبعض فضائل أهلها وعوائدهم:
والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها فمنها أوقاف على العاجزين على الحج يعطي لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على
تجهيز البنات إلى أزواجهن وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن ومنها أوقاف لفكاك الأسارى ومنها أوقاف لأبناء السبيل يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم ومنها أوقاف على تعديل الطريق ورصفها لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون ويمر الركبان بين ذلك ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير.
مررت يوما ببعض أزقة دمشق فرأيت به مملوكا صغيراً قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني وهم يسمونها الصحن فتكسرت واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم اجمع شققها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن وهذا من أحسن الأعمال فإن سيد الغلام لا بد له أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره وهو أيضا ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك فكان هذا الوقف جبرا للقلوب جزى الله خيرا من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا. وأهل دمشق يتنافسون في عمارة المساجد والزوايا والمدارس والمشاهد وهم يحسنون الظن بالمغاربة ويطمئنون إليهم بالأموال والأهلين والأولاد وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق لا بد أن يتأتى له وجه من المعاش من إمامة مسجد أو قراءة بمدرسة أو ملازمة مسجد يجبيء إليه فيه رزقه أو قراءة القرآن أو خدمة مشهد من المشاهد المباركة أو يكون كجملة الصوفية بالخوانق تجري له النفقة والكسوة فمن كان بها غريبا على خير لم يزل مصونا عن بذل وجهه ومحفوظا عما يزري بالمروءة ومن كان من أهل المهنة والخدمة فله أسباب أخر من حراسة بستان أو أمانة طاحونة أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى التعليم ويروح ومن أراد طلب العلم أو التفرغ للعبادة وجد الإعانة التامة على ذلك. ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده البتة فمن كان من الأمراء والقضاة والكبراء فإنه يدعو أصحابه والفقراء يفطرون عنده ومن كان من التجار وكبار السوقة1 صنع مثل ذلك ومن كان من الضعفاء والبادية فإنهم يجتمعون كل ليلة في دار أحدهم أو في مسجد ويأتي كل واحد بما عنده فيفطرون جميعاً. ولما وردت دمشق وقعت بيني وبين نور الدين السخاوي مدرس المالكية صحبة
1 المراد بالسوقة هنا: العاملون في الأسواق: وليس الرعاع كما يتبادر إلى الذهن.
فرغب أن أفطر عنده في ليالي رمضان فحضرت عنده أربع ليالي ثم أصابتني الحمى فغبت عنه فبعث في طلبي فاعتذرت بالمرض فلم يسعني عذرا1 فرجعت إليه وبت عنده فلما أردت الإنصراف بالغد منعني من ذلك وقال لي احسب داري كأنها دارك أو دار أبيك أو أخيك وأمر بإحضار طبيب وأن يصنع لي بداره كل ما يشتهيه الطبيب من دواء أو غذاء وأقمت كذلك عنده إلى يوم العيد وحضرت المصلى وشفاني الله مما أصابني.
وقد كان ما عندي من النفقة نفد فعلم بذلك فاكترى لي جمالا وأعطاني الزاد وسواه وزادني دراهم وقال لي تكون لما عسى أن يعتريك من أمر مهم جزاه الله خيرا، وكان بدمشق فاضل من كتاب الملك الناصر يسمى عماد الدين القيصراني من عاداته أنه متى سمع أن مغربيا وصل إلى دمشق بحث عنه وأضافه وأحسن إليه فإن عرف منه الدين والفضل أمره بملازمته وكان يلازمه منهم جماعة وعلى هذه الطريقة أيضا كاتب السر الفاضل علاء الدين بن غانم وجماعة غيره.
وكان بها فاضل من كبرائها وهو الصاحب عز الدين القلانسي له مآثر ومكارم وفضائل وإيثار وهو ذو مال عريض وذكروا أن الملك الناصر لما قدم دمشق أضافه وجميع أهل دولته ومماليكه وخواصه ثلاثة أيام فسماه إذ ذاك بالصاحب ومما يؤثر من فضائلهم أن أحد ملوكهم السالفين لما نزل به الموت أوصى أن يدفن بقبلة الجامع المكرم ويخفى قبره وعين أوقافا عظيمة لقراء يقرأون سبعا من القرآن الكريم في كل يوم إثر صلاة الصبح بالجهة الشرقية من مقصورة الصحابة رضي الله عنهم حيث قبره فصارت قراءة القرآن على قبره لا تنقطع أبدا ًوبقي ذلك الرسم الجميل بعده مخلداً، ومن عادة أهل دمشق وسائر تلك البلاد أنهم يخرجون بعد صلاة العصر من يوم عرفة فيقفون بصحون المساجد كبيت المقدس وجامع بني أمية وسواها ويقف بهم أئمتهم كاشفي رؤوسهم داعين خاضعين خاشعين متلمسين البركة ويتوخون الساعة التي يقف فيها وفد الله تعالى وحجاج بيته بعرفات ولا يزالون في خضوع ودعاء وابتهال وتوسل إلى الله تعالى لحجاج بيته إلى أن تغيب الشمس فينفرون كما ينفر الحاج باكين على ما حرموه من ذلك الموقف الشريف بعرفات داعين إلى الله تعالى أن
1 أي: لم يقبل اعتذاري.
يوصلهم إليها ولا يخيبهم من بركة القبول فيما فعلوه. ولهم أيضا في اتباع الجنائز رتبة عجيبة وذلك أنهم يمشون أمام الجنازة والقراء يقرؤون القرآن بالأصوات الحسنة والتلاحين المبكية التي تكاد النفوس تطير لها رقة وهم يصلون على الجنائز بالمسجد الجامع قبالة المقصورة فإن كان الميت من أئمة الجامع أو مؤذنيه أو خدامه أدخلوه بالقراءة إلى موضع الصلاة عليه وإن كان من سواهم قطعوا القراءة عند باب المسجد وأدخلوا الجنازة وبعضهم يجتمع له بالبلاط الغربي من الصحن بمقربة من باب البريد فيجلسون وأمامهم ربعات القرآن يقرؤون فيها ويرفعون أصواتهم بالنداء لكل من يصل للعزاء من كبار البلدة وأعيانها ويقولون بسم الله فلان الدين من كمال وجمال وشمس وبدر وغير ذلك فإذا أتموا القراءة قام المؤذنون فيقولون افتكروا واعتبروا صلاتكم على فلان الرجل الصالح العالم ويصفونه بصفات من الخير ثم يصلون عليه ويذهبون به إلى مدفنه. ولأهل الهند رتبة عجيبة في الجنائز أيضا زائدة على ذلك وهي أنهم يجتمعون بروضة الميت صبيحة الثالث من دفنه وتفرش الروضة بالثياب الرفيعة ويكسى القبر بالأكسية الفاخرة وتوضع حوله الرياحين من الورد والنسرين والياسمين وذلك النوار لا ينقطع عندهم ويأتون بأشجار الليمون والأترج ويجعلون فيها حبوبها أن لم تكن فيها ويجعلون صيوان يظلل الناس نحوه ويأتي القضاة والأمراء ومن يماثلهم فيقعدون ويقابلهم القراء ويؤتى بالربعات الكرام فيأخذ كل واحد منهم جزءا فإذا تمت القراءة من القراء بالأصوات الحسان يدعو القاضي ويقوم قائمه ويخطب معدة لذلك ويذكر فيها الميت ويرثيه بأبيات شعر ويذكر أقاربه ويعزيهم ويذكر السلطان داعيا له وعند ذكر السلطان يقوم الناس ويحطون رؤوسهم إلى سمت الجهة التي بها السلطان ثم يقعد القاضي ويأتون بماء الورد فيصب على الناس صبا يبدأ بالقاضي ثم من يليه كذلك إلى أن يعم الناس أجمعين ثم يؤتى بأواني السكر وهو الجلاب محلولا بالماء فيسقون الناس منه ويبدؤون بالقاضي ومن يليه ثم يؤتى بالتنبول وهم يعظمونه مكرمون من يأتي لهم به فإذا أعطى السلطان أحداً منه فهو أعظم من إعطاء الذهب والخلع وإذا مات الميت لم يأكل أهله التنبول إلا في ذلك اليوم فيأخذ القاضي أو من يقوم مقامه أوراق منه فيعطيها لولي الميت فيأكلها وينصرفون حينئذ وسيأتي ذكر التنبول أن شاء الله تعالى.
خبر سماعي بدمشق ومن أجازني من أهلها:
سمعت بجامع بني أمية عمره الله بذكره جميع صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري رضي الله عنه على الشيخ المعمر رحالة الآفاق ملحق الأصاغر بالأكابر شهاب الدين أحمد بن أبي طالب بن أبي النعم بن حسن بن علي بن بيان الدين، مقريء الصالحي، المعروف بابن الشحنة الحجار في أربعة عشر مجلسا أو لها يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان المعظم سنة ست وعشرين وسبعمائة وآخرها يوم الإثنين الثامن والعشرين منه بقراءة الإمام الحافظ مؤرخ الشام علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي، الإشبيلي الأصل، الدمشقي، في جماعة كبيرة كتب أسماءهم محمد بن طغريل بن عبد الله بن غزال الصيرفي في سماع الشيخ أبي العباس الحجازي لجميع الكتاب من الشيخ الإمام سراج الدين أبي عبد الله الحسين بن أبي بكر المبارك بن محمد بن يحيى بن علي بن المسيح بن عمران الربيعي البغدادي الزبيدي الحنبلي في أواخر شوال وأوائل ذي القعدة من سنة ثلاثين وستمائة بالجامع المظفري بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق وبإجازته في جميع الكتاب من الشيخين أبي الحسن محمد بن أحمد بن عمر بن الحسين بن الخلف القطيعي المؤرخ وعلي بن أبي بكر بن عبد الله بن رؤبة القلانسي العطار البغدادي ومن باب غيرة النساء ووجدهن، إلى آخر الكتاب من أبي المنجا عبد الله بن عمر بن علي بن زيد الليثي الخزاعي البغدادي بسماع أربعتهم من الشيخ شديد الدين أبي الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب بن إبراهيمم السجزي الهروي الصوفي في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ببغداد قال أخبرنا الإمام جمال الإسلام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن أحمد بن معاذ بن سهل بن الحكم الدوادي قراءة عليه وأنا أسمع ببوشنج سنة خمس وستين وأربعمائة قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حوبة ابن يوسف بن أيمن السرخسي قراءة عليه وانا أسمع في صفر سنة إحدى وثمانين ثلاثمائه قال أخبرنا عبد الله بن يوسف بن مطر بن صالح بشر بن إبراهيم الفربري قراءة عليه وأنا أسمع سنة ست عشرة وثلاثمائة بفربر قال أخبرنا الإمام أبو عبد الله بن محمد بن إسماعيل البخاري رضي الله عنه سنة ثمان وأربعين ومائتين بفربر ومرة ثانية بعدها سنة ثلاث وخمسين. ومن
إجازتي من أهل دمشق إجازة الشيخ أبو العباس الحجار المذكور، سبق إلى ذلك وتلفظ - به ومنهم الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي ومولده في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وستمائة. ومنهم الشيخ الإمام الصالح عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن النجدي. ومنهم إمام الأئمة جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزني الكلبي حافظ الحفاظ. ومنهم الإمام علاء الدين علي بن يوسف بن محمد بن عبد الله الشافعي. والشيخ الإمام الشريف محيي الدين بن يحيى بن علي العلوي. ومنهم الشيخ الإمام المحدث مجد الدين القاسم بن عبد الله بن أبي عبد الله بن المعلي الدمشقي ومولده سنة أربع وخمسون وستمائة. ومنهم الشيخ الإمام العالم شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن فلاح بن محمد الإسكندري. ومنهم الشيخ الإمام ولي الله تعالى شمس الدين بن عبد الله بن تمام. والشيخان الأخوان شمس الدين محمد وكمال الدين عبد الله ابنا إبراهيم بن عبد الله بن أبي عمر المقدسي. والشيخ العابد شمس الدين محمد بن أبي الزهراء بن سالم الهكاري. والشيخة الصالحة أم محمد عائشة بنت محمد بن مسلم بن سلامة الحراني. والشيخة الصالحة رحلة الدنيا زينب بنت كمال الدين أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي. كل هؤلاء أجازني إجازة عامة في سنة ستة وعشرين بدمشق. ولما استهل شوال من السنة المذكورة خرج الركب الحجازي إلى خارج دمشق ونزلوا القرية المعروفة بالكسوة، فأخذت في الحركة معهم وكان أمير الركب سيف الدين الجوبان من كبار الأمراء وقاضيه شرف الدين الأذرعي الحوراني، وحج في تلك السنة مدرس المالكية صدر الدين العماري وكان سفري مع طائفة من العرب تدعى العجارمة أمير هم محمد بن رافع كبير القدر في الأمراء وارتحلنا من الكسوة إلى قرية تعرف بالصنمين عظيمة ثم ارتحلنا منها إلى بلدة زرعة1 وهي صغيرة من بلاد حوران نزلنا بالقرب منها ثم ارتحلنا إلى مدينة بُصرى وهي صغيرة ومن عادة الركب أن يقيم بها أربعا ليلحق بهم من تخلف بدمشق لقضاء مآربه - وإلى بُصرى وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعث في تجارة خديجة، وبها مبرك ناقته قد بنى عليه مسجد عظيم،
1 ذكر ياقوت في معجم البلدان أن اسمها: الزراعة، وأن موقعها بين حرّان وقلعة جعبر، وتعرف اليوم باسم أزرع، وهي جنوبي الصنمين تبعد عنها 15 ميلاً.
ويجتمع أهل حوران لهذه المدينة ويتزود الحاج منها ثم يرحلون إلى بركة زيرة "زيرا"1ويقيمون عليها يوماً، ثم يرحلون إلى اللجون وبها الماء الجاري، ثم يرحلون إلى حصن الكرك وهو من أعجب الحصون وأمنعها وأشهرها ويسمى بحصن الغراب والوادي يطيف به من جميع جهاته وله باب واحد قد نحت المدخل إليه في الحجر الصلد ومدخل دهليزه كذلك، وبهذا الحصن يتحصن الملوك وإليه يلجئون في النوائب وإليه لجأ الملك الناصر لأنه ولي الملك وهو صغير السن فاسولى على التدبير مملوكه سلار النائب عنه، فأظهر الملك الناصر أنه يريد الحج، ووافقه الأمراء على ذلك فتوجه إلى الحج فلما وصل عقبة إيلة لجأ إلى الحصن وأقام به أعواما إلى أن قصده أمراء الشام واجتمعت عليه المماليك وكان الملك في تلك المدة بيبرس الششنكير2 وهو أمير الطعام ويسمى بالملك المظفر وهو الذي بنى الخانقة البيبرسية بمقربة من خانقاه سعيد السعداء التي بناها صلاح الدين بن أيوب فقصده الملك الناصر بالعساكر ففر بيبرس إلى الصحراء فتبعته العساكر وقبض عليه وأتى به إلى الملك الناصر فأمر بقتله فقتل وقبض على سلار وحبس في جب حتى مات جوعاً ويقال أنه أكل جيفة من الجوع نعوذ بالله من ذلك. وأقام الركب بخارج الكرك أربعة أيام بموضع يقال له الثنية وتجهزوا لدخول البرية. ثم ارتحلنا إلى معان وهو آخر بلاد الشام ونزلنا من عقبة الصوان إلى الصحراء التي يقال فيها داخلها مفقود وخارجها مولود وبعد مسيرة يومين نزلنا ذات حج وعلى حسيان ذا عمارة بها إلى وادي بلدح ولا ماء به ثم إلى تبوك هو الموضع الذي غزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها عين ماء كانت تنبض بشيء من الماء فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ منها جادت بالماء المعين ولم يزل إلى هذا العهد ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن عادة حجاج الشام إذا وصلوا منزل تبوك أخذوا أسلحتهم وجردوا سيوفهم وحملوا على المنزل وضربوا النخل بسيوفهم ويقولون هكذا دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينزل الركب العظيم على هذه العين فيروى منها جميعهم ويقيمون أربعة أيام للراحة وإرواء الجمال واستعداد الماء للبرية المخوفة التي بين العلا وتبوك. ومن عادة السقائين أنهم ينزلون على
1 ذكر ياقوت في معجم البلدان أن اسمها: زيزاء، وهي من قرى البلقاء.
2 يعرف في كتب التاريخ بالجاشنكيز.
جوانب هذه العين ولهم أحواض مصنوعة من جلود الجواميس كالصهاريج الضخام يسقون منها الجمال ويملئون الروايا والقرب ولكل أمير أو كبير حوض يسقي منه جماله وجمال أصحابه ويملأ رواياهم وسواهم من الناس متفق مع السقائين على سقي جمله وملأ قربته بشيء معلوم من الدراهم. ثم يرحل الركب من تبوك ويجدون السير ليلا ونهارا خوفاً من هذه البرية وفي وسطها الوادي الأخيضر كأنه وادي جهنم أعاذنا الله منها وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح السموم التي تهب فانتشفت المياه وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار ومات مشتريها وبائعها وكتب ذلك في بعض صخور الوادي، ومن هنالك ينزلون بركة المعظم وهي ضخمة نسبتها إلى الملك المعظم من أولاد أيوب ويجتمع بها ماء المطر في بعض السنين وربما جف في بعضها وفي الخامس من أيام رحيلهم عن تبوك يصلون إلى بئر الحجر حجر ثمود وهي كثيرة الماء ولكن لا يردها أحد من الناس مع شدة عطشهم اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بها في غزوة تبوك فأسرع براحلته وأمر أن لا يستقي منها أحد ومن عجن به أطعمه الجمال وهناك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة لها عتب منقوشة يظن رائيها أنها حديثة الصنعة وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت أن في ذلك لعبرة ومبرك ناقة صالح عليه السلام بين جبلين هنالك وبينهما أثر مسجد يصلي الناس فيه، وبين الحجر والعلا نصف يوم أو دونه، والعلا قرية كبيرة حسنة لها بساتين النخل والمياه المعينة يقيم بها الحجاج أربعا يتزودن ويغسلون ثيابهم ويدعون بها ما يكون عندهم من فضل زاد ويستصحبون قدر الكفاية وأهل هذه القرية أصحاب أمانة وإليها ينتهي تجار نصارى الشام لا يتعدونها ويبايعون الحجاج الزاد وسواه. ثم يرحل الركب من العلا فينزلون في غد رحيلهم الوادي المعروف بالعطاس وهو شديد الحر تهب فيه السموم المهلكة هبت في أحد السنين على الركب فلم يخلص منها إلا اليسير وتعرف تلك السنة سنة الأمير الحالقي، ومنه ينزلون هدية وهي حسيان ماء بواد يحفرون به فيخرج الماء وهو زُعاق. وفي اليوم الثالث ينزلون بظاهر البلد المقدس الكريم الشريف.