الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
التلفيق بين الأقوال
ومعنى التلفيق: أن يختلف العلماء على قولين ويلفق قولٌ ثالث لا يعارض القولين من كل وجه بل يوافق كل واحد منهما من وجه أما إذا عارض القولين من كل وجه فإنه مردود وهو من إحداث قول جديد.
وقد ذهب إلى جواز التلفيق جمع من أهل العلم المتأخرين وأكثرهم من المتكلمين كالرازي
(1)
والآمدي
(2)
والطوفي
(3)
وابن بدران في «حاشيته على روضة الناظر»
(4)
، ونسب الزركشي
(5)
هذا إلى الشافعي لكن النسبة فيها نظر ولا تصح، وإنما اشتهر بهذا المتكلمون وبعض المتأخرين من أهل الفقه.
ويشترط في التلفيق أن لا يصادم الأقوال السابقة كلها من كل وجه بل يأخذ من كل قول شيئا أما لو صادمها لم يصح.
ومن أمثلة المصادمة التي لا يصلح فيها التلفيق: ما ذكره ابن بدران في «حاشيته على روضة الناظر» وهو أن العلماء اختلفوا على قولين في قود الأب في ولده:
أ- منهم من قال - وهم الجمهور - أن الأب لا يقاد بولده.
ب- وذهب مالك إلى أنه يقاد به إذا كان متعمداً قد تعمد قتله فإنه يقاد فيه بخلاف إذا لم يتعمد
(6)
.
(1)
انظر: «المحصول» للرازي (4/ 128).
(2)
انظر: «الإحكام» للآمدي (1/ 269).
(3)
انظر: «شرح مختصر الروضة» للطوفي (3/ 93 - 94).
(4)
انظر: «حاشيته ابن بدران على روضة الناظر» (1/ 312).
(5)
انظر: «البحر المحيط» للزركشيي (6/ 518 - 519).
(6)
انظر: «حاشيته ابن بدران على روضة الناظر» (1/ 312).
فلو قال أحد بقول ثالث وهو أنه: يقاد الأب مطلقاً لكان قوله مخالفا للقولين السابقين فهو مخالف للجمهور لأن الجمهور لا يرون أنه يقاد، ويخالف قول مالك لأن مالك لا يرى غير المتعمد يقاد، فمثل هذا لا يسمى تلفيقا.
ومن أمثلة التلفيق الصحيح:
المثال الأول: اختلف العلماء في تحديد وقت المسح على الخفين على قولين هما:
القول الأول: ذهب مالك في أحد قوليه إلى أنه لا يحدد بوقت سواء كان بسفر أو حضر
(1)
، وهذا القول نسب إلى ربيعة وآخرين
(2)
.
والقول الثاني: قول الجمهور
(3)
أن المسافر يحدد بثلاثة أيام وأن المقيم بيوم وليلة على مقتضى حديث علي الذي أخرجه مسلم
(4)
.
فلو قال قائل: يحدد للمسافر بثلاثة أيام وللمقيم بيوم وليلة إلا إذا كان في سفر مضطر وقد جد به المسير؛ فإنه لا يحدد.
فمثل هذا قول ملفق وافق الجمهور إلا في حال اضطرار، ووافق القول الذين لا يقولون بالتحديد في حال الاختيار.
المثال الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم - اختلفوا على قولين في استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة
(5)
:
(1)
انظر: «الأوسط» لابن المنذر (2/ 86)، و «التمهيد» لابن عبد البر (11/ 151 - 152).
(2)
انظر: «الأوسط» لابن المنذر (2/ 87).
(3)
انظر: «التمهيد» لابن عبد البر (11/ 152)، و «المغني» لابن قدامه (1/ 209).
(4)
أخرجه مسلم (276).
(5)
انظر الأقوال في: «المجموع» (2/ 81)، و «شرح مسلم» (3/ 154)، و «شرح أبي داود» (ص: 106) ثلاثتهم للنووي، و «المغني» (1/ 209) وغيرها.
القول الأول: أن القبلة لا تستقبل ولا تستدبر عند قضاء الحاجة لا في البنيان ولا في الصحراء وهذا قول أبي أيوب الأنصاري أخرجه البخاري ومسلم
(1)
.
القول الثاني: أن القبلة تستقبل وتستدبر لكن في البنيان دون الفضاء أو الصحراء وهذا قول ابن عمر رواه الدار قطني
(2)
وجماعة.
فلو قال قائل: إنها تستدبر لكن لا تستقبل لصار قوله قولاً ملفقاً بالنظر إلى أقوال الصحابة لا أقوال أهل العلم؛ لأنه حصل خلاف بين أهل العلم بعد ذلك.
المثال الثالث: أن الصحابة اختلفوا على قولين في صلاة الرواتب في السفر:
القول الأول: أن صلاة الرواتب في السفر تصلى مطلقاً وهذا قول جمهور الصحابة كجابر رضي الله عنه
(3)
، وعزاه الحسن البصري إلى الصحابة
(4)
.
والقول الثاني: أنها لا تصلى وهذا قول ابن عمر رضي الله عنه، وفي رواية لابن عمر أنها تصلى رواتب الليل دون رواتب النهار فإنها لا تصلى أي للمسافر
(5)
.
فهذان قولان معروفان للصحابة.
فلو قال قائل: إن المسافر لا يصلي شيئا من الرواتب إلا ركعتي الفجر لكان قوله ملفقاً ومحدثا بالنسبة إلى أقوال الصحابة رضي الله عنهم.
فائدة: جمهور أهل العلم من أصحاب المذاهب الأربعة على أن المسافر يصلي الرواتب ليلاً ونهاراً هذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة لكن خالف بعض الحنفية والحنابلة المتأخرين.
(1)
أخرجه البخاري (394)، ومسلم (264).
(2)
أخرجه الدارقطني (1/ 92) رقم (161)، وقال عقبه: هذا صحيح كلهم ثقات.
(3)
انظر: «الأوسط» لابن المنذر (5/ 248).
(4)
انظر: «الأوسط» لابن المنذر (5/ 248)، و (5/ 250).
(5)
انظر: «الأوسط» لابن المنذر (5/ 247 - 248).
أما القول المشهور عند المذاهب الأربعة أن المسافر يصلي الرواتب ليلاً ونهاراً
(1)
.
فالمقصود: أن من استثنى راتبة الفجر فإن قوله قول ملفق.
وما جاء عن ابن عمر من استثناء راتبة الفجر فإنه لا يصح إسناده
(2)
.
ولم يصح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم في السفر على ركعتي الفجر والوتر.
والذي عليه العلماء والفقهاء الأولون أن التلفيق لا يصح وإنما عرف بهذا المتكلمون والمتأخرون كما تقدم ذكره، ويردون على التلفيق بما يلي:
الرد الأول: أنه إنما عرف به المتأخرون من المتكلمين وغيرهم.
الرد الثاني: أنه لما اختلف الصحابة أو من بعدهم على قولين فالطائفة المنصورة على أحد هذين القولين وهي قد تبنت الحق كله فعلى هذا التلفيق ترك لبعض الحق.
الرد الثالث: أن الذي لفق خرج بقول مرجوح قطعًا لأنه أخذ من هذا جزءًا وأخذ من هذا جزءًا فلابد أنه أخذ من القول المرجوح جزءًا وكوَّن قولًا مجموعًا من قولين مرجوحين دون القول الثالث الراجح.
الرد الرابع: أن كل دليل في النهي عن الإحداث هو رد على القول بالتلفيق.
وأخيراً: رأيت بعض أهل العلم ينسب إلى بعض العلماء القول بالتلفيق بناءً على أن فعله يدل على ذلك في مسائل، كما نسبوا هذا القول لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولم أقف على شيء في كتبه يدل على أنه يرى القول الملفق، ولم أر شيئا من كلام تلميذه ابن القيم يدل على أن ابن القيم نفسه أو أن شيخه يرى التلفيق بين
(1)
انظر ذلك في: «بدائع الصنائع» للكاساني (1/ 93)، و «تبيين الحقائق» (1/ 211) للزيلعي، و «المجموع» للنووي (4/ 400 - 401)، و «الإنصاف» للمرداوي (2/ 322).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 342) والأثر ضعيف لمخالفة رواية الأكثرين عنه.