الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو الخطاب الحنبلي في «التمهيد»
(1)
.
* * *
المسألة الثانية:
أدلة الإجماع
تنوَّعت الأدلة وتضافرت على حجية الإجماع، وإليك بعضها:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
استدل بهذه الآية جمع من الأصوليين كالآمدي في كتابه «أصول الإحكام»
(2)
، وابن قدامة في «الروضة»
(3)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى»
(4)
، بل أكثر من كَتبَ في الأصول إذا أورد مسألة الإجماع أتى بهذه الآية
(5)
، وقد نسب هذا الاستدلال للشافعي بعضهم
(6)
، ونازع آخرون في هذا الاستدلال
(7)
.
(1)
انظر: «التمهيد في أصول الفقه» لأبي الخطاب (3/ 251).
(2)
انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (1/ 228).
(3)
انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (1/ 380 - 381).
(4)
انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/ 178)، و (19/ 192).
(5)
انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (2/ 7)، و «التمهيد في أصول الفقه» لأبي الخطاب (3/ 251)، و «المحصول» للرازي (4/ 35 - 36)، و «التحبير شرح التحرير» للمرداوي (4/ 1531 - 1532)، و «الكوكب المنير» لابن النجار (2/ 215) وغيرهم.
(6)
انظر: «أحكام القرآن» للشافعي (1/ 39)، وانظر قصة استدلاله في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (10/ 83 - 84).
وممن نسبه له: الآمدي في «الإحكام في أصول الأحكام» (1/ 200)، والغزالي في «المستصفى» (1/ 138)، وابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (19/ 178) وغيرهم.
(7)
انظر: «المستصفى» للغزالي (1/ 138).
وجه الدلالة من هذه الآية: أن الله رتب العقوبة على ترك سبيل المؤمنين، فدل هذا على أن اتباع سبيل المؤمنين واجب، فإذن إذا كان المؤمنون من أهل العلم من المجتهدين على قول في هذه المسألة فإن قولهم حجة وهذا هو المقصود.
الدليل الثاني: قوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
استدل بهذه الآية أبو الحسين
(1)
، والآمدي
(2)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى»
(3)
وغيرهم.
ووجه الدلالة: أنه يعمل مباشرة بما لم يحصل فيه نزاع بخلاف ما حصل فيه نزاع فإنه يرد للكتاب والسنة.
الدليل الثالث: قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]
استدل بهذه الآية أبو الحسين
(4)
، والآمدي
(5)
، والطوفي
(6)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(7)
وغيرهم.
ووجه الدلالة: أن الأمة إذا أجمعت على قول فإن هذا القول خير؛ لأنها أمرت به، ولو لم يكن خيرًا لوجد في الأمة من ينكر ذلك، ولا يمكن أن يُنقل لنا القول المرجوح والخطأ دون القول الراجح.
(1)
انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (2/ 15).
(2)
انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (1/ 218).
(3)
انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (1/ 9)، و (19/ 67)، و (19/ 91).
(4)
انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (2/ 6).
(5)
انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (1/ 214).
(6)
انظر: «شرح مختصر الروضة» للطوفي (3/ 17).
(7)
انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/ 176).
الدليل الرابع: قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
والمراد بالوسط أي العدل والخيار، فإذا أجمع العلماء على قول فهذا هو القول الحق وهو الخيار الذي يحبه الله، وقد استدل بهذه الآية أبو الحسين
(1)
، والآمدي
(2)
، والطوفي
(3)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
وغيرهم.
الدليل الخامس: أخرج الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ»
(5)
.
وأخرجه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة
(6)
، ومسلم من حديث جابر
(7)
، وثوبان
(8)
، وسعد بن أبي وقاص
(9)
، وغيرهم من صحابة
(10)
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجه الدلالة من هذا الحديث: أن الأمة إذا أجمعت على قولٍ فحتمًا ولا بد أن يكون من بينها تلك الطائفة المنصورة التي لا تكون إلا على الحق؛ فبهذا يتبين أن هذا القول حقٌ، وهذا هو المراد إذ يدل على حجية الإجماع.
(1)
انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (2/ 4).
(2)
انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (1/ 211).
(3)
انظر: «شرح مختصر الروضة» للطوفي (3/ 15).
(4)
انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/ 177).
(5)
أخرجه البخاري (3641)، ومسلم (1037/ 174) - واللفظ له -.
(6)
أخرجه البخاري (7311)، ومسلم (1921).
(7)
أخرجه ومسلم (156)، و (1923).
(8)
أخرجه ومسلم (1920).
(9)
أخرجه ومسلم (1925).
(10)
مثل عقبة بن عامر كما عند مسلم (1924)، وأبو هريرة كما عند ابن ماجه (7)، وقرة بن إياس كما عند الترمذي (2192)، وابن ماجه (6).
ولنفرض أن الأمة في وقت أجمعت على قول معين فقطعًا هذا القول هو الراجح وهو الذي يحبه الله؛ لأن من بين المجمعين تلك الطائفة المنصورة.
الدليل السادس: ثبت عند أحمد وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «
…
، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ»
(1)
.
هذا دليل على حجية الإجماع كما أفاده ابن حزم
(2)
، وابن القيم في «الفروسية»
(3)
، والشاطبي في «الاعتصام»
(4)
، وغيرهم من أهل العلم.
ورواه الخطيب البغدادي
(5)
مرفوعًا عن أنس رضي الله عنه، لكنه لا يصح من حديث أنس، كما بينه ابن حزم
(6)
، وابن القيم في كتابه «الفروسية»
(7)
، وابن عبد الهادي فيما نقله عنه العجلوني
(8)
، والعلامة الألباني
(9)
.
الدليل السابع: ثبت عند ابن أبي عاصم عن أبي مسعود البدري أنه قال: «عليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة»
(10)
(1)
أخرجه أحمد (3600)، والبزار (1816)، وابن الأعرابي في «المعجم» (861)، والطبراني في «المعجم الكبير» (9/ 112)، والحاكم (4465) وصححه، وغيرهم.
(2)
انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (6/ 18 - 19).
(3)
انظر: «الفروسية» لابن القيم (ص:299).
(4)
انظر: «الاعتصام» للشاطبي (3/ 46، 325).
(5)
أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (5/ 270).
(6)
انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (6/ 18).
(7)
انظر: «الفروسية» لابن القيم (ص:298).
(8)
انظر: «كشف الخفاء» للعجلوني (2/ 221).
(9)
انظر: «السلسلة الضعيفة» للألباني (532).
(10)
أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (85)، وابن أبي شيبة (37615)، واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (1/ 122)، والحاكم (8545) وصححه.
هذا نص في حجية الإجماع وقد جاء مرفوعًا
(1)
، والأصح -والله أعلم-أنه لا يصح مرفوعًا، وإنما يصح من كلام أبي مسعود البدري رضي الله عنه،
…
إلى غير ذلك من الأدلة.
* تنبيه: استدل بعض الأصوليين بأدلة لا دلالة فيها على حجية الإجماع، ومن ذلك:
1 -
أنهم استدلوا بالأدلة التي تدل على أن لزوم الجماعة واجب وأن من خرج عن الجماعة ومات مات ميتة جاهلية.
كالذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»
(2)
.
وأخرج أحمد وأبو داود من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ»
(3)
.
والأظهر والله أعلم أن الاستدلال بمثل هذا لا يصح، لأن المراد بالجماعة في هذا الحديث جماعة الأبدان وهو السمع والطاعة للحاكم في غير معصية الله، وليس المراد به اجتماع الأمة وإنما المراد به جماعة الأبدان.
فقد ذكر الخطابي رحمه الله في كتابه «العزلة» : أن الفرقة نوعان فرقة أبدان وفرقة أديان، وفي المقابل الاجتماع يكون نوعين، اجتماع على الأبدان واجتماع على الأديان
(4)
.
(1)
كما عند أبي داود (4253) من حديث أبي مالك الأشعري، وابن ماجه (3950) من حديث أنس وغيرهم.
(2)
أخرجه مسلم (1848/ 53) من حديث أبي هريرة.
(3)
أخرجه أحمد (21560)، وأبو داود (4758)، وصحَّح الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4758) طبعة المعارف.
وأخرجه من حديث أبي مالك الأشعري أحمدُ (22910)، والترمذي (2863) وقال: حسن صحيح. وصحَّح الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (2863) طبعة المعارف.
(4)
انظر: «العزلة» للخطابي (ص:8).