الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطلبته بعد هذه الليلة فلم أجده وأتيت الجبانة فلم أجده ويقال أنه يأتيها بعد هجوع الناس.
ولما حضرنا ليلة عاشوراء بزاوية شمس الدين وعظ بها مجد الدين آخر الليل فصاح أحد الفقراء صيحة غشي عليه منها فصبوا عليه ماء الورد فلم يفق فأعادوا عليه ذلك فلم يفق واختلفت الناس فيه فمن قائل إنه ميت ومن قائل إنه مغشي عليه وأتم الواعظ كلامه وقرأ القراء وصلينا الصبح وطلعت الشمس فاختبروا حال الرجل فوجدوه فارق الدنيا رحمه الله. فاشتغلوا بغسله وتكفينه وكنت فيمن حضر الصلاة عليه ودفنه وكان هذا الفقير يسمى الصياح وذكروا أنه كان يتعبد بغار هنالك في جبل فمتى علم أن الواعظ مجد الدين يعظ قصده وحضر وعظه ولم يأكل طعام أحد فإذا وعظ مجد الدين يصيح ويغشى عليه ثم يفيق فيتوضأ ويصلي ركعتين ثم إذا سمع الواعظ صاح يفعل ذلك مراراً في الليلة وسمي الصياح لأجل ذلك وكان أعذر اليد والرجل لا قدرة له على الخدمة، وكانت له والدة تقوته من غزلها فلما توفيت اقتات من نبات الأرض. ولقيت بهذه المدينة الشيخ الصالح عبد الله المصري السائح وهو من الصالحين جال الأرض إلا أنه لم يدخل الصين ولا جزيرة سرنديب ولا المغرب ولا الأندلس ولا بلاد السودان وقد زدت عليه بدخول هذه الأقاليم.
خبر سلكان برصا
…
خبر سلطان بُرْصا:
وكان سلطانها اختيار الدين أُرْخان بك، وأُرخان "بضم الهمزة وخاء معجم" ابن السلطان عثمان1 جوق، "وجوق بجيم معقود مضموم وآخره قاف" وتفسيره بالتركية الصغير وهذا السلطان أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالاً وبلاداً وعسكراً له من الحصون ما يقارب مائة حصن وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها ويقيم بكل حصن منها أيام لإصلاح شئونه وتفقد حاله ويقال إنه لم يقم قط شهراً كاملاً ويقاتل الكفار ويحاصرهم، ووالده هو الذي استفتح مدينة بُرصا من أيدي الروم، وقبره بمسجدها. وكان مسجدها كنيسة
1 وهو الذي ينتسب إليه سلاطين آل عثمان.
للنصارى ويذكر أنه حاصر مدينة برتيك نحو عشرين سنة ومات قبل فتحها، فحاصرها ولده هذا الذي ذكرناه اثنتي عشرة سنة وافتتحها وكان بها لقائي له وبعث إلي بدراهم كثيرة، ثم سافرنا إلى مدينة يَزْنيك "وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف وإسكان الزاي وكسر النون وياء مد وكاف" وبتنا قبل الوصول إليها ليلة بقرية تدعى كَرْلَه بزاوية فتى من الأخية، ثم سرنا من هذه القرية يوماً كاملاً في أنهار ماء على جوانبها أشجار الرمان الحلو والحامض ثم وصلنا إلى بحيرة ماء تنبت القصب على ثمانية أميال من يزنيك لا يستطاع دخولها إلا على طريق واحد مثل الجسر لا يسلك عليها إلا فارس واحد وبذلك امتنعت هذه المدينة والبحيرة محيطة بها من جميع الجهات وهي خاوية على عروشها لا يسكن بها إلا أناس قليلون من خدام السلطان وبها زوجته بيون1 خاتون وهي الحاكمة عليهم امرأة صالحة فاضلة. وعلى المدينة أسوار أربعة بين كل سورين خندق وفيه الماء ويدخل إليها على جسور خشب متى أرادوا رفعها رفعوها. وبداخل المدينة البساتين والدور والأرض والمزارع فلكل إنسان داره ومزرعته وبستانه مجموعة وشربها من آبار بها قريبة وبها من جميع أصناف الفواكه والجوز، والقسطل عندهم كثير جداً رخيص الثمن ويسمون القسطل قسطنة بالنون والجوز القوز بالقاف، وبها العنب العذاري لم أر مثله في سواها متناهي الحلاوة وعظيم الجرم صافي اللون رقيق القشر للحبة منه نواة واحدة. أنزلنا بهذه المدينة الفقيه الإمام الحاج المجاور علاء الدين السلطانيوكي وهو شيخ الفضلاء والكرماء ما جئت قط لزيارته إلا أحضر الطعام وصورته حسنة وسيرته أحسن وتوجه معي إلى الخاتون المذكورة فأكرمت وأضافت وأحسنت. وبعد قدومنا بأيام وصل إلى هذه المدينة السلطان أرخان بك الذي ذكرناه. وأقمت بهذه المدينة نحو أربعين يوماً بسبب مرض فرس لي، فلما طال علي المكث تركته وانصرفت ومعي ثلاثة من أصحابي وجارية وغلامان. وليس معنا من يحسن اللسان التركي ويترجم عنا. وكان معنا ترجمان فارقنا بهذه المدينة.
ثم خرجنا منها فبتنا بقرية يقال لها مَكجَا "بفتح الميم والكاف والجيم" بتنا عند فقيه أكرمنا وأضافنا. وسافرنا من عنده وتقدمتنا
1 في إحدى طبعات الكتاب: بيلون خاتون.
امرأة من الترك على فرس ومعها خديم لها، وهي قاصدة مدينة ينجا ونحن في اتباع أثرها فوصلت إلى واد كبير يقال له سقري كأنه نسب إلى سقر أعاذنا الله فذهبت تجوز الوادي فلما توسطته كادت الدابة تغرق بها ورمتها عن ظهرها وأراد الخديم الذي كان معها استخلاصها فذهب الوادي بهما معا وكان في عدوة الوادي قوم رموا بأنفسهم في أثرهما سباحة فأخرجوا المرأة وبها من الحياة رمق ووجدوا الرجل قد قضى نحبه رحمه الله. وأخبرنا أولئك الناس أن المعديّة أسفل من ذلك الموضع فتوجهنا إليها وهي أربع خشبات مربوطة بالجبال يجعلون عليها سروج الدواب والمتاع ويجذبها الرجال من العدوة الأخرى ويركب عليها الناس وتجاز الدواب سباحة وكذلك فعلنا. ووصلنا تلك الليلة إلى كاوية واسمها على مثال فاعلة من الكي نزلنا منها بزاوية أحد الأخية فكلمناه بالعربية فلم يفهم، وكلمنا بالتركية فلم نفهم عنه، فقال اطلبوا الفقيه فإنه يعرف العربية فأتى الفقيه فكلمنا بالفارسية وكلمناه بالعربية فلم يفهمها منا، فقال للفتى: ايشان عربي كهنا ميقوان ميكو يندو من عربي نو ميدانم، وإيشان معناه هؤلاء وكهنا قديم وميقوان يقولون ومن أنا ونو جديد وميدانم تعرف، وإنما أراد الفقيه بهذا الكلام ستر نفسه عن الفضيحة عندما ظنوا أنه يعرف اللسان العربي فهو لا يعرفه فقال هؤلاء يتكلمون بالعربي القديم وأنا لا أعرف إلا العربي الجديد فظن الفتى أن الأمر على ما قاله الفقيه.
ونفعنا ذلك عنده وبالغ في إكرامنا، وقال هؤلاء تجب كرامتهم لأنهم يتكلمون باللسان العربي القديم وهو لسان النبي صلى الله عليه وسلم تسليما وأصحابه، ولم نفهم كلام الفقيه إذا ذاك لكنني حفظت لفظه فلما تعلمت اللسان الفارسي فهمت مراده. وبتنا تلك الليلة بالزاوية. وبعث معنا دليلاً إلى ينجا بلدة كبيرة حسنة بحثنا بها عن زاوية الأخي فوجدنا بها أحد الفقراء المولهين فقلت له زاوية الأخي فقال لي: نعم فسررت عند ذلك إذ وجدت من يفهم اللسان العربي. فلما اختبرته أبرز الغيب أنه لا يعرف من اللسان العربي إلا كلمة نعم خاصة. ونزلنا بالزاوية وجاء إلينا أحد الطلبة بطعام ولم يكن الأخي حاضراً وحصل الأنس بهذا الطالب ولم يكن يعرف اللسان العربي ولكنه تفضل وتكلم مع نائب البلدة فأعطاني فارساً من أصحابه، وتوجه معنا إلى كَبْنوك "وضبط
اسمها بفتح الكاف وسكون الباء وضم النون" وهي بلدة صغيرة يسكنها كفار الروم تحت ذمة المسلمين وليس بها غير بيت واحد من المسلمين وهم الحكام عليهم وهي من بلاد أرخان بك فنزلنا بدار عجوز كافرة وذلك أبان الثلج والشتاء فأحسنا إليها وبتنا عندها تلك الليلة، وهذه البلدة لا شجر فيها ولا دوالي العنب ولا يزرع بها إلا الزعفران وأتتنا هذه العجوز بزعفران كثير وظنت أننا تجار نشتريه منها. ولما كان الصباح ركبنا وأتانا الفارس الذي بعثه معنا الفتى أخي من كَبْنوك فبعث معنا فارساً غيره ليوصلنا إلى مدينة مطرني، وقد وقع في تلك الليلة ثلج كثير عفى عن الطريق1 فتقدمنا ذلك الفارس فأتبعنا أثره إلى أن وصلنا في نصف النهار إلى قرية للتركمان فأتوا بطعام فأكلنا منه وكلمهم ذلك الفارس فركب معنا أحدهم وسلك بنا أوعاراً وجبالاً ومجرى ماء تكرر لنا جوازه أزيد من الثلاثين مرة، فلما خلصنا من ذلك قال لنا الفارس أعطوني شيئاً من الدراهم، فقلنا له إذا وصلنا إلى المدينة نعطيك ونرضيك فلم يرض ذلك منا أو لم يفهم عنا فأخذ قوساً لبعض أصحابي ومضى غير بعيد ثم رجع فرد إلينا القوس فأعطيته شيئا من الدراهم فأخذها وهرب عنا وتركنا لا نعرف أين نقصد ولا طريق لنا فكنا نتلمح أثر الطريق تحت الثلج ونسلكه إلى أن بلغنا عند غروب الشمس إلى جبل يظهر الطريق به لكثرة الحجارة فخفت الهلاك علي ومن معي وتوقعت نزول الثلج ليلاً ولا عمارة هنالك فإن نزلنا عن الدواب هلكنا وإن سرينا ليلتنا لا نعرف أين نتوجه. وكان لي فرس من الجياد فعملت على الخلاص وقلت في نفسي إذا سلمت لعلّي أحتال في سلامة أصحابي فكان كذلك واستودعتهم الله تعالى وسرت وأهل تلك البلاد يبنون على القبور بيوتاً من الخشب يظن رائيها أنها عمارة فيجدها قبوراً فظهر لي منها كثير فلما كان بعد العشاء وصلت إلى البيوت فقلت اللهم اجعلها عامرة فوجدتها عامرة ووفقني الله تعالى إلى باب دار فرأيت عليها شيخاً فكلمته بالعربي فكلمني بالتركي وأشار إلي بالدخول فأخبرته بشأن أصحابي فلم يفهم عني وكان من لطف الله أن تلك الدار زاوية للفقراء والواقف بالباب شيخها. فلما سمع الفقراء الذين بداخل الزاوية كلامي
1 صحة العبارة: عفّى على الطريق، أي: غطى آثارها وستر معالمها فلم تعد تعرف.
مع الشيخ خرج بعضهم وكانت بيني وبينه معرفة فسلم علي وأخبرته خبر أصحابي وأشرت إليه بأن يمضي مع الفقراء لاستخلاص الأصحاب ففعلوا ذلك وتوجهوا معي إلى أصحابي وجئنا جميعا إلى الزاوية وحمدنا الله تعالى على السلامة، وكانت ليلة جمعة فاجتمع أهل القرية وقطعوا ليلتهم بذكر الله تعالى، وأتى كل منهم بما تيسر له من الطعام وارتفعت المشقة. ورحلنا عند الصباح فوصلنا إلى مدينة مُطرني عند صلاة الجمعة "وضبط اسمها بضم الميم والطاء المهملة وإسكان الراء وكسر النون وياء مد"، فنزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية وبها جماعة من المسافرين ولم نجد مربطاً للدواب فصلينا الجمعة ونحن في قلق لكثرة الثلج والبرد وعدم المربط فلقينا أحد الحجاج من أهلها فسلم علينا وكان يعرف اللسان العربي فسررت برؤيته وطلبت منه أن يدلنا على مرابط للدواب بالكراء فقال أما ربطها في منزل فلا يتأتى لأن أبواب دور هذه البلدة صغار لا تدخل منها الدواب ولكنني أدلكم على سقيفة بالسوق يربط فيها المسافرون دوابهم والذين يأتون لحضور السوق فدلنا عليها وربطنا بها دوابنا ونزل أحد الأصحاب بحانوت خال إزاءها ليحرس الدواب.
وكان من غريب ما اتفق لنا أني بعثت أحد الخدام ليشتري التبن للدواب وبعثت أحدهم يشتري السمن، فأتى أحدهما بالتبن، والآخر دون شيء وهو يضحك، فسألناه عن سبب ضحكه فقال: إنا وقفنا على دكان بالسوق فطلبنا منه السمن فأشار إلينا بالوقوف وكلّم والده فدفعنا إليه الدراهم فأبطأ ساعة وأتى بالتبن فأخذناه منه وقلنا له إنا نريد السمن فقال هذا السمن وأبرز الغيب لنا أنهم يقولون للتبن سمن بلسان الترك، أما السمن يسمى عندهم يسمى رباغ، ولما اجتمعنا بهذا الحاج الذي يعرف اللسان العربي رغبنا منه أن يسافر معنا إلى قصطمونية وبينها وبين هذه البلدة عشرة وكسوته ثوباً مصرياً من ثيابي وأعطيته نفقة تركها لعياله وعينت له دابة لركوبه، ووعدته الخير. وسافر معنا وظهر لنا من حاله أنه صاحب مال كثير وله ديون على الناس غير أنه ساقط الهمة خسيس الطبع سيء الأفعال وكنا نعطيه الدراهم لنفقتنا فيأخذ ما يفضل من الخبز ويشتري به الأبزار والخضر والملح ويمسك ثمن ذلك لنفسه. وذكر أنه كان يسرق من دراهم النفقة دون ذلك وكنا نحتمله لما كنا نكابده من عدم المعرفة بلسان الترك وانتهت حاله إلى أن فضحناه وكنا نقول له في آخر النهار
يا حاج كم سرقت اليوم من النفقة؟ فيقول كذا فنضحك منه ونرضى بذلك. ومن أفعاله الخسيسة أنه مات لنا فرس في بعض المنازل فتولى سلخ جلده بيده وباعه. ومنها أننا نزلنا ليلة عند أخت له في بعض القرى فجاءت بطعام وفاكهة من الإجاص والتفاح والمشمش والخوخ كلها ميبسة وتجعل في الماء حتى ترطب فتؤكل ويشرب ماؤه، افأردنا أن نحسن إليها فعلم بذلك فقال: لا تعطوها شيئاً واعطوا ذلك لي، فأعطيناه إرضاء له، وأعطيناها إحساناً في خفية بحيث لم يعلم بذلك. ثم وصلنا إلى مدينة بُولي "وضبط اسمها بباء موحدة مضمومة وكسر اللام" ولما انتهينا إلى قريب منها وجدنا وادياً يظهر في رأي العين صغيراً فلما دخله بعض أصحابنا وجدوه شديد الجرية والانزعاج فجاوزوه جميعاً وبقيت جارية صغيرة خافوا من تجويزها وكان فرسي خيراً من أفراسهم فأردفتها وأخذت في جواز الوادي فلما توسطته وقع بي الفرس ووقعت الجارية فأخرجها أصحابي وبها رمق وخلصت أنا ودخلنا المدينة فقصدنا زاوية أحد الفتيان الأخية ومن عوائدهم أنه لا تزال النار موقوده في زواياهم أيام الشتاء أبداً يجعلون في كل ركن من أركان الزاوية موقد النار ويصنعون لها منافس يصعد منها الدخان ولا يؤذي الزاوية ويسمونها البخاري واحدها بخيري. قال ابن جزي: وقد أحسن صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلّي في قوله في التورية، وتذكرته بذكر البخيري:
إن البخيري مذ فارقتمون غدا
…
يحثو الرماد على كانونه الترِبِ
لو شِئْتُم أنّه يُمسي أبا لَهَبٍ
…
جاءَتْ بغالُكُم حمّالة الحَطَب
قال: فلما دخلنا للزاوية وجدنا النار موقودة، فنزعت ثيابي ولبست ثيابا سواها واصطليت بالنار وأتى الأخي بالطعام والفاكهة وأكثر من ذلك. فلله درهم من طائفة! ما أكرم نفوسهم وأشد إيثارهم وأعظم شفقتهم على الغريب وألطفهم بالوارد وأحبهم فيه وأجملهم احتفالاً بأمره. فليس قدوم الإنسان الغريب عليهم إلاّ كقدومه على أحب أهله إليه. وبنتنا تلك الليلة بحال مرضية، ثم رحلنا بالغداة فوصلنا إلى مدينة كَرَدي بُولي "وضبط اسمها بكاف معقود وفتح الراء والدال المهمل وسكون الياء وباء موحدة مضمومة وواو مد ولام مكسورة وياء" وهي مدينة كبيرة في بسيط من الأرض حسنة، متسعة الشوارع والأسواق من أشد البلاد برداً. وهي محلات مفترقة، كل محلة تسكنها طائفة لا يخالطهم
غيرهم.
وكان سلطانها شاه بك، من متوسطي سلاطين هذه البلاد، حسن الصورة والسيرة، جميل الخلق، قليل العطاء، صلينا بهذه المدينة صلاة الجمعة ونزلنا منها، ولقيت بها الخطيب الفقيه شمس الدين الدمشقي الحنبلي وهو من مستوطنيها من سنين وله بها أولاد وهو فقيه هذا السلطان وخطيبه ومسموع الكلام عنده ودخل علينا هذا الفقيه بالزاوية فأعلمنا أن السلطان قد جاء لزيارتنا فشكرته على فعله واستقبلت السلطان فسلمت عليه وجلس فسألني عن حالي وعن مقدمي وعمن لقيته من السلاطين فأخبرته بذلك كله وأقام ساعة ثم انصرف وبعث بدابة مسرجة وكسوة، وانصرفنا إلى مدينة بُرْلُو "وضبط اسمها بضم الباء الموحد وإسكان الراء وضم اللام"، وهي مدينة صغيرة على تل تحتها فندق ولها قلعة بأعلى شاهق نزلنا منها بمدرسة، وكان الحاج الذي سافر معنا يعرف مدرسها وطلبتها ويحضر معهم الدرس وهو على علاقة من الطلبة حنفي المذهب، ودعانا أمير هذه البلدة وهو علي بك بن السلطان المكرم سليمان باد شاه ملك قصطمونية، وسنذكره. فصعدنا إليه إلى القلعة فسلمنا عليه فرحب بنا وأكرمنا وسألني عن أسفاري وحالي فأجبته عن ذلك وأجلسني إلى جانبه وحضر قاضيه وكاتبه الحاج علاء الدين محمد وهو من كبار الكتاب وحضر الطعام فأكلنا ثم قرأ القراء بأصوات مبكية وألحان عجيبة، وانصرفنا. وسافرنا بالغد إلى مدينة قَصْطَمُونِيَة "وضبط اسمها بقاف مفتوح، وصاد مهمل مسكن وطاء مهمل مفتوح وميم مضمومة وواو ونون مكسورة وياء آخر الحروف"، وهي أعظم المدن وأحسنها كثيرة الخيرات رخيصة الأسعار نزلنا منها بزاوية شيخ يعرف بالأطروش لثقل سمعه ورأيت منه عجباً وهو أن أحد الطلبة كان يكتب له في الهواء وتارة ف الأرض بأصبعه فيفهم عنه ويجيبه ويحكي له بذلك الحكايات فيفهمها وأقمنا بهذه المدينة نحو أربعين يوماً فكنا نشتري طابق اللحم الغنمي السمين بدرهمين ونشتري خبزاً بدرهمين فيكفينا ليومنا ونحن عشرة ونشتري حلواء العسل بدرهمين فتكفينا أجمعين ونشتري جوزاً بدرهم وقشطلاً بمثله فنأكل منها أجمعون ويفضل باقيها ونشتري حمل الحطب بدرهم واحد وذلك أوان البرد الشديد ولم أر في البلاد مدينة أرخص أسعاراً منها. ولقيت بها الشيخ الإمام العالم المفتي