الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع في إرادة شأس بن قيس إيقاع الفتنة بين الأوس والخزرج لما رأى كلمتهم مجتمعة
روى ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن زيد بن أسلم مطوّلا، والفريابي وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس مختصرا، وابن المنذر عن عكرمة، وابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي كذلك واللفظ للأول، قال: كان شأس بن قيس شيخا قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، فمرّ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فلما أن جاء الإسلام اصطلحوا وألف الله بين قلوبهم. فقال:«لقد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار» . فأمر فتى شابّا من يهود كان معه فقال: «اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.
ففعل، فأنشدهم بعض ما قاله أحد الحيّين في حربهم، فكأنهم دخلهم من ذلك [شيء] فقال الحيّ الآخرون: وقد قال شاعرنا في يوم كذا: كذا وكذا [فقال الآخرون: وقد قال شاعرنا في يوم كذا: كذا وكذا. فتكلّم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيّين: أوس بن قيظي [أحد بني حارثة بن الحارث] من الأوس، وجبّار بن صخر [أحد بني سلمة] من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه:«ان شئتم رددناها الآن جذعة» . فغضب الفريقان جميعا، وقالوا:«قد فعلنا، موعدكم الظاهرة- والظاهرة الحرّة- السّلاح السّلاح» .
فخرجوا إليها. [فانضمّت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية] .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم
[ (1) ] فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّهم: عدوّ الله شأس بن
[ (1) ] ذكره السيوطي في الدر 2/ 57 وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
قيس، فانزل الله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران 98، 99] .
وأنزل الله في أوس بن قيظي، وجبّار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا ما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران 100، 101] تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
«شأس» [ (1) ] : بشين معجمة فهمزة ساكنة فسين مهملة.
«عسا» بعين فسين مهملتين: أي كبر وأسنّ.
«الضّغن» بكسر الضاد المعجمة: الحقد.
«قيلة» - بفتح القاف وسكون التحتية: أم الأوس والخزرج.
«بعاث» بعين مهملة ومثلثة- وتقدم الكلام عليها مبسوطا في أبواب بدء إسلام الأنصار.
«جبّار» : بالجيم وتشديد الموحّدة.
«جذعة» بفتح الجيم والذال المعجمة: أي أحدثنا الحرب.
«الحرّة» بفتح الحاء المهملة والراء المشدّدة: [وهي الأرض ذات الحجارة السّود] .
والله سبحانه وتعالى أعلم.
[ (1) ] انظر اللسان 4/ 2176.
الباب الثامن في سبب نزول قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران 181] وقوله تعالى: إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 91]
روى ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وابن جرير عن السّدّيّ، وابن جرير عن عكرمة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت المدارس بعد نزول قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة 245] فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص [بن عازوراء] وكان من علمائهم وأحبارهم. فقال أبو بكر:
ويلك يا فنحاص: «اتّق الله عز وجل وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاء كم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة» . فقال فنحاص لعنه الله: «والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرّع إليه كما يتضرّع إلينا، وإنّا عنه لأغنياء [وما هو عنّا بغنيّ] ولو كان عنّا غنيّا ما استقرض منا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الرّبا ويعطيناه ولو كان عنّا غنيّا ما أعطانا الرّبا» . فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: «والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك أي عدوّ الله» .
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، انظر ما فعل بي صاحبك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «ما حملك على ما صنعت» ؟
فقال أبو بكر: يا رسول الله [إن عدو الله] قال قولا عظيما إنه زعم أن الله عز وجل فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله ممّا قال فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك. فانزل الله تعالى فيما قال فنحاص [ردّا عليه] وتصديقا لأبي بكر رضي الله عنه: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [آل عمران 181] ونزل في أبي بكر الصديق، وما بلغه في ذلك في الغضب: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران 186][ (1) ] .
وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي في قوله تعالى: إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى [الأنعام 91] . قال فنحاص اليهودي: ما أنزل الله علي محمد بن شيء. قال السّدّي: والمشهور أنها نزلت في مالك بن
[ (1) ] ذكره السيوطي في الدر 2/ 105 وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الضّيف. وروى ابن جرير، وابن المنذر عن عكرمة في الآية قال: نزلت في مالك بن الضّيف.
وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وابن جرير عن محمد بن كعب القرظيّ قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الضّيف، ومعه جماعة فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا. فأنزل الله عز وجل: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً [النساء 153] .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنشدك بالّذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السّمين» ؟
وكان حبرا سمينا. فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء فأنزل الله عز وجل [نقضا لقولهم وردّا عليهم] : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام 91] .