الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدينة بغداد:
مدينة دار السلام وحضرة الإسلام ذات القدر الشريف والفضل المنيف مثوى الخلفاء ومقر العلماء وقال أبو الحسن بن جبير رضي الله عنه وهذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية ومثابة الدعوة الإمامية القرشية فقد ذهب رسمها ولم يبق إلا اسمها وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس أو تمثال الخيال الشاخص فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من مستوفر الغفلة النظر إلا دجلتها التي هي بين شرقها وغربها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين فهي تردها ولا تظمأ وتسطع منها في مرآة صقلية لا تصدأ والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ. قال ابن جزي: وكأن أبا تمام حبيب بن أوس اطلع على ما آل إليه أمرها حين قال فيها:
لقد أقام على بغداد ناعيها
…
فليبكها لخرابِ الدهر باكيها
كانت على مائها والحربُ موقدةٌ
…
والنارُ تطفأ حسناً في نواحيها
تُرجى لها عودة في الدهر صالحةٌ
…
فالآن أضمر منها اليأسَ راجيها
مثل العجوز التي ولّت شبيبتُها
…
وبان عنها جمالُ كان يُخطيها
وقد نظم الناس في مدحها وذكر محاسنها فأطنبوا ووجدوا مكان القول ذا سعة فأطالوا وأطابوا، وفيها قال الإمام القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي البغدادي، وأنشدنيه والدي رحمه الله مرات:
طيبُ الهواءِ ببغدادٍ يشوقني
…
قرباً إليها وان عاقت مقاديرُ
وكيف أرحل عنها اليوم إذ جمعت
…
طِيب الهواءين ممدودٌ ومقصورٌ
وفيها يقول أيضاً رحمه الله تعالى ورضي عنه:
سلام على بغداد في كل موطنٍ
…
وحُق لها مني السلام المضاعفُ
فواللهِ ما فارقتها عن قِلًى لها
…
وإني بشطي جانبيها لعارفُ
ولكنها ضاقت على برحبها
…
ولم تكن الأقدار فيها تساعفُ
وكانت كخلٍ كنت أهوى دنوه
…
وأخلاقه تنأى به وتخالف
وفيها يقول أيضاً مغاضباً لهان وأنشدنيه والدي رحمه الله غير ما مرة:
بغدادُ دارٌ لأهل المال واسعةٌ
…
وللصعاليك دارُ الضنكِ والضيقِ
ظللتُ أمشي مضافاً في أزقّتها
…
كأنني مصحف في بيت زنديق
وفيها يقول القاضي أبو الحسن علي بن النبيه من قصيدة:
آنستْ بالعراق بدراً منيراً
…
فطوتْ غيهبا وخاضت هجيرا
واستطابت ريا نسائم بغدا
…
د فكادت لولا البرى أن تطيرا
ذكرتُ من مسارح الكوخِ روْضاً
…
لم يزل ناضراً وماء نميرا
واجتنت من رُبى المحوَل نورا
…
واجتلتْ من مطالعِ التاجِ نورا
ولبعض نساء بغداد في ذكرها:
آهاً على بغدادها وعراقها
…
وظبائها والسحر في أحداقها
ومجالها عند الفرات بأوجهٍ
…
تبدو أهلتها على أطواقها
متبختراتٍ في النعيم كأنما
…
خُلقَ الهوى العذري من أخلاقها
نفسي الفداء لها فأي محاسنٍ
…
في الدهر تشرق من سنا إشراقها
ولبغداد جسران اثنان معقودان على نحو الصفة التي ذكرناها في جسر مدينة الحلة والناس يعبرونها ليلاً ونهاراً، رجالاً ونساءً فهم في ذلك في نزهة متصلة وببغداد من المساجد التي يخطب فيها وتقام فيها الجمعة أحد عشر مسجداً منها بالجانب الغربي ثمانية وبالجانب الشرقي ثلاثة والمساجد سواها كثيرة جداً وكذلك المدارس إلا أنها خربت وحمامات بغداد كثيرة وهي من أبدع الحمامات وأكثرها مطلية بالقار ومسطحة به فيخيل لرائيه أنه رخام أسود وهذا القار يجلب من عين بين الكوفة والبصرة تنبع أبداً به ويصير في جوانبها كالصلصال فيجرف منها ويجلب إلى بغداد وفي كل حمام منها خلوات كثيرة كل خلوة منها مفروشة بالقار مطلي نصف حائطها مما يلي الأرض به والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض الناصع فالضدان بها مجتمعان متقابل حسنهما وفي داخل كل خلوة حوض من الرخام فيه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد فيدخل الإنسان الخلوة منها منفرداً لا يشاركه أحد إلا أراد ذلك وفي زاوية كل خلوة أيضاً حوض آخر للاغتسال فيه أيضا أنبوبان يجريان بالحار والبارد وكل داخل يعطى ثلاث من الفوط إحداها ينزل بها عند دخوله والأخرى يتزر بها عند خروجه والأخرى ينشف بها الماء عن جسده ولم أرى هذا الإتقان كله في مدينة سوى بغداد وبعض البلاد تقاربها في ذلك.
أما الجانب الغربي من بغداد هو الذي عمّر أولاً، وهو الآن خراب أكثره وعلى ذلك فقد بقي منه ثلاث عشرة محلة كأنها مدينة بها الحمامان والثلاثة وفي ثمان منها المساجد الجامعة ومن هذه المحلات محلة باب البصرة وبها جامع الخليفة أبي جعفر المنصور رحمه الله والمارستان فيما بين محلة البصرة ومحلة الشارع على الدجلة وهو قصر كبير خرب بقيت منه الآثار وفي هذا الجانب الغربي من المشاهد قبر معروف الكرخي رضي الله عنه وهو في محلة باب البصرة وبطريق باب البصرة مشهد حافل بالبناء في داخله قبر متسع السنام عليه مكتوب هذا قبر عون من أولاد علي بن أبي طالب وفي هذا الجانب قبر موسى الكاظم بن جعفر الصادق والد علي بن موسى الرضا وإلى جانبه قبر الجواد والقبران داخل الروضة عليهما دكانة ملبسة بالخشب عليه ألواح الفضة.
وأما هذه الجهة الشرقية من بغداد حافلة الأسواق عظيمة الترتيب، وأعظم أسواقها سوق يعرف بسوق الثلاثاء، كل صناعة فيه على حدة وفي وسط هذه السوق المدرسة النظامية العجيبة التي صارت الأمثال تضرب بحسنها وفي آخره المدرسة المستنصرية ونسبتها إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر بن أمير المؤمنين الظاهر بن أمير المؤمنين الناصر وبها المذاهب الأربعة لكل مذهب إيوان فيه المسجد وموضع التدريس وجلوس المدرس في قبة من خشب صغيرة على كرسي عليه البسط ويقعد المدرس عليه وعليه السكينة والوقار لابساً السواد معتما وعلى يمينه ويساره معيدان يعيدان كل ما يقوله وهكذا ترتيب كل مجلس من هذه المجالس الأربعة وفي داخل هذه المدرسة الحمام للطلبة ودار الوضوء وبهذه الجهة الشرقية من المساجد التي تقام فيها الجمعة ثلاثة أحدها جامع الخليفة وهو المتصل بقصور الخلفاء ودورهم وهو جامع كبير فيه ساقيات ومطاهر كثيرة للوضوء وللغسل لقيت بهذا المسجد الشيخ الإمام العالم الصالح مسند العراق سراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن عمر القزويني وسمعت عليه في جميع مسند أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، وذلك في شهر رجب الفرد عام سبعة وعشرين وسبعمائة قال: أخبرتنا به الشيخة الصالحة المسندة بنت الملوك فاطمة بنت العدل تاج الدين أبي الحسن علي بن علي بن أبي البدر قالت: أخبرنا الشيخ أبو