المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

من قصعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والميل الذي - رحلة ابن بطوطة ط دار الشرق العربي - جـ ١

[ابن بطوطة]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الاول

- ‌مقدمة

- ‌نقطة البداية

- ‌خبر حاكم تونس

- ‌مدينة الإسكندرية- أبوابها- مرساها:

- ‌قرافة مصر ومزاراتها:

- ‌يوم المحمل:

- ‌قصة خصيب:

- ‌خبر المسجد المقدس

- ‌حكاية أبي يعقوب يوسف المذكور

- ‌خبر جامع بني أمية الكبير:

- ‌حلقات الدرس والمشرفون عليها

- ‌طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَرَّم وشَرَّف وعَظَّم:

- ‌مدينة مكة المكرّمة:

- ‌خبر الروضة والقبور التي فيها:

- ‌خبر نقيب الأشراف:

- ‌حكاية اعتبار:

- ‌خبر المشاهد المباركة بالبصرة:

- ‌خبر ملك إيذج وتستر:

- ‌كرامات الشيخ قطب الدين:

- ‌خبر سلطان شيراز:

- ‌بعض المشاهد بشيراز:

- ‌مدينة الكوفة:

- ‌مدينة بغداد:

- ‌خبر قبور الخلفاء ببغداد وقبور بعض العلماء والصالحين فيها:

- ‌خبر سلطان العراقين وخراسان:

- ‌خبر المتغلبين على الملك بعد موت السلطان أبي سعيد:

- ‌مدينة الموصل

- ‌خبر سلطان ماردين في عهد دخولي إليها:

- ‌خبر سلطان اليمن:

- ‌خبر شجر التنبول:

- ‌خبر شجر النارجيل:

- ‌خبر سلطان ظفار:

- ‌خبر الولي لقيناه في الجبل

- ‌خبر سلطان عمان:

- ‌خبر سلطان هرمز:

- ‌خبر سلطان لار:

- ‌خبر سبت العلايا

- ‌خبر الأخية الفتيان:

- ‌خبر سلطان انطالية:

- ‌خبر سلكان أكريدور

- ‌خبر سلطان قُلْ حِصار:

- ‌خبر سلطان لاذق:

- ‌سلطان ميلاس:

- ‌خبر سلطان اللَاّرَنْدَة:

- ‌خبر سلطان بِرْكِي:

- ‌خبر سلطان مغنيسية:

- ‌خبر سطان برغمة

- ‌خبر سلطان بلي كسرى:

- ‌خبر سلكان برصا

- ‌خبر سلكان قصطمونية

- ‌خبر السلطان المعظم محمد أوزْبك خان:

- ‌أخبار الخواتين وترتيبهنّ:

- ‌ذكر سفري إلى مدينة بلغار:

- ‌ذكر أرض الظلمة:

- ‌التوجه إلى القسطنطينية:

- ‌نبذة عن المانستارت بقسطنطينية

- ‌أمير خوارزم:

- ‌غزو التتر لبخارى وتخريبهم لها ولِسواها:

الفصل: من قصعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والميل الذي

من قصعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والميل الذي كان يكتحل به والدرفش وهو الأشفا الذي كان يخصف به نعله ومصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بخط يده رضي الله عنه ويقال أن الصاحب اشترى ما ذكرناه من الآثار الكريمة النبوية بمائة ألف درهم وبنى الرباط وجعل فيه الطعام للوارد والصادر والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة نفعه الله تعالى بقصده المبارك. ثم خرجت من الرباط المذكور ومررت بمنية القائد وهي بلدة صغيرة على ساحل النيل. ثم سرت منها إلى مدينة بوش "وضبطها بضم الباء الموحدة واحدة شين معجم" وهذه المدينة أكثر بلاد مصر كتانا ومنها يجلب إلى سائر الديار المصرية وإلى إفريقية. ثم سافرت منها فوصلت إلى مدينة دلاص "وضبط اسمها بفتح الدال المهملة وآخره صاد مهملة"، وهذه المدينة كثيرة الكتان أيضا كمثل التي ذكرناها قبلها ويحمل أيضا منها إلى ديار مصر وإفريقية. ثم سافرت منها إلى مدينة ببا "وضبط اسما بباءين موحدتين أولاهما مكسورة". ثم سافرت منها إلى مدينة البهنسا، وهي مدينة كبيرة وبساتينها كثيرة "وضبط اسمها بفتح الموحدة وإسكان الهاء وفتح النون والسين". وتصنع بهذه المدينة ثياب الصوف الجيدة. وممن لقيته بها قاضيها العالم شرف الدين وهو كريم النفس فاضل ولقيت بها الشيخ الصالح أبا بكر العجمي ونزلت عنده وأضافني. ثم سافرت منها إلى مدينة منية ابن خصيب1 وهي مدينة كبيرة الساحة متسعة المساحة مبنية على شاطئ النيل وحق حقيق لها على بلاد الصعيد التفضيل بها المدارس والمشاهد والزوايا والمساجد وكانت في القدم منية عامل مصر الخصيب.

1 تعرف الآن بمدينة المِنْيَا، وهي عاصمة محافظة المنيا في صعيد مصر.

ص: 34

‌قصة خصيب:

يذكر أن أحد الخلفاء من بني العباس رضي الله عنهم غضب على أهل مصر فآلى أن يولي عليهم أحقر عبيده وأصغرهم شأنا قصدا لإذلالهم والتنكيل بهم وكان خصيب أحقرهم إذ كان يتولى تسخين الحمام فخلع عليه وأمره على مصر وظنه أنه يسير فيهم سيرة سوء ويقصدهم بالأذية حسبما هو المعهود ممن ولي عن غير عهد بالعز فلما استقر خصيب بمصر سار في أهلها

ص: 34

أحسن سيرة وشهر بالكرم والإيثار فكان أقارب الخلفاء وسواهم يقصدونه فيجزل العطاء لهم ويعودون إلى بغداد شاكرين لما أولاهم وأن الخليفة افتقد بعض العباسيين وغاب عنه مدة ثم أتاه فسأله عن مغيبة فأخبره أنه قصد خصيبا وذكر له ما أعطاه خصيب وكان جزيلاً فغضب الخليفة وأمر بسمل عيني خصيب وأخرجه من مصر إلى بغداد وأن يطرح في أسواقها فلما ورد الأمر بالقبض عليه حيل بينه وبين دخوله منزله وكانت بيده ياقوتة عظيمة الشأن فخباها عنده وخاطها في ثوب لها ليلاً وسملت عيناه وطرح في أسواق بغداد فمر به بعض الشعراء فقال يا خصيب أني كنت قصدتك من بغداد إلى مصر مادحا لك بقصيدة فوافقت انصرافك عنها وأحب أن تسمعها فقال كيف بسماعها وأنا على ما تراه فقال إنما قصدي سماعك لها وأما العطاء فقد أعطيت الناس وأجزلت جزاك الله خيرا قال فافعل فأنشد:

أنت الخصيب وهذه مصر

فتدفقا فكلاكما بحر

فلما أتى على اخرها قال له: افتق هذه الخياطة ففعل ذلك فقال له خذ الياقوتة فأبى فأقسم عليه أن يأخذها فأخذها وذهب بها إلى سوق الجوهريين فلما عرضها عليهم قالوا له أن هذه لا تصلح إلا للخليفة فرفعوا أمرها إلى الخليفة فأمر الخليفة بإحضار الشاعر واستفهمه عن شأن الياقوتة فأخبره بخبرها فتأسف على ما فعله بخصيب وأمر بمثوله بين يديه وأجزل له العطاء وحكمه فيما يريد فرغب أن يعطيه المنية ففعل ذلك وسكنها خصيب إلى أن توفي وأورثها عقبه إلى أن انقرضوا وكان قاضي هذه المنية أيام دخولي إليها فخر الدين النويري المالكي وواليها شمس الدين أمير خير كريم. دخلت يوما الحمام بهذه البلدة فرأيت الناس بها لا يستترون فعظم ذلك علي وأتيته فأعلمته بذلك فأمرني ألا أبرح وأمر بإحضار المكترين للحمامات وكتبت عليهم العقود أنه متى دخل أحد الحمام دون مئزر فإنهم يؤاخذون على ذلك واشتد عليهم أعظم الاشتداد ثم انصرفت عنه. وسافرت من منية ابن خصيب إلى مدينة منلوي1 وهي صغيرة مبنية على مسافة ميلين من النيل "وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح اللام وكسر الواو". وقاضيها

1 تعرف الآن باسم: ملوى بإدغام اللاّم، وهي إحدى مدن محافظة المنيا بصعيد مصر.

ص: 35

الفقية شرف الدين الدميري "بفتح الدال المهمل وكسر الميم" الشافعي وكبارها قوم يعرفون ببني فضيل بنى أحدهم جامعا أنفق فيه صميم ماله وبهذه المدينة إحدى عشرة معصرة للسكر- ومن عوائدهم أنهم لا يمنعون فقيرا من دخول معصرة منها فيأتي الفقير بالخبزة الحارة فيطرحها في القدر التي يطبخ السكر فيها ثم يخرجها وقد امتلاءت سكرا فينصرف بها. وسافرت من منلوى المذكورة إلى مدينة منفلوط وهي مدينة حسن هواؤها مؤنق بناؤها على ضفة النيل شهيرة البركة "وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الفاء وضم اللام وآخرها طاء مهمل".

وقد أخبرني أهل هذه المدينة أن الملك الناصر رحمه الله أمر بعمل منبر عظيم محكم الصنعة بديع الإنشاء برسم المسجد الحرام زاده الله شرفا وتعظيما فلما تم عمله أمر أن يصعد به في النيل ليجتاز إلى بحر جدة ثم إلى مكة شرفها الله فلما وصل المركب الذي احتمله إلى منفلوط وحاذى مسجدها الجامع وقف وامتنع من الجري مع مساعدة الريح فعجب الناس من شأنه أشد العجب وأقاموا أياما لا ينهض بهم المركب فكتبوا بخبر إلى الملك الناصر رحمه الله فأمر أن يجعل ذلك المنبر بجامع مدينة منفلوط ففعل ذلك وقد عاينته بها ويصنع في هذه المدينة شبه العسل يستخرج من القمح ويسمونه النيدا. يباع بأسواق مصر. وسافرت من هذه المدينة إلى مدينة أسيوط وهي مدينة رفيعة أسواقها بديعة "وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وضم الياء آخر الحروف واو وطاء مهملة" وقاضيها شرف الدين بن عبد الرحيم الملقب "بحاصل ما ثم" لقب اشتهر به وأصله أن القضاة بديار مصر والشام بأيديهم الأوقاف والصدقات لأبناء السبيل فإذا أتى فقير لمدينة من المدن قصد القاضي بها فيعطيه ما قدر له فكان القاضي إذا أتاه الفقير يقول له حاصل ما ثم1 أي لم يبق من المال الحاصل شيء فلقب بذلك ولزمه وبها من المشايخ الفضلاء الصالح شهاب الدين ابن الصباغ أضافني بزاويته. وسافرت منها إلى مدينة أخميم وهي مدينة عظيمة أصيلة البنيان عجمية الشأن بها البربي المعروف باسمه وهو مبني بالحجارة في داخله نقوش وكتابة للأوائل، لا تفهم في هذا

1 ثَمَّ هنا ظرف مكان بمعنى هنا. والمراد ما هنا من الحاصل شيءٌ حتى أعطيكه.

ص: 36

العهد، وصور الأفلاك والكواكب ويزعمون أنها بنيت والنسر الطائر ببرج العقرب وبها صور الحيوانات وسواها وعند الناس في هذه الصور أكاذيب لا يعرج عليها وكان بأخميم رجُلٌ يعرف بالخطيب أمر على هدم بعض هذه البرابي وابتنى بحجارتها مدرسة وهو رجل موسر معروف باليسار ويزعم حساده أنه استفاد ما بيده من المال من ملازمته لهذه البرابي ونزلت من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي العباس ومجد الدين وواحد الدين. ومن عادتهم أن يجتمعوا جميعا بعد صلاة الجمعة ومعهم الخطيب نور الدين المذكور وأولاده وقاضي المدينة الفقيه مخلص وسائر أهلها فيجتمعون للقرآن ويذكرون الله إلى صلاة العصر فإذا صلوها قرأوا سورة الكهف ثم انصرفوا. وسافرت من أخميم إلى مدينة "هُو": مدينة كبيرة بساحل النيل "وضبها بضم الهاء" ونزلت منها بمدرسة تقي الدين ابن السراج ورأيتهم يقرأون بها في كل يوم بعد صلاة الصبح حزبا من القرآن ثم يقرأون أوراد الشيخ أبي الحسن الشاذلي وحزب البحر وبهذه المدينة السيد الشريف أبو محمد عبد الله الحسني من كبار الصالحين دخلت إلى هذا الشريف متبركا برؤيته والسلام عليه فسألني عن قصدي فأخبرته إني أريد البيت الحرام على طريق جدة فقال لي ولا يحصل لك هذا في هذا الوقت فارجع وإنما تحج أول حجة على الدرب الشامي فانصرفت عنه، ولم أعمل على كلامه ومشيت في طريقي حتى وصلت إلى عيذاب فلم يتمكن لي السفر فعدت راجعا إلى مصر ثم إلى الشام وكان طريقي في أول حجاتي على الدرب الشامي حسبما أخبرني الشريف نفع الله به. ثم سافرت إلى مدينة قنا، وهي صغيرة حسنة الأسواق، "وضبط اسمها بقاف مكسورة ونون". وبها قبر الشريف الصالح الولي صاحب البراهين العجيبة والكرامات الشهيرة عبد الرحيم القناوي رحمة الله عليه. ورأيت بالمدرسة السيفية حفيدة شهاب الدين أحمد. وسافرت من هذا البلد إلى مدينة قوص "وهي بضم القاف" مدينة عظيمة لها خيرات عميمة بساتينها مورقة وأسواقها مونقة ولها المساجد الكثيرة والمدارس الأثيرة وهي منزل ولاة الصعيد وبخارجها زاوية الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار وزاوية الأفرام1 وبها اجتماع الفقراء

1 في إحدى طبعات رحلة ابن بطوطة: زاوية الأفرام.

ص: 37

المتجردين في شهر رمضان من كل سنة ومن علمائها القاضي جمال الدين بن السديد والخطيب بها فتح الدين بن دقيق العيد أحد الفصحاء البلغاء الذين حصل لهم السبق في ذلك لم أر من يماثله إلا خطيب المسجد الحرام بهاء الدين الطبري وخطيب مدينة خوارزم حسام الدين المشاطي وسيقع ذكرهما ومنهم الفقيه برهان الدين إبراهيم الأندلسي له زاوية عالية. ثم سافرت إلى مدينة الأقصر1 "وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الصاد المهمل". وهي صغيرة حسنة وبها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري وعليه زاوية. وسافرت منها إلى مدينة آرمنت.

"وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الراء وميم مفتوحة ونون ساكنة وتاء فوقية"، وهي صغيرة ذات بساتين مبنية على ساحل النيل أضافني قاضيها ونسيت اسمه. ثم سافرت منها إلى مدينة أسنا "وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان السين المهمل ونون" مدينة عظيمة متسعة الشوارع ضخمة المنافع كثيرة الزوايا والمدارس والجوامع لها أسواق حسان وبساتين ذات أفنان قاضيها قاضي القضاة شهاب الدين بن مسكين أضافني وأكرمني، وكتب إلى نوابه بإكرامي وبها من الفضلاء الشيخ الصالح نور الدين علي والشيخ الصالح عبد الواحد المكناسي وهو على هذا العهد صاحب زاوية بقوص. ثم سافرت منها إلى مدينة أدفو2 "وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الدال المهمل وضم الفاء"، وبينها وبين مدينة أسنا مسيرة يوم وليلة في صحراء لا عمارة بها، إلاّ أنها آمنة السبل. وفي بعض منازلها نزلنا حميثرا حيث قبر ولي الله أبي الحسن الشاذلي، وقد ذكرنا كرامته في إخباره أنه يموت بها وأرضها وكثيرة الضباع ولم نزل ليلة مبيتنا بها نحارب الضباع ولقد قصدت رحلي ضبع منها فمزقت عدلا كان به واجتزت منه جراب تمر وذهبت به فوجدناه لما أصبحنا ممزقا مأكولا معظم ما كان فيه. ثم لما سرنا خمسة عشر يوما وصلنا إلى مدينة عيذاب وهي مدينة كبيرة

1 تعرف الآن بالأُقْصُر الهمزة والصاد وسكون القاف.

2 يضبط اسم مدينتي: اسنا وإدفو بكسر الهمزة الآن كما هو متداول بين الناس.

ص: 38

كثيرة الحوت واللبن ويحمل إليها الزوع والثمر من صعيد مصر وأهلها البجاة1 وهم سود الألوان يلتحفون بملاحف صفراء ويشدون على رؤوسهم عصائب يكون عرض العصابة إصبعا وهم لا يورثون البنات طعامهم ألبان الإبل ويركبون المهاري ويسمونها الصهب وثلث المدينة للملك الناصر وثلثاه لملك البجاة وهو يعرف بالحدربي "بفتح الحاء المهمل وإسكان الدال وراء مفتوحة وباء موحدة وياء" وبمدينة عيذاب مسجد ينسب للقسطلاني شهير البركة رأيته وتبركت به وبها الشيخ الصالح موسى والشيخ المسن محمد المراكشي زعم أنه ابن المرتضى ملك مراكش وأن سنه خمسة وتسعون سنة ولما وصلنا إلى عيذاب وجدنا الحدربي سلطان البجاة يحارب الأتراك وقد خرق المراكب وهرب الترك أمامه فتعذر سفرنا في البحر فبعنا ما كنا أعددناه من الزاد وعدنا مع العرب الذين اكترينا الجمال منهم إلى صعيد مصر

فوصلنا إلى مدينة قوص التي تقدم ذكرها وانحدرنا منها في النيل وكان أوان مده فوصلنا بعد مسيرة ثمان من قوص إلى مصر فبت بمصر ليلة واحدة وقصدت بلاد الشام وذلك في منتصف شعبان سنة ست وعشرين فوصلت إلى مدينة بلبيس2 "وضبط اسمها بفتح الموحدة الأولى وفتح الثانية ثم ياء آخر الحروف مسكنة وسين مهملة"، وهي مدينة كبيرة ذات بساتين كثيرة ولم ألق بها من يجب ذكره. ثم وصلت إلى الصالحية ومنها دخلنا الرمال3 ونزلنا منازلها مثل السوادة والواردة والمطيلب والعريش والخروبة. بكل منزل منها فندق. وهم يسمونه الخان ينزله المسافرون بدوابهم وبخارج كل خان ساقية للسبيل وحانوت يشتري منه المسافر ما يحتاجه لنفسه ودابته. من منازلها قَطْيا المشهورة وهي "بفتح القاف وسكون الطاء وياء آخر الحروف مفتوحة وألف. والناس يبدلون ألفها هاء تأثنث". وبها تؤخذ الزكاة من التجار، وتفتش أمتعتهم ويبحث عما

1 ويقال لهم أيضاً: البُجّة، وهم قبائل تعيش بين النيل والبحر الأحمر وبين القاهرة وحدود السودا، يعيش بعضهم في جمهورية مصر العربية، وبعضهم في جمهورية السودان، ومعظمهم لا يتكلّمون العربية.

2 المتداول بين الناس في نطقها الآن: بِلْبيس بكسر الباءين الأولى والثانية، وبينهما لام ساكنة، وهي مدينة تابعة لمحافظة الشرقيّة.

3 يقصد بالرمال: شبه جزيرة سيناء.

ص: 39

لديهم أشد البحث. وفيها الدواوين والعمال والكتاب والشهود ومجباها في كل يوم ألف دينار من الذهب ولا يجوز عليها أحد إلى الشام إلا ببراءة من مصر ولا إلى مصر إلا ببراءة من الشام إحتياطا على أموال الناس وتوقيا من الجواسيس العراقيين وطريقها في ضمان العرب قد وكلوا بحفظه فإذا كان الليل مسحوا على الرمل حتى لا يبقى به أثر ثم يأتي الأمير صباحا فينظر إلى الرمل فإن وجد به أثرا طالب العرب بإحضار مؤثره فيذهبون في طلبه فلا يفوتهم فيأتون به الأمير فيعاقبه بما شاء وكان بها في عهد وصولى إليها عز الدين أستاذ الدار قماري من خيار الأمراء أضافني وأكرمني وأباح الجواز لمن كان معي وبين يديه عبد الجليل المغربي الوقاف وهو يعرف المغاربة وبلادهم فيسأل من ورد منهم من أي البلاد هو لئلا يلبس عليهم فإن المغاربة لا يعترضون جوازهم على قطيا. ثم سرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر متسقة الأقطار كثيرة العمارة حسنة الأسواق بها المساجد العديدة والأسوار عليها وكان بها جامع حسن والمسجد الذي تقام الآن به الجمعة فيها بناه الأمير المعظم الجاولي وهو أنيق البناء محكم الصنعة ومنبره من الرخام الأبيض وقاضي غزة بدر الدين السلختي الحوراني ومدرسها علم الدين بن سالم وبنو سالم كبراء هذه المدينة ومنهم شمس الدين قاضي القدس. ثم سافرت من غزة إلى مدينة الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما وهي مدينة صغيرة الساحة كبيرة المقدار مشرقة الأنوار حسنة المنظر عجيبة المخبر في بطن واد ومسجدها أنيق الصنعة محكم العمل بديع الحسن سامي الارتفاع مبني بالصخر المنحوت في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبرا ويقال أن سليمان عليه السلام أمر الجن ببنائه وفي داخل المسجد الغار المكرم المقدس فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله على نبينا وعليهم ويقابلهم قبور ثلاثة هي قبور أزواجهم وعن يمين المنبر يلصق جدار القبلة موضع يهبط منه على درج رخام محكمة العمل إلى مسلك ضيق يفضي إلى ساحة مفروشة بالرخام فيها صور القبور الثلاثة ويقال أنها محاذية لها وكان هناك مسلك إلى الغار المبارك وهو الآن مسدود وقد نزلت بهذا الموضع مرات ومما ذكره أهل العلم دليلا على صحة كون القبور الثلاثة الشريفة هنالك ما نقله من كتاب علي بن جعفر الرازي الذي سماه المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب أسند فيه إلى أبي

ص: 40

هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أسرى بي إلى بيت المقدس مر بي جبريل على قبر إبراهيم، فقال: أنزل فصل ركعتين فإن هنا قبر أبيك إبراهيم ثم مر بيت على بيت لحم، وقال: انزل فصل ركعتين فإن هنا ولد أخوك عيسى عليه السلام، ثم أتى بي الصخرة". وذكر بقية الحديث ولما لقيت بهذه المدينة المدرس الصالح المعمر الإمام الخطيب برهان الدين الجعبري أحد الصلحاء المرضيين والأئمة المشهورين سألته عن صحة كون قبر الخليل عليه السلام هنالك فقال لي كل من لقيته من أهل العلم يصححون أن هذه القبور قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب على نبينا وعليهم السلام وقبور زوجاتهم ولا يطعن في ذلك إلا أهل البدع وهو نقل الخلف عن السلف لا يشك فيه ويذكر أن بعض الأئمة دخل إلى الغار ووقف عند قبر سارة فدخل شيخ فقال له أي هذه القبور هو قبر إبراهيم فأشار له إلى قبره المعروف ثم دخل شاب فسأله كذلك فأشار له إليه ثم دخل صبي فسأله أيضا فأشار له إليه فقال الفقيه أشهد أن هذا قبر إبراهيم عليه السلام لا شك ثم دخل إلى المسجد فصلى به وارتحل من الغد وبداخل هذا المسجد أيضا قبر يوسف عليه السلام، وبشرقي حرم الخليل تربة لوط عليه السلام وهي تل مرتفع منه على غور الشام وعلى قبره أبنية حسنة وهو في بيت منها حسن البناء مبيض ولا ستور عليه وهنالك بحيرة لوط1 وهي أجاج يقال أنها موضع ديار قوم لوط وبمقربة من تربة لوط مسجد اليقين وهو على تل مرتفع له نور وإشراق ليس لسواه ولا يجاوره إلا دار واحدة يسكنها قيمه وفي المسجد بمقربة من بابه موضع منخفض في حجر صلد قد هيئ فيه صورة محراب لا يسع إلا مصليا واحدا ويقال أن إبراهيم سجد في ذلك الموضع شكرا لله تعالى عند هلاك قوم لوط فتحرك موضع سجوده وساخ في الأرض قليلا وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام في أحدهما مكتوب منقوش بخط بديع بسم الله الرحمن الرحيم له العزة والبقاء وله ما ذرا وبرا وعلى خلقه كتب الفناء وفي رسول الله أسوة حسنة هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه وفي اللوح الآخر منقوش صنعه محمد بن أبي

1 وتعرف الآن باسم: البحر الميت، لعدم وجود حياة فيه، لشدّة مائه.

ص: 41