الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والصين، ويجعل عليه الماء ويشرب ماؤه. وهو أيام كونه أخضر حلو، فإذا يبس صار فيه يسير حموضة ولحميته كثيرة. ولم أر مثله بالأندلس ولا بالمغرب ولا بالشام.
ثم سرنا في بساتين متصلة وأنهار وأشجار وعمارة يوما كاملاً، ووصلنا إلى مدينة بخارى التي ينسب إليها إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. وهذه المدينة كانت قاعدة ما وراء نهر جيحون من البلاد وخربها اللعين تنكيز التتري، جد ملوك العراق. فمساجدها الآن ومدارسها وأسواقها خربة إلا القليل وأهلها أذلاء وشهادتهم لا تقبل بخوارزم وغيرها لاشتهارهم بالتعصب ودعوى الباطل وإنكار الحق. وليس بها اليوم من الناس من يعلم شيئا من العلم ولا من له عنايتة به.
غزو التتر لبخارى وتخريبهم لها ولِسواها:
كان تنكيز خان حداداً بأرض الخطا وكان له كرم نفس وقوة وبسطة في الجسم وكان يجمع الناس ويطعمهم ثم صارت له جماعة فقدّموه على أنفسهم وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته واستفحل أمره فغلب على ملك الخطا ثم على ملك الصين. وعظمت جيوشه وتغلّب على بلاد الختن وكاشغر والمالق. وكان جلال الدين سنجر بن خوارزوم شاه ملك خوارزم وخراسان وبلاد ما وراء النهر له قوة عظيمة وشوكة فهابه تنكيز وأحجم عنه ولم يتعرض له. فاتفق أن بعث تنكيز تجاراً بأمتعة الصين والخطا من الثياب الحريرية وسواها إلى بلدة أُطرار "بضم الهمزة" وهي آخر عمالة جلال الدين. فبعث إليه عامله عليها معلماً بذلك، واستأذنه ما يفعل في أمرهم، فكتب إليه يأمره أن يأخذ أموالهم ويمثل بهم ويقطع أعضاءهم ويردهم إلى بلادهم لما أراد الله تعالى من شقاء أهل بلاد المشرق ومحنتهم رأياً فائلاً وتدبيراً سيئاً مشئوماً، فلما فعل ذلك تجهز تنكيز بنفسه في عساكر لا تحصى كثرة برسم غزو بلاد الإسلام. فلما سمع عامل أطرار بحركته بعث الجواسيس ليأتوا بخبره فذكر أن أحدهم دخل محلة بعض أمراء تنكيز في صورة سائل فلم يجد من يطعمه ونزل إلى جانب رجل منهم فلم ير عنده زاداً ولا أطعمه شيئاً فلما أمسى أخرج مطراناً يابسة عنده فبلّها بالماء وفصد فرسه وملأها بدمه وعقدها وشواها بالنار فكانت طعامه
فعاد إلى أطرار فأخبر عاملهم بأمرهم وأعلمه أن لا طاقة لأحد بقتالهم فاستمد مليكه جلال الدين فمده بستين ألفاً زيادة على ما كان عنده من العساكر فلما وقع القتال هزمهم تنكيز ودخل مدينة أطرار بالسيف فقتل الرجال وسبى الذراري وأتى جلال الدين بنفسه لمحاربته فكانت بينهم وقائع لا يعلم في الإسلام مثلها وآل الأمر إلى أن تملك تنكيز ما وراء النهر وخرب بخارى وسمرقند وترمذ وعبر النهر وهو نهر جيحون إلى مدينة بلخ فتملكها ثم إلى الياميان "الباميان" فتملكها وأوغل في بلاد خراسان وعراق العجم فثار عليه المسلمون في بلخ وفي ما وراء النهر فكر عليهم ودخل بلخ بالسيف وتركها خاوية على عروشها.
ثم فعل مثل ذلك في ترمذ فخربت ولم تعمر بعد لكن بنيت مدينة على ميلين منها هي التي تسمى اليوم ترمذ وقتل أهل الياميان "الباميان" وهدمها بأسرها إلا صومعة جامعة وعفا عن أهل بخارى وسمرقند ثم عاد بعد ذلك إلى العراق وانتهى أمر التتر حتى دخلوا حضرة الإسلام ودار الخلافة بغداد بالسيف وذبحوا الخليفة المستعصم بالله العباسي رحمه الله.
قال ابن جزي: أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات ابن الحاج أعزّه الله قال: سمعت الخطيب أبا عبد الله بن رشيد يقول: لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق، ومعه ابن أخ له، فتفاوضنا الحديث، فقال لي: هلك في فتنة التتر بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبق منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه.
قال: ونزلنا من بخارى بربضها المعروف بفتح أباد حيث قبر الشيخ العالم العابد الزاهد سيف الدين الباخرزي وكان من كبار الأولياء وهذه الزاوية المنسوبة لهذا الشيخ حيث نزلنا عظيمة لها أوقاف ضخمة يطعم منها الوارد والصادر، شيخها من ذريته وهو الحاج السياح يحيى الباخرزي وأضافني هذا الشيخ بداره وجمع وجوه أهل المدينة وقرأ القراء بالأصوات الحسان ووعظ الواعظ وغنوا بالتركي والفارسي على طريقة حسنة. ومرت لنا هنالك ليلة بديعة من أعجب الليالي، ولقيت بها الفقيه العالم الفاضل صدر الشريعة، وكان قد قدم من هراة وهو من الصلحاء الفضلاء. وزرت ببخارى قبر الإمام العالم أبي عبد الله البخاري مصنف الجامع الصحيح شيخ المسلمين رضي الله عنه، وعليه
مكتوب هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري وقد صنف من الكتب كذا وكذا. وأيضا على قبور علماء بخارى أسماؤهم وأسماء تصانيفهم وكنت قيدت من ذلك كثيراً وضاع في جملة ما ضاع لي لما سلبني كفار الهند في البحر.
ثم سافرنا من بخارى قاصدين معسكر السلطان الصالح المعظم علاء الدين طرمشرين، وسنذكره. فمررنا على نخشب البلدة التي ينسب إليها الشيخ أبو تراب النخشي. وهي صغيرة تحف بها البساتين والمياه. فنزلنا بخارجها بدار لأمير ها وعندي جارية قد قاربت الولادة وكنت أردت حملها إلى سمرقند لتلد بها فاتفق أنها كانت في المحمل فوضع الحمل وسافر أصحابنا من الليل وهي معهم والزاد وغيره من أسبابي وأقمت أنا حتى أرتحل نهاراً مع بعض من معي فسلكوا طريقا وسلكت طريقا سواها. فوصلنا عشية النهار إلى محلة السلطان المذكور وقد جعنا فنزلنا على بعد من السوق واشترى بعض أصحابنا ما سد جوعنا وأعارنا بعض التجار خباء بتنا به تلك الليلة ومضى أصحابنا من الغد في البحث عن الجمال وباقي الأصحاب فوجدوهم عشيا وجاؤا بهم وكان السلطان غائباً عن المحلة في الصيد فاجتمعت بنائبه الأمير تقبغا فأنزلني بقرب مسجده وأعطاني خرقة "خركاه" وهي شبه الخباء وقد ذكرنا صفتها فيما تقدم فجعلت الجارية في تلك الخرقة فولدت تلك الليلة مولوداً وأخبروني أنه ولد ذكر ولم يكن كذلك فلما كان بعد العقيقة أخبرني بعض الأصحاب أن المولود بنت فاستحضرت الجواري فسألتهن فأخبروني بذلك وكانت هذه البنت مولودة في طالع سعد فرأيت كل ما يسرني ويرضيني منذ ولدت وتوفيت بعد وصولي إلى الهند بشهرين وسنذكر ذلك. واجتمعت بهذا المحلة بالشيخ الفقيه العابد مولانا حسام الدين الياغي "بالياء آخر الحروف والغين المعجمة"، ومعناه بالتركية الثائر. وهو من أهل أطرار وبالشيخ صهر السلطان.
وكان سلطان ما وراء النهر هو السلطان المعظم علاء الدين طَرْمَشِيرِين "وضبط اسمه بفتح الطاء المهمل وسكون الراء وفتح الميم وكسر الشين المعجم وياء مد وراء مكسور وياء مد ثانية ونون" وهو عظيم المقدار كثير الجيوش والعساكر ضخم المملكة شديد القوة عادل الحكم وبلاده متوسطة بين أربعة من
ملوك الدنيا الكبار وهم ملك الصين وملك الهند وملك العراق وملك أوزبك. وكلهم يهابونه ويعظمونه ويكرمونه وولي الملك بعد أخيه الجكطي "وضبط اسمه بفتح الجيم المعقود له الكاف والطاء المهمل وسكون الياء". وكان الجكطي هذا كافراً، وولي بعد أخيه الأكبر كبك وكان هذا كافراً أيضاً، لكنه كان عادل الحكم منصفاً للمظلومين يكرم المسلمين ويعظمهم.
وروي أن هذا الملك كبك كان تكلم يوماً مع الفقيه الواعظ المذكور بدر الدين الميداني فقال له: أنت تقول أن الله ذكر كل شيء في كتابه العزيز. قال: نعم. فقال: أين اسمي فيه؟ فقال هو في قوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} . فأعجبه ذلك. وقال: يخشى، ومعناه بالتركية جيد. فأكرمه كثيراً وزاد في تعظيم المسلمين.
ومن أحكام كبك ما ذكر أن امرأة شكت له بأحد الأمراء، وذكرت أنها فقيرة ذات أولاد. وكان لها لبن تقوتهم بثمنه. فاغتصبه ذلك الأمير وشربه. فقال أنا أوسطه فإن خرج اللبن من جوفه مضى لسبيله. وإلا وسطتك بعده فقالت المرأة حللته ولا أطلبه بشيء. فأمر به فوسط فخرج اللبن من بطنه. ولنعد لذكر السلطان طرمشيرين. ولما أقمت بالمحلة، وهم يسمونها الأردو أياماً، ذهبت لصلاة الصبح بالمسجد على عادتي فلما صليت ذكر لي بعض الناس أن السلطان بالمسجد فلما قام عن الصلاة تقدمت للسلام عليه وقام الشيخ حسن والفقيه حسام الدين الياغي وأعلمه بحالي وقدومي منذ أيام فقال لي بالتركية: خش ميسن يخشي ميسن قطلوا يوسن، ومعنى خش ميسن في عافية أنت ومعنى يخش ميسن جيد أنت ومعنى قطلوا ميسن مبارك قدومك. وكان عليه في ذلك الحين قباء قدسي أخضر، وعلى رأسه شاشية مثله ثم انصرف إلى مجلسه راجلاً والناس يتعرضون له بالشكايات فيقف لكل مشتك منهم صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثىً. ثم بعث إلي فوصلت إليه وهو في خرقة والناس خارجها ميمنة وميسرة والأمراء منهم على الكراسي وأصحابه وقوف على رؤوسهم وبين أيديهم وسائر الجند قد جلسوا صفوفاً وأمام كل واحد منهم سلاحه وهم أهل النوبة يقعدون هنالك إلى العصر ويأتي آخرون فيقعدون إلى آخر الليل وقد صنعت هنالك سقائف من ثياب القطن يكونون بها. ولما دخلت إلى الملك بداخل الخرقة وجدته جالساً على كرسي شبه المنبر مكسو بالحرير
المزركش بالذهب وداخل الخرقة ملبس بثياب الحرير المذهب والتاج المرصع بالجوهر والياقوت معلق فوق رأس السلطان بينه وبين رأسه قدر ذراع. والأمراء الكبار على الكراسي عن يمينه ويساره وأولاده الملوك بأيديهم المذاب بين يديه وعند باب الخرقة النائب والوزير والحاجب وصاحب العلامة وهم يسمون آل طَمْغَى وآل "بفتح الهمزة" معناه الأحمر، وطَمْغَى "بفتح الطاء المهمل وسكون الميم والغين المعجم المفتوح" معناه العلامة. وقام إلي أربعتهم حين دخولي ودخلوا معي فسلمت عليه وسألني وصاحب العلامة يترجم بيني وبينه عن مكة والمدينة والقدس شرفها الله وعن مدينة الخليل عليه السلام وعن دمشق ومصر والملك الناصر وعن العراقين وملكها وبلاد الأعاجم. ثم أذن المؤذن بالظهر فانصرفنا وكنا نحضر معه الصلوات وذلك أيام البرد الشديد المهلك فكان لا يترك صلاة الصبح والعشاء في الجماعة ويقعد للذكر بالتركية بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس ويأتي إليه كل من في المسجد فيصافحه ويشد بيده على يده وكذلك يفعلون في صلاة العصر وكان إذا أوتي بهدية من زبيب أو تمر والتمر عزيز عندهم يتبركون به يعطي منها بيده لكل من في المسجد.
ومن فضائل هذا الملك أنه حضرت صلاة العصر يوماً، ولم يحضر السلطان. فجاء أحد فتيانه بسجادة ووضعها قبالة المحراب حيث جرت عادته أن يصلي وقال للإمام حسام الدين الياغي أن مولانا يريد أن تنتظر قليلاً ريثما يتوضأ، فقام الإمام المذكور وقال: نماز، ومعناه الصلاة براي حد أو براي طرمشيرين، أي الصلاة لله أو لطرمشيرين. ثم أمر المؤذن بإقامة الصلاة وقد جاء السلطان وقد صلى منها ركعتان فصلى الركعتين الأخيرتين حيث انتهى به القيام وذلك في المواضع الذي تكون فيه أنعلة الناس عند باب المسجد وقضى ما فاته وقام إلى الإمام ليصافحه وهو يضحك وجلس قبالة للمحراب. والشيخ الإمام إلى جانبه وأنا إلى جانب الإمام فقال لي إذا مشيت إلى بلادك فحدّث أن فقيراً من فقراء الأعاجم يفعل هكذا مع سلطان الترك. وكان هذا الشيخ يعظ الناس في كل جمعة ويأمر السلطان بالمعروف وينهاه عن المنكر وعن الظلم ويغلظ عليه القول والسلطان ينصت لكلامه ويبكي. وكان لا يقبل من عطاء السلطان شيئاً ولم يأكل قط من طعامه ولا لبس من ثيابه.
وكان هذا الشيخ من عباد الله الصالحين وكنت كثيراً ما أرى عليه قباء قطن مبطن بالقطن محشو به وقد بلي وتمزق وعلى رأسه قلنسوة لبد يساوي مثلها قيراطاً ولا عمامة عليه فقلت له في بعض الأيام يا سيدي ما هذا القباء الذي أنت لابسه إنه ليس بجيد فقال لي يا ولدي ليس هذا القباء لي وإنما هو لابنتي فرغبت منه أن يأخذ بعض يثابي فقال لي عاهدت الله منذ خمسين سنة أن لا أقبل من أحد شيئا ولو كنت أقبل من أحد لقبلت منك. ولما عزمت على السفر بعد مقامي عند هذا السلطان أربعة وخمسين يوماً أعطاني السلطان سبعمائة دينار دراهم وفروة سمور تساوي مائة دينار طلبتها منه لأجل البرد ولما ذكرتها له أخذ أكمامي وجعل يقلبهما بيده تواضعاً منه وفضلاً وحسن خلق وأعطاني فرسين وجملين. ولما أردت وداعه أدركته في أثناء طريقه إلى متصيده وكان اليوم شديد البرد جدّاً فوالله ما قدرت على أن أنطق بكلمة لشدة البرد ففهم ذلك وضحك وأعطاني يده وانصرفت. وبعد سنتين من وصولي إلى أرض الهند بلغنا الخبر بأن الملأ من قومه وأمرائه اجتمعوا بأقصى بلاده المجاورة للصين وهنالك معظم عساكره وبايعو ابن عم له اسمه بُوزُن أُغْلِي وكل من كان من أبناء الملوك فهم يسمونه أُغلي "بضم الهمزة وسكون الغين المعجمة وكسر اللام" وَبُوزُن "بضم الياء الموحدة وضم الزاي" وكان مسلماً إلا أنه فاسد الدين سيء السيرة وسبب بيعتهم له وخلعهم لطرمشيرين أن طرمشيرين خالف أحكام جده تنكيز اللعين الذي خرب بلاد الإسلام، وقد تقدم ذكره. وكان تنكيز ألّف كتاباً في أحكامه يسمى عندهم اليساق "بفتح الياء آخر الحروف والسين المهمل وآخره قاف"، وعندهم أنه من خالف أحكام هذا الكتاب فخلعه واجب ومن جملة أحكامه أنهم يجتمعون يوماً في السنة يسمونه الطوى ومعناه يوم الضيافة ويأتي أولاد تنكيز والأمراء من أطراف البلاد ويحضر الخواتين وكبار الأجناد وإن كان سلطانهم قد غيّر شيئا من تلك الأحكام يقوم إليه كبراؤهم فيقولون له غيّرت كذا وغيّرت كذا وفعلت كذا وقد وجب خلعك ويأخذون بيده ويقيمونه عن سرير الملك ويقعدون غيره من أبناء تنكيز وإن كان أحد الأمراء الكبار أذنب ذنباً في بلاده حكموا عليه بما يستحقه. وكان السلطان طرمشيرين قد أبطل حكم هذا اليوم ومحا رسمه فأنكروه عليه أشد الإنكار وأنكروا عليه أيضاً كونه أقام أربع سنين فيما يلي خراسان من بلاده ولم يصل إلى الجهة التي توالي الصين. والعادة أن الملك يقصد تلك الجهة في
كل سنة. فيتغير أحوالها وحال الجند بها لأن أصل ملكهم منها. ودار الملك وهي مدينة المالق. فلما بايعوا بُوزُن أتى في عسكر عظيم وخاف طرمشيرين على نفسه من أمرائه ولم يأمنهم فركب في خمسة عشر فارساً يريد بلاد غزنة وهي من عمالته وواليها كبير أمرائه وصاحب سره برنطيه، وهذا الأمير محب في الإسلام والمسلمين وقد عمر في عمالته نحو أربعين زاوية فيها الطعام للوارد والصادر وتحت يده العساكر العظيمة ولم أر قط فيمن رأيته من الآدمين بجميع بلاد الدنيا أعظم خلقة منه فلما عبر نهر جيحون وقصد طريق بلخ رآه بعض الأتراك من أصحاب ينقي ابن أخيه كبك. وكان السلطان طرمشيرين المذكور قتل أخاه كبك المذكور وبقي ابنه ينقي ببلخ فلما أعلمه التركي بخبره قال ما فر إلا لأمر حدث عليه فركب في أصحابه وقبض عليه وسجنه ووصل بُوزُن إلى سمرقند وبخارى فبايعه الناس وجاء ينقي بطرمشيرين، فيذكر أنه لما وصل إلى نسف، بخارج سمرقند قتل هنالك ودفن بها وخدم تربته الشيخ شمس الدين كُرْدَن بريدا. وقيل: أنه لم يقتل كما سنذكره. وكُرْدَن "بكاف معقودة وراء مسكن ودال مهمل مفتوح ونون" معناه العنق وبُريدا "بضم الباء الموحدة وكسر الراء وياء مد ودال مهمل" معناه المقطوع ويسمى بذلك لضربة كانت بعنقه. وقد رأيته بأرض الهند ويقع ذكره فيما بعد. ولما ملك بُوزُن هرب ابن السلطان طرمشيرين وهو بشاى أغل "أغلي" وأخته وزوجها فيروز إلى ملك الهند فعظمه وأنزلهم منزلة علية بسبب ما كان بينه وبين طرمشيرين من الود والمكاتبة والمهاداة وكان يخاطبه بالأخ. ثم بعد ذلك أتى رجل من أرض السند وادعى أنه هو طرمشيرين واختلف الناس فيه فسمع بذلك عماد الملك سرتيز غلام ملك الهند ووالي بلاد السند ويسمى ملك عرض وهو الذي تعرض بين يديه عساكر الهند وإليه أمرها ومقره بملتان قاعدة السند فبعث إليه بعض الأتراك العارفين به فعادوا إليه وأخبروه أنه هو طرمشيرين حقاً فأمر له بالسراجة وهي أفراج تضرب خارج المدينة ورتب له مايرتب لمثله وخرج لاستقباله وترجل له وسلم عليه وأتى في خدمته إلى السراجة فدخلها راكباً كعادة الملوك ولم يشك أحد أنه هو، وبعث إلى ملك الهند يخبره فبعث إليه الأمراء يستقبلونه بالضيافات وكان في خدمة ملك الهند حكيم ممن خدم طرمشيرين فيما تقدم وهو كبير الحكماء بالهند فقال للملك أنا أتوجه إليه وأعرف حقيقة أمره فإني كنت
عالجت له دملاً كان تحت ركبته وبقي أثره وبه أعرفه فأتى إليه ذلك الحكيم واستقبله مع الأمراء ودخل عليه ولازمه لسابقته عنده وأخذ يغمز رجليه وكشف عن الأثر فشتمه وقال له تريد أن تنظر إلى الدم الذي عالجته؟ ها هو ذا وأراه أثره فتحقق أنه هو، وعاد إلى ملك الهند فأعلمه بذلك ثم أن الوزير خواجه جهان أحمد بن إياس وكبير الأمراء قطلوخان معلم السلطان أيام صغره دخلا على ملك الهند وقالا له يا خوند عالم هذا السلطان طرمشيرين قد وصل وصحّ أنه هو وها هنا من قومه نحو أربعين ألفاً وولده وصهره أرأيت أن اجتمعوا عليه ما يكون من العمل؟ فوقع هذا الكلام بموقع منه عظيم وأمر أن يؤتى بطرمشيرن معجلاً. فلما دخل عليه أمر بالخدمة كسائر الواردين ولم يعظم وقال له السلطان: يا مادر كاني، وهي شتمة قبيحة، كيف تكذب وتقول إنك طرمشيرين، وطرمشيرين قد قتل وهذا خادم تربته عندنا والله لولا المعرة لقتلتك ولكن أعطوه خمسة آلاف دينار، واذهبوا به إلى دار بشاي أغلي وأخته ولدي طرمشيرن وقولوا لهم أن هذا الكاذب يزعم أنه والدكم فدخل عليهم فعرفوه وبات عندهم والحراس يحرسونه وأخرج بالغد وخافوا أن يهلكوا بسببه فأنكروه.
ونفي عن بلاد الهند والسند فسلك طريق كبج ومكران وأهل البلاد يكرمونه ويضيفونه ويهادونه ووصل إلى شيراز فأكرمه سلطانها أبو إسحق وأجرى له كفايته ولما دخلت عند وصولي من الهند إلى مدينة شيراز ذكر لي أنه باق بها وأردت لقاءه ولم أفعل لأنه كان في دار لا يدخل إليه أحد إلا بإذن من السلطان أبي إسحق فخفت مما يتوقع بسبب ذلك ثم ندمت على لقائه.
رجع الحديث إلى بوزن: وذلك أنه لما ملك، ضيق على المسلمين وظلم الرعية وأباح للنصارى واليهود عمارة كنائسهم فضج المسلمون من ذلك وتربصوا به الدوائر واتصل خبره بخليل بن السلطان اليسور المهزوم على خراسان، فقصد ملك هراة، وهو السلطان حسين بن السلطان غياث الدين الغوري فأعلمه بما كان في نفسه وسأل منه الإعانة بالعساكر والمال على أن يشاطره الملك إذا استقام فبعث معه الملك حسين عسكراً عظيماً. وبين هراة وترمذ تسعة أيام. فلما سمع أمراء السلطان بقدوم خليل تلقوه بالسمع والطاعة
والرغبة في جهاد العدو. وكان أول قادم عليه علاء الملك خداونة زاده صاحب ترمذ وهو أمير كبير شريف حسيني النسب فأتاه في أربعة آلاف من المسلمين فسر به وولاه وزارته وفوض إليه أمره وكان من الأبطال وجاء الأمراء من كل ناحية واجتمعوا على خليل والتقى مع بُوزُن فمالت العساكر إلى خليل وأسلموا بُوزُن وأتوا به أسيراً فقتله خنقاً وبأوتار القسي وتلك عادة لهم أنهم لا يقتلون من كان من أبناء الملوك إلا خنقاً. واستقام الملك لخليل وعرض عساكره بسمرقند فكانوا ثمانين ألفاً عليهم وعلى خيلهم الدروع فصرف العسكر الذي جاء به من هراة وقصد بلاد المالق فقدم التتر على أنفسهم واحداً منهم ولاقوه على مسيرة ثلاث من المالق بمقربة من أطرار "طرار"، وحمى القتال وصبر الفريقان فحمل الأمير خداوند زاده وزيره في عشرين ألف من المسلمين حملة ولم يثبت لها التتر فانهزموا واشتد فيهم القتل وأقام خليل بالمالق ثلاثاً وخرج إلى استئصال من بقي من التتر فأذعنوا له بالطاعة وجاز إلى تخوم الخطا والصين، وفتح مدينة قراقرم ومدينة بش بالغ. وبعث إليه سلطان الخطا بالعساكر ثم وقع بينهما الصلح وعظم أمر خليل وهابته الملوك وأظهر العدل ورتب العساكر بالمالق وترك بها وزيره خداونده وانصرف إلى سمرقند وبخارى. ثم أن الترك أرادوا الفتنة فسعوا إلى خليل بوزيره المذكور وزعموا أنه يريد الثورة ويقول أنه أحق بالملك لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم وكرمه وشجاعته فبعث والياً إلى المالق عوضاً عنه وأمره أن يقدم عليه في نفر يسير من أصحابه فلما قدم عليه قتله عند وصوله من غير تثبت. فكان الملك سبب خراب ملكه. وكان خليل لما عظم أمره بغى على صاحب هراة الذي أورثه الملك وجهزه بالعساكر والمال فكتب إليه أن يخطب في بلاده باسمه ويضرب الدنانير والدراهم على سكته، فغاظ ذلك الملك حسيناً، وأنف منه وأجابه بأقبح جواب فتجهز خليل لقتاله فلم توافقه عساكر الإسلام ورأوه باغياً عليه وبلغ خبره إلى الملك حسين فجهز العساكر مع ابن عمه ملك ورنا، والتقى الجمعان فانهزم خليل وأتى به إلى الملك حسين أسيراً فمنّ عليه بالبقاء وجعله في دار وأعطاه جارية وأجرى عليه النفقة. وعلى هذا الحال تركته عنده في أواخر سنة سبع وأربعين عند خروجي من الهند.
ولنعد إلى ما كنا بسبيله: ولما ودعت السلطان طرمشيرين سافرت إلى
مدينة سمرقند. وهي من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالاً مبنية على شاطيء واد يعرف بوادي القصارين عليه النواعير تسقي البساتين وعنده يجتمع أهل البلد بعد صلاة العصر للنزهة والتفرج ولهم عليه مساطب ومجالس يقعدون عليها ودكاكين تباع بها الفاكهة وسائر المأكولات، وكانت على شاطئه قصور عظيمة وعمارة تنبيء عن علو همم أهلها فدثر أكثر ذلك وكذلك المدينة خرب كثير منها ولا سور لها ولا أبواب عليها وفي داخلها البساتين وأهل سمرقند لهم مكارم أخلاق ومحبة في الغريب وهم خير من أهل بخارى. وبخارج سمرقند قبر قثم بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وعن العباس وعن ابنه وهو المستشهد حين فتحها ويخرج أهل سمرقند كل ليلة اثنين وجمعة إلى زيارته والتتر يأتون لزيارته وينذرون له النذور العظيمة ويأتون إليه بالبقر والغنم والدراهم والدنانير فيصرف ذلك في النفقة على الوارد والصادر ولخدام الزاوية والقبر المبارك. وعليه قبة قائمة على أربع أرجل ومع كل رجل ساريتان من الرخام منها الخضر والسود والبيض والحمر وحيطان القبة بالرخام المجزع المنقوش بالذهب وسقفها مصنوع بالرصاص وعلى القبر خشب الأبنوس المرصع مكسو الأركان بالفضة وفوقه ثلاثة من قناديل الفضة وفرش القبة بالصوف والقطن وخارجها نهر كبير يشق الزاوية التي هنالك على حافتيه الأشجار ودوالي العنب والياسمين وبالزاوية مساكن يسكنها الوارد والصادر ولم يغير التتر أيام كفرهم شيئاً من حال هذا الموضع المبارك وكانوا يتبركون به لما يرون به من الآيات وكان الناظر في كل حال من هذا الضريح المبارك وما يليه حين نزولنا به الأمير غياث الدين محمد بن عبد القادر بن عبد العزيز بن يوسف الخليفة المستنصر بالله العباسي قدمه لذلك السلطان طرمشيرين لما قدم عليه من العراق وهو الآن عند ملك الهند وسيأتي ذكره. ولقيت بسمرقند قاضيها المسمى عندهم صدر الجهان وهو من الفضلاء ذوي المكارم وسافر إلى بلاد الهند بعد سفري إليها فأدركته منيته بمدينة ملتان قاعدة بلاد السند.
وحين مات هذا القاضي بملتان كتب صاحب الخبر بأمره إلى ملك الهند، وأنه قدم برسم بابه فاخترم دون ذلك فلما بلغ الخبر الملك أمر أن يبعث إلى أولاده عدد من آلاف الدنانير لا أذكره الآن. وأمر أن يعطى لأصحابه ما كان يعطى لهم لو وصلوا معه وهو بقيد الحياة. ولملك الهند في كل بلد من
بلاده صاحب الخبر يكتب له ما يجري في ذلك البلد من الأمور وممن يرد عليه من الواردين وإذا أتى الوارد كتبوا من أي البلاد ورد وكتبوا اسمه ونعته وثيابه وأصحابه وخيله وخدامه وهيئته من الجلوس والمأكل وجميع شئونه وتصرفاته وما يظهر منه من فضيلة أو ضدها فلا يصل الوارد إلى الملك إلا وهو عارف بجميع حاله فتكون كرامته على مقدار ما يستحقه. وسافرنا من سمرقند فاجتزنا ببلدة نسف وإليها ينسب أبو حفص عمر النسفي مؤلف كتاب المنظومة في المسائل الخلافيه بين الفقهاء الأربعة رضي الله عنهم. ثم وصلنا إلى مدينة ترمذ التي ينسب إليها الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي مؤلف الجامع الكبير في السنن، وهي مدينة كبيرة حسنة العمارة والأسواق تخترقها الأنهار وبها البساتين الكبيرة والعنب والسفرجل بها متناهي الطيب واللحوم بها كثيرة وكذلك الألبان وأهلها يغسلون رؤوسهم في الحمام باللبن عوضاً عن الطفل ويكون عند كل صاحب حمام أوعية كبار مملوءة لبناً فإذا دخل الرجل الحمام أخذ منها في إناء صغير فغسل رأسه وهو يرطب الشعر ويصقله. وأهل الهند يجعلون في رؤوسهم زيت السمسم ويسمونه الشيرج ويغسلون الشعر بعده بالطفل فينعم الجسم ويصقل الشعر ويطيله وبذلك طالت لحا أهل الهند ومن سكن معهم، وكانت مدينة ترمذ القديمة مبنية على شاطيء جيحون فلما خربها تنكيز بنيت هذه الحديثة على ميلين من النهر وكان نزولنا بها بزاوية الشيخ الصالح عزيزان من كبار المشايخ وكرمائهم كثير المال والرباع والبساتين ينفق على الوارد والصادر من ماله واجتمعت قبل وصولي إلى هذه المدينة بصاحبها علاء الملك خداوند زاده وكتب لي إليها بالضيافة فكانت تحمل إلينا أيام مقامنا بها في كل يوم ولقيت أيضاً قاضيها قوام الدين وهو متوجه لرؤية السلطان طرمشيرين وطالب للإذن له في السفر إلى بلاد الهند وسيأتي ذكر لقائي له بعد ذلك ولأخويه ضياء الدين وبرهان الدين بملتان وسافرنا جميعا إلى الهند وذكر أخويه الآخرين عماد الدين وسيف الدين ولقائي لهما بحضرة ملك الهند وذكر ولديه وقدومهما على ملك الهند بعد قتل أبيهما وتزويجهما بنتي الوزير خواجة جهان وما جرى في ذلك كله أن شاء الله تعالى. ثم جزنا نهر جيحون إلى بلاد خراسان وسرنا بعد انصرافنا من ترمذ وإجازة الوادي يوماً ونصف يوم في صحراء ورمال لا عمارة بها إلى مدينة بلخ وهي خاوية على عروشها غير عامرة ومن رآها ظنها عامرة لإتقان
بنائها وكانت ضخمة فسيحة ومساجدها ومدارسها باقية الرسوم حتى الآن ونقوش مبانيها مدخلة بأصبغة اللازورد والناس ينسبون اللازورد إلى خراسان وإنما يجلب من جبال بدخشان التي ينسب إليها الياقوت البدخشي والعامة يقولون البلخش وسيأتي ذكرها أن شاء الله تعالى، وخرب هذه المدينة تنكيز اللعين وهدم من مسجدها نحو الثلث بسبب كنز ذكر أنه تحت سارية من سواريه وهو من أحسن مساجد الدنيا وأفسحها ومسجد رباط الفتح بالمغرب يشبهه في عظم سواريه، ومسجد بلخ أجمل منه في سوى ذلك.
وذكر لي بعض أهل التاريخ أن مسجد بلخ بنته امرأة كان زوجها أمير اً ببلخ لبني العباس يسمى داود بن علي فاتفق أهل الخليفة غضب مرة على أهل بلخ لحادث أحدثوه فبعث إليهم من يغرمهم مغرماً فادحاً فلما بلغ إلى بلخ أتى نساءها وصبيانها إلى تلك المرأة التي بنت المسجد وهي زوج أمير هم وشكوا حالهم وما لحقهم من هذا المغرم فبعثت إلى الأمير الذي قدم برسم تغريمهم بثوب لها مرصع بالجواهر قيمته أكثر مما أمر بتغريمه فقالت له اذهب بهذا الثوب إلى الخليفة فقد أعطيته صدقة عن أهل بلخ لضعف حالهم فذهب به إلى الخليفة وألقى الثوب بين يديه وقص عليه القصة فخجل الخليفة وقال أتكون المرأة أكرم منا؟ وأمره برفع المغرم عن أهل بلخ وبالعودة إليها ليرد للمرأة ثوبها وأسقط عن أهل بلخ خراج سنة. فعاد الأمير إلى بلخ وأتى المرأة وقص عليها مقالة الخليفة ورد عليها الثوب. فقالت له: أوقع بصر الخليفة على هذا الثوب؟ قال: نعم. قالت: لا ألبس ثوباً وقع عليه بصر غير ذي محرم مني. وأمرت ببيعه فبنى منه المسجد والزاوية ورباط في مقابلته مبني بالكذان1 وهو عامر حتى الآن وفضل من ثمن الثوب مقدار ثلثه فذكر أنها أمرت بدفنه تحت بعض سواري المسجد ليكون هنالك متيسرا أن احتيج إليه أخرج، فأخبر تكنيز بهذه الحكاية فأمر بهدم سواري المسجد فهدم منها نحو الثلث ولم يجد شيئا فترك الباقي على حاله. وبخارج بلخ قبر يذكر أنه قبر عكاشة بن محصن الأسدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما الذي يدخل الجنة بلا حساب وعليه زاوية معظمة بها كان نزولنا، وبخارجها بركة ماء
1 الكذان: حجارة رخوة نخرة.
عجيبة عليها شجرة جوز عظيمة. ينزل الواردون في الصيف تحت ظلالها وشيخ هذه الزاوية يعرف بالحاج خرد وهو الصغير من الفضلاء وركب معنا وأرانا مزارات هذه المدينة منها قبر حزوقيل النبي عليه السلام وعليه قبة حسنة وزرنا بها أيضا قبوراً كثيرة من قبور الصالحين لا أذكرها الآن، ووقفنا على دار إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه وهي دار ضخمة مبنية بالصخر الأبيض الذي يشبه الكذان. وكان زرع الزاوية مقترن بها وقد سدت عليه فلم ندخلها وهي بمقربة من المسجد الجامع. ثم سافرنا من مدينة بلخ فسرنا في جبال قوة استان "قهستان" سبعة أيام. وهي قرى كثيرة عامرة بها المياه الجارية والأشجار المورقة وأكثرها شجر التين، وبها زوايا كثيرة فيها الصالحون المنقطعون إلى الله تعالى. وبعد ذلك كان وصولنا إلى مدينة هراة وهي أكبر المدن العامرة بخراسان ومدن خراسان العظيمة أربع: ثنتان عامرتان وهما هراة ونيسابور، وثنتان خربتان وهما بلخ ومور. ومدينة هراة عظيمة كثيرة العمارة ولأهلها صلاح وعفاف وديانة، وهم على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وبلدهم طاهر من الفساد.
وكان سلطان هراة هو السلطان المعظم حسين بن السلطان غياث الدين الغوري صاحب الشجاعة المأثورة. والتأييد والشجاعة ظهر له إنجاد الله تعالى وتأييده في موطنين اثنين ما يقضى منه العجب إحداهما: عند ملاقاة جيشه للسلطان خليل الذي بغى عليه وكان منتهى أمره حصوله أسيراً في يديه، والموطن الثاني: عند ملاقاته بنفسه لمسعود سلطان الرافضة. وكان منتهى أمره تبديده وفراره وذهاب ملكه. وولي السلطان حسين الملك بعد أخيه المعروف بالحافظ وولي بعد أبيه غياث الدين.
وكان بخراسان رجلان أحدهما يسمى بمسعود والآخر يسمى بمحمد وكان لهما خمسة من الأصحاب وهم من الفتاك ويعرفون بالعراق بالشطَّار ويعرفون بخراسان بسرابداران "سربداران" ويعرفون بالعراق بالصقور. فاتفق سبعتهم على الفساد وقطع الطرق وسلب الأموال وشاع خبرهم وسكنوا جبلاً منيعا بمقربة من مدينة بيهق وتسمى أيضا مدينة سيزار "سيزوار". فكانوا يكمنون بالنهار ويخرجون بالليل والعشى فيضربون على القرى ويقطعون الطرق ويأخذون الأموال وانثال عليهم أشباههم من أهل الشر والفساد، فكثر
عددهم واشتدت شوكتهم وهابهم الناس وضربوا على مدينة بيهق فملكوها ثم ملكوا سواها من المدن واكتسبوا الأموال وجندوا الجنود وركبوا الخيل وتسمى مسعود بالسلطان وصار العبيد يفرون عن مواليهم إليه فكل عبد فرّ منهم يعطيه الفرس والمال وإن ظهرت له شجاعة أمره على جماعة فعظم جيشه واستفحل أمره وتمذهب جميعهم بمذهب الرفض وطمحوا إلى استئصال أهل السنة بخراسان وأن يجعلوها كلمة واحدة رافضية وكان بمشهد طوس شيخ من الرافضة يسمى بحسن وهو عندهم من الصلحاء فوافقهم على ذلك وسموه بالخليفة وأمرهم بالعدل فأظهروه حتى كانت الدراهم والدنانير تسقط في معسكرهم فلا يلتقطها أحد حتى يأتي ربها فيأخذها وغلبوا على نيسابور وبعث إليهم السلطان طغيتمور بالعساكر فهزموه ثم بعث إليهم نائبه أرغون شاه فهزموه وأسروه ومنوا عليه ثم غزاهم طغيتمور بنفسه في خمسين ألفاً من التتر فهزموه وملكوا البلاد وتغلبوا على سرخس والزواة وطوس وهي من أعظم بلاد خراسان وجعلوا خليفتهم بمشهد علي بن موسى الرضى وتغلبوا على مدينة الجام ونزلوا بخارجها وهم قاصدون مدينة هراة وبينها وبينهم مسيرة ست فلما بلغ ذلك الملك حسيناً جمع الأمراء والعساكر وأهل المدينة واستشارهم هل يقيمون حتى يأتي القوم أو يمضوا إليهم فيناجزونهم فوقع إجماعهم على الخروج إليهم وهم قبيلة واحدة يسمون الغورية ويقال إنهم منسوبون إلى غور الشام وأن أصلهم منه فتجهزوا أجمعين واجتمعوا من أطراف البلاد وهم ساكنون بالقرى وبصحراء مرغيس "بدغيس" وهي مسيرة أربع لا يزال عشبها أخضر ترعى منه ماشيتهم وخيلهم وأكثر شجرها الفستق ومنها يحمل إلى أرض العراق وعضدهم أهل مدينة سمنان ونفروا جميعا إلى الرافضة وهم مائة وعشون ألفاً ما بين رجالة وفرسان ويقودهم الملك حسين. واجتمعت الرافضة في مائة وخمسين ألفاً من الفرسان وكانت الملاقاة بصحراء بوشنج وصبر الفريقان معاً ثم كانت الدائرة على الرافضة وفر سلطانهم مسعود وثبت خليفتهم حسن في عشرين ألفاً حتى قُتل وقتل أكثرهم وأسر منهم نحو أربعة آلاف. وذكر لي بعض من حضر هذه الوقعة أن ابتداء القتال كان في وقت الضحى وكانت الهزيمة عند الزوال ونزل الملك حسين بعد الظهر فصلّى وأتى بالطعام فكان هو وكبراء أصحابه يأكلون وسائرهم يضربون أعناق الأسرى. وعاد إلى حضرته بعد هذا الفتح
العظيم وقد نصر الله السنة على يديه وأطفأ نار الفتنة وكانت هذه الوقعة بعد خروجي من الهند عام ثمانية وأربعين. ونشأ بهراة رجل من الزهاد والصلحاء الفضلاء واسمه نظام الدين مولانا وكان أهل هراة يحبونه ويرجعون إلى قوله وكان يعظهم ويذكرهم وتوافقوا معه على تغيير المنكر وتعاقد معهم على ذلك خطيب المدينة المعروف بالملك ورنا وهو ابن عم الملك حسين ومتزوج بزوجة والده وهي من أحسن الناس صورة وسيرة. والملك يخافه على نفسه وسنذكر خبره. وكانوا متى علموا بمنكر ولو كان عند الملك غيّروه.
وعلمت أنهم تعرفوا يوماً أن بدار الملك حسين منكراً فاجتمعوا لتغييره وتحصن منهم بداخل داره فاجتمعوا على الباب في ستة آلاف رجل فخاف منهم. فاستحضر الفقيه وكبار البلد وكان قد شرب الخمر فأقاموا عليه الحد بداخل قصره، وانصرفوا عنه.
كانت الأتراك المجاورون لمدينة هراة الساكنون بالصحراء وملكهم غيتمور الذي مر ذكره وهم خمسين ألفاً يخافهم الملك حسين ويهدي لهم الهدايا في كل سنة ويداريهم وذلك قبل هزيمته للرافضة، وأما بعد هزيمته للرافضة تغلب عليهم. ومن عادة هؤلاء الأتراك التردد إلى مدينة هراة وربما شربوا بها الخمر وأتاها بعضهم وهو سكران. فكان نظام الدين يحد من وجد منهم سكراناً وهؤلاء الأتراك أهل نجدة وبأس ولا يزالون يضربون على بلاد الهند فيسبون ويقتلون وربما سبوا بعض المسلمات اللاتي يكن بأرض الهند ما بين الكفار فإذا خرجوا بهم إلى خراسان يطلق نظام الدين المسلمات من أيدي الترك وعلامة النسوة المسلمات بأرض الهند ترك ثقب الأذن والكافرات آذانهن مثقوبات، فاتفق مرة أن أمير اً من أمراء الترك يسمى تمور ألطي سبى امرأة وكلف بها شديداً، فذكرت أنها مسلمة، فانتزعها الفقيه من يده. فبلغ ذلك من التركي مبلغاً عظيماً وركب في آلاف من أصحابه وأغار على خيل هراة وهي في مرعاها بصحراء مرغيس "بدغيس"، واحتملوها. فلم يتركوا لأهل هراة ما يركبون ولا ما يحلبون وصعدوا بها إلى جبل هنالك لا يقدر عليهم فيه ولم يجد السلطان ولا جندة خيلاً يتبعونهم بها فبعث إليهم رسولاً يطلب منهم رد ما أخذون من الماشية والخيل ويذكرهم العهد الذي بينهم فأجابوا بأنهم لا يردون ذلك حتى يمكن من الفقيه نظام الدين، فقال السلطان: لا سبيل إلى هذا. وكان
الشيخ أبو أحمد الجستي حفيد الشيخ مودود الجستي له بخراسان شأن عظيم، وقوله معتبر لديهم فركب في جماعة خيل من أصحابه ومماليكه فقال أنا أحمل الفقيه نظام الدين معي إلى الترك ليرضُوا بذلك ثم أرده فكأن الناس مالوا إلى قوله ورأى الفقيه نظام الدين اتفاقهم على ذلك فركب مع الشيخ أبو أحمد ووصل إلى الترك فقام إليه الأمير تمور ألطي، وقال له: أنت أخذت امرأتي مني وضربه بدبوسه فكسر دماغه فخر ميتاً. فسقط في أيدي الشيخ أبي أحمد وانصرف من هنالك إلى بلده ورد الترك ما كانوا أخذوه من الخيل والماشية. وبعد مدة قدم ذلك التركي الذي قتل الفقيه على مدينة هراة فلقيه جماعة من أصحاب الفقيه فتقدموا إليه كأنهم مسلمون عليه وتحت ثيابهم السيوف فقتلوه وفر أصحابه، ولما كان بعد هذا بعث الملك حسين ابن عمه ملك ورنا الذي كان رفيق الفقيه نظام الدين في تغيير المنكر رسولاً إلى ملك سجستان فلما حصل بها بعث إليه أن يقيم هنالك ولا يعود إليه فقصد بلاد الهند ولقيته وأنا خارج منها بمدينة سيوستان من السند، وهو أحد الفضلاء، وفي طبعه حب الرياسة والصيد والبراز والخيل والمماليك والأصحاب واللباس الملوكي الفاخر ومن كان على هذا الترتيب فإنه لا يصلح حاله بأرض الهند فكان من أمره أن ملك الهند ولاّه بلداً صغيراً. وقتله به بعض أهل هراء المقيمين بالهند بسبب جارية. وقيل: أن ملك الهند دس عليه من قتله بسعي الملك حسين في ذلك ولأجله خدم الملك حسين ملك الهند بعد موت ملك ورنا المذكور، وهاداه ملك وأعطاه مدينة بكار من بلاد السند. ومجباها خمسون ألفاً من دنانير الذهب في كل سنة. "ولنعد إلى ما كنا بسبيله" سافرنا من هراة إلى مدينة الجام وهي متوسطة حسنة ذات بساتين وأشجار وعيون كثيرة وأنهار وأكثرها التوت والحرير بها كثير وهي تنسب إلى الولي العابد الزاهد شهاب الدين أحمد الجامي، وسنذكر حكايته، وحفيده الشيخ أحمد المعروف بزاده الذي قتله ملك الهند والمدينة الآن لأولاده وهي محررة من قبل السلطان ولهم بها نعمة وثروة. وذكر لي من أثق به أن السلطان أبا سعيد ملك العراق قدم خراسان مرة ونزل على هذه المدينة وبها زاوية الشيخ فأضافه ضيافة عظيمة وأعطى لكل خباء بمحلته رأس غنم ولكل أربعة رجال رأس غنم ولكل دابة بالمحلة من فرس أو بغل وحمار علف ليلة فلم يبقى في المحلة حيوان إلا وصلته ضيافة.
والشيخ شهاب الدين الذي تنسب إليه مدينة الجام يذكر أنه كان صاحب راحة مكثراً من الشراب وكان له من الندماء نحو ستين وكانت لهم عادة أن يجتمعوا يوماً في منزل كل واحد منهم فتدور النوبة على أحدهم بعد شهرين وبقوا على ذلك مدة. ثم أن النوبة وصلت يوماً الشيخ شهاب الدين فعقد التوبة تلك النوبة وعزم على إصلاح حاله مع ربه وقال في نفسه أن قلت لأصحابي إني قد تبت قبل اجتماعهم عندي ظنوا ذلك عجزاً عن مؤنتهم فأحضر ما كان يحضر مثله قبل من مأكولات ومشروبات وجعل الخمر في الزقاق وحضر أصحابه فلما أرادوا الشرب فتحوا زقاً فذاقه أحدهم فوجده حلواً، ثم فتح ثانيا فوجده كذلك ثم ثالثاً فوجده كذلك فكلموا الشيخ في ذلك، فخرج لهم عن حقيقة أمره وصدقهم سر فكره وعرفهم بتوبته وقال لهم والله ما هذا إلا الشراب الذي كنتم تشربونه فيما تقدم فتابوا جميعاً إلى الله تعالى وبنوا تلك الزاوية وانقطعوا بها لعبادة الله تعالى وظهر لهذا الشيخ كثير من الكرامات والمكاشفات. ثم سافرنا من الجام إلى مدينة طوس وهي أكبر بلاد خراسان وأعظمها بلد الإمام الشهير بأبي حامد الغزالي رضي الله عنه وبها قبره. ورحلنا منها إلى مدينة مشهد الرضا وهو علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي أيضاً مدينة كبيرة ضخمة كثيرة الفواكه والمياه والأرحاء الطاحنة وكان بها الطاهر محمد شاه والطاهر عندهم بمعنى النقيب عند أهل مصر والشام والعراق وأهل الهند والسند وتركستان يقولوا السيد الأجل وكان أيضاً بهذا المشهد القاضي الشريف جلال الدين لقيته بأرض الهند والشريف علي وولداه أمير هندو ودولة شاه وصحبوني من ترمذ إلى بلاد الهند وكانوا من الفضلاء. والمشهد المكرم عليه قبة عظيمة في داخل زاوية تجاورها مدرسة ومسجد وجميعها مليح البناء مصنوع الحيطان بالقاشاني وعلى القبر دكانة خشب ملبسة بصفائح الفضة وعليه قناديل فضة معلقة وعتبة باب القبة فضة وعلى بابها ستر حرير مذهب وهي مبسوطة بأنواع البسط وإزاء هذا القبر قبر هارون الرشيد أمير المؤمنين رضي الله عنه وعليه دكانة يضعون عليها الشمعدانات التي يعرفها أهل المغرب بالحسك والمنائر وإذا دخل الرافضي للزيارة ضرب قبر الرشيد برجله وسلم على الرضا. ثم سافرنا إلى مدينة سرخس، وإليها ينسب الشيخ الصالح لقمان
السرخسي رضي الله عنه. ثم سافرنا منها إلى مدينة زاوة وهي مدينة الشيخ الصالح قطب حيدر وإليه تنسب طائفة الحيدرية من الفقراء وهم الذي يجعلون حلق الحديد في أيديهم وأعناقهم وآذانهم ويجعلون أيضاً في ذكورهم حتى لا يتأتى لهم النكاح. ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة نيسابور وهي إحدى المدن الأربع التي هي قواعد خراسان ويقال لها دمشق الصغيرة لكثرة فواكهها وبساتينها ومياهها وحسنها وتخترقها أربعة من الأنهار وأسواقها حسنة متسعة ومسجدها بديع وهو في وسط السوق ويليه أربع من المدارس يجري بها الماء الغزير وفيها من الطلبة خلق كثير يقرؤون القرآن والفقه وهي من حسان مدارس تلك البلاد ومدارس خراسان والعراقين ودمشق وبغداد ومصر وإن بلغت الغاية من الإتقان والحسن فكلها تقصر عن المدرسة التي عمرها مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله المجاهد في سبيل الله عالم الملوك واسطة عقد الخلفاء العادلين أبو عنان وصل الله سعده ونصر جنده وهي التي عند القصبة من حضرة فاس حرسها الله تعالى فإنها لا نظير لها سعة وارتفاعاً ونقش الجص بها لا قدرة لأهل المشرق عليه. ويصنع بنيسابور ثياب الحرير من النخ والكمخاء وغيرهما وتحمل منها إلى الهند وفي هذه المدينة زاوية الشيخ الإمام العالم القطب العابد قطب الدين النيسابوري أحد الوعاظ العلماء الصالحين نزلت عنده فأحسن القرى وأكرم ورأيت له البراهين والكرامات العجيبة.
وكنت قد اشتريت بنيسابور غلاماً تركياً فرآه معي فقال لي: هذا الغلام لا يصلح لك فبعه، فقلت له: نعم. وبعت الغلام في غد ذلك اليوم واشتراه بعض التجار، وودعت الشيخ وانصرفت فلما حللت بمدينة بسطام كتب إلي بعض أصحابي من نيسابور وذكر أن الغلام المذكور قتل بعض أولاد الأتراك وقتل به وهذه كرامة واضحة لهذا الشيخ رضي الله عنه. وسافرت من نيسابور إلى مدينة بسطام التي ينسب إليها الشيخ العارف أبو يزيد البسطامي الشهير رضي الله عنه وبهذه المدينة قبره ومعه في قبة واحدة أحد أولاد جعفر الصادق رضي الله عنه، وببسطام أيضا قبر الشيخ الصالح الولي أبي الحسن الخرقاني. وكان نزولي من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه. ثم سافرت من هذه المدينة على طريق هند خير إلى قندوس وبغلان. وهي قرى فيها مشايخ وصالحون وبها البساتين والأنهار. فنزلنا بقندوس على نهر ماء
به زاوية لأحد شيوخ الفقراء من أهل مصر، يسمى بشير سياه، ومعنى ذلك الأسد الأسود وأضافنا بها وإلى تلك الأرض وهو من أهل الموصل ببستان عظيم هنالك.
وأقمنا بخارج هذه القرية نحو أربعين يوماً لرعي الجمال والخيل وبها مراعي طيبة وأعشاب كثيرة والأمن بها شامل بسبب شدة أحكام الأمير برنطيه. وقد قدمنا أن أحكام الترك في من سرق فرساً أن يعطي منه تسعة مثله فإن لم يجد ذلك أخذ فيها أحد أولاده فإن لم يكن له أولاد ذبح مثل الشاة.
والناس يتركون دوابهم مهملة دون راع بعد أن يسم كل واحد دوابه في أفخاذها وكذلك فعلنا في هذه البلاد واتفق أن تفقدنا خيلنا بعد عشر من نزولنا بها ففقدنا منها ثلاثة أفراس.
ولما كان بعد نصف شهر جاءنا التتر بها إلى منزلنا خوفاً على أنفسهم من الأحكام. وكنا نربط في كل ليلة إزاء أخبيتنا فرسين لما عسى أن يقع بالليل ففقدنا الفرسين ذات ليلة وسافرنا من هنالك وبعد ثنتين وعشرين ليلة جاءوا بهما إلينا في أثناء طريقنا. وكان أيضا أسباب إقامتنا خوف الثلج فإن بأثناء الطريق جبلاً يقال له هندوكوش ومعناه قاتل الهنود. لأن العبيد والجواري الذي يؤتى بهم من بلاد الهند يموت هنالك الكثير منهم لشدة البرد وكثرة الثلج وهو مسيرة يومٍ كاملٍ وأقمنا حتى تمكنا من دخول الحر وقطعنا ذلك الجبل من آخر الليل. وسلكنا به جميع نهارنا إلى الغروب وكنا نضع اللبود بين أيدي الجمال تطأ عليها لئلا تغرق في الثلج. ثم سافرنا إلى موضع يعرف بأنبر وكانت هنالك فيما تقدم مدينة عفي رسمها ونزلنا بقرية عظيمة فيها زاوية لأحد الفضلاء ويسمى بمحمد المهروي ونزلنا عنده وأكرمنا وكان متى غسلنا أيدينا من الطعام يشرب الماء الذي غسلناها به لحسن اعتقاده وفضله. وسافر معنا إلى أن صعدنا جبل هندوكوش المذكور.
ووجدنا بهذا الجبل عين ماء حارة فغسلنا منها وجوهنا فتقشرت وتألمنا لذلك. ثم نزلنا بموضع يعرف ببنج هير ومعنى بنج خمسة وهير الجبل، فمعناه خمسة جبال. وكانت هنالك مدينة حسنة كثيرة العمارة على نهر عظيم أزرق كأنه بحر ينزل من جبال بدخشان. وبهذه الجبال يوجد الياقوت الذي
يعرفه الناس بالبلخش. وخرب هذه البلاد تنكيز ملك التتر فلم تعمر بعده. وبهذه المدينة مزار الشيخ سعيد الملكي وهو معظم عندهم. ووصلنا إلى جبل بشاي "وضبطه بفتح الباء المعقودة والشين المعجم وألف باء ساكنة"، وبه زاوية الشيخ الصالح أطا أولياء وأطا "بفتح الهمزة" معناه بالتركية الأب وأولياء باللسان العربي فمعناه أبو الأولياء، ويسمى أيضا سيِصَد صَاله، وسيصد "بسين مهمل مكسور وياء مد وصاد مهمل ودال مهمل" معناه بالفارسية ثلاثمائة، وصاله "بفتح الصاد المهمل واللام" معناه عام. وهم يذكرون أن عمره ثلاثمائة وخمسون عام ولهم فيه اعتقاد حسن ويأتون لزيارته من البلاد والقرى ويقصده السلاطين والخواتين وأكرمنا وأضافنا ونزلنا على نهر عند زاويته ودخلنا إليه فسلمت عليه وعانقني وجسمه رطب لم أرى ألين منه ويظن رائيه أن عمره خمسون سنة. وذكر لي أنه في كل مائة سنة ينبت له الشعر والأسنان وأنه رأى أباهم الذي دفنهم بملتان من السند وسألته عن رواية حديث فأخبرني بحكايات، وشككت في حاله. والله أعلم بصدقه. ثم سافرنا إلى بَرْوَن "وضبطها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخرها نون"، وفيها لقيت الأمير بُرُنْطية "وضبط اسمها بضم الباء وضم الراء وسكون النون وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكن وهاء"، وأحسن إلي وأكرمني وكتب إلى نوابه في مدينة غزنة في إكرامي وقد تقدم ذكره، وذكر ما أعطي من البسطة في الجسم وكان عنده جماعة من المشايخ والفقراء أهل الزاوية، ثم سافرنا إلى قرية الجرخ "وضبط اسمها بفتح الجيم المعقودة وإسكان الراء وخاء معجم" وهي كبيرة لها بساتين كثيرة وفواكه طيبة قدمنا في أيام الصيف ووجدنا فيها جماعة من الفقراء والطلبة وصلينا بها الجمعة وأضافنا أمير ها محمد الجرخي ولقيته بعد ذلك بالهند. ثم سافرنا إلى مدينة غزنة وهي بلد السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين الشهير الاسم، وكان من كبار السلاطين يلقب بيمين الدولة وكان كثير الغزو إلى بلاد الهند وفتح بها المدائن والحصون وقبره بهذه المدينة عليه زاوية وقد خرب معظم هذه البلدة ولم يبق منها إلا يسير وكانت كبيرة. وهي شديدة البرد والساكنون بها يخرجون عنها أيام البرد إلى مدينة القندهار وهي كبيرة مخصبة ولم أدخلها. وبينهما مسيرة ثلاث. ونزلنا بخارج غزنة في قرية هنالك على نهر ماء تحت قلعتها وأكرمنا أمير ها مَرْذَكْ أغَا، ومرذك "بفتح الميم وسكون الراء وفتح الذال المعجم"، ومعناه الصغير، وأغا "بفتح الهمزة والغين
المعجم" ومعناه الكبير الأصل. ثم سافرنا إلى كابل، وكانت فيما سلف مدينة عظيمة وبها الآن قرية يسكنها طائفة من الأعاجم يقال لهم الأفغان. ولهم جبال وشعاب وشوكة قوية وأكثرهم قطاع طريق وجبلهم الكبير يسمى كوه سليمان يذكر أن نبي الله سليمان عليه السلام صعد ذلك الجبل فنظر إلى أرض الهند وهي مظلمة، فرجع ولم يدخلها فسمي الجبل به وفيه يسكن ملك الأفغان. وبكابل زاوية الشيخ إسماعيل الأفغاني تلميذ الشيخ عباس من الأولياء. ورحلنا إلى كرماش وهي حصن بين جبلين تقطع به الأفغان. وكنا حين جوازنا عليه نقاتلهم وهم بسفح الجبل ونرميهم بالنشاب فيفرون وكانت رفقتنا مخفة ومعهم نحو أربعة آلاف فرس وكانت لي جمال انقطعت عن القافلة لأجلها ومعي جماعة بعضهم من الأفغان، وطرحنا بعض الزاد وتركنا أحمال الجمال التي أعيت بالطريق وعادت إليها خيلنا بالغد فاحتملتها ووصلنا إلى القافلة بعد العشاء الآخرة فبتنا بمنزل ششنغار هي آخر العمارة مما يلي بلاد الترك. ومن هنا دخلنا البرية الكبرى وهي مسيرة خمس عشرة لا تدخل إلا في فصل واحد وهو بعد نزول المطر بأرض السند والهند وذلك في أوائل شهر يوليه. وتهب في هذه البرية ريح السموم القاتلة التي تعفن الجسوم. حتى أن الرجل إذا مات تنفسخ أعضاؤه وقد ذكرنا أن هذه الريح تهب أيضا في البرية بين هرمز وشيراز. وكانت تقدمت أمامنا رفقة كبيرة فيها خداوند زادة قاضي ترمذ فمات لهم جماعة وخيل كثيرة. ووصلت رفقتنا سالمة بحمد الله تعالى إلى بَنْج آب، وهو ماء السند، وبنج "بفتح الباء الموحدة وسكون النون والجيم" ومعناه خمسة وآب "بهمزة مفتوحة ممدودة وباء موحدة" ومعناه الماء، فمعنى ذلك الأودية الخمسة، وهي تصب في النهر الأعظم، وتسقي تلك النواحي وسنذكرها أن شاء الله تعالى. وكان وصولنا لهذا النهر سلخ ذي الحجة. واستهل علينا تلك الليلة هلال المحرم من عام أربع وثلاثين وسبعمائة. ومن هنالك كتب المخبرون بخبرنا إلى أرض الهند، وعرفوا ملكها بكيفية أحوالنا وها هنا ينتهي بنا الكلام في هذا السفر والحمد لله رب العالمين.