الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المدرس تاج الدين السلطانيوكي من كبار العلماء قرأ بالعراقين وتبريز واستوطنها مدة وقرأ بدمشق وجاور بالحرمين قديماً. ولقيت بها العالم المدرس صدر الدين سليمان الفنيكي من أهل فنيكة من بلاد الروم وأضافني بمدرسته التي بسوق الخيل. ولقيت بها الشيخ المعمر الصالح دادا أمير علي فدخلت عليه بزاويته بمقربة من سوق الخيل فوجدته ملقى على ظهره فأجلسه بعض خدامه ورفع بعضهم حاجبيه عن عينيه ففتحهما وكلمني بالعربي الفصيح وقال قدمت خير مقدم، وسألته عن عمره، فقال: كنت من أصحاب الخليفة المستنصر بالله1 وتوفي وأنا ابن ثلاثين سنة وعمره الآن مائة وثلاث وستون سنة فطلبت منه الدعاء فدعا لي وانصرفت.
1 الخليفة المستنصر بالله هو الخليفة قبل الأخير من الخلفاء العباسين ببغداد، وكانت وفاته سنة 640هـ، وعليه فيكون مولد المعمر دادا أمير علي في سنة 610هـ، ويكون عمره حين لقاء ابن بطوطة له عام 734هـ أربعاً وعشرين ومائة عام، وليس مائة وثلاثاً وستّين كما ذكر.
خبر سلكان قصطمونية
…
خبر سلطان قصطمونية:
وهو السلطان المكرم سليمان باد شاه "واسمه بباء معقود وألف ودال مسكن"، وهو كبير السن ينيف على سبعين سنة حسن الوجه طويل اللحية صاحب وقار وهيبة يجالسه الفقهاء والصلحاء دخلت عليه بمجلسه فأجلسني إلى جانبه وسألني عن حالي ومقدمي وعن الحرمين الشريفين ومصر والشام فأجبته وأمر بإنزالي على قرب منه وأعطاني ذلك اليوم فرساً عتيقاً قرطاسي اللون وكسوة، وعيّن لي نفقة وعلفاً وأمر لي بعد ذلك بقمح وشعير نفذ لي في قرية من قرى المدينة على مسيرة نصف يوم منها فلم أجد من يشتريه لرخص الأسعار فأعطيته للحاج الذي كان في صحبتنا. ومن عادة هذا السلطان أن يجلس كل يوم بمجلسه بعد صلاة العصر ويؤتى بالطعام فتفتح الأبواب ولا يمنع أحد من حضري أو بدوي أو غريب أو مسافر من الأكل، ويجلس في أول النهار جلوساً خاصاً ويأتي ابنه فيقبل يديه وينصرف المجلس له ويأتي أرباب الدولة فيأكلون عنده وينصرفون. ومن عادته في يوم الجمعة أن يركب إلى
المسجد، وهو بعيد عن داره. والمسجد المذكور هو ثلاث طبقات من الخشب. فيصلي السلطان وأرباب دولته والقاضي والفقهاء، ووجوه الأجناد في الطبقة السفلى ويصلي الأفندي وهو أخو السلطان وأصحابه وخدامه وبعض أهل المدينة في الطبقة الوسطى ويصلي ابن السلطان وولي عهده وهو أصغر أولاده ويسمى الجواد وأصحابه ومماليكه وخدامه وسائر الناس في الطبقة العليا، ويجتمع القراء فيقعدون حلقة أمام المحراب، ويقعد معهم الخطيب والقاضي ويكون السلطان بإزاء المحراب، ويقرءون سورة الكهف بأصوات حسان ويكررون الآيات بترتيب عجيبٍ، فإذا فرغوا من قراءتها صعد الخطيب المنبر فخطب ثم صلى فإذا فرغوا من الصلاة تنفّلوا، وقرأ القاريء بين يدي السلطان عشراً وانصرف السلطان ومن معه، ثم يقرأ القارىء بين يدي ابن السلطان فإذا فرغ من قراءته قام المعرف وهو المذكر فيمدح السلطان بشعر تركي ويمدح ابنه ويدعو لهما وينصرف، ويأتي ابن الملك إلى دار أبيه بعد أن يقبل يد عمه في طريقه وهو واقف في انتظاره، ثم يدخلان إلى السلطان فيتقدم أخوه ويقبل يده ويجلس بين يديه ثم يأتي ابنه فيقبل يده وينصرف إلى مجلسه فيقعد به مع ناسه، فإذا حانت صلاة العصر صلّوها جميعاً وقبل أخو السلطان يده وانصرف عنه فلا يعود إليه إلا في الجمعة الأخرى، وأما الولد فإنه يأتي كل يوم غدوة كما ذكرناه، ثم سافرنا من هذه المدينة، ونزلنا في زاوية عظيمة بإحدى القرى تعد أحسن زاوية رأيتها في تلك البلاد بناها أمير كبير تاب إلى الله تعالى يسمى فخر الدين وجعل النظر فيها لولده والإشراف لمن أقام بالزاوية من الفقراء وفوائد القرية وقف عليها، وبنى بإزاء الزاوية حماماً للسبيل يدخله الوارد والصادر من غير شيء يلزمه، وبنى سوقا بالقرية ووقفه على المسجد الجامع وعيّن من أوقاف هذه الزاوية لكل فقير يرد من الحرمين الشريفين أو من الشام ومصر والعراقين وخراسان وسواها كسوة كاملة ومائة درهم يوم قدومه، وثلاثمائة درهم يوم سفره، والنفقة أيام مقامه وهي الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء. ولكل فقير من بلاد الروم عشرة دراهم وضيافة ثلاثة أيام، ثم انصرفنا وبتنا ليلة ثانية بزاوية في جبل شامخ لا عمارة فيه عمرها بعضي الفتيان الأخية، ويعرف بنظام الدين من أهل قصطمونية، ووقف عليها قرية ينفق خراجها على الوارد والصادر بهذه الزاوية. وسافرنا من هذه الزاوية إلى مدينة صَنُوب "وضبط اسمها
بفتح الصاد وضم النون وآخره باء"، وهي مدينة حافلة جمعت بين التحصين والتحسين، يحيط بها البحر من جميع جهاتها إلا واحدة وهي جهة الشرق، ولها هنالك باب واحد لا يدخلها أحد إلا بإذن أمير ها، وأمير ها إبراهيم بك ابن السلطان سليمان باد شاه الدي ذكرناه. لما استؤذن لنا عليه دخلنا البلد ونزلنا بزاوية عز الدين أخي جلبي، وهي خارج باب البحر، ومن هنالك يصعد إلى جبل داخل في البحر، كميناء سبته فيه البساتين والمزارع والمياه، وأكثر فواكهه التين والعنب وهو جبل مانع لا يستطاع الصعود إليه وفيه إحدى عشرة قرية يسكنها كفار الروم تحت ذمة المسلمين، وبأعلاه رابطة تنسب للخضر وإلياس عليهما السلام لا تخلو من متعبد وعندها عين ماء والدعاء فيها مستجاب، وبسفح هذا الجبل قبر الولي الصالح الصحابي بلال الحبشي وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر، والمسجد بمدينة صنوب من أحسن المساجد وفي وسطه بركة ماء عليها قبة تقلها أربعة أرجل ومع كل رجل ساريتان من الرخام وفوقها مجلس يصعد له على درج خشب، وذلك من عمارة السلطان بروانة بن السلطان علاء الدين الرومي وكان يصلي الجمعة بأعلى تلك القبة وملك بعده ابنه غازي جلبي فلما مات تغلب عليها السلطان سليمان المذكور وكان غازي جلبي المذكور شجاعاً مقداماً ووهبه الله خاصية في الصبر تحت الماء وفي قوة السباحة وكان يسافر في الأجفان الحربية لحرب الروم فإذا كانت الملاقاة واشتغل الناس بالقتال غاص تحت الماء وبيده آلة حديد يخرق بها أجفان العدو فلا يشعرون بما حل بهم حتى يدهمهم الغرق، وطرقت مرسى بلده مرة جفان العدو فخرقها وأسر من كان فيها، وكانت كفاية لا كفاء لها إلا أنهم يذكرون أنه كان يكثر أكل الحشيش وبسببه مات فإنه خرج يوماً للتصيد وكان مولعاً به فاتبع غزالة ودخلت له بين أشجار وزاد في ركض فرسه فعارضته شجرة فضربت رأسه فشدخته فمات. وتغلب السلطان سليمان على البلد وجعل به ابنه إبراهيم، ويقال إنه أيضا يأكل ما كان يأكله صاحبه على أن أهل بلاد الروم كلها لا ينكرون أكلها. ولقد مررت يوماً على باب الجامع بِصُنوب وبخارجه دكاكين يقعد الناس عليها فرأيت نفراً من كبار الأجناد وبين أيديهم خديم لهم يده شكارة مملوءة بشيء يشبه الحناء، وأحدهم يأخذ منها بملعقة ويأكل وأنا انظر إليه ولا علم لي بما في الشكارة فسألت من كان معي فأخبرني أنه الحشيش. وأضافنا بهذه المدينة قاضيها ونائب الأمير بها ومعلمه ويعرف بابن عبد الرزاق.
ولما دخلنا هذه المدينة رآنا أهلها ونحن نصلي مسبلي أيدينا وهم حنفية لا يعرفون مذهب مالك ولا كيفية صلاته والمختار من مذهبه هو إسبال اليدين وكان بعضهم يرى الروافض بالحجاز والعراق يصلون مسبلي أيديهم فاتهمونا بمذهبهم وسألونا عن ذلك فأخبرناهم أننا على مذهب مالك فلم يقنعوا بذلك عنا واستقرت التهمة في نفوسهم حتى بعث إلينا نائب السلطان بأرنب وأوصى بعض خدامه أن يلازمنا حتى يرى ما نفعل به فذبحناه وطبخناه وأكلناه، وانصرف الخديم إليه وأعلمه بذلك فحينئذ زالت عنا التهمة وبعثوا لنا بالضيافة والروافض لا يأكلون الأرانب. وبعد أربعة أيام من وصولنا صنوب توفيت أم الأمير إبراهيم بها فخرجت في جنازتها وخرج ابنها على قدميه كاشفاً شعره وكذلك الأمراء والمماليك وثيابهم مقلوبة وأما القاضي والخطيب والفقهاء فإنهم قلبوا ثيابهم ولم يكشفوا رؤوسهم جعلوا عليها مناديل من الصوف الأسود عوضا عن العمائم وظلوا يطعمون الطعام أربعين يوماً وهي مدة العزاء عندهم. وكانت إقامتنا بهذه المدينة نحو أربعين يوماً ننتظر تيسير السفر في البحر إلى مدينة القرم فاكترينا مركباً للروم وأقمنا أحد عشر يوماً ننتظر مساعدة الريح ثم ركبنا البحر فلما توسطناه بعد ثلاث هال علينا واشتد بنا الأمر ورأينا الهلاك عياناً وكنت بالطارمة ومعي رجل من أهل المغرب يسمى أبا بكر فأمرته أن يصعد أعلى المركب لينظر كيف البحر ففعل ذلك وأتاني بالطارمة فقال لي: أستودعكم الله، ودهمنا من الهول ما لم يعهد مثله ثم تغيرت الريح وردتنا إلى مقربة من مدينة صنوب التي خرجنا منها وأراد بعض التجار النزول إلى مرساها فمنعت صاحب المركب من إنزاله، ثم استقامت الريح وسافرنا فلما توسطنا البحر هال علينا وجرى لنا مثل المرة الأولى، ثم ساعدت الريح ورأينا جبال البر وقصدنا مرسى يسمى الكرش فأردنا دخوله فأشار إلينا أناس كانوا بالجبل أن لا تدخلوا فخفنا على أنفسنا وظننا أن هنالك أجفاناً للعدو فرجعنا مع البر فلما قربنا قلت لصاحب المركب أريد أن أنزل ها هنا. فأنزلي بالساحل. ورأيت كنيسة فقصدتها فوجدت بها راهباً ورأيت في أحد حيطان الكنيسة صورة رجل عربي عليه عمامة متقلداً سيفا وبيده رمح وبين يديه سراج يوقد، فقلت للراهب: ما هذه الصورة فقال هذه صورة النبي علي، فأعجبت من قوله، وبتنا تلك الليلة بالكنيسة وطبخنا دجاجاً ولم نستطع أكلها إذ
كانت مما استصحبناه معنا في المركب ورائحة البحر قد غلبت على كل ما كان فيه.
وهذا الموضع الذي نزلنا به هو من الصحراء المعروفة بدشت قفجق "والدشت بالشين المعجم والتاء المثناة" بلسان الترك هو الصحرا. وهذه الصحراء واسعة قاحلة لا شجر بها ولا جبل ولا تل ولا أبنية ولا حطب وإنما يوقدون الأرواث ويسمونها التزك فترى كبرائهم يلقطونها ويجعلونها في أطراف ثيابهم ولا يسافر في هذه الصحراء إلا في العجل وهي مسيرة ستة أشهر ثلاثة منها في بلاد السلطان محمد أوزبك وثلاثة في بلاد غيره.
لما كان الغد من وصولنا إلى هذا المرسى توجه بعض التجار من أصحابنا إلى من بهذه الصحراء من الطائفة المعروفة بقفجق وهم على دين النصرانية فاكترى منهم عجلة يجرها الفرس فركبناها ووصلنا إلى مدينة الكَفَا "واسمها بكاف وفاء مفتوحين"، وهي مدينة عظيمة مستطيلة على ضفة البحر يسكنها النصارى وأكثرهم الجنويون ولهم أمير يعرف بالدندير ونزلنا منها بمسجد المسلمين.
ولما نزلنا بهذا الجامع أقمنا منها ساعة ثم سمعنا أصوات النواقيس من كل ناحية ولم أكن سمعتها قط فهالني ذلك وأمرت أصحابي أن يصعدوا الصومعة ويقرأوا القرآن ويذكروا الله ويؤذنوا ففعلوا ذلك فإذا برجل قد دخل علينا وعليه الدرع والسلاح فسلّم علينا واستفهمناه عن شأنه فأخبرنا أنه قاضي المسلمين هنالك وقال: لما سمعت القراءة والأذان خفت عليكم فجئت كما ترون ثم انصرف عنا وما رأينا إلا خيراً. ولما كان الغد جاء إلينا الأمير وصنع طعاماً فأكلناه عنده وطفنا بالمدينة فرأيناها حسنة الأسواق وكلهم كفار ونزلنا إلى مرساها فرأينا مرسى عجيباً به نحو مائتي مركب ما بين حربي وسفري صغيراً وكبيراً وهو من مراسي الدنيا الشهيرة، ثم اكترينا عجلة وسافرنا إلى مدينة القِرَم وهي "بكسر القاف وفتتح الراء" مدينة كبيرة حسنة من بلاد السلطان المعظم محمد أوزبك خان، وعليها أمير من قبله اسمه "تُلُكْتمُورُ "وضبط اسمه بتاء مثناة مضمومة ولام مضمومة وكاف مسكن وتاء كالأولى مضمومة وميم مضمومة وواو وراء"، وكان أحد خدام هذا الأمير قد صحبنا في طريقنا فعرفه بقدومنا فبعث إليّ مع إمامه سعد الدين بفرس ونزلنا بزاوية شيخها زاده الخرساني فأكرمنا هذا الشيخ ورحب بنا وأحسن إلينا وهو معظم عندهم. ورأيت الناس يأتون للسلام عليه
من قاض وخطيب وفقيه وسواهم. وأخبرني هذاالشيخ زاده أن بخارخ هذه المدينة راهباً من النصارى في دير يتعبد ويكثر الصوم وأنه انتهى إلى أن يواصل أربعين يوماً ثم يفطر على حبة فول وأنه يكاشف بالأمور ورغب أن أصحبه في التوجه إليه فأبيت ثم ندمت بعد ذلك على أن لم أكن رأيته وعرفت حقيقة أمره. ولقيت بهذه المدينة قاضيها الأعظم شمس الدين السائل1 قاضي الحنفية ولقيت بها قاضي الشافعية وهو يسمى بخضر والفقيه المدرس علاء الدين الأصي وخطيب الشافعية أبا بكر وهو الذي يخطب بالمسجد الجامع الذي عمره الملك الناصر رحمه الله بهذه المدينة والشيخ الحكيم الصالح مظفر الدين وكان من الروم فأسلم وحسن إسلامه والشيخ الصالح العابد مظهر الدين وهو من الفقهاء المعظمين. وكان الأمير تلكتمور مريضاً فدخلنا عليه فأكرمنا وأحسن إلينا. وكان على التوجه إلى مدينة السرا حضرة السلطان محمد أوزبك فعملت في السير في صحبته واشتريت العجلات برسم ذلك.
وكانوا يسمون العجلة عربة "بعين مهملة وراء موحدة مفتوحات" وهي عجلات تكون للواحدة منهن أربع بكرات كبار ومنها ما يجره فرسان ومنها مايجره أكثر من ذلك وتجرها أيضاً البقر والجمال على حال العربة في ثقلها أوخفتها والذي يخدم العربة يركب إحدى الأفراس التي تجرها ويكون عليه سرج وفي يده سوط يحركها للمشي وعود كبير يصوبها إذاعاجت عن القصد ويجعل على العربة شبه قبة من قضبان خشب مربوط بعضها إلى بعض بسيور جلد رقيق وهي خفيفة الحمل وتكسى باللبد أو بالملف ويكون فيها طيقان مشبكة ويرى الذي بداخلها الناس ولا يرونه ويتقلب فيها كما يحب وينام ويأكل يقرأ ويكتب وهو في حال سيره والتي تحمل والأثقال والأزواد وخزائن الأطعمة من هذه العربات يكون عليها شبه البيت كما ذكرنا وعليها قفل. وجهزت لما أردت عربة لركوبي مغشاة باللبد ومعي بها جارية وعربة صغيرة لرفيقي عفيف الدين التوزري وعجلة كبيرة لسائر الأصحاب يجرها ثلاثة من الجمال أحدهما خادم العربة وسرنا في صحبة الأمير تلكتمور وأخيه عيسى وولده قطلود مور وصارر بك، وسار أيضا معه في هذه
1 في بعض طبعات الكتاب: السائلي.
الوجهة إمامه سعد الدين والخطيب أبو بكر والقاضي شمس الدين والفقيه شرف الدين موسى، والمعرف علاء الدين. وخطة هذا المعرف أن يكون بين يدي الأمير في مجلسه. فإذا أتى القاضي يقف له هذا المعرف ويقول بصوت عال. بسم الله سيدنا ومولانا قاضي القضاة والحكام مبين الفتاوي والأحكام بسم الله. وإذا أتى فقيه معظم أو رجل مشار إليه قال بسم الله سيدنا ومولانا فلان الدين بسم الله. فتهيأ من كان حاضراً لدخول الداخل ويقوم إليه ويفسح له في المجلس وعادة الأتراك أن يسيروا في هذه الصحراء سيراً كسير الحجاج في درب الحجاز ويرحلون بعد صلاة الصبح وينزلون ضحى ويرحلون بعد صلاة الظهر وينزلون عشياً وإذا حلُّوا الخيل والإبل والبقر عن العربات سرّحوها للرعي ليلاً ونهاراً. ولا يعلف أحد دابة السلطان ولا غيره وخاصية هذه الصحراء أن نباتها يقوم مقام الشعير للدواب وليس لغيرها من البلاد هذه الخاصية ولذلك كثرت الدواب بها ودوابهم لا رعاة لها ولا حراس وذلك لشدة أحكامهم في السرقة وحكمهم فيها أنه من وجد عنده فرس مسروق كلف أن يرده إلى صاحبه ويعطيه معه تسعة مثله فإن لم يقدر على ذلك أخذ أولاده في ذلك فإن لم يكن له أولاد ذبح كما تذبح الشاة.
وهؤلاء الأتراك لا يأكلون الخبز ولا الطعام الغليظ وإنما يصنعون طعاما من شيء شبه الآتلي يسمونه الدوقي "بدال مهمل مضموم وواو وقاف مكسور معقود" يجعلون على النار الماء فإذا غلي صبوا عليه شيئا من الدوقي وإن كان عندهم لحم قطعوه قطعاً صغارا وطبخوه ثم يجعل لكل رجل نصيبه في صحفة ويصبون عليه اللبن الرائب ويشربونه ويشربون عليه لبن الخل وهم يسمونه القِمِزّ "بكسر القاف والميم والزاي المشددة" وهم أهل قوة وشدة وحسن مزاج يستعملون في بعض الأوقات طعاماً يسمونه البورخاني، وهو عجين يقطعونه قطيعات صغارا ويثقبون أوساطها ويجعلونها في قدرة فإذا طبخت صبوا عليها اللبن الرائب وشربوها ولهم نبيذ يصنعونه من حب الدُوقِي الذي تقدم ذكره وهم يرون أكل الحلواء عيباً.
ولقد حضرت يوما عند السلطان أوزبك في رمضان، فأحضرت لحوم الخيل وهي أكثر ما يأكلون من اللحم ولحوم الأغنام والرشتا وهو شبه الأطرية يطبخ ويشرب باللبن وأتيته تلك الليلة بطبق حلواء صنعها بعض أصحابي
فقدمتها بين يديه، فجعل إصبعه عليها وجعله على فيه ولم يزد على ذلك وأخبرني الأمير تلكتمور أن أحد الكبار من مماليك هذا السلطان وله من أولاده وأولاد أولاده نحو أربعين ولداً قال له السلطان يوماً كل الحلواء وأعتقكم جميعاً فأبى وقال لو قتلتني ما أكلتها. ولما خرجنا من مدينة القرم نزلنا بزاوية الأمير تلكتمور في موضع يعرف بسجاف. فبعث إلي أن أحضره عنده. فركبت إليه وكان لي فرس معد لركوبي يقوده خديم العربة فإذا أردت ركوبه ركبته وأتيت الزاوية فوجدت الأمير قد وضع بها طعاماً كثيراً فيه الخبز ثم أتوا بماء أبيض في صحاف صغار فشرب القوم منه وكان الشيخ مظفر الدين يلي الأمير في مجلسه وأنا أليه فقلت له ما هذا فقال هذا ماء الدهن فلم أفهم ما قال فذقته فوجدت له حموضة فتركته فلما خرجت سألت عنه فقال هو نبيذ يصنعونه من الدوقي وهم حنفية المذهب والنبيذ عندهم حلال ويسمون هذا النبيذ المصنوع من الدوقي البُوزة "بضم الباء الموحدة وواو مد وزاي مفتوح" وإنما قال الشيخ مظفر الدين ماء الدخن ولسانه فيه اللكنة الأعجمية فظننت أنه يقول ماء الدهن.
وبعد مسيرة ثمانية عشر منزلاً من مدينة القرم، وصلنا إلى ماء كثير نخوضه يوماً كاملاً وإذا كثر خوض الدواب والعربات في هذا الماء اشتد وحله وزاد صعوبة. فذهب الأمير إلى راحلتي وقدمني أمامه مع بعض خدامه وكتب لي كتاباً إلى أمير أزاق يعلمه أني أريد القدوم على الملك ويحضه على إكرامي. وسرنا حتى انتهينا إلى ماء أخر نخوضه نصف يوم.
ثم سرنا بعده ثلاثاً ووصلنا إلى مدينة أَزَاق "وضبط اسمها بفتح الهمزة والزاي وآخره قاف"، وهي على ساحل البحر حسنة العمارة، يقصدها الجنويون وغيرهم بالتجارات. وبها من الفتيان أخي بجقجي وهو من العظماء يطعم الوارد والصادر ولما وصل كتاب الأمير تلكتمور إلى أزاق وهو محمد خواجة الخوارزمي خرج إلى استقبالي ومعه القاضي والطلبة وأخرج الطعام فلما سلمنا عليه نزل بموضع أكلنا فيه ووصلنا المدينة ونزلنا بخارجها بمقربة من رابطة هنالك تنسب للخضر وإلياس عليهما السلام. وخرج شيخ من أهل أَزَاق يسمى برجب النهر ملكي نسبة إلى قرية بالعراق فأضافنا بزاوية له ضيافة حسنة. وبعد يومين من قدومنا قدم الأمير تلكتمور، وخرج الأمير محمد
للقائه، ومعه القاضي والطلبة وأعدوا له الضيافة وضربوا ثلاث قباب متصلا بعضها ببعض إحداها من الحرير عجيبة والثنتان من الكتان وأداروا عليها سراجة وهي المسماة عندنا أفراج وخارجها الدهليز وهو على هيئة البرج عندنا. ولما نزل الأمير بسطت بين يديه شقاق الحرير يمشي عليها فكان من مكارمه وفضله أن قدمني أمامه ليرى ذلك الأمير منزلتي عنده، ثم وصلنا إلى الخباء الأولى وهي المعدة لجلوسه وفي صدرها كرسي من الخشب لجلوسه كبير مرصع وعليه مرتبة حسنة فقدمني الأمير أمامه وقدم الشيخ مظفر الدين وصعد هو فجلس فيما بيننا ونحن جميعا على المرتبة وجلس قاضيه وخطيبه وقاضي هذه المدينة وطلبتها عن يسار الكرسي على فرش فاخرة ووقف ولدا الأمير تلكتمور وأخوه الأمير محمد وأولاده في الخدمة ثم أتوا بالأطعمة من لحوم الخيل وسواها وأتوا بألبان الخيل ثم أتوا بالبوزة وبعد الفراغ من الطعام قرأ القراء بالأصوات الحسان ثم نصب منبر وصعده الواعظ وجلس القراء بين يديه وخطب خطبة بليغة ودعا للسلطان وللأمير وللحاضرين يقول ذلك بالعربي ثم يفسره لهم بالتركي وفي أثناء ذلك يكرر القراء آيات من القرآن بترجيع عجيبٍ ثم أخذوا في الغناء يغنون بالعربي ويسمونه القول ثم بالفارسي يسمونه الملمع، ثم أتوا بطعام آخر، ولم يزالوا على ذلك إلى العشي وكلما أردت الخروج منعني الأمير ثم جاءوا بكسوة للأمير وكساوي لولديه وأخيه والشيخ مظفر الدين ولي وأتوا بعشرة أفراس للأمير ولأخيه ولولديه بستة أفراس ولكل كبير من أصحابه بفرس ولي بفرس. والخيل بهذه البلاد كثيرة جدا وثمنها نزر قيمة الجيد منها خمسون درهماً أو ستون من دراهمهم وذلك صرف دينار من دنانيرنا أو نحوه، وهذه الخيل هي التي تعرف بمصر بالأكاديش ومنها معاشهم وهي ببلادهم كالغنم ببلادنا بل أكثر فيكون للتركي منهم آلاف منها.
ومن عادة الترك المستوطنين تلك البلاد أصحاب الخيل أنهم يضعون في العربات التي تركب فيها نساؤهم قطعة لبد في طول الشبر مربوطة إلى عود رقيق في طول الذراع في ركن العربة ويجعل لكل ألف فرس قطعة. ورأيت منهم من يكون له عشر قطع ومن له دون ذلك وتحمل هذه الخيل إلى بلاد الهند فيكون في الرفقة منها ستة آلاف وما فوقها وما دونها، لكل تاجر المائة
والمائتان فما دون ذلك وما فوقه، ويستأجر التاجر لكل خمسين منها راعياً يقوم عليها ويرعاها كالغنم ويسمى عندهم القشي، ويركب أحدها وبيده عصا طويلة فيها حبل فإذا أراد أن يقبض على فرس منها حاذاه بالفرس الذي هو راكبه ورمى الحبل في عنقه وجذبه فيركبه ويترك الآخر للرعي وإذا وصلوا بها إلى أرض السند أطعموها العلف لأن نبات أرض السند لا يقوم مقام الشعير، ويموت لهم منها الكثير ويسرق، ويغرمون عليها بأرض السند سبعة دنانير فضة على الفرس بموضع يقال له ششنقار ويغرمون عليها بملتان قاعدة بلاد السند وكانوا فيما تقدم يغرمون ربع ما يجلبونه فرفع ملك الهند إلى السلطان محمد ذلك وأمر أن يؤخذ من تجار المسلمين الزكاة ومن تجار الكفار العشر ومع ذلك يبقى للتجار فيها فضل كبير لأنهم يبيعون الرخيص منها ببلاد الهند بمائة دينار دراهم وصرفها من الذهب المغربي خمسة وعشرون دينارا وربما باعوها بضعف ذلك وضعفيه والجياد منها تساوي خمسمائة دينار وأكثر من ذلك، وأهل الهند لا يبتاعونها للجري والسبق لأنهم يلبسون في الحرب الدروع ويدرعون الخيل وإنما يبتغون قوة الخيل واتساع خطاها والخيل التي يبتغونها للسبق تجلب إليهم من اليمن وعمان وفارس ويباع الفرس منها بألف دينار إلى أربعة آلاف. ولما سافر الأمير تلكتمور عن هذه المدينة أقمت ثلاثة أيام حتى جهز لي الأمير محمد خواجة آلات سفري.
وسافرت إلى مدينة الماجَر وهي "بفتح الميم وألف وجيم مفتوح معقود وراء" مدينة كبرى من أحسن مدن الترك، على نهر كبير، وبها البساتين والفواكه الكثيرة نزلنا منها بزاوية الشيخ الصالح العابد المعمر محمد البطائحي من بطائح العراق، وكان خليفة الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه، وفي زاويته نحو سبعين من فقراء العرب والفرس والترك والروم، ومنهم المتزوج والعزب، وعيشتهم من الفتوح. ولأهل تلك البلاد اعتقاد حسن في الفقراء، وفي كل ليلة يأتون إلى الزاوية بالخيل والبقر والغنم، ويأتي السطان والخواتين لزيارة الشيخ والتبرك به ويجزلون الإحسان ويعطون العطاء الكثير وخصوصاً النساء فإنهن يكثرن الصدقة ويتحرين أفعال الخير. وصلينا بمدينة الماجر صلاة الجمعة فلما قضيت الصلاة صعد الواعظ عز الدين المنبر وهو من فقهاء بخارى وفضلائها وله جماعة من الطلبة والقراء يقرءون بين يديه، ووعظ وذكر، وأمير المدينة حاضر
وكبراؤها فقام الشيخ محمد البطائحي فقال أن الفقيه يريد السفر ونريد له زوادة ثم خلع فرجية مرعز كانت عليه وقال: هذه مني إليه فكان الحاضرون بين من خلع ثوبه ومن أعطى فرساً ومن أعطى دراهم واجتمع له كثير من ذلك كله ورأيت بقيسارية هذه المدينة يهودياً سلّم علي وكلمني بالعربي فسألته عن بلاده فذكر أنه من بلاد الأندلس وإنه قدم منها في البر ولم يسلك بحراً وأتى على طريق القسطنطينية العظمى وبلاد الروم وبلاد الجرجس وذكر أن عهده بالأندلس منذ أربعة أشهر وأخبرني التجار المسافرون الذين لهم المعرفة بذلك بصحة ما قاله ورأيت بهذه البلاد عجباً من تعظيم النساء عندهم وهن أعلى شأنا من الرجال فأما نساء الأمراء فكانت أول رؤيتي لهن عند خروجي من القرم رويق الخاتون زوجة الأمير سلطية في عربة لها وكلها مجللة بالملف الأزرق الطيب وطيقان البيت مفتوحة وأبوابه وبين يديها أربع جوارٍ فاتنات الحسن بديعات اللباس وخلفها جملة من العربات فيها جوار يتبعنها ولما قربت من منزل الأمير نزلت عن العربة إلى الأرض ونزل معها نحو ثلاثين من الجواري يرفعن الأذيال عن الأرض من كل جانب، ومشت كذلك متبخترة فلما وصلت إلى الأمير قام إليها وسلم عليها وأجلسها إلى جانبه ودار بها جواريها وجاءوا بروايا القمز فصبت منه في قدح وجلست على ركبتيها قدام الأمير وناولته القدح فشرب ثم سقت أخاه وسقاها الأمير وحضر الطعام فأكلت معه وأعطاني كسوة وانصرفت، وعلى هذا الترتيب نساء الأمراء، وسنذكر نساء الملك فيما بعد. وأما نساء الباعة والسوقة فرأيتهن وإحداهن تكون في العربة والخيل تجرها وبين يديها الثلاث والأربع من الجواري يرفعن أذيالها وعلى رأسها البغطاق وهو أقروف مرصع بالجوهر، وفي أعلاه ريش وتكون طيقان البيت مفتحة وهي بادية الوجه لأن نساء الأتراك لا يحتجبن وتأتي إحداهن على هذا الترتيب ومعها عبيدها بالغنم واللبن فتبيعه من الناس بالسلع العطرية وربما كان مع المرأة منهن زوجها فيظنه من يراها بعض خدامها ولا يكون عليه من الثياب إلا فروة من جلد الغنم وفي رأسه قلنسوة تناسب ذلك يسمونها الكلا. وتجهزنا من مدينة الماجَر نقصد معسكر السلطان وكان على أربعة أيام من الماجر بموضع يقال له بِشْ دَغْ ومعنى بش عندهم خمسة وهو "بكسر الباء وشين معجم" ومعنى دَغْ الجبل، وهو "بفتح الدال المهمل وغين معجم" وبهذه الجبال الخمسة عين ماء حار يغتسل منها الأتراك، ويزعمون أن من اغتسل منها لم تصبه عاهة مرض