الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلطان ماردين، وكان كريماً شهير الصيت ولي الملك بها نحو خمسين سنة، وأدرك أيّام قازان ملك التتر وصاهر السلطان خدابنده بابنته دنيا خاتون.
خبر سلطان ماردين في عهد دخولي إليها:
وهو الملك الصالح ابن الملك المنصور الذي ذكرناه آنفا ورث الملك عن أبيه والمكارم الشهيرة وليس بأرض العراق والشام ومصر أكرم منه يقصده الشعراء والفقراء فيجزل لهم العطايا جرياً على سنن أبيه قصده أبو عبيد الله محمد بن جابر الأندلسي المروي الكفيف مادحاً فأعطاه عشرين ألف درهم وله الصدقات والمدارس والزوايا لإطعام الطعام. وله وزير كبير القدر وهو الإمام العالم وحيد الدهر وفريد العصر جمال الدين السنجاوي وقرأ بمدينة تبريز وأدرك العلماء الكبار وقاضي قضاته الإمام الكامل برهان الدين الموصلي وهو ينتسب إلى الشيخ الولي فتح الموصلي وهذا القاضي من أهل الدين والورع والفضل يلبس الخشن من ثياب الصوف الذي لا تبلغ قيمته عشرة دراهم ويعتم بنحو ذلك وكثيراً ما يجلس للأحكام بصحن مسجد خارج المدرسة كان يتعبد فيه فيه فإذا رآه من لا يعرفه ظنه بعض خدام القاضي وأعوانه.
وقد ذكر لي: أن امرأة أتت هذا القاضي وهو خارج من المسجد ولم تكن تعرفه فقالت له: يا شيخ أين يجلس القاضي؟ فقال لها: وما تريدين منه؟ فقالت: أن زوجي ضربني وله زوجة ثانية وهو لا يعدل بيننا في القسم وقد دعوته إلى القاضي فأبى وأنا فقيرة ليس عندي ما أعطيه لرجال القاضي حتى يحضروه بمجلسه. فقال لها: وأين منزل زوجك؟ فقالت: بقرية الملاحين خارج المدينة. فقال لها: أنا أذهب معك إليه. فقالت: والله ما عندي شيء أعطيك إياه. فقال لها: لا آخذ منك شيئاً، ثم قال لها: اذهبي إلى القرية وانتظريني خارجها فآتي على أثرك، فذهبت كما أمرها وانتظرته فوصل إليها وليس معه أحد وكانت عادته أن لا يدع أحداً يتبعه، فجاءت به إلى منزل زوجها فلما رآه قال: ما هذا الشيخ النحس الذي معك؟ فقال له: نعم والله وأنا كذلك ولكن أرض زوجتك، فلما طال الكلام جاء الناس فعرفوا القاضي وسلّموا عليه وخاف ذلك الرجل وخجل. فقال له القاضي: لا عليك أصلح ما بينك وبين زوجتك. فأرضاها الرجل من نفسه وأعطاهما القاضي نفقة ذلك اليوم وانصرف.
لقيت هذا القاضي وأضافني بداره. ثم رحلت عائداً إلى بغداد فوصلت إلى مدينة الموصل التى ذكرناها، فوجدت ركبها بخارجها متوجهين إلى بغداد وفيهم امرأة صالحة عابدة تسمى بالست زاهدة وهي من ذرية الحنفاء حجت مراراً وهي ملازمة الصوم سلّمتُ عليها وكنت في جوارها ومعها جملة من الفقراء يخدمونها، وفي هذه الوجهة توفيت رحمة الله عليها وكانت وفاتها بزرود ودفنت هنالك، ثم وصلنا إلى مدينة بغداد فوجدت الحاج في أهبة الرحيل فقصدت أمير ها معروف خواجة فطلبت منه ما أمر لي به السلطان فعين لي شقة محارة وزاد أربعة من الرجال وماءهم وكتب لي بذلك ووجه إلى أمير الركب البهلوان محمد الحويج فأوصاه بي وكانت المعرفة بيني وبينه متقدمة فزادها تأكيداً ولم أزل في جواره وهو يحسن إلي ويزيدني على ما أمر به، وأصابني عند خروجنا من الكوفة إسهال فكانوا ينزلوني من أعلى المحمل مرات كثيرة في اليوم والأمير يتفقد حالي ويوصي بي ولم أزل مريضاً حتى وصلت مكة حرم الله تعالى زادها الله شرفاً وتعظيماً، وطفت بالبيت الحرام كرّمه الله تعالى طواف القدوم وكنت ضعيفاً بحيث أؤدي المكتوبة قاعداً فطُفت وسعيت بين الصفا والمروة راكباً على فرس الأمير الحويح المذكور، ووقفنا تلك السنة يوم الإثنين فلما نزلنا منى أخذت في الراحة والاسقلال من مرضي، ولما انقضى الحاج أقمت مجاوراً بمكة تلك السنة وكان بها الأمير علاء الدين ابن هلال مشيد "مشد" الدواوين مقيما لعمارة دار الوضوء بظاهر العطارين من باب بني شيبة وجاور في تلك السنة من المصريين جماعة من كبرائهم منهم تاج الدين بن الكويك ونور الدين القاضي وزين الدين بن الأصيل وابن الخليلي وناصر الدين الأسيوطي، وسكنت تلك السنة بالمدرسة المظفرية وعافاني الله من مرضي فكنت في أنعم عيش وتفرغت للطواف والعبادة والاعتمار وأتى في أثناء تلك السنة حجاج الصعيد وقدم معهم الشيخ الصالح نجم الدين الأصفوني1 وهي أول حجة حجها والإخوان علاء الدين علي وسراج الدين عمر ابنا القاضي الصالح نجم الدين البالسي قاضي مصر وجماعة غيرهم وفي منتصف ذي القعدة
1 قد يكون في هذه الكلمة تحريف والصواب: الأصفوني نسبة إلى أصفون، إحدى قرى صعيد مصر، وتعرف اليوم بأصْفُون المطاعنة.
وصل الأمير سيف الدين يلملك وهو من الفضلاء ووصل في صحبته جماعة من أهل طنجة بلدي حرسها الله منهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن القاضي أبي العباس بن القاضي الخطيب أبي القاسم الجراوي والفقيه أبو عبد الله بن عطاء الله والفقيه أبو عبد الله الحضري والفقيه أبو عبد الله المرسي وأبو العباس بن الفقيه أبي علي البلنسي وأبو محمد بن القابلة وأبو الحسن البياري وأبو العباس بن تافوت وأبو الصبر أيوب الفخار وأحمد بن حكامة ومن أهل قصر المجاز الفقيه أبو زيد عبد الرحمن بن القاضي أبي العباس بن خلوف ومن أهل القصر الكبير الفقيه أبو محمد بن مسلم وأبو إسحاق إبراهيم بن يحيى وولده ووصل في تلك السنة الأمير سيف الدين تقزدمور من الخاصكية والأمير موسى بن قرمان والقاضي فخر الدين ناظر الجيش وكاتب المماليك والتاج أبو إسحاق والست حدق مربية الملك الناصر وكانت لهم صدقات عميمة بالحرم الشريف وأكثرهم صدقة القاضي فخر الدين وكانت وقفتنا في تلك السنة في يوم الجمعة من عام ثمان وعشرين، ولما انقضى الحج أقمت مجاورا بمكة حرسها الله سنة تسع وعشرين. وفي هذه السنة وصل أحمد بن الأمير رميثة ومبارك بن الأمير عطيفة من العراق صحبه الأمير محمد الحويج والشيخ زاده الحرباوي والشيخ دانيال وأتوا بصدقات عظيمة للمجاورين وأهل مكة من قبل السلطان أبي سعيد ملك العراق. وفي تلك السنة ذكر اسمه في الخطبة بعد ذكر الملك الناصر ودعوا له بأعلى قبة زمزم وذكروا بعده سلطان اليمن المك المجاهد نور الدين ولم يوافق الأمير عطيفة على ذلك وبعث شقيقه منصوراً ليعلم الملك الناصر بذلك فأمر رميثة برده فرده فبعثه ثانية على طريق جدة حتى أعلم الملك الناصر بذلك، ووقفنا تلك السنة وهي سنة تسع وعشرين يوم الثلاثاء، ولما انقضى الحج أقمت مجاوراً بمكة حرسها الله سنة ثلاثين وفي موسها وقعت الفتنة بين أمير مكة عطيفة وبين أيدمور أمير جندار الناصري وسبب ذلك أن تجاراً من أهل اليمن سرقوا فتشكوا إلي أيدمور بذلك فقال أيدمور لمبارك بن الأمير عطيفة ائت بهؤلاء السراق فقال لا أعرفهم فكيف نأتي بهم وبعد فأهل اليمن تحت حكمنا ولا حكم لك عليهم أن سرق لأهل مصر والشام شيء فاطلبني به فشتمه أيدمور وقال له يا قواد تقول لي هكذا وضربه على صدره فسقط ووقعت عمامته عن رأسه وغضب له عبيده وركب أيدمور يريد عسكره فلحقه مبارك وعبيده فقتلوه وقتلوا ولده، ووقعت الفتنة بالحرم وكان به الأمير أحمد ابن عم الملك الناصر ورمى الترك بالنشاب فقتلوا امرأة قيل إنها كانت تحرض أهل مكة على القتال،
وركب من ركب من الأتراك وأمير هم خاص ترك فخرج إليهم القاضي والأئمة والمجاورين وفوق رؤوسهم المصاحف وحاولوا الصلح ودخل الحجاج مكة فأخذوا ما لهم بها وانصرفوا إلى مصر وبلغ الخبر إلى الملك الناصر فشق عليه وبعث العساكر إلى مكة ففر الأمير عطيفة وابنه مبارك وخرج أخوه رميثة وأولاده إلى وادي نخلة فلما وصل العسكر إلى مكة بعث الأمير رميثة أحد أولاده يطلب له الأمان ولولده فأمنوه وأتى رميثة وكفنه في يده إلى الأمير فخلع عليه وسلمت إليه مكة وعاد العسكر إلى مصر وكان الملك الناصر رحمه الله حليماً فاضلاً، فخرجت تلك الأيام من مكة قاصداً بلاد اليمن فوصلت إلى حده "بالحاء المهمل المفتوح" وهي نصف الطريق بين مكة وجدة "بالجيم المضمومة"، ثم وصلت إلى جدة وهي بلدة قديمة على ساحل البحر يقال إنها من عمارة الفرس وبخارجها مصانع قديمة وبها جباب للماء منقورة في الحجر الصلد يتصل بعضها ببعض تفوت الإحصاء كثيرة وكانت هذه السنة قليلة المطر وكان الماء يجلب إلى جدة على مسيرة يوم وكان الحجاج يسألون الماء من أصحاب البيوت.
ومن غريب ما اتفق لي بجدة أنه وقف على بابي سائل أعمى يطلب الماء يقوده غلام فسلم علي وسماني باسمي ولم أكن عرفته قط ولا عرفني وعجبت من شأنه ثم أمسك أصبعي بيده وقال أين الفتحة وهي الخاتم وكنت حين خروجي من مكة لقيني بعض الفقراء وسألني ولم يكن عندي في ذلك الحين شيء فدفعت له خاتمي فلما سألني عنه هذا الأعمى قلت له أعطيته لفقير فقال ارجع في طلبه فإن فيه أسماء مكتوبة فيها سر من الأسرار فطال تعجبي منه ومن معرفته ذلك والله أعلم بحاله. وبجدة جامع يعرف بجامع الأبنوس معروف البركة يستجاب به الدعاء، وكان الأمير بها أبا يعقوب بن عبد الرزاق وقاضيها وخطيبها الفقيه عبد الله من أهل مكة شافعي المذهب وإذا كان يوم الجمعة واجتمع الناس للصلاة أتى المؤذن وعد أهل جدة المقيمين بها فإن أكملوا أربعين خطب وصلى بهم الجمعة وإن لم يبلغ عددها أربعين صلى ظهراً أربعاً ولا يعتبر من ليس من أهلها وإن كانوا عدداً كثيراً. ثم ركبنا البحر من جدة في مركب يسمونه الجلبة وكان لرشيد الدين الألفي اليمني الحبشي الأصل، وركب الشريف منصور بن أبي نمي في جلبة أخرى ورغب
مني أن أكون معه فلم أفعل لكونه كان معه في جلبته الجمال فخفت من ذلك ولم أكن ركبت البحر قبلها وكان هنالك جملة من أهل اليمن قد جعلوا زوادهم وأمتعتهم في الجلب وهم متأهبون للسفر.
ولما ركبنا البحر أمر الشريف منصور أحد غلمانه أن يأتيه بعديلة دقيق وهي نصف حمل وبطة سمن يأخذهما من جلب أهل اليمن فأخذهما وأتى بهما إليه فأتى التجار باكين وذكروا لي أن في جوف تلك العديلة عشرة آلاف درهم نقرة ورغبوا مني أن أكلمه في ردها وأن يأخذ سواها فأتيته وكلمته في ذلك وقلت له أن للتجار في جوف هذه العديلة شيئاً فقال أن كان سكراً فلا أرده إليهم وإن كان سوى ذلك فهو لهم ففتحوها ووجدوا الدراهم فردها عليهم وقال لي: لو كان عجلانا ما ردها وعجلان هو ابن أخيه رميثة. وكان قد دخل في تلك الأيام دار تاجر من أهل دمشق قاصداً لليمن فذهب بمعظم ما كان فيها وعجلان هو أمير مكة على هذا العهد وقد صلح حاله وأظهر العدل والفضل، ثم سافرنا في هذا البحر بالريح الطيبة يومين وتغيرت الريح بعد ذلك وصدتنا عن السبيل التي قصدنا ودخلت أمواج البحر معنا في المركب واشتد الميد بالناس1 ولم نزل في أهوال حتى خرجنا في مرسى يعرف برأس دوائر فيما بين عيدان وسواكن فنزلنا به ووجدنا بساحله عريش قصب على هيئة مسجد وبه كثير من قشور بيض النعام مملوءة ماء فشربنا منه وطبخناه ورأيت في ذلك المرسى عجباً وهو خور مثل الوادي يخرج من البحر فكان الناس يأخذون الثوب ويمسكون بأطرافه ويخرجون به وقد امتلأ سمكاً كل سمكة منها قدر الذراع ويعرفونه بالبوري فطبخ منه الناس كثيراً واشتروا وقصدت إلينا طائفة من البجاة هم سكان تلك الأرض سود الألوان لباسهم الملاحف الصفر ويشدون على رؤوسهم عصائب حمراء عرض الإصبع وهم أهل نجدة وشجاعة وسلاحهم الرماح والسيوف ولهم جمال يسمونها الصهب يركبونها بالسروج فاكترينا منهم الجمال وسافرنا معهم في برية كثيرة الغزلان، والبجاة لا يأكلونها وهي تأنس بالآدمي ولاتنفر منه. وبعد يومين من مسيرنا وصلنا إلى حي من العرب يعرفون بأولاد كاهل مختلطين بالبجاة.
1 يقال: ماد، أي أصابه غثيان ودوار من سكر أو ركوب بحر.
عارفين بلسانهم، وفي ذلك اليوم وصلنا إلى جزيرة سواكن وهي على نحو ستة أميال من البر ولا ماء بها ولا زرع ولا شجر والماء يجلب إليها في القوارب وفيها صهاريج يجتمع بها ماء المطر وهي جزيرة كبيرة وبها لحوم النعام والغزلان وحمر الوحش والمعزي عندهم كثير والألبان والسمن منها يجلب إلى مكة وحبوبهم الجرجور وهو نوع من الذرة كبير الحب يجلب منها أيضا إلى مكة.
وكان سلطان جزيرة سواكن حين وصولي إليها الشريف أبي نمي وأبوه أمير مكة وأخوه أمير ها بعده وهما عطيفة ورميثة اللذان تقدم ذكرهما وصارت إليه من قبل البجاة فإنهم أخواله ومعه عسكر من البجاة وأولاد كاهل وعرب جهينة، وركبنا البحر من جزيرة سواكن نريد أرض اليمن وهذا البحر لا يسافر فيه بالليل لكثرة أحجاره وإنما يسافرون فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ويرسون فينزلون إلى البر فإذا كان الصباح صعدوا إلى المركب وهم يسمون رئيس المركب الربان ولا يزال أبداً في مقدم المركب ينبه صاحب السكان على الأحجار1 وهم يسمونها النبات. وبعد ستة أيام من خروجنا عن جزيرة سواكن وصلنا إلى مدينة "حلي""وضبط اسمها بفتح الحاء المهمل وكسر اللام وتخفيفها" وتعرف باسم ابن يعقوب وكان من سلاطين اليمن ساكنا بها قديما وهي كبيرة حسنة العمارة يسكنها طائفتان من العرب وهم بنو حرام وكنانة وجامع هذه المدينة من أحسن الجوامع وفيه جماعة من الفقراء المنقطعين إلى العبادة منهم الشيخ الصالح العابد الزاهد قبولة الهندي من كبار الصالحين لباسه مرقعة وقلنسوة لبد وله خلوة متصلة بالمسجد فرشها الرمل لا حصير بها ولا بساط ولم أر بها حين لقائي له شيئاً إلا إبريق الوضوء وسفرة من خوص النخيل فيها كسر شعير يابسة وصحيفة فيها ملح وسعتر فإذا جاءه أحد قدم بين يديه ذلك ويسمع به أصحابه فيأتي كل واحد منهم بما حضر من غير تكلف شيء وإذا صلوا العصر اجتمعوا للذكر بين يدي الشيخ إلى صلاة المغرب وإذا صلوا المغرب أخذ كل واحد منهم موقفه للتنفل فلا يزالون كذلك إلى صلاة العشاء الآخرة فإذا صلوا العشاء الآخرة أقاموا على الذكر إلى ثلث الليل
1 المقصود بالأحجار: الشعب المرجانية.
ثم انصرفوا ويعودون في أول الثلث الثالث إلى المسجد فيتهجدون إلى الصبح ثم يذكرون إلى أن تحين صلاة الإشراق فينصرفون بعد صلاتها ومنهم من يقيم إلى أن يصلي صلاة الضحى بالمسجد وهذا دأبهم أبداً ولقد أردت الإقامة معهم باقي عمري ولم أوفق لذلك والله تعالى يتداركنا بلطفه وتوقيقه.
أما سلطان حَلِي فكان عامر بن ذؤيب من بني كنانة وهو من الفضلاء الأدباء الشعراء. سافرت في حجته من مكة إلى جدة وكان قد حج في سنة ثلاثين ولما قدمت مدينته أنزلني وأكرمني وأقمت في ضيافته أياماً، وركبت البحر في مركب له أوصلني إلى بلدة السرجة "وضبط اسمها بفتح السين المهمل وإسكان الراء وفتح الجيم" بلدة صغيرة يسكنها جماعة من أولاد الهلبي وهم طائفة من تجار اليمن أكثرهم ساكنون بصنعاء1 ولهم فضل وكرم وإطعام لأبناء السبيل يعينون الحجاج ويركبونهم في مراكبهم ويزودونهم من أموالهم وقد عرفوا بذلك واشتهروا به وكثر الله أموالهم وزادهم من فضله وأعانهم على فعل الخير وليس بالأرض من يماثلهم في ذلك إلا الشيخ بدر الدين النقاش الساكن ببلدة القحمة فله مثل ذلك من المآثر والإيثار وأقمنا بالسرجة ليلة واحدة في ضيافة المذكورين، ثم رحلنا إلى مرسي الحادث ولم ننزل به، ثم إلى مرسى الأبواب، ثم إلى مدينة زبيد مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء أربعون فرسخا وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها ولا أغنى من أهلها واسعة البساتين كثيرة المياه والفواكه من الموز وغيره وهي برية لا شطية2 إحدى قواعد بلاد اليمن "وهي بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة" مدينة كبيرة كثيرة العمارة بها النخل والبساتين والمياه، أملح بلاد اليمن وأجملها ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور ولنسائها الحسن الفائق الفائت، وهي وادي الخصيب الذي يذكر في بعض الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ في وصيته:"يا معاذ إذا جئت وادي الخصيب فهرول". ولأهل هذه المدينة سبوت النخل المشهورة وذلك أنهم يخرجون في أيام البسر والرطب في كل سبت إلى حدائق
1 في بعض طبعات الكتاب: يسكنها جماعة من أولاد الهبي، وهم طائفة من تجار اليمن، أكثرهم ساكنون بصعداء.
2 أي ليست واقعة على شط البحر وساحله.
النخل، ولا يبقى بالمدينة أحد من أهلها ولا من الغرباء ويخرج أهل الطرب وأهل الأسواق لبيع الفواكه والحلاوات وتخرج النساء ممتطيات الجمال في المحامل ولهن مع ما ذكرناه من الجمال الفائت والأخلاق الحسنة والمكارم وللغريب عندهن مزية ولا يمتنعن من تزوجه كما يفعله نساء بلادنا فإذا أراد السفر خرجت معه وودعته وإن كان بينهما ولد فهي تكفله وتقوم بما يجب له إلى أن يرجع أبوه ولا تطالبه في أيام الغيبة بنفقة ولا كسوة ولا سواها وإذا كان مقيماً فهي تقنع منه بقليل النفقة والكسوة لكنهن لا يخرجن عن بلدهن أبداً ولو أعطيت إحداهن ما عسى أن تعطاه على أن تخرج من بلدها لم تفعل. وعلماء تلك البلاد وفقهاؤها أهل صلاح ودين وأمانة ومكارم وحسن خلق لقيت بمدينة زبيد الشيخ العالم الصالح أبا محمد الصنعاني والفقيه الصوفي المحقق أبا العباس الإبياني والفقيه المحدث أبا علي الزبيدي ونزلت في جوارهم فأكرموني وأضافوني ودخلت حدائقهم واجتمعت عند بعضهم بالفقيه القاضي العالم أبي زيد عبد الرحمن الصوفي أحد فضلاء اليمن ووقع عنده ذكر العابد الزاهد الخاشع أحمد بن العجيل اليمني وكان من كبار الرجال وأهل الكرامات.
وذكروا أن فقهاء الزيدية وكبراؤهم أتوا مرة إلى زيارة الشيخ أحمد بن العجيل فجلس لهم خارج الزاوية واستقبلهم أصحابه ولم يبرح الشيخ عن موضعه فسلموا عليه وصافحهم ورحب بهم ووقع بينهم الكلام في مسألة القدر وكانوا يقولون أن لا قدر وأن المكلف يخلق1 أفعاله فقال لهم الشيخ فإن كان الأمر على ما تقولون فقوموا عن مكانكم هذا فأرادوا القيام فلم يستطيعوا وتركهم الشيخ على حالهم ودخل الزاوية وأقاموا كذلك واشتد بهم الحر ولحقهم وهج الشمس وضجوا مما نزل بهم فدخل أصحاب الشيخ إليه وقالوا له أن هؤلاء القوم قد تابوا إلى الله ورجعوا عن مذهبهم الفاسد فخرج
1 وَهَم ابن بطوطة في نقله عن عقيدة الزيدية، فهم لا ينفون القدر، وهم على مذهب المعتزلة في أن العبد يخلق أفعاله بقدرة خلقها الله له. والذين ينفون القدر هم: القدرية أتباع معبد الجهني، وإنما كان الزيدية على مذهب المعتزلة، لأن الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم كان تلميذاً لواصل بن عطاء، رأس المعتزلة.