الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيخهم فيأتون المسجد ويصلي كل واحد على سجادته فإذا فرغوا من الصلاة قرءوا القرآن على عادتهم ثم ينصرفون مجتمعين إلى الزاوية ومعهم شيخهم.
قرافة مصر ومزاراتها:
ولمصر القرافة العظيمة الشأن في التبرك بها وقد جاء في فضلها أثر أخرجه القرطبي وغيره لأنها من جملة الجبل المقطم الذي وعد الله أن يكون روضة من رياض الجنة وهم يبنون بالقرافة القباب الحسنة ويجعلون عليها الحيطان فتكون كالدور ويبنون بها البيوت ويرتبون القراء ويقرءون ليلا ونهارا بالأصوات الحسان ومنهم من يبني الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة ويخرجون كل ليلة جمعة إلى البيت بأولادهم ونسائهم ويطوفون على الأسواق بصنوف المأكل ومن المزارات الشريفة المشهد المقدس العظيم الشأن حيث رأس الحسين بن علي عليهما السلام وعليه رباط ضخم عجيب البناء على أبوابه وحلق الفضة وصفائحها أيضا كذلك وهو موفى الحق من الإجلال والتعظيم ومنها تربة السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام وكانت مجابة الدعوة مجتهدة في العبادة وهذه التربة أنيقة البناء مشرقة الضياء عليها رباط مقصود ومنها تربة الإمام أبي عبد الله بن محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وعليها رباط كبير ولها جراية ضخمة وبها القبة الشهيرة البديعة الإتقان العجيبة البنيان المتناهية الأحكام المفرطة السمو وسعتها أزيد من ثلاثين ذراعا وبقرافة مصر من قبور العلماء والصالحين ما لا يضبطه الحصر وبها عدد جم من الصحابة وصدور السلف والخلف رضي الله تعالى عنهم مثل عبد الرحمن بن القاسم وأشهب بن عبد العزيز وأصبغ بن الفرج وابني عبد الحكيم وأبي القاسم بن شعبان وأبي محمد عبد الوهاب ولكن ليس لهم بها اشتهار ولا يعرفهم إلا من له بهم عناية والشافعي رضي الله عنه ساعده الجد في نفسه وأتباعه وأصحابه في حياته ومماته فظهر من أمره مصداق قوله:
الجد يدفي كل أمر شائع
…
والجد يفتح كل باب مغلق
نيل مصر:
ونيل مصر يفضل أنهار الأرض عذوبة مذاق واتساع قطر وعظم منفعة والمدن والقرى بضفتيه منتظمة ليس في المعمور مثلها ولا يعلم نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل وليس في الأرض نهر يسمى بحرا غيره قال الله تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} 1. فسماه يما وهو البحر وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى فإذا في أصلها أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فسأل عنها جبريل عليه السلام فقال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات وفي الحديث أيضا النيل والفرات وسيحون وجيحون كل من أنهار الجنة ومجرى النيل من الجنوب إلى الشمال خلافا لجميع الأنهار ومن عجائبه أن ابتداء زيادته في شدة الحر عند نقص الأنهار وجفوفها وابتداء نقصه حين زيادة الأنهر وفيضها ونهر السند مثله في ذلك وسيأتي ذكره وأول ابتداء زيادته في حزيران وهو يونيه فإذا بلغت زيادته ستة عشر ذراعا تم خراج السلطان فإذا زاد ذراعا كان الخصب في العام والصلاح التام فإن بلغ ثمانية عشر ذراعا أضر بالضياع وأعقب الوباء وإن نقص ذراعا عن ستة عشر نقص خراج السلطان وإن نقص ذراعين استسقى الناس وكان الضرر شديد والنيل أحد أنهار الدنيا الخمسة الكبار وهي النيل والفرات والدجلة وسيحون وجيحون وتماثلها أنهار خمسة أيضا نهر السند ويسمى بنج أب ونهر الهند ويسمى الكنك وإليه تحج الهنود وإذا أحرقوا أمواتهم رموا برمادهم فيه ويقولون هو من الجنة ونهر الجون بالهند أيضا ونهر اتل بصحراء قفجق وعلى ساحله مدينة السرا ونهر السرو بأرض الخطا وعلى ضفته مدينة خان بالق ومنها ينحدر إلى مدينة الخنسا ثم إلى مدينة الزيتون بأرض الصين وسيذكر ذلك كله في مواضعه أن شاء الله والنيل يفترق بعد مسافة من مصر على ثلاثة أقسام ولا يعبر نهر منها إلا في السفن شتاء وصيفا وأهل كل بلد لهم خلجان تخرج من النيل فإذا مد أترعها وفاضت على المزارع.
1 القصص: 7.
الأهرام والبرابي:
وهي من العجائب المذكورة على مر الدهور وللناس فيها كلام كثير وخوض في شأنها وأولية بنائها ويزعمون أن العلوم التي ظهرت قبل الطوفان أخذت من هرمس الأول الساكن بصعيد مصر الأعلى ويسمى الخنوج وهو إدريس عليه السلام وأنه أول من تكلم في الحركات الفلكية والجواهر العلوية وأول من بنى الهياكل ومجد الله تعالى وفيها أنه أنذر الناس بالطوفان وخاف ذهاب العلم ودروس الصنائع فبنى الأهرام والبرابي وصور فيها جميع الصنائع والآلات ورسم العلوم فيها لتبقى مخلدة ويقال أن دار العلم والملك بمصر مدينة منف1 وهي على بريد من الفسطاط فلما بنيت الاسكندرية انتقل الناس إليها وصارت دار العلم والملك إلى أن أتى الإسلام فاختطّ عمرو بن العاص رضي الله عنه مدينة الفسطاط فهي قاعدة مصر إلى هذا العهد والأهرام بناء بالحجر الصلد المنحوت متناهي السمو مستدير متسع الأسفل ضيق الأعلى كالشكل المخروط ولا أبواب لها ولا تعلم كيفية بنائها ومما يذكر في شأنها أن ملكا من ملوك مصر قبل الطوفان رأى رؤيا هالته وأوجبت عنده أنه بنى تلك الأهرام بالجانب الغربي من النيل لتكون مستودعا للعلوم ولجثث الملوك وأنه سأل المنجمين هل يفتح منها موضع فأخبروه أنه تفتح من الجانب الشمالي وعينوا له الموضع الذي تفتح منه ومبلغ الإنفاق في فتحه فأمر أن يجعل بذلك الموضع من المال قدر ما أخبروه أنه ينفق في فتحه واشتد في البناء فأتمه في ستين سنة وكتب عليها بنينا هذه الأهرام في ستين سنة فليهدمها من يريد ذلك في ستمائة سنة فإن الهدم أيسر من البقاء فلما أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين المأمون أراد هدمها فأشار عليه بعض مشايخ مصر أن لا يفعل فلج في ذلك وأمر أن تفتح من الجانب الشمالي فكانوا يوقدون عليها النار ثم يرشونها بالخل ويرمونها بالمنجنيق حتى فتحت الثلمة التي بها إلى اليوم ووجدوا بإزاء النقب مالا أمر أمير المؤمنين بوزنه فحصر ما أنفق في النقب فوجدهما سواء فطال عجبه من ذلك ووجدوا عرض الحائط عشرين ذراعاً.
1 كانت منف مدينة العلم والمالك بمصر في عهد الدولة القديمة، ثم خلفتها في هذه المكانة مدن أخرى مثل طيبة "الأقصر حالياً" وبعد هذه المدن بُنيت الإسكندرية.
خبر الملك الناصر سلطان مصر:
وكان سلطان مصر على عهد دخولي إليها الملك الناصر أبو الفتح محمد بن المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي وكان قلاوون يعرف بالألفي لأن الملك الصالح اشتراه بألف دينار ذهبا وأصله من قفجق وللملك الناصر رحمه الله السيرة الكريمة والفضائل العظيمة وكفاه شرفا انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين وما يفعله في كل سنة من أفعال البر التي تعين الحجاج من الجمال التي تحمل الزاد والماء للمنقطعين والضعفاء وتحمل من تأخر أو ضعف عن المشي في الدربين المصري والشامي وبنى زاوية بسر ياقص1 خارج القاهرة لكن الزاوية التي بناها مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين وكهف الفقراء والمساكين خليفة الله في أرضه القائم من الجهاد بنفله وفرضه أبو عنان أيد الله أمره وأظهره وسنى له الفتح المبين ويسر بخارج حضرته العلية المدينة البيضاء حرسها الله لا نظير لها في المعمورة في اتقان الوضع وحسن البناء والنقش في الجص بحيث لا يقدر أهل المشرق على مثله وسيأتي ذكر ما عمره أيده الله من المدارس والمرستانات والزوايا ببلاده حرسها الله وحفظها بدوام ملكه.
أمراء مصر:
منهم الأمير بكتمور "وضبط اسمها بضم الباء الموحدة، وكاف مسكن وتاء معلوة مضمومة وآخره راء"، وكان ساقي الملك الناصر وقد قتله الناصر بالسم وسيذكر ذلك ومنهم نائب الملك الناصر أرغون الدودار وهو الذي يلي بكتمور في المنزلة، "وضط اسمه بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الغين المعجمية" ومنهم طشط المعروف بحمص أخضر، "واسمه بطاءين مهملين مضمومين وبينهما شين معجم". وكان من خيار الأمراء وله الصدقات الكثيرة على الأيتام من كسوة ونفقة وأجرة لمن يعلمهم القرآن وله الإحسان العظيم للحرافيش وهم طائفة كبيرة أهل صلابة وجاه
1 تعرف حالياً بسرياقوس.
ودعارة1 وسجنه الملك الناصر مرة فاجتمع من الحرافيش آلاف ووقفوا بأسفل القلعة ونادوا بلسان واحد يا أعرج النحس يعنون الملك الناصر أخرجه فأخرجه من محبسه وسجنه مرة أخرى ففعل الأيتام مثل ذلك فأطلقه ومنهم وزير الملك الناصر يعرف بالجمالي بفتح الجيم. ومنهم بدر الدين بن البابه ومنهم جمال الدين نائب الكرك ومنهم تُقُزْ دُمور "واسمه بضم التاء المعلوة وضم القاف وزاء مسكن ثم دال مضمومة وميم مثله وآخره راء" ودمور بالتركية الحديد ومنهم بهادر الحجازي "واسمه بفتح الباء الموحدة وضم الدال المهملة وآخر راء". ومنهم قوصون2 "واسمه بفتح القاف وصاد مهمل مضموم". ومنهم بشتك "واسمه بفتح الباء الموحدة وإسكان الشين المعجم وتاء معلوة مفتوحة". وكل هؤلاء يتنافسون في أفعال الخيرات وبناء المساجد والزوايا ومنهم ناظر الجيش الملك الناصر وكاتبه فخر الدين القبطي وكان نصرانيا من القبط فأسلم وحسن إسلامه وله المكارم العظيمة والفضائل التامة ودرجته من أعلى الدرجات عند الملك الناصر وله الصدقات الكثيرة والإحسان الجزيل ومن عادته أن يجلس عشى النهار في مجلس له بأسطوان داره على النيل ويليه المسجد فإذا حضر المغرب صلى في المسجد وعاد إلى مجلسه وأوتي بالطعام ولا يمنع حينئذ أحد من الدخول كائنا من كان فمن كان ذا حاجة تكلم فيها فقضاها له ومن كان طالب صدقة أمر مملوكا له يدعى بدر الدين واسمه لؤلؤ أن يصحبه إلى خارج الدار وهنالك خازنه معه صرر الدراهم فيعطيه ما قدر له ويحضر عنده في ذلك الوقت الفقهاء ويقرأ بين يديه كتب البخاري فإذا صلى العشاء الأخيرة انصرف الناس عنه.
قضاة مصر عند دخولي إليها:
فمن قاضي قضاة الشافعية وهو أعلاهم منزلة وأكبرهم قدراً، وهو القاضي الإمام العالم بدر الدين ابن جماعة، كان أعلاهم منزلة وأكبرهم قدراً، وإليه ولاية القضاة بمصر وعزلهم، وابنه عز الدين هو الآن متولي
1 الدعارة: الفجور وسوء الخلق والخبث والفسق والفساد، وإنّما وصف الحرافيش بها لشدّة جرأتهم وجسارتهم وتجاوزهم الحدّ في التعامل مع الحاكمين وغيرهم.
2 يجري اسمه على ألسنة الناس: قيسون بالياء بدلاً عن الواو.
ذلك ومنهم قاضي قضاة المالكية الإمام الصالح تقي الدين الاخنائي ومنهم قاضي قضاة الحنفية الإمام العالم شمس الدين الحريري وكان شديد السطوة لا تأخذه في الله لومة لائم وكانت الأمراء تخافه ولقد ذكر لي أن الملك الناصر قال يوما لجلسائه إني لا أخاف من أحد إلا من شمس الدين الحريري ومنهم قاضي قضاة الحنبلية ولا أعرفه الآن إلا أنه كان يدعى بعز الدين.
وكان الملك الناصر رحمه الله يقعد للنظر في المظالم ورفع قصص المتشكين كل يوم اثنين وخميس ويقعد القضاة الأربعة عن يساره وتقرأ القصص بين يديه ويعين من يسأل صاحب القصة عنها وقد سلك مولانا أمير المؤمنين ناصر الدين1 أيده الله في ذلك مسلكا لم يسبق إليه ولا مزيد في العدل والتواضع عليه وهو سؤاله بذاته الكريمة المتظلم وعرضه بين يديه المستقيمة أبى الله أن يحضرها سواه أدام الله أيامه وكان رسم القضاة المذكورين أن يكون أعلاهم منزلة في الجلوس قاضي الشافعية ثم قاضي الحنفية ثم قاضي المالكية ثم قاضي الحنبلية فلما توفي شمس الدين الحريري وولي مكانه برهان الدين عبد الحق الحنفي أشار الأمراء على الملك الناصر بأن يكون مجلس المالكي فوقه وذكروا أن العادة جرت بذلك قديما إذ كان قاضي المالكية زين بن مخلوف يلي قاضي الشافعية تقي الدين بن دقيق العيد فأمر الناصر بذلك فلما علم به قاضي الحنفية غاب شهود المجلس أنفة من ذلك فأنكر الملك الناصر مغيبه وعلم ما قصده فأمر بإحضاره فلما مثل بين يديه أخذ الحاجب بيده وأقعده حيث نفذ أمر السلطان مما يلي قاضي المالكية واستمر حاله على ذلك.
نبذة عن بعض علماء مصر وأعيانها:
فمنهم شمس الدين الأصبهاني إمام الدنيا في المعقولات ومنهم شرف الدين الزواوي المالكي ومنهم برهان الدين ابن بنت الشاذلي نائب قاضي القضاة بجامع الصالح ومنهم ركن الدين بن القوبع التونسي منن الأئمة في المعقولات
1يقصد به أبا عنان فارس، وهكذا يفعل ابن بطوطة وابن جزي في كلّ مناسبة يقارنان فيها بينه وبين غيره من الملوك والأمراء، تزلّفاً إليه.