الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يديه وعليه ثياب مفرجة حسان مطرزة بالذهب. فسلمنا عليه فرحب بنا وأحسن السلام والكلام وأمسك بيدي وأجلسني إلى جانبه ثم جاء القاضي عز الدين فرشتي ومعنى فرشتي الملك لقب بذلك لدينه وعفافه وفضله فقعد عن يمين المدرس وأخذ في تدريس العلوم الأصلية والفرعية ثم لما فرغ من ذلك أتى دويرة بالمدرسة فأمر بفرشها وأنزلني فيها وبعث ضيافة حافلة ثم وجه إلينا بعد المغرب فمضيت إليه فوجدته في مجلس ببستان له وهنالك صهريج ماء ينحدر إليه الماء من خصة رخام أبيض يدور بها القاشاني وبين يديه جملة من الطلبة ومماليكه وخدامه وقوف على جانبيه وهو قاعد على مرتبة عليها أقطاع منقوشة حسنة فخلته لما شاهدته ملكاً من الملوك فقام إلي واستقبلني وأخذ بيدي وأجلسني إلى جانبه على مرتبته وأتى بالطعام فأكلنا وانصرفنا إلى المدرسة. وذكر لي بعض الطلبة أن جميع من حضر تلك الليلة من الطلبة عند المدرس فعادتهم الحضور لطعامه كل ليلة. وكتب هذا المدرس إلى السلطان بخبرنا وأثنى في كتابه، والسلطان على جبل هنالك يصيف فيه لأجل شدة الحر، وذلك الجبل بارد. وعادته أن يصيف فيه.
خبر سلطان بِرْكِي:
كان السلطان محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم، ولما بعث إليه المدرس يعلمه بخبري وجه نائبه إلي لآتيه فأشار إلي المدرس أن أقيم حتى يبعث إلي ثانية وكان المدرس إذ ذاك قد خرجت برجله قرحة لا يستطيع الركوب بسببها وانقطع عن المدرسة ثم أن السلطان بعث في طلبي ثانية فشق ذلك على المدرس فقال أنا لا أستطيع الركوب ومن غرضي التوجه معك لأقرر لدى السلطان ما يجب لك ثم إنه تحامل ولف على رجله خرقاً وركب ولم يضع رجله في الركاب وركبت أنا وأصحابي وصعدنا إلى الجبل في طريق نحتت وسويت فوصلنا إلى موضع السلطان عند الزوال فنزلنا على نهر ماء تحت ظلال شجر الجوز وصادفنا السلطان في قلق وشغل بسبب فرار ابنه الأصغر سليمان عنه إلى صهره السلطان أرخان بك فلما بلغه خبر وصولنا بعث إلينا خضر بك وعمر بك فسلمّا على الفقيه وأمرهما بالسلام عليّ ففعلا ذلك، وسألاني عن حالي ومقدمي وانصرفا. وبعث
إلي ببيت يسمى عندهم الخرقة "خركاء" وهو عصي من الخشب تجمع شبه القبة وتجعل عليها اللبود ويفتح أعلاه لدخول الضوء والريح مثل البادهنج ويسد متى احتيج إلى سده وأتوا بالفرش ففرشوه وقعد الفقيه وقعدت معه وأصحابه وأصحابي خارج البيت تحت ظلال شجر الجوز وذلك الموضع شديد البرد ومات لي تلك الليلة فرس من شدة البرد. ولما كان من الغد ركب المدرس إلى السلطان وتكلم في شأني مما اقتضته فضائله ثم عاد إليّ وأعلمني بذلك وبعد ساعة وجه السلطان في طلبنا معا، فجئنا إلى منزله ووجدناه قائماً فسلمنا عليه وقعد الفقيه عن يمينه وأنا مما يلي الفقيه فسألني عن حالي ومقدمي وسألني عن الحجاز ومصر والشام واليمن والعراقين وبلاد الأعاجم، ثم حضر الطعام فأكلنا وانصرفنا وبعث الأرز والدقيق والسمن في كروش الأغنام وكذلك فعل الترك وأقمنا على تلك الحال أياماً يبعث إلينا كل يوم فنحضر طعامه وأتى يوماً إلينا بعد الظهر وقعد الفقيه في صدر المجلس وأنا على يساره وقعد السلطان عن يمين الفقيه وذلك لعزة الفقهاء عند الترك وطلب مني أن أن أكتب له أحاديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبتها له وعرضها الفقيه عليه في تلك الساعة فأمره أن يكتب له شرحها باللسان التركي ثم قام فخرج ورأى الخدام يطبخون لنا الطعام تحت ظلال الجوز بغير أدام ولا خضر فأمر بعقاب صاحب خزانته وبعث بالابزار والسمن. وطالت إقامتنا بذلك الجبل فأدركني الملل وأردت الانصراف وكان الفقيه أيضا قد ملّ من المقام هنالك فبعث إلى السلطان يخبره أني أريد السفر فلما كان من الغد بعث إلي السلطان نائبه فتكلم مع المدرس بالتركية ولم أكن إذا ذاك أفهمها فأجابه عن كلامه وانصرف، فقال لي المدرس أتدري ماذا قال؟ قلت: لا أعرف ما قال. قال: أن السلطان بعث إلي ليسألني ماذا يعطيك؟ فقلت له: عنده الذهب والفضة والخيل والعبيد فليعطه ما أحب من ذلك. فذهب إلى السلطان ثم عاد إلينا، فقال: أن السلطان يأمر أن تقيما هنا اليوم وتنزلا معه غداً إلى داره بالمدينة ولما كان من الغد بعث فرساً جيداً من مراكبه ونزل ونحن معه إلى المدينة فخرج الناس لاستقباله وفيهم القاضي المذكور آنفاً وسواه ودخل السلطان ونحن معه فلما نزل بباب داره ذهبت مع المدرس إلى ناحية المدرسة فدعا بنا وأمرنا بالدخول معه إلى داره. ولما وصلنا إلى دهليز الدار وجدنا من خدامه نحو عشرين صورهم فائقة الحسن وعليهم ثياب الحرير وشعورهم مفروقة
وألوانهم ساطعة البياض مشربة بحمرة، فقلت للفقيه: ما هذه الصور الحسان؟ قال: هؤلاء فتيان روميون، وصعدنا مع السلطان درجاً كثيرة إلى أن انتهينا إلى مجلس حسن في وسطه صهريج ماء وعلى كل ركن من أركانه صورة سبع نحاس يمج ماء من فيه وتدور بهذا المجلس مصاطب متصلة مفروشة وفوق أحداها مرتبة للسلطان فلما انتهينا إليها نحى السلطان مرتبته بيده وقعد معنا على الإطلاع وقعد الفقيه على يمينه والقاضي مما يلي الفقيه وأنا مما يلي القاضي وقعد القراء أسفل المصطبة والقراء لا يفارقونه حيث كان من مجالسه.
ثم جاءوا بصحاف من الذهب والفضة مملوة بالجلاب المحلول قد عصر فيه ماء الليمون وجعل فيه كعكات صغار مقسومة وفيها ملاعق ذهب وفضة وجاءوا معها بصحاف صيني فيها مثل ذلك وفيها ملاعق خشب فمن تورع استعمل صحاف الصيني وملاعق الخشب وتكلمت بشكر السلطان وأثنيت على الفقيه وبالغت في ذلك فأعجب ذلك السلطان وسره.
وفي أثناء قعودنا مع السلطان أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة فسلم عليه وقام له القاضي والفقيه وقعد أمام السلطان فوق المصطبة والقراء أسفل منه، فقلت للفقيه من هذا الشيخ؟ فضحك وسكت، ثم أعدت السؤال، فقال لي هذا يهودي طبيب؟ وكلنا محتاج إليه فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له، فأخذني ما حدث وقدم من الامتعاض، فقلت لليهودي: يا ملعون يا ابن ملعون كيف تجلس فوق قراء القرآن وأنت يهودي؟ وشتمته ورفعت صوتي، فعجب السلطان وسأل عن معنى كلامي فأخبره الفقيه به. وغضب اليهودي فخرج عن المجلس في أسوأ حال، ولما انصرفنا، قال الفقيه: أحسنت بارك الله فيك أن أحداً سواك لا يتجاسر على مخاطبته بذلك ولقد عرفته بنفسه.
وسألني السلطان في هذا المجلس فقال لي هل رأيت قط حجراً نزل من السماء؟ فقلت ما رأيت ذلك ولا سمعت به، فقال لي: إنه قد نزل بخارج بلدنا هذا حجر من السماء ثم دعا رجالاً وأمرهم أن يأتوا بالحجر فأتوا بحجر أسود أصم شديد الصلابة له بريق قدرت أن زنته تبلغ قنطاراً وأمر السلطان بإحضار القطاعين فحضر أربعة منهم فأمرهم أن يضربوه فضربوا عليه ضربة رجل واحد أربع مرات بمطارق الحديد فلم يؤثروا عليه فيه شيئا، فعجبت من أمره.
وأمر بردّه إلى حيث كان. وفي ثالث يوم من دخولنا إلى المدينة مع السلطان صنع صنيعاً عظيماً ودعا الفقراء والمشايخ وأعيان العسكر ووجوه أهل المدينة فطعموا وقرأ القراء القرآن بالأصوات الحسان وعدنا إلى منزلنا بالمدرسة وكان يوجه الطعام والفاكهة والحلواء والشمع في كل ليلة ثم بعث إلي مائة مثقال ذهباً وألف درهم وكسوة كاملة وفرساً ومملوكاً رومياً يسمى ميخائيل وبعث لكل من أصحابي كسوة ودراهم كل هذا بمشاركة المدرس محيي الدين جزاه الله تعالى خيراً، وودعناه وانصرفنا وكانت مدة مقامنا عنده بالجبل والمدينة أربعة عشر يوماً، ثم قصدنا مدينة تِيرَة وهي من بلاد هذا السلطان "وضبط اسمها بكسر التاء المعاوة وياء مد وراء" مدينة حسنة ذات أنهار وبساتين وفواكه نزلنا منها بزاوية الفتى محمد وهو من كبار الصالحين صائم الدهر وله أصحاب على طريقته فأضافنا ودعا لنا، وسرنا إلى مدينة أياسُلُوق "وضبط اسمها بفتح الهمزة والياء آخر الحروف وسين مهمل مضموم ولام مضموم وآخره قاف" مدينة كبيرة قديمة معظمة عند الروم وفيها كنيسة كبيرة مبنية بالحجارة الضخمة ويكون طول الحجر منها عشرة أذرع فيما دونها منحوتة أبدع نحت والمسجد الجامع بهذه المدينة من أبدع مساجد الدنيا لا نظير له في الحسن وكان كنيسة للروم معظمة عندهم يقصدونها من البلاد فلما فتحت هذه المدينة جعلها المسلمون مسجداً جامعاً وحيطانه من الرخام الملون وفرشه الرخام الأبيض وهو مسقف بالرصاص فيه إحدى عشرة قبة متنوعة في وسط كل قبة صهريج ماء والنهر يشقه وعن جانبي النهر الأشجار المختلفة الأجناس ودوالي العنب ومعرشات الياسمين وله خمسة عشر باباً وأمير هذه المدينة خضر بك ابن السلطان محمد بن آيدين، وقد كنت رأيته عند أبيه ببركي ثم لقيته بهذه المدينة خارجها فسلّمت عليه وأنا راكب فكره ذلك مني وكان سبب حرماني لديه، فإن عادتهم إذا نزل لهم الوارد نزلوا وأعجبهم ذلك، ولم يبعث إلا ثوباً واحداً من الحرير المذهب يسمونه النخ "بفتح النون وخاء معجم" واشتريت بهذه المدينة جارية رومية بكراً بأربعين ديناراً ذهباً، ثم سرنا إلى مدينة يَزْمِير1 "وضبط اسمها بياء آخر الحروف مفتوحة وزاي مسكن وميم مكسورة
1 هي الآن مدينة: ازمير.