المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خبر سلطان اليمن: - رحلة ابن بطوطة ط دار الشرق العربي - جـ ١

[ابن بطوطة]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الاول

- ‌مقدمة

- ‌نقطة البداية

- ‌خبر حاكم تونس

- ‌مدينة الإسكندرية- أبوابها- مرساها:

- ‌قرافة مصر ومزاراتها:

- ‌يوم المحمل:

- ‌قصة خصيب:

- ‌خبر المسجد المقدس

- ‌حكاية أبي يعقوب يوسف المذكور

- ‌خبر جامع بني أمية الكبير:

- ‌حلقات الدرس والمشرفون عليها

- ‌طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَرَّم وشَرَّف وعَظَّم:

- ‌مدينة مكة المكرّمة:

- ‌خبر الروضة والقبور التي فيها:

- ‌خبر نقيب الأشراف:

- ‌حكاية اعتبار:

- ‌خبر المشاهد المباركة بالبصرة:

- ‌خبر ملك إيذج وتستر:

- ‌كرامات الشيخ قطب الدين:

- ‌خبر سلطان شيراز:

- ‌بعض المشاهد بشيراز:

- ‌مدينة الكوفة:

- ‌مدينة بغداد:

- ‌خبر قبور الخلفاء ببغداد وقبور بعض العلماء والصالحين فيها:

- ‌خبر سلطان العراقين وخراسان:

- ‌خبر المتغلبين على الملك بعد موت السلطان أبي سعيد:

- ‌مدينة الموصل

- ‌خبر سلطان ماردين في عهد دخولي إليها:

- ‌خبر سلطان اليمن:

- ‌خبر شجر التنبول:

- ‌خبر شجر النارجيل:

- ‌خبر سلطان ظفار:

- ‌خبر الولي لقيناه في الجبل

- ‌خبر سلطان عمان:

- ‌خبر سلطان هرمز:

- ‌خبر سلطان لار:

- ‌خبر سبت العلايا

- ‌خبر الأخية الفتيان:

- ‌خبر سلطان انطالية:

- ‌خبر سلكان أكريدور

- ‌خبر سلطان قُلْ حِصار:

- ‌خبر سلطان لاذق:

- ‌سلطان ميلاس:

- ‌خبر سلطان اللَاّرَنْدَة:

- ‌خبر سلطان بِرْكِي:

- ‌خبر سلطان مغنيسية:

- ‌خبر سطان برغمة

- ‌خبر سلطان بلي كسرى:

- ‌خبر سلكان برصا

- ‌خبر سلكان قصطمونية

- ‌خبر السلطان المعظم محمد أوزْبك خان:

- ‌أخبار الخواتين وترتيبهنّ:

- ‌ذكر سفري إلى مدينة بلغار:

- ‌ذكر أرض الظلمة:

- ‌التوجه إلى القسطنطينية:

- ‌نبذة عن المانستارت بقسطنطينية

- ‌أمير خوارزم:

- ‌غزو التتر لبخارى وتخريبهم لها ولِسواها:

الفصل: ‌خبر سلطان اليمن:

عليهم الشيخ فأخذ بأيديهم وعاهدهم على الرجوع إلى الحق وترك مذهبهم السيء وأدخلهم زاويته فأقاموا في ضيافته ثلاثا وانصرفوا إلى بلادهم. وخرجت لزيارة قبر هذا الرجل الصالح وهو بقرية يقال لها غسانة خارج زبيد ولقيت ولده الصالح أبا الوليد إسماعيل فأضافني وبت عنده وزرت ضريح الشيخ وأقمت معه ثلاثاً. وسافرت في صحبته إلى زيارة الفقيه أبي الحسن الزيلعي وهو من كبار الصالحين ويقدم حجاج اليمن إذا توجهوا للحج وأهل تلك البلاد وأعرابها يعظمونه ويحترمونه فوصلنا إلى جبلة وهي بلدة صغيرة حسنة ذات نخل وفواكه وأنهار فلما سمع الفقيه أبو الحسن الزيلعي بقدوم الشيخ أبي الوليد استقبله وأنزله بزاويته وسلمت عليه وأقمنا عنده ثلاثة أيام في خير مقام ثم انصرفنا وبعث معنا أحد الفقراء، فتوجهنا إلى مدينة تعز حضرة ملك اليمن وهي من أحسن مدن اليمن وأعظمها وأهلها ذوو تجبر وتكبر وفظاظة وكذلك الغالب على البلاد التي يسكنها الملوك وهي ثلاثة محلات إحداها يسكنها السلطان ومماليكه وحاشيته وأرباب دولته وتسمى باسم لا أذكره والثانية يسكنها الأمراء والأجناد وتسمى عدينة والثالثة يسكنها عامة الناس وبها السوق العظمى وتسمى المحالب.

ص: 191

‌خبر سلطان اليمن:

فهو السلطان المجاهد نور الدين علي بن السلطان المؤيد هزبر الدين داود بن السلطان المظفر يوسف بن علي بن رسول، شهر جده برسول لأن أحد خلفاء بني العباس أرسله إلى اليمن ليكون بها أمير اً ثم استقل أولاده بالملك وله ترتيب عجيب في قعوده وركوبه وكنت لما وصلت هذه المدينة مع الفقير الذي بعثه الشيخ أبو الحسن الزيلعي في صحبتي قصد بي إلى قاضي القضاة الإمام المحدث صفي الدين الطبري المكي فسلمنا عليه ورحب بنا وأقمنا بداره في ضيافته ثلاثاً فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الخميس وفيه يجلس السلطان لعامة الناس دخل بي عليه فسلمت عليه وكيفية السلام عليه أن يمس الإنسان الأرض بسبابته ثم يرفعها إلى رأسه ويقول أدام الله عزك ففعلت كمثل ما فعله القاضي عن يمين الملك وأمرني فقعدت بين يديه.

ص: 191

فسألني عن بلادي وعن مولانا أمير المسلمين جواد الأجواد أبي سعيد1 رضي الله عنه وعن ملك مصر وملك العراق وملك اللور فأجبته عما سأل من أحوالهم وكان وزيره بين يديه فأمره بإكرامي وإنزالي وترتيب قعود هذا الملك أنه يجلس فوق دكانة مفروشة مزينة بثياب الحرير وعن يمينه ويساره أهل السلاح ويليه منهم أصحاب السيوف والدرق ويليهم أصحاب القسي وبين أيديهم في الميمنة والميسرة الحاجب وأرباب الدولة وكاتب السر وأمير جندار على رأسه والشاويشية هم من الجنادرة وقوف على بعد. فإذا قعد السلطان صاحوا صيحة واحدة: باسم الله. فإذا قام فعلوا مثل ذلك، فيعلم جميع من بالمشور وقت قيامه ووقت قعوده. فإذا استوى قاعداً دخل كل من عادته أن يسلم عليه فسلم ووقف حيث رسم له بالميمنة أو الميسرة لا يتعدى أحد موضعه ولا يقعد إلا من أمر بالقعود يقول السلطان للأمير جندار مر فلاناً يقعد فيتقدم ذلك المأمور بالقعود عن موقفه قليلاً ويقعد على بساط هناك بين أيد القائمين في الميمنة والميسرة. ثم يؤتى بالطعام وهو طعامان: طعام العامة وطعام الخاصة فأما الطعام الخاص فأكل منه السلطان وقاضي القضاة والكبار من الشرفاء ومن الفقهاء والضيوف، وأما الطعام العام فيأكل منه سائرالشرفاء والفقهاء والقضاة والقضائة والمشايخ والأمراء ووجوه الأجناد ومجلس كل إنسان للطعام معين لا يتعداه ولا يزاحم أحد منهم أحداً وعلى مثل هذا الترتيب سواء هو ترتيب ملك الهند في طعامه فلا أعلم أن سلاطين الهند أخذوا ذلك عن سلاطين اليمن أم سلاطين اليمن أخذوه عن سلاطين الهند وأقمت في ضيافة سلطان اليمن أياماً وأحسن إلي أركبني. وانصرفت إلى مدينة صنعاء وهي قاعدة بلاد اليمن الأولى مدينة كبيرة حسنة العمارة بناؤها بالآجر والجص كثيرة الأشجار والفواكه والزرع معتدلة الهواء طيبة الماء ومن الغريب أن المطر ببلاد الهند واليمن والحبشة إنما ينزل في أيام القيظ، وأكثر ما يكون نزوله بعد الظهر من كل يوم في ذلك الأوان. فالمسافرون يسافرون عند الزوال لئلا يصيبهم المطر وأهل المدينة ينصرفون إلى منازلهم لأن أمطارها وابلة متدفقة والمدينة مفروشة كلها فإذا نزل المطر غسل جميع أزقتها وأنقاها وجامع

1 يقصد السلطان أبا سعيد المريني سلطان فاس.

ص: 192

صنعاء من أحسن الجوامع وفيه قبر نبي من الأنبياء عليهم السلام. ثم سافرت منها إلى مدينة عدن مرسى بلاد اليمن على ساحل البحر الأعظم والجبال تحف بها ولا مدخل إليها إلا من جانب واحد وهي مدينة كبيرة ولا زرع بها ولا شجر ولا ماء وبها صهاريج يجتمع فيها الماء أيام المطر والماء على بعد منها فربما منعته العرب وحالوا بين أهل المدينة وبينه حتى يصانعونهم بالمال والثياب وهي شديدة الحر وهي مرسى أهل الهند تأتي إليها المراكب العظيمة من كنبايت وتانة وكولم وقالقوط وفندراينة والشاليات ومنجرور وفاكنور وهنور وسندابور وغيرها وتجار الهند ساكنون بها وتجار مصر أيضاً. وأهل عدن ما بين تجار وحمالين وصيادين للسمك وللتجار منهم أموال عريضة وربما يكون لأحدهم المركب العظيم بجميع ما فيه لا يشاركه فيه غيره لسعة ما بين يديه من الأموال ولهم في ذلك تفاخر ومباهاة.

وذكر لي أن بعضهم بعث غلاماً له ليشتري له كبشاً، وبعث آخر منهم غلاما له برسم ذلك أيضا فاتفق أنه لم يكن بالسوق في ذلك اليوم إلا كبش واحد فوقعت المزايدة فيه بين الغلامين فأنهى ثمنه إلى أربعمائة دينار. فأخذه أحدهما وقال أن رأس مالي أربعمائة دينار فإن أعطاني مولاي ثمنه فحسن وإلا دفعت فيه رأس مالي ونصرت نفسي وغلبت صاحبي وذهب بالكبش إلى سيده فلما عرف سيده بالقضية أعطاه ألف دينار وعاد الآخر إلى سيده خائباً فضربه وأخذ ماله ونفاه عنه ونزلت في عدن عند تاجر يعرف بناصر الدين الفأري فكان يحضر طعامه كل ليلة نحو عشرين من التجار وله غلمان وخدام أكثر من ذلك ومع هذا كله فهم أهل دين وتواضع وصلاح ومكارم أخلاق يحسنون إلى الغريب ويؤثرون على الفقير ويعطون حق الله من الزكاة على ما يجب ولقيت بهذه المدينة قاضيها الصالح سالم بن عبد الله الهندي وكان والده من العبيد الحمالين واشتغل ابنه بالعلم فرأس وساد وهو من خيار القضاة وفضلائهم أقمت في ضيافته أياماً. وسافرت من مدينة عدن في البحر أربعة أيام ووصلت إلى مدينة زيلع وهي مدينة البرابرة وهم طائفة من السودان شافعية المذهب وبلادهم صحراء مسيرة شهرين. أولها زيلع وآخرها مقدشو. ومواشيهم الجمال ولهم أغنام مشهورة السمن وأهل زيلع سود الألوان وأكثرهم رافضة وهي مدينة كبيرة لها سوق عظيمة إلا أنها أقذر مدينة في

ص: 193

المعمور وأوحشها وأكثرها نتناً، وسبب نتنها كثرة سمكها ودماء الإبل التي ينحرونها في الأزقة ولما وصلنا إليها اخترنا المبيت بالبحر على شدة هوله ولم نبت بها لقذرها، ثم سافرنا منها في البحر خمس عشرة ليلة ووصلنا مَقَدَشُو1 "وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان القاف وفتح الدال المهمل والشين المعجم وإسكان الواو" وهي مدينة متناهية في الكبر وأهلها لهم جمال كثيرة ينحرون منها المئين في كل يوم ولهم أغنام كثيرة وأهلها تجار أقوياء وبها تصنع الثياب المنسوبة إليها التي لا نظير لها ومنها تحمل إلى ديار مصر وغيرها ومن عادة أهل هذه المدينة أنه متى وصل مركب إلى المرسى تصعد الصنابيق وهي القوارب الصغار إليه ويكون في كل صنبوق جماعة من شبان أهلها فيأتي كل واحد منهم بطبق مغطى فيه الطعام فيقدمه لتاجر من تجار المركب ويقول هذا نزيلي وكذلك يفعل كل واحد منهم ولا ينزل التاجر من المركب إلا إلى دار نزيله من هؤلاء الشبان إلا من كان كثير التردد إلى البلد وحصلت له معرفة أهله فإنه ينزل حيث شاء فإذا أنزل عند نزيله باع له ما عنده واشترى له ومن اشترى منه ببخس أو باع منه بغير حضور نزيله فذلك البيع مردود عندهم ولهم منفعة في ذلك ولما صعد الشبان إلى المركب الذي كنت فيه جاء إلي بعضهم فقال له أصحابي: ليس هذا بتاجر وإنما هو فقيه، فصاح بأصحابه وقال لهم: هذا نزيل القاضي، وكان فيها أحد أصحاب القاضي فعرفه بذلك فأتى إلى ساحل البحر في جملة من الطلبة وبعث إلي أحدهم فنزلت أنا وأصحابي وسلمت على القاضي وأصحابه وقال لي بسم الله نتوجه للسلام على الشيخ فقلت ومن الشيخ فقال السلطان وعادتهم أن يقولوا للسلطان الشيخ فقلت له إذا نزلت توجهت إليه فقال لي أن العادة إذا جاء الفقيه أو الشريف أو الرجل الصالح لا ينزل حتى يرى السلطان فذهبت معهم إليه كما طلبوا.

وكان سلطان مقدشو كما ذكرناه إنما يقولون له الشيخ واسمه أبو بكر بن الشيخ عمر وهو في الأصل من البرابرة وكلامه بالمقدشي ويعرف اللسان العربي ومن عوائده أنه متى وصل مركب يصعد إليه صنبوق السلطان فيسأل عن المركب من أين قدم ومن صاحبه ومن ربانه وهو الرئيس وما وسقه ومن قدم

1 عاصمة جمهورية الصومال الآن وتعرف بمقديشو.

ص: 194

فيه من التجار وغيرهم، فيعرف بذلك كله ويعرض على السلطان فمن استحق أن ينزل عنده أنزله. ولما وصلت مع القاضي المذكور وهو يعرف بابن البرهان المصري الأصل إلى دار السلطان خرج بعض الفتيان فسلم على القاضي فقال له بلغ الأمانة وعرف مولانا الشيخ أن هذا الرجل قد وصل من أرض الحجاز فبلغ ثم عاد وأتى بطبق فيه أوراق التنبول والفوفل فأعطاني عشرة أوراق مع قليل من الفوفل وأعطى للقاضي كذلك وأعطى لأصحابي ولطلبة القاضي ما بقي في الطبق وجاء بقمم من ماء الورد الدمشقي فسكب علي وعلى القاضي وقال أن مولانا أمر أن ينزل بدار الطلبة وهي دار معدة لضيافة الطلبة فأخذ القاضي بيدي وجئنا إلى تلك الدار وهي بمقربة من دار الشيخ مفروشة مرتبة بما تحتاج إليه ثم أتى بالطعام من دار الشيخ ومعه أحد وزرائه وهو الموكل بالضيوف فقال مولانا يسلم عليكم ويقول لكم قدمتم خير مقدم ثم وضع الطعام فأكلنا وطعامهم الأرز المطبوخ بالسمن يجعلونه في صحفة خشب كبيرة ويجعلون فوقه صحاف الكوشان وهو الأدام من الدجاج واللحم والحوت والبقول ويطبخون الموز قبل نضجه في اللبن والحليب ويجعلونه في صحفة ويجعلون اللبن المروّب في صحفة ويجعلون عليه الليمون المصبر وعناقيد الفلفل المصبر المخلل والمملوح والزنجبيل الأخضر والعنبا وهي مثل التفاح ولكن لها نواة وهي إذا نضجت شديدة الحلاوة وتؤكل كالفاكهة وقبل نضجها حامضة كالليمون يصبرونها في الخل وهم إذا أكلوا لقمة من الأرز أكلوا بعدها من هذه الموالح والمخللات.

والواحد من أهل مقدشو يأكل قدر ما تأكله الجماعة منا عادة. وهم في نهاية من ضخامة الأجسام وسمنها. ثم لما أطعمنا انصرف عنا القاضي وأقمنا ثلاثة أيام يؤتى إلينا بالطعام ثلاث مرات في اليوم، وتلك عادتهم.

فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الجمعة جاءني القاضي والطلبة وأحد وزراء الشيخ وأتوني بكسوة وكسوتهم فوطة خز يشدها الإنسان في وسطه عوض السراويل فإنهم لايعرفونها ودراعة من المقطع المصري معلمة وفرجية من المقدسي مبطنة وعمامة مصرية معلمة وأتو لأصحابي بكُسى تناسبهم وأتينا الجامع فصلينا خلف المقصورة فلما خرج الشيخ من باب المقصورة سلمت عليه مع القاضي فرحب وتكلم بلسانه مع القاضي ثم قال

ص: 195

باللسان العربي: قدمت خير مقدم وشرفت بلادنا وآنستنا وخرج إلى صحن المسجد فوقف على قبر والده وهو مدفون هناك فقرأ ودعا ثم جاء الأمراء والوزراء ووجوه الأجناد فسلموا وعادتهم في السلام كعادة أهل اليمن يضع سبابته في الأرض ثم يجعلها على رأسه ويقول أدام الله عزك ثم خرج الشيخ من باب المسجد فلبس نعليه وأمر القاضي أن ينتعل وأمرني أن أنتعل وتوجه إلى منزله ماشياً وهو بالقرب من المسجد ومشى الناس كلهم حفاة ورفعت فوق رأسه أربع قباب من الحرير الملون وعلى أعلى كل قبة صورة طائر من ذهب وكان لباسه في ذلك اليوم فرجية قدسي أخضر وتحتها من ثياب مصر وطروحاتها الحسان وهو متقلد بفوطة حرير معتم بعمامة كبيرة وضربت بين يديه الطبول والأبواق والأنفار وأمراء الأجناد أمامه وخلفه والقاضي والفقهاء والشرفاء معه ودخل إلى مشورة على تلك الهيئة وقعد الوزراء والأمراء ووجوه الأجناد في سقيفة هنالك وفرش للقاضي بساط لا يجلس معه غيره عليه والفقهاء والشرفاء معه ولم يزالوا كذلك إلى صلاة العصر فلما صلوا العصر مع الشيخ أتى جميع الأجناد ووقفوا صفوفاً على قدر مراتبهم ثم ضربت الأطبال والأنفار والأبواق والصرنايات وعند ضربها لا يتحرك أحد ولا يتزحزح من مقامه ومن كان ماشيا وقف فلم يتحرك إلى خلف ولا إلى أمام فإذا فرغ من ضرب الطلبلخانة سلموا بأصابعهم كما ذكرناه وانصرفوا وتلك عادة لهم في كل يوم جمعة وإذا كان يوم السبت يأتي الناس إلى باب الشيخ فيقعدون في سقائف خارج الدار ويدخل القاضي والفقهاء والشرفاء والصالحون والمشايخ والحجاج إلى المشور الثاني فيقعدون على دكاكين خشب معدة لذلك ويكون القاضي على دكانة وحده وكل صنف على دكانة تخصهم لا يشاركهم فيها سواهم ثم يجلس الشيخ بمجلسه ويبعث إلى القاضي فيجلس عن يساره ثم يدخل الفقهاء فيقعد كبراؤهم بين يديه ويسلم سائرهم وينصرفون وإن كانوا ضيوفاً جلسوا عن يمينه ثم يدخل المشايخ والحجاج فيجلس كبراؤهم ويسلم سائرهم وينصرفون ثم يدخل الوزراء ثم الأمراء ثم وجوه الأجناد طائفة بعد طائفة أخرى فيسلمون وينصرفون ويؤتى بالطعام فيأكل بين يدي الشيخ القاضي والشرفاء ومن كان قاعدا بالمجلس ويأكل الشيخ معهم وإن أراد تشريف أحد من كبار أمرائه بعث إليه فأكل معهم.

ص: 196

ويأكل سائر الناس بدار الطعام وأكلهم على ترتيب مثل ترتيبهم في الدخول على الشيخ ثم يدخل الشيخ إلى داره ويقصد القاضي والوزراء وكاتب السر وأربعة من كبار الأمراء للفصل بين الناس وأهل الشكايات فما كان متعلقاً بالأحكام الشرعية حكم فيه القاضي وما كان من سوى ذلك حكم فيه أهل الشورى وهم الوزراء والأمراء وما كان مفتقراً إلى مشاورة السلطان كتبوا إليه فيخرج لهم الجواب من حينه على ظهر البطاقة بما يقتضيه نظره وتلك عادتهم.

ثم ركبت من مدينة مقدشو متوجها إلى بلاد السواحل قاصدا مدينة كُلْوَا1 من بلاد الزنوج فوصلنا إلى جزيرة مَنْبِسَى2 "وضبط اسمها ميم مفتوح ونون مسكن وباء موحدة مفتوحة وسين مهمل مفتوح، وياء". وهيَ كبيرة، بينها وبين أرض السواحل مسيرة يومين في البحر ولا برّ لها وأشجارها: الموز والليمون والأترج، ولهم فاكهة يسمونها الجمون وهي شبه الزيتون ولها نواة كنواه إلا انها شديدة الحلاوة. ولا زرع عند أهل هذه الجزيرة وإنما يجلب إليهم من السواحل وأكثر طعامهم الموز والسمك وهم شافعية المذهب أهل دين وعفاف وصلاح ومساجدهم من الخشب محكمة الإتقان وعلى كل باب من أبواب المساجد البئر والثنتان وعمق آبارهم ذراع أو ذراعان فيسقون منها الماء بقدح خشب قد غرز فيه عود رقيق في طول الذراع والأرض حول البئر والمسجد مسطحة فمن أراد دخول المسجد غسل رجليه ودخل ويكون على بابه قطعة حصير غليظ يمسح بها رجليه ومن أراد الوضوء أمسك القدح بين فخذيه وصب على يديه ويتوضأ وجميع الناس يمشون حفاة الأقدام. وبتنا بهذه الجزيرة ليلة، وركبنا البحر إلى مدينة كُلْوا "وضبط اسمها بضم الكاف وإسكان اللام وفتح الواو" وهي مدينة عظيمة ساحلية أكثر أهلها الزنوج المستحكمو السواد. ولهم شرطات في وجوههم كما هي في وجوه الليميين من جنادة. وذكر لي بعض التجار أن مدينة سفالة على مسيرة نصف شهر من مدينة كلوا، وأن بين سفالة ويوفي من بلاد الليميين مسيرة شهر، ومن يوفي يؤتى بالتبر إلى سفالة. ومدينة كلوا

1 ذكرها ياقوت في معجم البلدان باسم: كِلْوَه بكسر الكاف وسكون اللام وفتح الواو وهاء.

2 وهي الآن: مدينة مُمْبسَّا ميناء كينيا.

ص: 197

من أحسن المدن وأتقنها عمارة، وكلها بالخشب. وسقف بيوتها الديس. والأمطار بها كثيرة، وهم أهل جهاد لأنهم في بر واحد مع كفار الزنوج. والغالب عليهم الدين والصلاح وهم شافعية المذهب.

وكان سلطان كُلْوا في عهد دخولي إليها أبو المظفر حسن ويكنى أيضا أبو المواهب لكثرة مواهبه ومكارمه وكان كثير الغزو إلى أرض الزنوج يغير عليهم ويأخذ الغنائم فيخرج خمسها ويصرفه في مصارفه المعينة في كتاب الله تعالى ويجعل نصيب ذوي القربى في خزانة على حدة فإذا جاء الشرفاء دفعه إليهم وكان الشرفاء يقصدونه من العراق والحجاز وسواها، ورأيت عنده من شرفاء الحجاز جماعة منهم محمد بن جماز ومنصور بن لبيد بن أبي نمي ومحمد بن شميلة بن أبي نمي، ولقيت بمقدشو أتيل بن كبش بن جماز وهو يريد القدوم عليه وهذا السلطان له تواضع شديد ويجلس مع الفقراء ويأكل معهم ويعظم أهل الدين والشرف.

ومن مكارمه أنه حضرته يوم جمعة وقد خرج من الصلاة قاصداً إلى داره فتعرض له أحد الفقراء اليمنيين فقال له أبا المواهب فقال له: لبيك يا فقير ما حاجتك؟ قال اعطني هذه الثياب التي عليك. فقال له: نعم أعطيكها. فقال: الساعة. قال. نعم الساعة. فرجع إلى المسجد ودخل بيت الخطيب فلبس ثياباً سواها، وخلع تلك الثياب وقال للفقير أدخل فخذها. فدخل الفقير وأخذها وربطها في منديل وجعلها فوق رأسه وانصرف. فعظم شكر الناس للسلطان على ما ظهر من تواضعه وكرمه وأخذ ابنه ولي عهده تلك الكسوة من الفقير وعوضه عنا بعشرة من العبيد. وبلغ السلطان ما كان من شكر الناس له على ذلك فأمر للفقير أيضا بعشرة رؤوس من الرقيق وحملين من العاج. ومعظم عطاياهم من العاج، وقلما يعطون الذهب.

ولما توفي هذا السلطان الفاضل الكريم رحمة الله عليه ولي أخوه داود فكان على الضد إذا أتاه سائل يقول له مات الذي كان يعطي ولم يترك من بعده ما يعطى ويقيم الوفود عنده الشهور الكثيرة وحينئذ يعطيهم القليل حتى انقطع الوافدون عن بابه.

ص: 198

وركبنا البحر من كُلْوَا إلى مدينة ظفار الحموض1 "وضبط اسمها بفتح الظاء المعجم والفاء وآخره راء مبنية على الكسر" وهي آخر بلاد اليمن على ساحل البحر الهندي ومنها تحمل الخيل العتاق إلى الهند ويقطع البحر فيما بينها وبين الهند مع مساعدة الريح في شهر كامل قد قطعته مرة من قالقوط في بلاد الهند إلى ظفار في ثمانية وعشرين يوماً بالريح ولم ينقطع لنا جري بالليل ولا بالنهار وبين ظفار وعدن في البر مسيرة شهر في صحراء، وبينها وبين حضرموت ستة وعشر يوماً، وبينها وبين عمان عشرون يوماً.

ومدينة ظفار في صحراء لا قرية بها ولا عمالة لها والسوق خارج المدينة بربض يعرف بالحرجاء وهي من أقذر الأسواق وأشدها نتناً وأكثرها ذباباً لكثرة ما يباع بها من الثمرات وأكثر سمكها النوع المعروف بالسردين، وهو بها في النهاية من السمن. ومن العجائب أن دوابهم إنما علفها من هذا السردين وكذلك غنمهم ولم أر ذلك في سواها. وأكثر باعتها الخدم وهن يلبسن السواد. وزرع أهلها الذرة وهم يسقونها من آبار بعيدة الماء وكيفية سقيهم أنهم يصنعون دلواً كبيرة ويجعلون لها حبالاً كثيرة ويتحزم بكل حبل عبد أو خادم ويجرون الدلو على عود كبير مرتفع عن البئر ويصبونها في صهريج يسقون منه، ولهم قمح يسمونه العلس وهو في الحقيقة نوع من السلت، والأرز يجلب إليهم من بلاد الهند وهو أكثر طعامهم، ودراهم هذه المدينة من النحاس والقصدير ولا تنفق في سواها وهم أهل تجارة ولا عيش لهم إلا منها. ومن عاداتهم أنه إذا وصل مركب من الهند أو غيرها خرج عبيد السلطان إلى الساحل وصعدوا في صنبوق إلى المركب ومعهم الكسوة الكاملة لصاحب المركب أو وكيله وللربان وهو الرئيس وللكراني وهو كاتب المركب ويؤتى إليهم ثلاثة أفراس فيركبونها وتضرب أمامهم الأطبال والأبواق من ساحل البحر إلى دار السلطان فيسلمون على الوزير وأمير الجند وتبعث الضيافة لكل من بالمركب ثلاثاً وبعد الثلاث يأكلون بدار السلطان.

وهم يفعلون ذلك استجلاباً لأصحاب المراكب. وهم أهل تواضع وحسن أخلاق وفضيلة ومحبة للغرباء، ولباسهم القطن وهو يجلب إليهم من بلاد

1 في إحدى طبعات الكتاب: الحبوضي.

ص: 199

الهند ويشدون الفوط في أوساطهم عوضاً عن السروال وأكثرهم يشد فوطة في وسطه وتجعل فوق ظهره أخرى من شدة الحر ويغتسلون مرّات في اليوم.

وهي كثيرة المساجد ولهم في كل مسجد مطاهر كثيرة معدة للإغتسال ويصنع بها ثياب من الحرير والقطن والكتان حسان جدّاً.

والغالب على أهلها رجالاً ونساءً المرض المعروف بداء الفيل، وهو انتفاخ القدمين. وأكثر رجالهم مبتلون بالأدر1 والعياذ بالله. ومن عوائدهم الحسنة التصافح في المسجد أثر صلاة الصبح والعصر يستند أهل الصف الأول إلى القبلة ويصافحهم الذين يلونهم وكذلك يفعلون بعد صلاة الجمعة يتصافحون أجمعون. ومن خواص هذه المدينة وعجائبها أنه لا يقصدها أحد بسوء إلا عاد عليه مكروه وحيل بينه وبينها.

وذكر لي أن السلطان قطب الدين تمهتن بن طوران شاه صاحب هرمز نازلها مرة من البر والبحر فأرسل الله سبحانه ريحاً عاصفاً كسرت مراكبه ورجع عن حصارها وصالح ملكها وكذلك ذكر أن الملك المجاهد سلطان اليمن عيّن ابن عم له بعسكر كبير برسم انتزاعها من يد ملكها وهو أيضا ابن عمه فلما خرج ذلك الأمير من داره سقط عليه حائط وعلى جماعة من أصحابه فهلكوا جميعاً ورجع الملك عن رأيه وترك حصارها وطلبها. ومن الغرائب أن أهل هذه المدينة أشبه الناس بأهل المغرب في شئونهم نزلت بدار الخطيب بمسجدها الأعظم وهو عيسى بن علي كبير القدر كريم النفس فكان له جوار مسميات بأسماء خدام المغرب إحداهن اسمها بخيتة والأخرى زاد المال ولم أسمع هذه الأسماء في بلد سواها. وأكثر أهلها رؤوسهم مكشوفة لا يجعلون عليها العمائم وفي كل دار من دورهم سجادة الخوص معلقة في البيت يصلي عليها صاحب البيت كما يفعل أهل المغرب وأكلهم الذرة وهذا التشابه كله مما يقوي القول بأن صنهاجة وسواهم من قبائل المغرب أصلهم من حمير. وبقرب من هذه المدينة بين بساتينها زاوية الشيخ الصالح العابد أبي محمد بن أبي بكر بن عيسى من أهل ظفار. وهذه الزاوية معظمة عندهم

1 الأدر: انتفاخ الخصيتين.

ص: 200