المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكاية أبي يعقوب يوسف المذكور - رحلة ابن بطوطة ط دار الشرق العربي - جـ ١

[ابن بطوطة]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الاول

- ‌مقدمة

- ‌نقطة البداية

- ‌خبر حاكم تونس

- ‌مدينة الإسكندرية- أبوابها- مرساها:

- ‌قرافة مصر ومزاراتها:

- ‌يوم المحمل:

- ‌قصة خصيب:

- ‌خبر المسجد المقدس

- ‌حكاية أبي يعقوب يوسف المذكور

- ‌خبر جامع بني أمية الكبير:

- ‌حلقات الدرس والمشرفون عليها

- ‌طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَرَّم وشَرَّف وعَظَّم:

- ‌مدينة مكة المكرّمة:

- ‌خبر الروضة والقبور التي فيها:

- ‌خبر نقيب الأشراف:

- ‌حكاية اعتبار:

- ‌خبر المشاهد المباركة بالبصرة:

- ‌خبر ملك إيذج وتستر:

- ‌كرامات الشيخ قطب الدين:

- ‌خبر سلطان شيراز:

- ‌بعض المشاهد بشيراز:

- ‌مدينة الكوفة:

- ‌مدينة بغداد:

- ‌خبر قبور الخلفاء ببغداد وقبور بعض العلماء والصالحين فيها:

- ‌خبر سلطان العراقين وخراسان:

- ‌خبر المتغلبين على الملك بعد موت السلطان أبي سعيد:

- ‌مدينة الموصل

- ‌خبر سلطان ماردين في عهد دخولي إليها:

- ‌خبر سلطان اليمن:

- ‌خبر شجر التنبول:

- ‌خبر شجر النارجيل:

- ‌خبر سلطان ظفار:

- ‌خبر الولي لقيناه في الجبل

- ‌خبر سلطان عمان:

- ‌خبر سلطان هرمز:

- ‌خبر سلطان لار:

- ‌خبر سبت العلايا

- ‌خبر الأخية الفتيان:

- ‌خبر سلطان انطالية:

- ‌خبر سلكان أكريدور

- ‌خبر سلطان قُلْ حِصار:

- ‌خبر سلطان لاذق:

- ‌سلطان ميلاس:

- ‌خبر سلطان اللَاّرَنْدَة:

- ‌خبر سلطان بِرْكِي:

- ‌خبر سلطان مغنيسية:

- ‌خبر سطان برغمة

- ‌خبر سلطان بلي كسرى:

- ‌خبر سلكان برصا

- ‌خبر سلكان قصطمونية

- ‌خبر السلطان المعظم محمد أوزْبك خان:

- ‌أخبار الخواتين وترتيبهنّ:

- ‌ذكر سفري إلى مدينة بلغار:

- ‌ذكر أرض الظلمة:

- ‌التوجه إلى القسطنطينية:

- ‌نبذة عن المانستارت بقسطنطينية

- ‌أمير خوارزم:

- ‌غزو التتر لبخارى وتخريبهم لها ولِسواها:

الفصل: ‌حكاية أبي يعقوب يوسف المذكور

‌حكاية أبي يعقوب يوسف المذكور

يحكى أنه دخل مدينة دمشق فمرض بها مرضا شديدا وأقام مطروحا بالأسواق فلما برئ من مرضه خرج إلى ظاهر دمشق ليلتمس بستانا يكون حارسا له فاستؤجر لحراسة بستان للملك نور الدين وأقام في حراسته ستة أشهر فلما كان في أوان الفاكهة أتى السلطان إلى ذلك البستان وأمر وكيل البستان أبا يعقوب أن يأتي برمان يأكل منه السلطان فأتاه برمان فوجده حامضا فأمره أن يأتي بغيره ففعل ذلك فوجده حامضا فأمره أن يأتي بغيره ففعل ذلك فوجده أيضا حامضا فقال له الوكيل أتكون في حراسة هذا البستان منذ ستة أشهر ولا تعرف الحلو من الحامض فقال إنما استأجرتني على الحراسة لا على الأكل فأتى الوكيل إلى الملك فأعلمه بذلك فبعث إليه الملك وكان قد رأى في المنام أنه يجتمع مع أبي يعقوب وتحصل له منه فائدة فتفرس أنه هو فقال له أنت أبو يعقوب قال نعم فقام إليه وعانقه ثم أجلسه إلى جانبه ثم احتمله إلى مجلسه فأضافه بضيافة من الحلال المكتسب بكد يمينه وأقام عنده أياما ثم خرج من دمشق فارا بنفسه في أوان البرد الشديد فأتى قرية من قراها وكان بها رجل من الضعفاء فعرض عليه النزول عنده ففعل وصنع له مرقة وذبح دجاجة فأتاه بها وبخبز شعير فأكل من ذلك ودعا للرجل وكان عنده جملة أولاد منهم بنت قد أن بناء زوجها عليها ومن عوائدهم في تلك البلاد أن البنت يجهزها أبوها ويكون معظم الجهاز أواني النحاس وبه يتفاخرون وبه يتبايعون فقال أبو يعقوب للرجل هل عندك شيء من النحاس قال نعم قد اشتريت منه لتجهيز هذه البنت قال ائتني به فأتاه به فقال له استعر من جيرانك ما أمكنك منه ففعل وأحضر ذلك بين يديه فأوقد عليه النيران وأخرج صرة كانت عنده فيها الأكسير1 فطرح منه على النحاس فعاد كله ذهبا وتركه في بيت مقفل وكتب

1 وهو مادة كيميائية كانوا يتوهمون أنها تحول المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، وذلك محض وهم لاضل له في الحقيقة.

ص: 47

كتابا إلى نور الدين ملك دمشق يعلمه بذلك وينبه على بناء مارستان للمرضى من الغرباء ويوقف عليه الأوقاف ويبني الزوايا بالطرق ويرضى أصحاب النحاس ويعطي صاحب البيت كفايته وقال له في آخر الكتاب: وإن كان إبراهيم بن أدهم قد خرج عن ملك خراسان فأنا قد خرجت عن ملك المغرب وعن هذه الصنعة والسلام، وفر من حينه وذهب صاحب البيت بالكتاب إلى الملك نور الدين فوصل الملك إلى تلك القرية واحتمل الذهب بعد أن أرضى أصحاب النحاس وصاحب البيت وطلب أبا يعقوب فلم يجد له أثرا ولا وقع له على خبر فعاد إلى دمشق وبنى المارستان المعروف باسمه الذي ليس في المعمور مثله. ثم وصلت إلى مدينة طرابلس وهي إحدى قواعد الشام وبلدانها الضخام تخترقها الأنهار وتحفها البساتين والأشجار ويكنفها البحر بمرافقه العميقة والبر بخيراته المقيمة ولها الأسواق العجيبة والمسارح الخصيبة والبحر على ميلين منها وهي حديثة البناء وأما طرابلس القديمة فكانت على ضفة البحر وتملكها الروم زمانا فلما استرجعها الملك الظاهر خربت واتخذ هذه الحديثة وبهذه المدينة نحو أربعين من أمراء الأتراك وأمير ها طيلان الحاجب المعروف بملك المراء ومسكنه منه بالدار المعروفة بدار السعادة ومن عوائده أن يركب في كل يوم اثنين وخمسين ويركب معه الأمراء والعساكر ويخرج إلى ظاهر المدينة فإذا عاد إليها وقارب الوصول إلى منزله ترجل الأمراء ونزلوا عن دوابهم ومشوا بين يديه حتى يدخل منزله وينصرفون وتضرب الطبلخانة عند دار كل أمير منهم بعد صلاة المغرب من كل يوم وتوقد المشاعل وممن كان بها من الأعلام كاتب السر بهاء الدين بن غانم أحد الفضلاء الحسباء معروف بالسخاء والكرم وأخوه حسام الدين وهو شيخ القدس الشريف وقد ذكرناه وأخوهما علاء الدين كاتب السر بدمشق ومنهم وكيل بيت المال قوام الدين بن مكين من أكابر الرجال ومنهم قاضي قضاتها شمس الدين بن النقيب من أعلام علماء الشام وبهذه المدينة حمامات حسان منها حمام القاضي القرمي وحمام سندمور وكان سندمور أمير هذه المدينة ويذكر عنه أخبار كثيرة في الشدة على أهل الجنايات منها أن امرأة

ص: 48

شكت إليه بأن أحد مماليكه الخواص تعدى عليها في لبن كانت تبيعه فشربه ولم تكن لها بينة فأمر به فوسط فخرج اللبن من مصرانه وقد اتفق مثل هذه الحكاية للعتريس أحد أمراء الملك الناصر أيام إمارته على عيذاب واتفق مثل للملك كبك سلطان تركستان. ثم سافرت من طرابلس إلى حصن الأكراد وهو بلد صغير كثير الأشجار والأنهار بأعلى تل، وبه زاوية تعرف بزاوية الإبراهيمي نسبة إلى بعض كبراء الأمراء ونزلت عند قاضيها ولا أحقق الآن اسمه. ثم سافرت إلى مدينة حمص وهي مدينة مليحة أرجاؤها مونقة وأشجارها مورقة وأنهارها متدفقة وأسواقها فسيحة الشوارع وجامعها متميز بالحسن الجامع وفي وسطه ماء وأهل حمص عرب لهم فضل وكرم وبخارج هذه المدينة قبر خالد بن الوليد سيف الله ورسوله وعليه زاوية ومسجد وعلى القبر كسوة سوداء وقاضي هذه المدينة جمال الدين الشريشي من أجمل الناس صورة وأحسنهم سيرة. ثم سافرت منها إلى مدينة حماة إحدى أمهات الشام الرفيعة ومدائنها البديعة ذات الحسن الرائق والجمال الفائق تحفها البساتين والجنات عليها النواعير كالأفلاك الدائرات يشقها النهر العظيم المسمى بالعاصي ولها ربض سمي بالمنصورية أعظم من المدينة فيه الأسواق الحافلة والحمامات الحسان وبحماة الفواكه الكثيرة ومنها المشمش اللوزي إذا كسرت نواته وجدت في داخلها لوزة حلوة. قال ابن جزي: وفي هذه المدينة ونهرها ونواعيرها وبساتينها يقول الأديب الرحال نور الدين أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العبسي العماري الغرناطي نسبة لعمار بن ياسر رضي الله عنه.

حمى الله من حماةَ مناظراً

وقفتُ عليها السمعَ والفكر والطرْفا

تغَنّى حمام أو تميل خمائل

وتزهى مباني تمنع الواصف الوصفا

يلومنني أن أعصيَ الصَّونَ والنُّهَى

بها وأطيع الكأسَ واللهوَ والقصفا

إذا كان فيها النهر عاصٍ فكيف لا

أُحاكيه عصياناً وأشربُها صِرفاً

وأشدو لدى تلك النواعر شدوها

وأغلبها رقصاً وأشبهها غرْفا

تئنّ وتذري دمعَها فكأنّها

تهيمُ بمرآها وتسألها العَطْفا

ولبعضهم في نواعيرها ذاهباً مذهب التورية:

وناعورةٍ رقّت لَعَظم خطيئتي

وقد عاينت قصدي من المنزل القاضي

بكَتْ رحمةً ثم باحَت بِشجْوِها

وحَسْبُكَ أن الخُشبَ تبكي على العاصي

ص: 49

ولبعض المتأخرين فيها أيضاً من التورية:

يا سادةً سكنوا حماةً وحقّكم

ما حِلتُ عن تقوى وعن إخلاص

والطرف بعدكم إذا اذكر اللقا

يجري المدامع طائعاً كالعاصي.

ثم سافرت إلى مدينة المعرة التي ينسب إليها الشاعر أبو العلاء المعري وكثير سواه من الشعراء. قال ابن جزي: وإنما سميت بمعرة النعمان لأن النعمان بن بشير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي له ولد أيام إمارته على حمص، فدفنه بالمعرة، فعرف به. وكانت قبل ذلك تسمى ذات القصور. وقيل: أن النعمان جبل مطل عليها سميت به.

والمعرة مدينة كبيرة حسنة أكثر شجرها التين والفستق ومنها يحمل إلى مصر والشام وبخارجها على فرسخ منها قبر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ولا زاوية عليه ولا خديم له وسبب ذلك أنه وقع في بلاد صنف من الرافضة أرجاس يبغضون العشرة من الصحابة رضي لله عنهم ولعن مبغضهم ويبغضون كل من اسمه عمر وخصوصا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان من فعله في تعظيم علي رضي الله عنه. ثم سرنا منها إلى مدينة سرمين وهي حسنة كثيرة البساتين وأكثر شجرها الزيتون وبها يصنعون الصابون الأجري ويجلب إلى مصر والشام ويصنع أيضا

الصابون المطيب لغسل الأيدي ويصبغونه بالحمرة والصفرة ويصنع بها ثياب قطن حسان تنسب إليها وأهلها سبابون يبغضون العشرة ومن العجب أنهم لا يذكرون لفظ العشرة وينادي سماسرتهم بالأسواق على السلع فإذا بلغوا إلى العشرة قالوا وواحد وحضر بها بعض التراك يوما فسمع سمسارا ينادي تسعة وواحد فضربه بالدبوس على رأسه وقال قل عشرة بالدبوس. وبها مسجد جامع فيه تسع قباب ولم يجعلوها عشرة قياما بمذهبهم القبيح. ثم سرنا إلى مدينة حلب المدينة الكبرى والقاعدة العظمى قال أبو الحسين بن جبير في وصفها قدرها خطير وذكرها في كل زمان يطير خطابها من الملوك كثير ومحلها من النفوس أثير فكم هاجت من كفاح وسُلّ عليها من بيض الصفاح لها قلعة شهيرة الامتناع بائنة الارتفاع تنزهت حصانة من أن ترام أو تستطاع منحوتة الأجزاء موضوعة على نسبة اعتدال واستواء قد طاولت الأيام والأعوام ووسعت الخواص والعوام أين أمراؤها الحمدانيون وشعراؤها؟ فني جميعهم ولم يبق إلا بناؤها فيا عجبا لبلاد تبقى ويذهب

ص: 50

ملاكها ويهلكون ولا يقضى هلاكها وتخطب بعدهم فلا يتعذر أملاكها وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها هذه حلب كم أدخلت ملوكها في خبر كان ونسخت صرف الزمان بالمكان أنث اسمها فتحلت بحلية الغوان وأتت بالعذر فيمن دان وتجلت عروسا بعد سيف دولتها ابن حمدان هيهات سيهزم شبابها ويعدم خطابها ويسرع فيها بعد حين خرابها. وقلعة حلب تسمى الشهباء وبداخلها جبلان ينبع منهما الماء فلا تخاف الظما ويطيف بها سوران وعليها خندق عظيم ينبع منه الماء وسورها متداني الأبراج وقد انتظمت بها العلالي العجيبة المفتحة الطيقان وكل برج منها مسكون والطعام لا يتغير بهذه القلعة على طول العهد وبها مشهد يقصده بعض الناس يقال أن الخليل عليه السلام كان يتعبد به وهذه القلعة تشبه قلعة رحبة مالك بن طوق التي على الفرات بين الشام والعراق ولما قصد قازان طاغية التتر مدينة حلب حاصر هذه القلعة أياما ونكص عنها خائباً. قال ابن جزي: وفي هذه القلعة يقول الخالدي شاعر سيف الدولة:

وخرقاءَ قد قامت على مَن يَرُومُها

بِمِرقَبها العالي وجانبها الصّعبِ

يجرّ عليها الجوّ جيب غمامة

ويُلبِسها عقداً بأنجمه الشُهبِ

إذا ما سَرَى برقٌ بَدَت مِن خلاله

كما لاحت العذراء من خلل السُحُب

فكم من جنودٍ قد أماتتْ بِغصّةٍ

وذي سطواتٍ قد أبانَت على عقبِ

وفيها يقول أيضاً وهو من بديع النظم:

وقلعة عانق العنقاء سافلها

وجازَ منطقة الجوزاء عاليها

لا تعرف القَطر إذا كان الغمام لها

أرضاً تُوطَّأ قطريهِ مواشيها

إذا الغمامةُ راحَت غضَ ساكنها

حياضها قبل أن تهمي عواليها

يُعَدّ من أنجم الأفلاك مِرْقَبها

لو أنه كان يجري في مجاريها

ردّت مكايدَ أقوامس مكايدُها

ونصرَت لِدواهيهم دواهيها

وفيها يقول جمال الدين علي بن أبي المنصور:

كادت لِبَونِ سموّها وعلوّها

تستوقف الفللك المحيط الدائرا

وَرَدت قواطِنُها المجرّة مَنهَلاً

ورعَتْ سوابقُها النجومَ زواهرا

ويظلّ صرف الدهر منها خائفاً

وجِلاً فما يُمسي لديها حاضراً

ويقال: في مدينة حلب

ويقال: في مدينة حلب حلب إبراهيم لأن الخليل صلوات الله وسلامه على نبينا

ص: 51

وعليه كان يسكنها وكانت له الغنم الكثيرة فكان يسقي الفقراء والمساكين والوارد والصادر من ألبانها فكانوا يجتمعون ويسألون حلب إبراهيم فسميت بذلك وهي من أعز البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع وإتقان الترتيب واتساع الأسواق وانتظام بعضها ببعض وأسواقها مسقفة بالخشب فأهلها دائما في عمل ممدود وقيساريتها لا تماثل حسنا وكبرا وهي تحيط بمسجدها وكل سماط منها محاذ لباب من أبواب المسجد ومسجدها الجامع من أجمل المساجد في صحنه بركة ماء ويطيف به بلاط عظيم الاتساع ومنبرها بديع العمل مرصع بالعاج والآبنوس وبقرب جامعها مدرسة مناسبة له في حسن الوضع وإتقان الصنعة ينسب لأمراء بني حمدان وبالبلد سواها ثلاث مدارس وبها مارستان وأما خارج المدينة فهو بسيط أفيح عريض به المزارع العظيمة وشجرات الأعناب منتظمة به والبساتين على شاطيء نهرها وهو النهر الذي يمر بحماة ويسمى العاصي1 وقيل أنه سمي بذلك لأنه يخيل لناظره أن جريانه من أسفل إلى علو والنفس تجد في خارج مدينة حلب انشراحا وسرورا ونشاطها لا يكون في سواها وهي من المدن التي تصلح للخلافة. قال ابن جزي: أطنبت الشعراء في وصف محاسن حلب وذكر داخلها وخارجها. وفيها يقول أبو عبادة البحتري:

يا برق اسفر عن قُوَيْقَ فطُرتَي

حلب فأعلى القصر من بطياس

عن منبت الورد المُعَصْفر صبغة

في كل ضاحية ومَجْنَى الآسَ

أرض إذا استوحشتكم بتذكرٍ

حشدَت علي فاكثرت إيناسي

وقال فيها الشاعر المجيد أبو بكر الصنوبري:

سقى حلب المزن مَغْنَى حلب

فكم وصَلَت طربا بالطرب

وكم مستطاب من العيش لذ

بها إذ بهاه العيش لم يُستَطب

إذا نشر الزهر أعلامَه

بها ومطارفُه والعِذب

غدَا وحواشِيهِ من فِضَّةٍ

تروقُ وأوساطُه من ذهبْ

وقال فيها أبو العلاء المعري:

1 هذا وهم من ابن بطوطة، إذ أن نهر العاصي لا يمر بِحلب، وإنّما النهر الموجود فيها هو نهر قويق يمد في الشتاء وينضف في الصيف.

ص: 52

حلب للوارد جنةُ عدن

وهي للغادرين نارُ سعير

والعظيمُ العظيمُ يكبُرُ في عَيْنَيهِ

فيه منها قدرُ الصغير الصغير

فَقُويقٌ في أنفس القوم بحرٌ

وحَصَاةٌ منه مكانَ ثبير

وقال فيها أبو الفتيان بن جبوس:

يا صاحبي إذا أعياكُما سَقَمي حلب

فلَقياني نسيمَ الريح من

من البلاد التي كان الصِبا سكنا

فيها وكان الهوى العَذري من أرَبى

وقال فيها أبو الفتح كشاجم:

وما أمتعت جارَها بلدةٌ

كما أمتعت حلبٌ جارَها

بها قد تجمع ما تشتهي

فزرها فطوبى لمن زراها

وقال فيها أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي العنسي:

حادي العيس كم تنيخ المطايا

سُق بروحي من بُعدهم في سياق

حلب إنها مقر غرامي

ومرامي وقِبلة الأشواق

لك خلا جوْشَن بطياس والعبد

من كل وابل غيداق

كم بها مرتع لطرف وقلب

فيه سقيُ المنى بكأس دهاق

وتغنَّى طيوره لارتياح

وتثنّى غصونه للعناق

وعلوُ الشهباء حيث استدارت

أنجم الأفق حولها كالنطاق

وبحلب ملك الأمراء أرغون الدوادار أكبر أمراء الملك الناصر. وهو من الفقهاء موصوف بالعدل لكنه بخيل والقضاة بحلب أربعة للمذاهب الأربعة فمنهم القاضي كمال الدين بن الزملكاني شافعي المذهب وعالي الهمة كبير القدر كريم النفس حسن الأخلاق متفنن بالعلوم وكان الناصر قد بعث إليه ليوليه قضاء القضاة بحضرة ملكه فلم يقض له ذلك وتوفي ببلبيس وهو متوجه إليها ولما ولي قضاء حلب قصدته الشعراء من دمشق وسواها وكان فيمن قصده شاعر الشام شهاب الدين أبو بكر محمد بن الشيخ المحدث شمس الدين أبي عبد الله محمد بن نباتة القرشي الأموي الفارقي فامتدحه بقصيدة طويلة حافلة أولها:

أسفت لفقدك جِلَّق الفيحاءُ

وتباشرت لقدومك الشهباء

وعلى دمشق وقد رحلت كآبةٌ

وعلا رُبا حَلَب سَناً وسناءُ

ص: 53

قد أشرقت دار سكنت فناءها

حتى غدت ولنورها لألاء

يا سائراً سقي المكارم والعلى

ممن يبخل عنده الكرماء

هذا كمال الدين لُذ بجنابه

تنعم فثم الفضل والنعماء

قاضي القضاة أجل من أيامه

تعني بها الأيتام والفقراء

قاض زكا أصلا وفرعا فاعتلى

شرفت به الأدباء والأبناء

مَنَّ الإله على بني حلب به

لله وضع الفضل حيث يشاء

كشف المُعمّى فهمه وبيانه

فكأنما ذاك الذكاء ذُكَاء1

ياحاكم الحكام قدرُك سابق

عن أن تسُرك رتبة شماء

إن المناصب دون همتك التي

في الفضل دون محلها الجوزاء

لك في العلوم فضائل مشهورة

كالصبح شق له الظلام ضياء

ومناقب شهد العدو بفضلها

والفضل ما شهدت به الأعداء

وهي أزيد من خمسين بيتاً، وأجازه عليها بكسوةٍ ودراهم وانتقد عليه الشعراء ابتداءه بلفظ أسفت. قال ابن جزي: وليس كلامه في هذه القصيدة بذاك وهو في المقطعات أجود منه في القصائد وإليه انتهت الرياسة في الشعر على هذا العهد، في جميع بلاد المشرق. وهو من ذريّة الخطيب أبي يحيى عبد الرحيم بن نباته، منشئ الخطب الشهيرة، ومن بديع في التورية قوله:

عُلّقتها غيداء حالية العلى

تجني على عقلِ المحبِّ وقلبه

بخلّتْ بلؤلؤِ ثغرِها عن لاثِمٍ

فغدت مطوقةً بما بخلت به.

ومن قضاة حلب قاضي قضاة الحنفية الإمام المدرس ناصر الدين بن العديم حسن الصورة والسيرة أصيل مدينة حلب:

تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ومنهم قاضي قضاة المالكية لا أذكره كان من الموثفين بمصر وأخذ الخطة عن غير استحقاق. ومنهم قاضي قضاة الحنابلة لا أذكر اسمه وهو من أهل صالحية دمشق، ونقيب الأشراف بحلب بدر الدين بن الزهراء. ومن فقهائها

1 ذُكاء هي: الشمس، شبه ذكاءه الذي يكشف المعميات بالشمس التي تذهب الظلام، وتكشف ما أخفاه وعمّاه على الرائين.

ص: 54

شرف الدين بن العجمي، وأقاربه هم كبراء مدينة حلب، ثم سافرت منها إلى مدينة تيزين1 وهي على طريق قنسرين "وضبط اسمها بتاء معلوة مكسورة وياء مد وزاي مكسورة وياء مد ثانية ونون". وهي حديثة اتخذها التركمان وأسواقها حسان ومساجدها في نهاية من الإتقان وقاضيها بدر الدين العسقلاني. وكانت مدينة قنسرين قديمة كبيرة ثم خرجت ولم يبق إلا رسومها. ثم سافرت إلى مدينة أنطاكية وهي مدينة عظيمة أصيلة وكان عليها سور محكم لا نظير له في أسوار بلاد الشام فلما فتحها الملك الظاهر هدم سورها وأنطاكيا كثيرة العمارة ودورها حسنة البناء كثيرة الأشجار والمياه وبخارجها نهر العاصي وبها قبر حبيب النجار رضي الله عنه وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر شيخها الصالح المعمر محمد بن علي سنّه ينيف على المائة وهو ممتع بقوته دخلت عليه مرة في بستان له وقد جمع حطبا ورفعه على كاهله ليأتي به منزله بالمدينة ورأيت ابنه قد أناف على الثمانين إلا أنه محدودب الظهر لا يستطيع النهوض ومن يراهما يظن الوالد منهما ولدا والولد والداً. ثم سافرت إلى حصن بُغْراس "وضبط اسمه بباء موحدة مضمومة وغين معجمة مسكنة وراء وآخره سين مهمل"، وهو حصن منيع لا يرام عليه البساتين والمزارع ومنه يدخل إلى بلاد سيس وهي بلاد كفار الأرمن وهم رعية للملك الناصر يؤدون إليه مالا ودراهم فضة خالصة تعرف بالبغلية وبها تصنع الثياب الدبيلية2 وأمير هذا الحصن صارم الدين ابن الشيباني. وله ولد فاضل اسمه علاء الدين وابن أخ اسمه حسام الدين كريم يسكن الموضع المعروف بالرُّصُص "بضم الراء والصاد المهمل الأول"، ويحفظ الطريق إلى بلاد الأرمن.

وقد شكا الأرمن مرة إلى الملك ناصر من الأمير حسام الدين، وزوّروا

1 وهي قرية من نواحي حلب، كانت من أعمال قنسرين، ثم صارت في عهد الرشيد من العواصم مثل منبج، ورغم أنها تقع في جهة قنسيرين تماماً، فليس هناك ما يمنع أن يسافر إليها ابن بطوطة عن طريق قنسرين، وهي طريقة غير مباشرة، وقد لوحظ ذلك في أسفاره.

2 نسبة إلى دبيل بفتح أوله وكسر ثانيه، وهي مدينة بأرمينية تتاخم أرّان فتحها حبيب بن مسلمة في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وغلب عليها وعلى قراها، وصالح أهلها وكتب لهم كتاباً.

ص: 55

عليه أمورا لا تليق. فأنفذ أمره لأمير الأمراء بحلب أن يخنقه فلما توجه الأمير بلغ ذلك صديقا له من كبار المراء فدخل على الملك الناصر وقال يا خوند أن الأمير حسام الدين هو من خيار الأمراء ينصح للمسلمين ويحفظ الطريق وهو من الشجعان والأرمن يريدون الفساد في بلاد المسلمين فيمنعهم ويقهرهم وإنما أرادوا إضعاف شوكة المسلمين بقتله ولم يزل به حتى أنفذ أمراً ثانيا بسراحه والخلع عليه ورده لموضعه ودعا الملك الناصر بريديا يعرف بالأفوش وكان لا يبعث إلا في مهم أمره بالإسراع والجد في السير فسار من مصر إلى حلب في خمس وهي مسيرة شهر فوجد أمير حلب قد أحضر حسام الدين وأخرجه إلى الموضع الذي يخنق به الناس فخلصه الله وعاد إلى موضعه ولقيت هذا الأمير ومعه قاضي بُغْراس شرف الدين الحموي بموضع يقال له العمق متوسط بين أنطاكية وتيزين وبغراس ينزله التركمان بمواشيهم لخصبه وسعته. ثم سافرت إلى حصن القُصير: تصغير قصر، وهو حصن حسن، أمير علاء الدين الكردي، وقاضيه شهاب الدين الأرمنتي من أهل الديار المصريّة، ثم سافرت إلى حصن الشُغْرُبُكَاس، "وضبط اسمه بضم الشين المعجم وإسكان الغين المعجم وضم الراء والباء الموحدة وآخره سين مهملة"، وهو منيع في رأس شاهق، أمير هـ سيف الدين الطنطاش فاضل، وقاضيه جمال الدين بن شجرة، من أصحاب ابن تيمية. ثم سافرت إلى مدينة صهيون، وهي مدينة حسنة بها الأنهار المطردة، والأشجار المورقة، ولها قلعة جيّدة، وأمير ها يعرف بالإبراهيمي، وقاضيها محيي الدين الحمصي وبخارجها زاوية في وسط بستان فيها الطعام للوارد والصادر وهي على قبر الصالح العابد عيسى البدوي رحمه الله وقد زرت قبره. ثم سافرت منها فمررت بحصن القدموس "وضبط اسمه بفتح القاف وإسكان الدال المهمل وضم الميم وآخره سين مهمل"، ثم بحصن المَنْيَقة " وضبط اسمه بفتح الميم وإسكان الياء وفتح النون والقاف"، ثم بحصن العليقة واسمه على لفظ واحدة العليق ثم بحصن مصياف "وصاده مهملة"، ثم بحص الكهف وهذه الحصون لطائفة يقال لهم الإسماعيلية ويقال لهم الفداوية ولا يدخل عليهم أحد من غيرهم. وهم سهام الملك الناصر وبهم يصيب من يعدو عنه من أعدائه بالعراق وغيرها ولهم المرتبات. وإذا أراد السلطان أن يبعث أحدهم إلى اغتيال عدو له أعطاه ديته فإن سلم بعد تأتي ما يراد منه فهي له، وإن أصيب فهي لولده. ولهم سكاكين مسمومة يضربون بها من

ص: 56

بعثوا إلى قتله وربما لم تصح حيلهم فقتلوا. كما جرى لهم مع الأمير قراسنقور فإنه لما هرب إلى العراق بعث إليه الملك الناصر جملة منهم فقتلوا ولم يقدروا عليه لأخذه بالحزم.

وكان قراسنقور من كبار الأمراء وممن حضر قتل الملك الأشرف أخي الملك الناصر وشارك فيه ولما تمهد الملك للملك الناصر وقر به القرار واشتدت أواخي سلطانه جعل يتتبع قتلة أخيه فيقتلهم واحداً واحداً إظهاراً للأخذ بثأر أخيه وخوفاً أن يتجاسروا عليه بما تجاسروا على أخيه وكان قراسنقور أمير الأمراء بحلب فكتب الملك الناصر إلى جميع الأمراء أن ينفروا بعساكرهم وجعل لهم ميعاداً يكون فيه اجتماعهم بحلب ونزولهم عليها حتى يقبضوا عليه فلما فعلوا ذلك خاف قراسنقور على نفسه وكان له ثمانمائة مملوك فركب فيهم وخرج على العساكر صباحاً فاخترقهم وأعجزهم سبقا وكانوا في عشرين ألفا وقصد منزل أمير العرب مهنا بن عيسى وهو على مسيرة يومين من حلب وكان مهنا في قنص له فقصد بيته ونزل عن فرسه وألقى العمامة في عنق نفسه ونادى الجوار يا أمير العرب وكانت هنالك أم الفضل زوج مهنا وبنت عمه فقالت له قد أجرناك وأجرنا من معك فقال إنما أطلب أولادي ومالي فقالت له لك ما تحب فانزل في جوارنا. ففعل ذلك وأتى مهنا فأحسن نزله وحكمه في ماله فقال إنما أحب أهلي ومالي الذي تركته بحلب فدعا مهنا بإخوته وبني عمه فشاورهم في أمره فمنهم من أجابه إلى ما أراد ومنهم من قال كيف نحارب الملك الناصر ونحن بلاده بالشام؟ فقال لهم مهنا أما أنا فأفعل لهذا الرجل ما يريده وأذهب معه إلى سلطان العراق وفي أثناء ذلك ورد عليهم الخبر بأن أولاد قراسنقور سيروا على البريد إلى مصر فقال مهنا لقراسنقور أما أولادك فلا حيلة فيهم وأما مالك فنجتهد في خلاصه فركب فيمن أطاعه من أهله واستنفر من العرب نحو خمسة وعشرين ألفا وقصدوا حلب فأحرقوا باب قلعتها وتغلبوا عليها واستخلصوا منها مال قراسنقور ومن بقي من أهله ولم يتعدوا إلى سوى ذلك وقصدوا ملك العراق وصحبهم أمير حمص الأفرم ووصلوا إلى الملك محمد خدابنده سلطان العراق وهو بموضع مصيفه المسمى قراباغ "بفتح القاف والراء والباء الموحدة والغين المعجمة". وهو ما بين السلطانية وتبريز فأكرم نزلهم وأعطى مهنا

ص: 57

عراق العرب وأعطى قراسنقور مدينة مراغة من عراق العجم وتسمى دمشق الصغيرة وأعطى الأفرم همدان وأقاموا عنده مدة مات فيها الأفرم وعاد مهنا إلى الملك الناصر بعد مواثيق وعهود أخذها منه وبقي قراسنقور على حاله وكان الملك الناصر يبعث له الفداوية مرة بعد مرة فمنهم من يدخل عليه داره فيقتل دونه ومنهم من يرمي بنفسه عليه وهو راكب فيضربه وقتل بسببه من الفداوية جماعة وكان لا يفارق الدرع أبدا ولا ينام إلا في بيت العود والحديد فلما مات السلطان محمد وولى ابنه أبو سعيد وقع ما سنذكره من أمر الجوبان كبير أمرائه وفرار ولده الدمرطاش إلى الملك الناصر ووقعت المراسلة بين الملك الناصر وبين أبي سعيد واتفقا على أن يبعث أبو سعيد إلى الملك الناصر برأس قراسنقور ويبعث إليه الملك الناصر برأس الدمرطاش فبعث الملك الناصر برأس الدمرطاش إلى أبي سعيد فلما وصله أمر بحمل قراسنقور إليه فلما عرف قراسنقور بذلك أخذ خاتما كان له مجوفا في داخله سم ناقع فنزع فصه وامتص ذلك السم فمات لحينه فعرف أبو سعيد بذلك الملك الناصر ولم يبعث له برأسه.

ثم سافرت من حصون الفداوية إلى مدينة جبلة وهي ذات أنهار مطردة وأشجار البحر على نحو ميل منها وبها قبر الولي الصالح الشهير إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه وهو الذي نبذ الملك وانقطع إلى الله تعالى حسبما شهر ذلك ولم يكن إبراهيم من بيت ملك كما يظنه الناس إنما ورث الملك عن جده أبي أمه وأما أبوه أدهم فكان من الفقراء الصالحين السائحين المتعبدين الورعين المنقطعين.

وحكي أن أدهم مر ذات يوم ببساتين مدينة بخارى وتوضأ من بعض الأنهار التي يتحللها فإذا بتفاحة يحملها ماء النهر فقال هذه لا خطر لها فأكلها ثم وقع في خاطره من ذلك وسواس فعزم على أن يستحل من صاحب البستان فقرع باب البستان فخرجت إليه جارية فقال ادعي لي صاحب المنزل فقالت إنه لامرأة فقال استأذني لي عليها ففعلت فأخبر المرأة بخبر التفاحة فقالت له أن هذا البستان نصفه لي ونصفه للسلطان والسلطان يومئذ ببلخ وهي على مسيرة عشرة من بخارى وأحلته المرأة من نصفها وذهب إلى بلخ فاعترض السلطان في موكبه فأخبره الخبر واستحله فأمره أن يعود إليه من الغد وكان للسلطان بنت بارعة الجمال قد خطبها أبناء الملوك فتمنعت وحببت

ص: 58

إليها العبادة وحب الصالحين وهي تحب أن تتزوج من ورع زاهد في الدنيا فلما عاد السلطان إلى منزله أخبر ابنته بخبر أدهم وقال ما رأيت أورع من هذا يأتي من بخارى إلى بلخ لأجل نصف تفاحة فرغبت في تزوجه فلما أتاه من الغد قال لا أحلك إلا أن تتزوج ببنتي فانقاد لذلك بعد استعصاء وتمنع فتزوج منها فلما دخل عليها وجدها متزينة والبيت مزينة بالفرش وسواها فعمد إلى ناحية من البيت وأقبل على صلاته حتى أصبح ولم يزل كذلك سبع ليال وكان السلطان ما أحله قبل فبعث إليه أن يحله فقال لا أحلك حتى يقع اجتماعك بزوجتك فلما كان الليل واقعها ثم اغتسل وقام إلى الصلاة فصاح صيحة وسجد في مصلاه فوجد ميتا رحمه الله وحملت منه فولدت إبراهيم ولم يكن لجده ولد فأسند الملك إليه وكان من تخليه عن الملك ما اشتهر وعلى قبر إبراهيم بن أدهم زاوية حسنة فيها بركة ماء وبها الطعام للصادر والوارد وخادمها إبراهيم الجمحي من كبار الصالحين والناس يقصدون هذه الزاوية ليلة النصف من شعبان من سائر أقطار الشام ويقيمون بها ثلاثا ويقوم بها خارج المدينة سوق عظيم فيه من كل شيء ويقدم الفقراء المتجردون من الآفاق لحضور هذا الموسم وكل من يأتي من الزوار لهذه التربة يعطي لخادمها شمعة فيجتمع من ذلك قناطير كثيرة. وأكثر أهل هذه السواحل هم الطائفة النصيرية الذين يعتقدون أن علي بن أبي طالب إله وهم لا يصلون ولا يتطهرون ولا يصومون وكان الملك الظاهر ألزمهم ببناء المساجد بقراهم فبنوا بكل قرية مسجدا بعيدا عن العمارة ولا يدخلونه ولا يعمرونه وربما أوت اليه مواشيهم ودوابهم وربما وصل الغريب إليهم فينزل بالمسجد ويؤذن إلى الصلاة فيقولون لا تنهق علفك يأتيك وعددهم كثير.

وبلغني أن رجلاً مجهولاً وقع ببلاد هذه الطائفة فادعى الهداية وتكاثروا عليه فوعدهم بتملك البلاد وقسم بينهم بلاد الشام وكان يعين لهم البلاد ويأمرهم بالخروج إليها ويعطيهم من ورق الزيتون ويقول لهم استظهروا بها فإنها كالأوامر لكم فإذا خرج أحدهم إلى بلد أحضره أمير ها فيقول له أن الإمام المهدي أعطاني هذا البلد فيقول له أين الأمر فيخرج ورق الزيتون فيضرب ويحبس ثم إنه أمرهم بالتجهيز لقتال المسلمين وأن يبدأوا بمدينة جبلة وأمرهم أن يأخذوا عوض السيوف قضبان آلاس ووعدهم أنها تصير في أيديهم سيوفاً

ص: 59

عند القتال فغدروا مدينة جبلة وأهلها في صلاة الجمعة فدخلوا الدور وهتكوا الحريم وثار المسلمون من مسجدهم فأخذوا السلاح وقتلوا كيف شاءوا واتصل الخبر باللاذقية فأقبل أمير ها بهادر عبد الله بعساكره وطيرت الحمام إلى طرابلس فأتى أمير الأمراء بعساكره وتبعوهم حتى قتلوا منهم نحو عشرين ألفا وتحصن الباقون بالجبال وراسلوا ملك الأمراء والتزموا أن يعطوه دينارا عن كل رأس أن هو حاول إبقاءهم وكان الخبر قد طير به الحمام إلى الملك الناصر وصدر جوابه أن يحمل عليهم السيف فراجعه ملك الأمراء وألقى له أنهم عمال المسلمين في حراثة الأرض وأنهم أن قتلوا ضعف المسلمون لذلك فأمر بالإبقاء عليهم من اللاذقية إلى دمشق. ثم سافرت إلى مدينة اللاذقية وهي مدينة عتيقة على ساحل البحر يزعمون أنها مدينة الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا وكنت إنما قصدتها لزيارة الولي الصالح عبد المحسن الإسكندري فلما وصلتها وجدته غائبا بالحجاز الشريف فلقيت من أصحابه الشيخين الصالحين سعيد البجائي ويحيى السلاوي وهما بمسجد علاء الدين البهاء أحد فضلاء الشام وكبرائها وصاحب الصدقات والمكارم وكان قد عمر لهما زاوية بقرب المسجد وجعل بها الطعام للوارد والصادر وقاضيها الفقيه الفاضل جلال الدين عبد الحق المصري المالكي فاضل كريم تعلق بطيلان ملك الأمراء فولاه قضاءها.

وكان باللاذقية وجعل يعرف بابن المؤيد هجّاء لا يسلم أحد من لسانه متهم في دينه مستخف يتكلم بالقبائح من الإلحاد فعرضت له حاجة عند طيلان ملك الأمراء فلم يقضها له فقصد مصر وتقول أمورا شنيعة وعاد إلى اللاذقية فكتب طيلان إلى القاضي جلال الدين أن يتحيل في قتله بوجه شرعي فدعاه القاضي إلى منزله وباحثه واستخرج كامن إلحاده فتكلم بعظائم أيسرها يوجب القتل وقد أعد القاضي الشهود خلف الحجاب ليكتبوا عقداً بمقاله وثبت عند القاضي وسجن وأعلم ملك الأمراء بقضيته ثم أخرج من السجن وخنق على بابه ثم لم يلبث ملك الأمراء طيلان أن عزل عن طرابلس ووليها الحاج قرطية من كبار الأمراء وممن تقدمت له فيها الولاية وبينه وبين طيلان عداوة فجعل يتتبع سقطاته وقام لديه أخوة ابن المؤيد شاكين جلال الدين القاضي فأمر به وبالشهود الذين شهدوا على ابن المؤيد فأحضروا وأمر بخنقهم،

ص: 60

وأخرجوا إلى ظاهر المدينة حيث يخنق الناس وأجلس كل واحد تحت مخنقة ونزعت عمائمهم ومن عادة أمراء تلك البلاد أنه متى أمر أحدهم بقتل أحد الناس يمر الحاكم من مجلس الأمير سابقا على فرس إلى حيث المأمور بقتله ثم يعود إلى الأمير فيكرر استئذانه يفعل ذلك ثلاثا فإذا كان بعد الثلاث أنفذ الأمر فلما فعل الحاكم ذلك قامت الأمراء في المرة الثالثة وكشفوا رؤوسهم وقالوا أيها الأمير هذه سبة في الإسلام يقتل القاضي والشهود فقبل الأمير شفاعتهم وخلى سبيلهم وبخارج اللاذقية الدير المعروف بدير الفاروص وهو أعظم دير بالشام ومصر يسكنه الرهبان ويقصده النصارى من الآفاق وكل من نزل به من المسلمين فالنصارى يضيفونه وطعامهم الخبز والجبن والزيتون والخل البكر وميناء هذه المدينة عليها سلسلة بين برجين يدخلها أحد ولا يخرج منها حتى تحط له السلسلة وهي من أحسن المراسي بالشام. ثم سافرت إلى حصن المرقب وهو من الحصون العظيمة يماثل حصن الكرك وبناؤه على جبل شامخ وخارجه ربض ينزله الغرباء ولا يدخلون قلعته وافتتحه من يد الروم الملك المنصور قلاوون وعليه ولد ابنه الملك الناصر وكان قاضيه برهان الدين المصري من أفاضل القضاة وكرمائهم

ثم سافرت إلى الجبل الأقرع وهو أعلى جبل بالشام وأول مايظهر منها من البحر وسكانه التركمان وفيه العيون والأنهار، وسافرت منه إلى جبل لبنان وهو من أخصب جبال الدنيا فيه أصناف الفواكه وعيون الماء والظلال الوافرة ولا يخلو من المنقطعين إلى الله تعالى والزهاد والصلحين وهو شهير بذلك ورأيت به جماعة من والصالحين قد انقطعوا إلى الله تعالى ممن لم يشتهر اسمه.

وأخبرني بعض الصالحين الذين لتقيتهم به قال: كنا بهذا الجبل مع جماعة من الفقراء أيام البرد الشديد فأوقدنا نارا عظيمة وأحدقنا بها وبعض الحاضرين يصلح لهذه النار ما يشوي فيها فقال أحد الفقراء ممن تزدريه الأعين ولا يعبأ به أني كنت عند صلاة العصر بمتعبد إبراهيم بن أدهم فرأيت منه حمار وحش قد أحدق الثلج به من كل جانب وأظنه لا يقدر على الحرك فلو ذهبتم إليه لقدرتم عليه وشويتم لحمه في هذه النار قال فقمنا إليه في خمسة رجال فلقيناه كما وصف لنا فقبضناه وأتينا به أصحابنا وذبحناه وشوينا لحمه في تلك النار وطلبنا الفقير الذي نبه عليه فلم نجده ولا

ص: 61

وقعنا له على أثر، فطال عجبنا منه. ثم وصلنا من جبل لبنان إلى مدينة بعلبك وهي حسنة قديمة من أطيب مدن الشام تحدق بها البساتين الشريفة والجنات المنيفة وتخترق أرضها الأنهار الجارية وتضاهي دمشق في خيراتها المتناهية وبها من حب الملوك1 ما ليس في سواها وبها يصنع الدبس المنسوب إليها وهو نوع من المربى يصنعونه من العنب ولهم تربة يضعونها فيه فيجمد وتكسرالقلة التي يكون بها فيبقى قطعة واحدة وتصنع منه الحلواء ويجعل فيها الفستق واللوز ويسمونها حلواء بالملبن ويسمونها أيضا بجلد الفرس وهي كثيرة الألبان وتجلب منها إلى دمشق وبينهما مسيرة يوم للمجد وأما الرفاق فيخرجون من بعلبك فيبيتون ببلدة صغيرة تعرف بالزبداني كثيرة الفواكه ويغدون منها إلى دمشق ويصنع ببعلبك الثياب المنسوبة إليها من الإحرام وغيره ويصنع بها أواني الخشب وملاعقه التي لا نظير لها في البلاد وهم يسمون الصحاف بالدسوت وربما صنعوا الصحفة وصنعوا صفحة أخرى توضع في جوفها وأخرى في جوفها إلى أن يبلغون العشرة يخيل لرائيها أنها صحفة واحدة وكذلك الملاعق يصنعون منها عشرة واحدة في جوف واحدة ويصنعون لها غشاء من جلد ويمسكها الرجل في حزامه وإذا حضر طعاما مع أصحابه أخرج ذلك فيظن رائيه أنها ملعقة واحدة ثم يخرج من جوفها تسعة وكان دخولي لبعلبك عشية النهار وخرجت منها بالغد لفرط اشتياقي إلى دمشق. وصلت يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين إلى مدينة الشام فنزلت منها بمدرسة المالكية المعروفة بالشرابشية ودمشق هي التي تفضل جميع البلاد حسنا وتقدمها جمالا وكل وصف وإن طال فهو قاصر عن محاسنها ولا أبدع مما قاله أبو الحسن ابن جبير رحمه الله تعالى في ذكرها قال: وأما دمشق فهي جنة المشرق ومطلع نورها المشرق وخاتمة بلاد الإسلام متى استقريناها2، وعروس المدن التي اجتلبناها قد تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسية من البساتين وحلت موضع الحسن بالمكان المكين وتزينت في منصتها أجمل تزيين وتشرفت بأن آوى المسيح عليه السلام وأمه إلى ربوة منها ذات قرار

1 ثمار الكرز.

2 تتبعناها لمعرفة خواصها ومزاياها.

ص: 62

ومعين1 وظل ظليل وماء سلسبيل: تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل تتبرج لناظرها بمجتلى صقيل وتناديهم هلموا إلى معرس للحسن ومقيل وقد سئمت أرضها كثر الماء حتى اشتاقت إلى الظمأ فتكاد تناديك بها الصم والصلاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب وقد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر والأكمام بالثمر وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر وكل موضع لحظت بجوانبها الأربع نضرته اليانعة قيد البصر ولله صدق القائلين عنها أن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها وإن كانت في السماء تساميها وتحاذيه. قال ابن جزي: وقد نظم بعض شعرائها في هذا المعنى فقال:

إن تكن جنة الخلود بأرض

فدمشق ولا تكون سواها

أو تكن في السماء فهي عليها

قد أبت هواءها وهواها

بلد طيب ورب غفور

فاغتنمها عشية وضحاها

وذكر شيخنا المحدث الرحال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر بن حسان القيسي الوادي آشي نزيل تونس ونص كلام ابن جبير ثم قال ولقد أحسن فيما وصف منها وأجاد وتتوق الأنفس للتطلع على صورتها بما أفاد هذا وإن تكن له بها إقامة فيعرب عنها بحقيبة وعلامة ولا وصف ذهبيات أصيلها وقد حان من الشمس غروبها ولا أزمان جفولها المنوعات ولا أوقات شرورها المنبهات وقد اختص من قال: ألقيتها كما تصف الألسن. وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. قال ابن جزي: والذي قالته الشعراء في وصف محاسن دمشق لا يحصر كثرة. وكان والدي رحمه الله كثيراً ما ينشد في وصفها هذه الأبيات، وهي لشرف الدين بن محسن رحمه الله تعالى:

دمشق بنا شوق إليها مبرح

وإن لجّ واشٍ أو ألحّ عَذولُ

بلادٌ بها الحصباء دُرٌّ وتربها

عبيرٌ وأنفاس الشمال شمولُ

تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق

وصحّ نسيم الروض وهو عليل

1 القول بأن دمشق هي الربوة ذات القرار والمعين التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة "المؤمنون" في الآية رقم 50 هو أحد أقوال أربعة بقيتها أنها مصر أو الرملة أو بيت المقدس، وأظهر الأقوال وأرجحها هو الأخير.

ص: 63

وهذا من النمط العالي من الشعر. وقال فيها عرقلة الدمشقي الكلبي:

الشام شامة وجنة الدنيا كما

إنسان مقلتها الغضيضة جلّقُ

من آسها لك جنة لا تنقضي

ومن الشقيق جهنّم لا تحرق

وقال أيضا فيها:

أما دمشق فجنات مُعجَّلة

للطالبين بها الوِلدان والحورُ

ما صاح فيها على أوتاره قمرٌ

إلا يغنّيه قُمريّ وشحرورُ

يا حبّذا ودروع الماء تنسجها

أناملُ الريح إلا أنها زُورُ

وله فيها أشعار كثيرة سوى ذلك. وقال فيها أبو الوحش سبع بن خلق الأسدي:

سقى دمشقَ الله غيثاً مُحسَناً

من مستهلّ ديمة دهاقها

مدينة ليس يُضاهي حُسنها

في سائر الدنيا ولا آفاقها

توَدُّ زَوراء العراق أنها

منها ولا تُعزى إلى عراقها

فأرضُها مثلُ السماء بهجة

وزهرُها كالزُّهر في إشراقِها

نسيمُ روضها متَى ما قَدْ سَرَى

فَكَّ أخا الهموم من وَثاقها

قد رتع الرَّبيع في ربوعها

وسيقت الدنيا إلى أسواقها

لا تسأم العيون والأنوف من

رؤيتها يوماً ولا استنشاقها

ومما يناسب هذا للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني فيها من قصيدة، وقد نسبت أيضاً لابن المنير:

يا برقُ هل لك في احتمال تحيةٍ

عَذُبَتْ فصارَتْ مثل مائك سَلسَلا

باكِرْ دمشق بِمَشْق الحَيَا

زهرَ الرياضِ مرصعاً ومكلَّلاً

واجرر بجيرون ذيولَك واختصص

مَغْنى تأزّر بالعلا وتسربلا

حيث الحيا الربعي محلول الحيا

والوابل الربعي مفري الكلا

وقال فيها أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العنسي الغرناطي المدعو نور الدين:

دمشق منزلنا حيث النعيم بدا

مكملاً وهو في الآفاق مختصرُ

القصب راقصة والطير صادحة

والزهر مرتفع والماء منحدر

وقد تجلت من اللذات أوجهها

لكنها بظلال الدوج تستتر

ص: 64

وكل واد به موسى يفجره

وكل روض على حافاته الخضر

وقال أيضا فيها:

خَيّم بجلق بين الكأس والوترِ

في جنة هي ملء السمع والبصرِ

ومتّع الطرْفَ في مرأى محاسِنه

وروّض الفكرَ بين الروض والنهر

وانظرْ إلى ذهبيّات الأصيل بها

واسمعْ إلى نغماتِ الطير في الشجرِ

وقل لمن لام في لذاته بشراً

دعني فإنك عندي سُوقة البشرِ

وقال أيضا فيها:

أما دمشق فجنّةٌ

ينسى بها الوطنَ الغريبْ

لله أيام السبوتِ

بها ومنظرها العجيبْ

انظر بعينك هل ترى

إلا محباً أو حبيبْ

في موطن غنّى الحمام

به على رقص القضيب

وغدَتْ أزاهرُ روضهِ

تختالُ في فرح وطِيبْ

وأهل دمشق لا يعلمون في يوم السبت عملاً، إنما يخرجون إلى المتنزهات وشطوط الأنهار ودوحات الأشجار، بين البساتين النضيرة والمياة الجارية فيكونون بها يومهم إلى الليل، وقال طال بنا الكلام في محاسن دمشق فلنرجع إلى كلام الشيخ أبي عبد الله.

ص: 65