الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث التنظيم الإداري للدولة
ثالثا: الكتابة والكتاب
عرف العرب في الجاهلية منزلة الكتابة، وعدّوها أحد الأركان الثلاثة لاعتبار الرجل من الكاملين، ويشير ابن سعد (ت 230 هـ) إلى ذلك بقوله:«الكامل عندهم في الجاهلية وأول الإسلام الذي يعرف يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي» «1» ومع أن العرب كانوا يأنفون من بعض الأعمال ويحتقرون صاحبها، إلا أن صنعة الكتابة لم تكن كذلك، فقد مارس مهنة التعليم كبار الأشراف في الجاهلية «2» .
لقد كانت الأمية سائدة بشكل كبير في الجزيرة العربية، ويؤكد ذلك ما رواه البخاري (ت 256 هـ) من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» «3» وتشعر بذلك الاية الكريمة: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48]«4» وقوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2]«5» .
ويقول البلاذري (ت 279 هـ) : «دخل الإسلام، وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب
…
» «6» ، وهناك إشارات تدل على أن الذين كانوا يعرفون الكتابة في المدينة أحد عشر شخصا «7» . ونحن لا يمكننا أن نعدّ هذه الإحصائية دقيقة خاصة أن مكة كانت موقعا تجاريّا ودينيّا وهذا يستدعي وجود عدد أكبر من المتعلمين، فقد ذكر ابن حبيب (ت 245 هـ) جريدة بأسماء المعلمين الذين كانوا يلمون القراءة والكتابة في الجاهلية
(1) ابن سعد، الطبقات (ج 3، ص 542) .
(2)
منهم بشر بن عبد الملك السكوني أخو أكيدر صاحب دومة الجندل، وسفيان بن أمية بن عبد شمس، وأبو قيس ابن عبد مناف بن زهرة. وعمرو بن زرارة بن عدس (وكان يسمى الكاتب) . انظر: ابن حبيب، المحبر (ص 457) . وابن قتيبة، المعارف (ص 326، 553) . وابن حجر، الإصابة (ج 2، ص 394) .
(3)
أحمد، المسند (ج 2، ص 122) . البخاري، الصحيح (ج 3، ص 35) .
(4)
انظر: القرطبي، الجامع (ج 14، ص 351) . السيوطي، الدر المنثور (ج 6، ص 470) .
(5)
انظر: القرطبي، الجامع (ج 18، ص 92) . السيوطي، الدر المنثور (ج 8، ص 152) .
(6)
البلاذري، فتوح (ص 660، 661) . وكان منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة وأخوه خالد ونافع بن ظريب بن عمرو وحاطب بن بلتعة وسعيد بن العاص. انظر: ابن سعد، الطبقات (ج 2، ص 134) . ابن حبيب، المحبر (ص 475) .
(7)
ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم (ت 276 هـ) ، تأويل مختلف الحديث، تحقيق محمد زهدي النجار، بيروت، دار الجيل (1973 م) ، (ص 287) .
وأول الإسلام «1» .
وعندما جاء الإسلام أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظم أمر الحكومة التي أنشأها في المدينة، فاستعان بعدد كبير من أصحابه الذين يعرفون القراءة والكتابة، وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكتّاب إلى مجموعات تخصصية.
فكانت هناك مجموعة اختصت بكتابة «الوحي» ، ومن أشهرهم زيد بن ثابت (ت 56 هـ) ، فكان ملازما لكتابة الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لكفاءته وأمانته، مما جعله يستمر في كتابة الوحي حتى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم «2» .
وكان ممن كتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) ، إذ كان يكتب له الوحي عند مقدمه إلى المدينة «3» ، وكتب له بشكل أقل عبد الله بن أبي السرح (ت 37 هـ)«4» ، وخالد بن سعيد (ت 14 هـ)«5» ، والعلاء بن الحضرمي (ت 14 هـ)«6» ، وبعد فتح مكة كتب له معاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ)«7» ، واختص عدد بكتابة «الرسائل والإقطاع» . ويشير المسعودي (ت 346 هـ) إلى أن «عبد الله بن أرقم كان من المواظبين على كتابة الرسائل» «8» ويذكر ابن عبد البر (ت 463 هـ) أن «عبد الله بن أرقم
(1) ابن حبيب، المحبر (ص 475- 477) .
(2)
المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 245) . ابن حزم، جوامع السيرة (ص 26، 27) . ابن عبد البر، الاستيعاب (ج 3، ص 865، 866) . الذهبي، السيرة (ج 2، ص 429، 430) . الأنصاري، محمد بن علي ابن أحمد (ت 783 هـ) ، المصباح المضيء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي (ط 1) الهند، مطبعة دائرة المعارف العثمانية (1396 هـ، 1976 م) ، (ج 1، ص 112) .
(3)
البلاذري، أنساب (ج 1، ص 531) . ابن عبد البر، الاستيعاب (ج 1، ص 58) . قال: (وهو أول من كتب في نهاية الرسالة، وكتب فلان) .
(4)
البلاذري، أنساب (ج 1، ص 532) . اليعقوبي، تاريخ (ج 2، ص 80- 82) . ابن مسكويه، أبو علي أحمد بن محمد (ت 421 هـ) ، تجارب الأمم، تصحيح: هـ. ف أموروز، بغداد، مكتبة المثنى، د. ت، (ج 1، ص 191) .
(5)
البلاذري، أنساب (ج 10، ص 532) . المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 245) . الجهشياري، الوزراء والكتّاب (ص 12) . ابن مسكويه، تجارب (ج 1، ص 291) . المزّي، جمال الدين أبو الحجاج يوسف (ت 742 هـ) ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق بشار عواد معروف (ط 2) بيروت مؤسسة الرسالة، (1403 هـ، 1983 م) ، (ج 1، ص 196) . الأنصاري، المصباح المضيء (ج 1، ص 107) .
(6)
البلاذري، أنساب (ج 1، ص 532) . المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 246) . ابن مسكويه، تجارب الأمم (ج 1، ص 291) .
(7)
المصادر والصفحات نفسها.
(8)
المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 245، 246) . وانظر: ابن عبد البر، الاستيعاب (ج 1، ص 64) . ابن سيد الناس، عيون الأثر (ج 2، ص 395) .
كان يجيب الملوك وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب.
ويأمره أن يطينه ويختمه وما يقرؤه لأمانته عنده» «1» . ويفيد النص أنهم كانوا يكتبون الكتاب أولا ثم يعرضونه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ موافقته، وكان باستطاعة النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدل أو يغير في نص الكتاب، ولم يكن الكتاب يأخذ شكله النهائي إلا بعد موافقة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويتبع هذه المجموعة وظيفة «ترجمة» ، فكان زيد بن ثابت (ت 56 هـ) يقوم بالترجمة من اللغات الفارسية والرومية والقبطية والحبشية والعبرية إذ تعلمها زيد من أهلها القاطنين في المدينة «2» وكانت مهمة زيد أن يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم بهذه اللغات، ويرد على الكتب التي ترد فيترجمها للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم يكتب بردها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتضح هذا من رواية البخاري (ت 256 هـ) من قول النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن ثابت:«تعلم كتاب يهود فإني ما امن يهود على كتابي» . فتعلمها زيد، وأصبح يقرأ للنبي صلى الله عليه وسلم ما يكتبه يهود، ويكتب إلى اليهود ما يريده النبي صلى الله عليه وسلم «3» .
وتذكر المصادر أسماء مجموعة كتبوا للنبي صلى الله عليه وسلم رسائله وإقطاعاته منهم أبي بن كعب (ت 22 هـ)«4» وثابت بن قيس (ت 12 هـ)«5» وخالد بن سعيد (ت 14 هـ)«6» وعلي بن أبى طالب (ت 39 هـ)«7» ، ومعاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ)«8» وغيرهم.
وكان يكتب «العهود والمواثيق» جماعة أشهرهم علي بن أبى طالب (ت 39 هـ) ،
(1) ابن عبد البر، الاستيعاب (ج 3، ص 865) . وانظر: ابن الأثير، أسد الغابة (ج 1، ص 50) .
(2)
أحمد، المسند (ج 5، ص 182) . الجهشياري، الوزراء والكتاب (ص 12) . ابن عبد البر، الاستيعاب (ج 3، ص 865) . ابن عبد ربه، العقد الفريد (ج 2، ص 215) . الكتاني، التراتيب الإدارية (ج 1، ص 119- 120) .
(3)
ابن حجر، فتح الباري (ج 27، ص 216) . وانظر: ابن حبان، الثقات (ج 1، ص 246) . الكتاني، التراتيب الإدارية (ج 1، ص 203) .
(4)
ابن سعد، الطبقات (ج 1، ص 267) . اليعقوبي، تاريخ (ج 2، ص 80- 83) . ابن عبد البر، الاستيعاب (ج 1، ص 68، 69) . الخزاعي، تخريج الدلالات (ص 170) .
(5)
ابن سعد، الطبقات (ج 1، ص 267، 286، 288) . ابن سيد الناس، عيون الأثر (ج 2، ص 359) . المزّي، تهذيب الكمال (ج 1، ص 196) . ابن كثير، البداية والنهاية (ج 5، ص 341) . عبد الرازق المناوي «ت 1031 هـ» العجالة السنية على ألفية السيرة النبوية، تحقيق إسماعيل الأنصاري (ط 1) الرياض، مؤسسة النور، د. ت (ص 245، 246) .
(6)
المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 245) . الجهشياري، الوزراء والكتاب (ص 12) . الأنصاري، المصباح المضيء (ج 1، ص 107) . المناوي، العجالة السنية (245، 246) .
(7)
اليعقوبي، تاريخ (ج 2، ص 80- 83) .
(8)
ابن سعد، الطبقات (ج 1، ص 267، 268، ص 286) . اليعقوبي، تاريخ (ج 2، ص 80- 83) .
ويشير إلى ذلك ابن عبد البر (ت 463 هـ) بقوله: «كان الكاتب لعهوده إذا عاهد وصلحه إذا صالح علي بن أبي طالب» «1» وكتب له كذلك جهيم بن الصلت «2» والمغيرة بن شعبة (ت 50 هـ)«3» والأرقم بن أبي الأرقم (ت 55 هـ)«4» ، والزبير بن العوام (ت 36 هـ)«5» وغيرهم.
وأشارت المصادر أن الحصين بن نمير كان يكتب حوائج النبي صلى الله عليه وسلم «6» ، وقام الزبير ابن العوام (ت 36 هـ) وجهيم بن الصلت بكتابة أموال الصدقات «7» وقام حذيفة بن اليمان (ت 36 هـ) بمهمة كتابة خرص الثمار «8» ، ومعيقب بن أبي فاطمة بكتابة مغانم رسول الله صلى الله عليه وسلم «9» . وكان عبد الله بن الأرقم (ت 44 هـ) والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء «10» .
ولقد بلغ من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاز الإداري الكتابي أن عين خليفة لكل كاتب إذا غاب عن عمله، وأسند هذه الوظيفة إلى حنظلة بن الربيع، وذلك حتى لا تتعطل
(1) اليعقوبي، تاريخ (ج 2، ص 80- 82) . ابن عبد البر، الاستيعاب (ج 1، ص 69) . (ج 2، ص 470) . ابن الأثير، أسد الغابة (ج 1، ص 50) . الخزاعي، تخريج الدلالات (ص 174- 176) .
(2)
ابن سعد، الطبقات (ج 1، ص 268) . اليعقوبي، تاريخ (ج 2، ص 80- 83) . ابن الأثير، أسد الغابة (ج 1، ص 50) .
(3)
ابن سعد، الطبقات (ج 1، ص 268) . اليعقوبي، تاريخ (ج 2، ص 80- 83) . ابن مسكويه، تجارب الأمم (ج 1، ص 291) .
(4)
ابن سعد، الطبقات (ج 1، ص 268، 269) . ابن سيد الناس، عيون الأثر، (ج 2، ص 395) .
(5)
المناوي، العجالة السنية (ص 245) .
(6)
اليعقوبي، تاريخ (ج 2، ص 80) . المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 245) . ابن مسكويه، تجارب الأمم (ج 1، ص 291) ، ابن تغري بردي، مورد اللطافة، ورقة (8) .
(7)
المسعودي، التنبيه والإشراف، (ص 245، 246) . ابن سيد الناس، عيون الأثر (ج 2، ص 395) . الأنصاري، المصباح المضيء (ج 1، ص 114) .
(8)
المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 246) . ابن عبد ربه، العقد الفريد (ج 2، ص 215- 216) . القلقشندي، صبح الأعشى (ج 1، ص 91) .
(9)
المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 246) . الجهشياري، الوزراء والكتّاب (ص 13) . ابن عبد ربه، العقد الفريد (ج 2، ص 215) .
(10)
المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 245) . الجهشياري، الوزراء والكتاب (ص 12) . المناوي، العجالة السنية (ص 247) .
حاجات الدولة الإدارية لغياب كاتب بسبب مرض أو غيره «1» .
وعلى كل حال فإن الذين كتبوا الكتاب والكتابين والثلاثة كثير عددهم، ويشير إلى ذلك المسعودي (ت 346 هـ) بقوله:«إنه لم يثبت أسماء هؤلاء من جملة أسماء من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكتب إلا من ثبت على كتابته واتصلت أيامه، وطالت مدته، وصحت الرواية عن ذلك من أمره دون كاتب الكتاب والكتابين والثلاثة، إذ لا يستحق أن يسمى كاتبا ويضاف إلى جملة كتابه» «2» .
كان كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يكتبون بالخط المقور (النسخي) ، أما الخط المبسوط ويسمى (اليابس) فقد استعمل في النقش على الأحجار وأبواب المساجد. «3»
وذهب البعض إلى أن «ديوان الإنشاات» قد وضع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول القلقشندى (ت 821 هـ) : «إنه- أي ديوان الإنشاات- أول ديوان وضع في الإسلام، وكان قد تم وضعه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم» «4» . ولكن إطلاق كلمة «ديوان» على الكتّاب في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس دقيقا؛ إذ إن «ديوان الإنشاء» نشأ فيما بعد.
وإن الكتابة لم تكن وظيفة ثابتة لهؤلاء الكتّاب تجرى عليهم منها الرواتب، وذكرت المصادر الأولية أن عصر عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) كان أول من أنشأ الدواوين في الإسلام، ولم يسمّى أي منها ديوان الإنشاء «5» .
وكما كان «الكتّاب» يشاركون في إدارة الدولة، كان «المعلمون» يقومون بمثل هذا الدور، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بإعداد المعلمين إعداد يؤهلهم للقيام بهذه الوظيفة بجدارة واقتدار «6» .
كان من أوائل هؤلاء المعلمين «مصعب بن عمير» (ت 3 هـ) ، حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب سفيرا ومعلما. فدعي مصعب «بالمقرئ» «7» وهو لقب جديد أطلق على المعلم ولم يكن معروفا من قبل.
(1) اليعقوبي، تاريخ (ج 2، ص 80) . المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 245، 246) . الجهشياري، الوزراء والكتاب (ص 13) . ابن سيد الناس، عيون الأثر (ج 2، ص 396) . ابن عبد ربه، العقد الفريد (ج 2، ص 215، 216) . المزّي، تهذيب الكمال (ج 1، ص 196) . المناوي، العجالة السنية (ص 245) .
(2)
المسعودي، التنبيه والإشراف (ص 246) .
(3)
جواد علي، المفصل (ج 8، ص 137) .
(4)
القلقشندي، صبح الأعشى (ج 1، ص 91) .
(5)
انظر: ابن سعد، الطبقات (ج 3، ص 282) . البلاذري، فتوح (ص 630، 631) . الطبري، تاريخ ج 4، ص 209، 210) (الواقدي) . ابن الأثير، الكامل (ج 3، ص 59) .
(6)
أبو سن، الإدارة (ص 111) .
(7)
ابن سعد، الطبقات (ج 1، ص 220) .
وترد أول إشارة إلى التعليم الموجه من قبل الدولة لأبناء المسلمين في بدر (2 هـ) ، إذ طلب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أسرى بدر أن يعلم كل واحد عشرة من أبناء الأنصار الكتابة مقابل فكاك أسرهم «1» ، فتعلم نتيجة لذلك عدد كبير من غلمان المدينة، فكان زيد بن ثابت (ت 56 هـ) ممن تعلم الكتابة حينئذ، وعلل الماوردي (ت 450 هـ) ذلك بقوله:
«وكانت العرب تعظم قدر الخط حتى قال عكرمة: بلغ فداء أهل بدر أربعة الاف حتى إن الرجل ليفادي على أن يعلم الخط، لما هو مستقر في نفوسهم من عظم خطره وجلال قدره وظهور نفعه وأثره» «2» . ويذكر الشعبي (ت 103 هـ) أن سبب تخصيص التعليم لأبناء الأنصار دون المهاجرين أن أهل مكة كانوا يكتبون بينما لم يتوافر هذا لأهل المدينة «3» .
وقد عرفت كلمة «معلم» بالمعنى المفهوم في أيامنا، يشير إلى ذلك المقريزي (ت 845 هـ) بقوله: «إن غلاما جاء يبكي إلى أبيه، فقال: ما شأنك؟، قال:
ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل (ثأر) بدر، والله لا تأتيه أبدا» «4» .
وانتشرت الكتابة في المدينة بعد هذه الحادثة، ولم نجد في المصادر الأولية ما يدل على عدد أولئك الذين لم يستطيعوا أن يفدوا أنفسهم. وإلا لكنّا قد عرفنا بشكل إحصائي دقيق عدد أولئك الغلمان الذين شملهم التعليم من أسرى بدر.
وتشير المصادر إلى وجود عدد من المعلمين في المدينة، يعلمون الناس بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فكان عبادة بن الصامت (ت 34 هـ) من المعلمين، وكانت مهمته تتمثل في تعليم «أهل الصفة» القران الكريم «5» وهناك إشارات أن النبي صلى الله عليه وسلم كلف عبد الله بن سعيد بن العاص (ت 12 هـ) أن يعلم الناس الكتابة في المدينة وكان كاتبا محسنا «6» ويذكر ابن حجر (ت 802 هـ) أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع وردان بن يزيد بن وردان إلى أبان بن سعيد بن العاص
(1) ابن سعد، الطبقات (ج 2، ص 22) . (الشعبي)(ص 26) . (حماد بن زياد) الخزاعي، تخريج الدلالات (ص 71) . المقريزي، إمتاع (ص 101) ، القرطبي، أقضية الرسول (ص 36) . الكتاني، التراتيب (ج 1، ص 49) .
(2)
الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب (ت 450 هـ) ، أدب الدنيا والدين، تحقيق مصطفى السقا، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، (1955 م) ، (ص 68) .
(3)
ابن سعد، الطبقات (ج 2، ص 22) .
(4)
المقريزي، إمتاع (ص 101) .
(5)
أبو داود، السنن (ج 3، ص 701، 702) . ابن ماجه، السنن (ج 2، ص 729، 730) . الخزاعي، تخريج الدلالات (ص 70) . الكتاني، التراتيب الإدارية (ج 1، ص 48) .
(6)
ابن حزم، جمهرة (ص 80) . ابن عبد البر، الاستيعاب (ج 1، ص 313) . ابن حجر، الإصابة (ج 1، ص 344) . الكتاني، التراتيب الإدارية (ج 1، ص 48) .
(ت 15 هـ) ، ليمولاه ويعلمه القران» «1» ، وكذلك «دفع أبا ثعلبة إلى أبي عبيدة بن الجراح (ت 18 هـ) ، ثم قال له: دفعتك إلى رجل يحسن تعليمك وأدبك» «2» .
لقد تجاوز اهتمام الدولة بالتعليم الرجال إلى النساء، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بنفسه بتعليم النساء، وبلغ من حرصهن على العلم أنهن قلن للنبي صلى الله عليه وسلم:«غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن» «3» ويذكر البلاذري (ت 279 هـ) أسماء عدد من النساء كن يحسن القراءة والكتابة، فكانت الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس القرشية تحسن القراءة «4» ، وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعلم حفصة (زوجه) ، فعلمتها رقية تسمى (رقية النملة)«5» ، وذكر أيضا أسماء أم كلثوم بنت عقبة، وعائشة بنت سعد، وكريمة بنت المقداد وغيرهن «6» .
ولقد أرادت الدولة أن يكون «العلم والتعليم» سمة من سمات المجتمع المسلم، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بهذه المهمة كل من يستطيع أن يعلم الاخرين، وندب المجتمع كله للتعلم، ثم حذر من أن يتقاعس أحد عن التعلّم فقال:«ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون» «7» .
واهتمت الدولة أيضا بتعليم الناس في غير حاضرة الدولة «المدينة» فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل ببعثات تعليمية إلى القبائل يعلمونهم الإسلام ويفقهونهم فيه، فذكرت لنا كتب السير بعثة عاصم بن ثابت وأصحابه القراء الذين استشهدوا في حادثة الرجيع (3 هـ)«8» وكانوا في مهمة تعليمية، وكذلك الحال بالنسبة إلى القراء السبعين الذين استشهدوا في حادثة بئر معونة (4 هـ)«9» ومع أن نهاية هؤلاء المعلمين كانت مؤسفة، إلا أن ضرورة
(1) ابن حجر، الإصابة (ج 1، ص 13، 14) . وانظر: الكتاني، التراتيب الإدارية (ج 1، ص 40، 41)
(2)
ابن حجر، الإصابة (ج 1، ص 13، 14) . وانظر: الكتاني، التراتيب الإدارية (ج 1، ص 40، 41) .
(3)
البخاري، الصحيح (ج 1، ص 36) .
(4)
البلاذري، فتوح (ص 661) .
(5)
أبو داود، السنن (ج 4، ص 215) . البلاذري، فتوح (ص 661) . ابن عبد البر، الاستيعاب (ج 4، ص 1869) . النملة: قروح تخرج في الجنبين، ويقال: إنها تخرج أيضا في غير الجنب، ترقى فتذهب بإذن الله عز وجل، وفي الحديث دليل على أن تعليم الكتابة النساء غير مكروه. انظر: أبا داود، السنن (ج 4، ص 215)(الهامش) .
(6)
البلاذري، فتوح (ص 661) .
(7)
الهيثمي، نور الدين بن أبي بكر (ت 807 هـ) ، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، القاهرة، مكتبة القدسي، د. ت (ج 1، ص 164) . فقال عنه: «رواه الطبري، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به» .
(8)
انظر تفاصيل هذه الحادثة في: ابن هشام، السيرة (م 2، ص 169- 171) . ابن حجر، فتح الباري (ج 15، ص 176) .
(9)
انظر تفاصيل هذه الحادثة في: ابن هشام، السيرة (م 2، ص 183- 185) . ابن حجر، فتح الباري (ج 15، -
تبليغ الدعوة، وتعليم الناس كانت مبررا للتضحية بمثل هذا العدد من المعلمين والقراء.
وشمل التعليم جميع فئات الأمة، فيذكر ابن حجر (ت 852 هـ) :«أن النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء حصاره للطائف نزل إليه إبراهيم بن جابر- وكان من العبيد- فأعتقه وبعثه إلى أسيد ابن خضير (ت 20 هـ) - وكان من المعلمين- وأمره أن يمولاه ويعلمه» «1» ، وكذلك نزل الأزرق بن الحارث فأعتقه وسلمه لخالد بن سعيد بن العاص ليمولاه ويعلمه «2» .
وفي الأمصار كان الولاة يقومون بتعليم الناس، ففي كتابه إلى عمرو بن حزم (ت 51 هـ) واليه على نجران قال:«أمره أن يفقههم في الدين ويعلمهم القران» «3» وعين النبي صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد (ت 13 هـ) واليا على مكة، ومعاذ بن جبل (ت 19 هـ) مقرئا ومعلما «4» ، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة مع العلاء بن الحضرمي (ت 14 هـ) إلى البحرين يعلم الناس الإسلام، ويفقههم في أحكامه «5» .
كان التعليم يتم في عدة أماكن، فالمسجد ابتداء كان يقوم بدور كبير في هذا الباب، فهو يعدّ من أكثر الأماكن التي يمكن للمسلمين أن يجتمعوا فيها للتعلّم، وهناك مناسبات أوجدها الإسلام لذلك، منها: خطبة الجمعة والعيدين وغيرها من المناسبات.
وكان «الكتّاب» معروفا في الحجاز، ويشير البخاري (ت 256 هـ) إلى ذلك بقوله:«إن أم سلمة بعثت إلى معلم الكتاب أن ابعث إليّ غلمانا» «6» وتشعر ترجمة البخاري لعبد الله بن عمر في الأدب المفرد بذلك حيث قال: «إن ابن عمر كان يسلم على الصبيان في الكتّاب» «7» وتذكر بعض المصادر أن عبد الله بن أم مكتوم عندما قدم المدينة نزل في «دار القراء» ، وهي دار مخرمة بن نوفل «8» ، وهذا يوضح أن هذه الدار
- ص 267) .
(1)
ابن حجر، الإصابة (ج 1، ص 15) . الكتاني، التراتيب الإدارية (ج 1، ص 44) .
(2)
ابن حجر، الإصابة (ج 1، ص 29) . الكتاني، التراتيب الإدارية (ج 1، ص 24) .
(3)
ابن هشام، السيرة (م 2، ص 594، 595) . وانظر: ابن عبد البر، الاستيعاب (ج 3، ص 1173) . الكتاني، التراتيب الإدارية (ج 1، ص 43، 44) .
(4)
ابن هشام، السيرة (م 2، ص 500) . الفاسي، العقد الثمين (ج 7، ص 366، 367) .
(5)
ابن سعد، الطبقات (ج 1، ص 236) .
(6)
البخاري، الصحيح (ج 9، ص 15) . وانظر: الكتاني، التراتيب الإدارية (ج 1، ص 293) .
(7)
البخاري، محمد بن إسماعيل، (ت 256 هـ) ، الأدب المفرد، بيروت، دار الكتب العلمية، د. ت (ص 153) .
(8)
ابن سعد، الطبقات (ج 4، ص 205) . الخزاعي، تخريج الدلالات (ص 80) قال:«اتخاذ الدار فينزلها القراء، ويتخرج من ذلك اتخاذ المدارس» .
كانت تستخدم في تعليم القراءة والكتابة وقراءة القران خاصة.
وكانت «الصفة» مدرسة لتحفيظ القران وتدريس أحكامه، فكان لهؤلاء دوي بالقران تشعر بذلك الاية الكريمة التي نزلت في أهل الصفة فقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
…
[الكهف: 28] .
وكانت كنائس النصارى ومدارس اليهود تقوم بدور ما في تعليم القراءة والكتابة، فقد تعلم زيد بن ثابت في مدارس بني ماسكه «1» ، والمدارس بيت القراءة عند اليهود «2» .
ولم تسعفنا المصادر بذكر أنظمة التعليم في هذه الفترة إلا بالنزر القليل فهناك إشارات إلى طريقة التأديب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«علموا أبناءكم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين» «3» ، وهذا يشير إلى استخدام العقاب البدني في تعليم الصبيان، أما «مواعيد التعليم» فكانت منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تعقد بعد صلاة الفجر إلى أن تشرق الشمس، ومن بعد صلاة العصر حتى غروب الشمس «4» .
وترد أول إشارة إلى أجور المعلمين بعد بدر (2 هـ) ، إذا طلب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الأسرى أن يعلّم كل منهم عشرة غلمان من أبناء الأنصار الكتابة في المدينة مقابل فكاك أسرهم «5» ، ويروي أبو دواد (ت 275 هـ) في سننه قول عبادة بن الصامت (ت 34 هـ) : «علّمت ناسا من أهل الصفة الكتابة والقران، فأهدى إليّ رجل منهم قوسا
…
فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:«إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها» «6» ويفيد النص أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكون التعليم مجانيّا، ويتضح هذا من رواية البيهقي (ت 458 هـ) لقول ابن عباس (ت 67 هـ) : «كانت المصاحف لا تباع
(1) الأصفهاني، الأغاني (ج 17، ص 169، 170) . وانظر: عامر جاد الله أبو جبلة، تاريخ التربية والتعليم في صدر الإسلام- رسالة ماجستير، إشراف: عبد العزيز الدوري، قسم التاريخ، الجامعة الأردنية، (1407 هـ، 1987 م) . (ص 34) .
(2)
ابن عساكر، تهذيب تاريخ دمشق (ج 5، ص 446) . ابن منظور، اللسان (ج 6، ص 80) . وانظر: أبو جبلة، تاريخ التعليم (ص 34) .
(3)
أبو داود، السنن (ج 1، ص 332، 333) .
(4)
ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 579 هـ) ، كتاب القصاص والمذكرين، تحقيق مادلين سوارتز، بيروت، دار المشرق، (1971 م) ، (ص 15، 16) . والكتاني، التراتيب الإدارية (ج 2، ص 335) . وانظر: أبو جبلة، تاريخ التربية (ص 126) .
(5)
ابن سعد، الطبقات (ج 22) ، (الشعبي)(ص 26)(حماد بن زياد) . الخزاعي، تخريج الدلالات (ص 71) .
(6)
أبو داود، السنن (ج 4، ص 701، 702) . وانظر: الخزاعي، تخريج الدلالات (ص 70) .
وكان الرجل يأتي بورقة عند النبي صلى الله عليه وسلم فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب ثم يقوم اخر فيكتب حتى يفرغ من المصحف» «1» وهذا يوضح أن عملية التعليم «قراءة وكتابة» كانت تؤدى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم دون أجر، ويذكر البخاري (ت 256 هـ) حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يناقض في ظاهره هذا الاستنتاج حيث جاء فيه:«أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» «2» ويمكننا أن نجمع بين الروايتين بالقول: إن الأجرة على التعليم- لمن كانت هذه المهن وظيفة يتفرغ لها صاحبها- جائزة، ولكن عملية التعليم في هذه الفترة كانت تتم دون أجر؛ لأن الدولة كانت تشجع بشكل كبير مبدأ التعاون والتضحية في سبيل نشر الدين الجديد، فضلا عن أن الصحابة قد أخذوا من الغنائم والفيء ما يسد حاجتهم.
(1) البيهقي، السنن (ج 6، ص 16) .
(2)
البخاري، الصحيح (ج 3، ص 121) .