الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلايا وهو يوسف بك ومعنى بك الملك ابن قرمان "بفتح القاف والراء" ومسكنه على عشرة أميال من المدينة فوجدناه قاعداً على الساحل وحده فوق رابية هنالك والأمراء والوزراء أسفل منه والأجناد عن يمينه وعن يساره وهو مخضوب الشعر بالسواد فسلمت عليه وسألني عن مقدمي فأخبرته عما سأل وانصرفت عنه وبعث إلي إحساناً. وسافرت من هنالك إلى مدينة أنطاليا "وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان النون وفتح الطاء المهمل وألف ولام مكسور وياء آخر الحروف" وأما التي بالشام فهي أنطاكية على وزنها إلا أن الكاف عوضا عن اللام وهي من أحسن المدن متناهية في اتساع الساحة والضخامة أجمل ما يرى من البلاد وأكثره عمارة وأحسنه ترتيباً وكل فرقة من سكانها منفردة بأنفسها عن الفرقة الأخرى فتجار النصارى ماكثون منها بالموضع المعروف بالميناء وعليهم سور تسد أبوابه عليهم ليلاً وعند صلاة الجمعة، والروم الذين كانوا أهلها قديماً ساكنون بموضع آخر منفردين به وعليهم أيضاً سور، واليهود في آخر وعليهم سور، والملك وأهل دولته ومماليكه يسكنون ببلدة عليها أيضاً سور يحيط بها ويفرق بينها وبين ما ذكرناه من الفرق، وسائر الناس من المسلمين يسكنون المدينة العظمى وبها مسجد جامع ومدرسة وحمامات كثيرة وأسواق ضخمة مرتبة بأبدع ترتيب وعليها سور عظيم يحيط بها وبجميع المواضع التي ذكرناها، وفيها البساتين الكثيرة والفواكه الطيبة والمشمش العجيب المسمى عندهم بقمر الدين وفي نواته لوز حلو
وهو ييبس ويحمل إلى ديار مصر وهو بها مسظرف وفيها عيون الماء الطيب العذب الشديد البرودة في أيام الصيف نزلنا من هذه المدينة بمدرستها وشيخها شهاب الدين الحموي ومن عادتهم أن يقرأ جماعة من الصبيان بالأصوات الحسان بعد العصر من كل يوم في المسجد الجامع وفي المدرسة أيضا سورة الفتح وسورة الملك وسورة عم.
خبر الأخية الفتيان:
واحد الأخية أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية في كل بلد ومدينة وقرية ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالاً بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن ألحق بهم من أهل الشر. والأخي عندهم رجل يجتمع أهل الصناعة وغيرهم من الشبان الأعزاب
والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم وتلك هي الفتوة أيضاً ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية فإن ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم وكان ذلك ضيافته لديهم ولا يزال عندهم حتى ينصرف وإن لم يرد وارد اجتمعوا على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا وانصرفوا إلى صناعتهم بالغد وأتوا بعد العصر إلى مقدمهم بما اجتمع لهم ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخي ولم أر في الدنيا أجمل أفعالاً منهم ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر وأعظم إكراماً له وشفقة عليه. وفي الثاني من يوم وصولنا إلى هذه المدينة أتى أحد هؤلاء الفتيان إلى الشيخ شهاب الدين الحموي وتكلم معه باللسان التركي ولم أكن يومئذ أفهمه، وكان عليه أثواب خلقة وعلى رأسه قلنسوة لبد فقال لي الشيخ: أتعلم ما يقول هذا الرجل؟ فقلت: لا أعلم ما قال. فقال لي: إنه يدعوك إلى ضيافته أنت وأصحابك، فعجبت منه وقلت: نعم، فلما انصرف قلت للشيخ هذا رجل ضعيف ولا قدرة له على تضييفنا ولا نريد أن نكلفه. فضحك الشيخ وقال لي: هذا أحد شيوخ الفتيان الأخية وهو من الخرازين1 وفيه كرم نفس وأصحابه نحو مائتين من أهل الصناعات قدموه على أنفسهم وبنوا زاوية للضيافة وما يجتمع لهم بالنهار أنفقوه بالليل، فلما صليت المغرب عاد إلينا ذلك الرجل وذهبنا معه إلى زاويته فوجدناها زاوية حسنة مفروشة بالبسط الرومية الحسان وبها الكثير من ثريات الزجاج العراقي وفي المجالس خمسة من البياسيس والبيسوس شبه المنارة من النحاس له أرجل ثلاث وعلى رأسه شبه جلاس من النحاس وفي وسطه أنبوب للفتيلة ويملأ من الشحم المذاب وإلى جانبه آنية نحاس ملآنة بالشحم وفيها مقراض لإصلاح الفتيل وأحدهم موكل بها ويسمى عندهم الجراجي "الجراغجي" وقد اصطف في المجلس جماعة من الشبان ولباسهم الأقبية وفي أرجلهم الأخفاف وكل واحد منهم متحزم على وسطه سكين في طول ذراعين وعلى رؤوسهم قلانس بيض من الصوف، بأعلى
1 الخرّازين: مفردها خراز وهو الإسكافي.