المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المقدمة: ‌ ‌تعريف بالمؤلف: لم تعن أسرة ابن مالك بتسجيل اليوم الذي ولد - شرح الكافية الشافية - جـ ١

[ابن مالك]

الفصل: المقدمة: ‌ ‌تعريف بالمؤلف: لم تعن أسرة ابن مالك بتسجيل اليوم الذي ولد

المقدمة:

‌تعريف بالمؤلف:

لم تعن أسرة ابن مالك بتسجيل اليوم الذي ولد فيه طفلها، فظل هذا اليوم مجهولًا إلى الآن لدى مؤرخيه، وسوف يظل كذلك إلى الأبد.

ويبدو أن الأسرة التي انحدر منها المصنف لم تكن تطمع في جاه، ولم يكن لها أساس من مجد.

فلم يعرف التاريخ عن آبائه شيئًا، ولم يرد من النصوص ما يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد، فالصمت مطبق حول أسرته.

ويظهر أن الشيخ كان يعرف ذلك. يعرف أنه نشأ في أسرة رقيقة الحال، فلم يشر إليها، أو يتحدث عنها.

ومن يدري. لعله لم يكن يجد من الحوادث المتعلقة بها ما يستحق الذكر، أو كان يجده، ولكن يؤلمه الحدث فيها.

وسكوت ابن مالك عن الحديث عن نفسه، وإمساكه عن الإشارة إلى ماضيه، وصمته عن كل ما يتصل بأهله، وعشيرته أعطى الفرصة السانحة للمؤرخين، فأهملوا الحديث عما يتعلق بذلك.

فقد درج المؤرخون في العصور القديمة والوسطى، وشطر من

ص: 11

العصور الحديثة على التأريخ للملوك، وأصحاب الجاه والسلطان، حتى كاد التاريخ في تلك الأيام يقتصر على الحكام والأعيان.

فإذا ما ولد طفل في قصر اهتم به المؤرخون منذ مولده -بل ربما قبل مولده- وأفاضوا في نسبه وحسبه، وعظيم مواهبه.

أما إذا كان مغمورًا، فإن إنسانًا واحدًا لا يكاد يشعر بقدومه، ولم يتعرض له كاتب أو مؤرخ.

فإذا أصاب من الدنيا نصيبًا حاول المؤرخون عندئذ سد الثغرة التي أحاطت بنشأته، فإذا أعوزتهم الحقائق لجئوا إلى نسج الخيال والأساطير.

وإن الناظر في كتب التاريخ في تلك العصور ليأخذه العجب حتى يرى معظمها ينصب على "وفيات الأعيان" و "تاريخ الملوك" أما الشعوب، أما عامة الناس فليس لهم فيها نصيب، وليس فيهم من يهم المؤرخ، أو يعني الكاتب، وإن وجد من المؤرخين في تلك الحقبة من يتعرض لواحد من المواطنين، فإنما يكون ذلك تلميحًا بقدر ما يحتاج إليه الموضوع الذي يتحدث فيه.

ولم يتورع بعض المؤرخين عن الجهر بذلك.

وها هوذا أبو المحاسن يقول في معرض حديثه عن أحد الأفراد (1):

"وقد أضربنا عن شرح ما حدث له؛ لأنه لم يكن من أعيان الناس لتشكر أفعاله أو تذم".

وأغلب الظن أن ابن مالك حرم في طفولته من كل عطف

(1) بدائع الزهور 2/ 244.

ص: 12

وحنان بل ربما كانت طفولته طفولة معذبة، منعه الحياء من الخوض فيها باللسان، أو بالقلم، فاكتفى بالصمت الذي هو أبلغ من كل بيان.

ورب ضارة نافعة، فالراجح أن هذا الحرمان كان السبب في التجاء الشيخ إلى الدرس، والتحصيل عله يجد في ذلك عوضًا عن بعض ما فاته.

ومهما يك من شيء فلا تكاد توجد وثيقة واحدة، أو مصدر مؤكد أو خبر عمن يوثق به يكشف شيئًا للباحث في طفولة هذا الرجل، أو علاقته بأسرته، أو صلاته بأخواته وإخواته -إن كان له إخوة أو أخوات- فجهل الناس كل ما يتصل بهؤلاء.

وليس من الحق الزعم بأن المصنف أمسك عن الحديث عن سيرة أحداده، وآبائه وإخوته وإخوانه، وأصداقاء طفولته وصباه، وعيشته في موطنه؛ لأنه ضرب من العبث واللغو لا يتفق مع ما شغل به من تحصيل للعلم، وخدمة لأهله.

فالرابطة الإنسانية رابطة عميقة الجذور، تجري في الدماء، وتتغلغل في النفوس، وهو أقرب الروابط إلى الإنسان، وأحبها إليه، وأعلقها بفؤاده.

وإذا كان ذلك كذلك فلا يمنع الإنسان عن الخوض فيها إلا أمر قاهر، ولن يكون العلم؛ لأن العلم أسمى من ذلك. فهو الذي يهذب النفوس، ويرهف العواطف فأولى به أن يقوي في الإنسان الشعور بالإنسانية، لا أن يجرده منها.

والذي يرجحه الباحث أن يكون ابن مالك نشأ وحيدًا لوالديه، وأن يكون افتقد أمه صغيرًا، وربما كان شأن أبيه شأن غيره من العرب

ص: 13

الأندلسيين في ذلك الوقت جنديًا في الجيش، الذي أعده الأمير أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف في مدينة جيان -مسقط رأس المصنف- لقتال الإدفنس سنة (609) هـ في موقعة العقاب.

فقد روى صاحب المعجب أن "أمير المؤمنين خرج من أشبيلية سنة (609) هـ، فسار حتى نزل "جيان" فأقام بها ينظر في أمره، ويعبئ عساكره، وخرج أمير المؤمنين من مدينة "جيان"، فالتقى هو والأدفنس بموضع يعرف بالعقاب بالقرب من حصن يدعى حصن سالم.

فعبأ الأدفنس جيوشه، ورتب أصحابه، ودهم المسلمين وهم على غير أهبة فانهزموا، وقتل خلق كثير.

وثبت أبو عبد الله -يقصد الأمير- في ذلك اليوم ثباتًا لم ير لملك قبله، ولولا ثباته لاستؤصلت تلك الجموع كلها قتلًا وأسرًا.

وكانت هذه الهزيمة الكبرى على المسلمين يوم الاثنين منتصف صفر سنة (609) هـ (1).

من هنا يعلم أن الأمر كان شديدًا على أهل الأندلس عامة، وعلى أهل جيان خاصة في بدء حياة الشيخ.

ولا يستبعد أن يكون والده -وهو ذلك الرجل العربي المسلم، الذي يتمتع بما يتصف به العرب والمسلمون من شجاعة، وشهامة انخرط في سلك الجندية. جنديًا مرتزقًا أو متطوعًا، ثم ذهب ولم يعد، فقد كانت موقعة العقاب -كما بينا من المواقع الفاصلة في التاريخ، وكانت الهزيمة فيها منكرة.

(1) المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار أهل المغرب ص 215، وما بعدها.

ص: 14

ولو صح هذا يكون المصنف فقد والده في فجر حياته، واستقبل الحياة وحيدًا في بلاد الأندلس، مما دعاه إلى هجرها إلى المشرق بعد أن أودع ثراها أعز ما يملك الإنسان وهو الذكرى.

مولده:

بالرجوع إلى أقوال الذين تحدثوا عن مولد المصنف -وهي أقوال كثيرة- يتضح أن ابن مالك توفي في سن عادية تتراوح بين الرابعة والستين، والخامسة والسبعين.

وبالموازنة بين هذه الأقوال يظهر أن أقربها إلى الواقع ذلك القول الذي ينادي بأنه ولد سنة (598) هـ.

ومن هؤلاء القائلين بذلك: المقري فقد حكى عن بعضهم أن المصنف ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة (1).

وكأنما أراد أن يقوي هذا الرأي -وهو ثالث قول يورده في كتابه- عندما قال (2):

"وعليه عول شيخ شيوخنا ابن غازي"(3) في قوله:

قد خبع ابن مالك في خبعا

وهو ابن عه كذا وعي من قد وعى

والبيت قصد به بيان تاريخ وفاة ابن مالك، وعمره.

فتاريخ وفاته يدل عليه قوله "خبعا" إذ الخاء: ستمائة، والدين سبعون والباء: ثنتان.

(1) المقرى: نفح الطيب 7/ 280.

(2)

نفس المرجع 7/ 281.

(3)

هو أبو عبد الله المكناسي، الفارسي المتوفى سنة 919 هـ.

ص: 15

أما عمره فيؤخذ من قوله: "عه"؛ لأن العين: سبعون، والهاء: خمسة.

وأيد هذا الرأي: الخضري في حاشيته على ابن عقيل (1)، والأشموني شارح الألفية (2).

والذي يرجع كفه هذا القول احتمال هجر المصنف أرض الأندلس عقب موقعه العقاب مباشرة، أو بعدها بزمن يسير.

وموقعه العقاب كانت سنة (609) هـ، ويتحتم أن يكون المصنف في ذلك الوقت في سن تسمح له بتحمل عناء السفر الطويل، ومشقات الاغتراب وحيدًا.

ولن تكون هذه السن أقل من اثنتي عشرة سنة، وهي سن تسمح لمثله في العبقرية، والذكاء أن يكون ملمًا بدروس في النحو واللغة، والشريعة، وغيرها في بيئة تموج بالعلم والعلماء.

نسبه:

تضاربت الأقوال والآراء في سلسلة نسب المصنف.

وإذا صح القول بأن بعضها يحتمل أن يكون مختصرًا من البعض الآخر يصبح في الإمكان حصر الخلاف في روايتين:

أولاهما: رواية الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن طولون الصالحي، وهي التي تقول إنه: محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن مالك.

وهذا صورة ما قاله ابن طولون في تعريفه بالشيخ (3).

(1) ص 6.

(2)

جـ 1 ص 7، 8.

(3)

ابن طولون الصالحي: هداية السالك إلى ترجمة ابن مالك ص 1.

ص: 16

"هو محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله -ثلاثًا- ابن مالك".

ولم يسبق ابن طولون إلى التثليث في اسم والد ابن مالك "عبد الله"، ولا تابعه في ذلك أحد من العلماء أو المؤرخين.

وقد خشي ابن طولون أن يتوهم قارئ أن تكرار "عبد الله" للمرة الثالثة من قبيل الخطأ أو النسيان، فأبعد ذلك الوهم بقوله:"ثلاثًا" ليعلم أن تكرار "عبد الله مقصود؛ لأنه اسم أبيه، واسم جده، واسم جد أبيه.

الثانية: إن أسمه محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مالك. وهي التي اعتمدتها دائرة المعارف الإسلامية (1)، وذكرها بروكلمان (2)، وسار عليها الدماميني (3).

كنيته ولقبه:

أجمعت مصادر سيرة ابن مالك على أنه كان يكنى بأبي عبد الله، كما أجمعت على أن لقبه "جمال الدين".

وقد يتصرف في هذا اللقب كقول القسطلاني (4)"كان الجمال بن مالك".

وهنا لقب آخر له ذكره ابن طولون، وانفرد به وهو "جلا الأعلى"، فقد قال فيحديثه عنه (5):

(1) المجلد الأول ص 272.

(2)

جـ 1 ص 298.

(3)

تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد، وتكميل المقاصد ص 5.

(4)

القسطلاني على البخاري 1/ 141.

(5)

هداية السالك إلى ترجمة ابن مالك ص 1.

ص: 17

"الشيخ جمال الدين، أبو عبد الله المشهور بـ "جلا الأعلى".

وهذا اللقب لم يذكره أحد ممن ترجموا ابن مالك -وهم كثير- ومع ذلك يزعم ابن طولون أنه مشهور بهذا اللقب، الذي لم يرد في غير كتابه.

موطن ولادته:

ليس غريبًا أن يختلف المؤرخون في تاريخ مولد المصنف، وإنما الغريب أن يختلفوا في موطن ولادته، وربما كان مرجع هذا الاختلاف إلى ما يلي:

أولًا: هجرة الشيخ وهو صغير، وتركه موطنه الأصلي في سن مبكرة.

ثانيًا: ذلك الغموض التام الذي أسدل ستارًا كثيفًا حول حياته في الأندلس، فأخفاها عن العين. وأدخلها في مجاهل الظن والتخمين.

ثالثًا: اقتران نبوغ الشيخ بدمشق مما غر بعض العلماء، فتوهموا أنه مولد فيها (1). وأكثر الذين ترجموا المصنف رأوا أنه ولد في "جيان الحرير"، وهي بلدة من مشاهير بلاد الأندلس، وأكثرهم زرعًا، وأصرمها أبطالًا، وأمنعها منعة (2)، وضواحيها جميلة (3).

ويضبطها ياقوت (4) بفتح الجيم، وتشديد الياء مع النون في

(1) منهم سركيس في معجم المطبوعات 234.

(2)

الإصطخري: المسالك والممالك 35.

(3)

الثعالبي: يتيمة الدهر، البستاني: دائرة المعارف مجلد 6 ص 632.

(4)

ياقوت: معجم البلدان ص 185.

ص: 18

آخرها "جيان"، ويوافقه على هذا صاحب القاموس (1)، والمقري (2).

والراجح أن المصنف ولد في "جيان"، ويؤكد هذا ما كتبه بقلمه، إذ أنه كتب إجازتين علميتين لتلميذه ابن جعوان (3) في نهاية كتابه "إكمال الإعلام في تثليث الكلام".

وجاء في نهاية الإجازة الأولى: "وكتبه محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني".

وجاء في نهاية الثانية: "وكتبه الفقير إلى عفو الله، محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني".

وتاريخ الإجازة الأولى يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة من سنة أربع وستين وستمائة.

وتاريخ الثانية: يوم الخميس التاسع والعشرين من ربيع الأول من سنة سبع وستين وستمائة.

وإذا كان ابن مالك ولد في "جيان" وعاش في "دمشق"، فالثابت تاريخيًا أنه لم ينتقل من الأولى إلى الثانية دفعة واحدة، وإنما عرج في طريقه على القاهرة فقضى فيها وقتًا، قال المقري يتحدث عنه (4):

"وقدم رحمه الله القاهرة، ثم رحل إلى دمشق، وبهامات".

وقال الشيخ الملوي في حاشيته على المكودي، شارح الألفية متحدثًا عنه (5):

(1) الفيروز بادي: القاموس المحيط 4/ 212.

(2)

المقري: نفح الطيب 7/ 282.

(3)

الشيخ شمس الدين، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عباس بن أبي بكر بن جعوان.

(4)

المقري: نفخ الطيب 7/ 274.

(5)

حاشية الملوي على شرح المكودي لألفية بن مالك 1/ 5.

ص: 19

"وقد تولى القضاء بالقاهرة، وتشفع بها، ثم رحل إلى الشام".

وليس من شك في قدوم ابن مالك إلى القاهرة، وإنما الشك كل الشك في توليه القضاء بها.

ذلك أن منصب القضاء من المناصب الخطيرة في الدول الإسلامية، والمصنف حين مروره بمصر كان صغير السن، ولم يكن حصل من العلم القدر الذي يؤهله -وهو غريب من الديار- لهذا المننصب الخطير.

هذا إلى أنه كان بمصر في ذلك الوقت من العلماء من يملأ منصب القضاء، إن أصبح الناس يومًا، ورأوا منصب القاضي شاغرًا.

منهم على سبيل المثال لا الحصر: عبد العظيم المنذري، وشهاب الدين القرافي، وابن الحاجب، وابن معط.

يضاف إلى هذا أن صاحب كتاب "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" تعرض لمن تولوا القضاء في مصر (1)، ولم يذكر فيهم ابن مالك.

ومهما يك من شيء فإن ابن مالك مر في طريقه إلى الشام على "مصر"، وأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم ارتحل إلى الأراضي المقدسة رغبة في الحج، ثم سافر إلى "دمشق"، وحضر فيها دروسًا على بعض علمائها، ثم انتقل إلى "حلب"، فأقام فيها أزمانًا يشتغل بالتدريس، ثم رحل إلى "حماة"، ومنها عاد غلى "دمشق"، فتصدر للتدريس فيها بجانب مهمة القراءة على التربة العادلية، وظل كذلك

(1) السيوطي: حسن المحاضرة 2/ 85 - 109.

ص: 20

صابرًا محتسبًا حتى وافاه الأجل، فذهب وترك الناس من بعده يجهلون كل شيء عنه ويتساءلون:

متى ولد؟ أين ذهبت أسرته؟ متى هجر جيان؟ لم كان ذلك؟ كيف قضى عهد طفولته وصباه؟ متى قدم مصر؟ على من حضر فيها؟ لماذا غادرها، وهي قلب العروبة النابض منذ القدم؟ لماذا خص دمشق بالهجرة؟ لماذا فارقها؟ متى كان ذلك؟ لماذا ترك حلب بعد أن اختارها بديلًا لدمشق؟ كم أقام في حماة؟ ما الداعي لانتقاله إليها؟ ماذا قدر لأمره في تلك البلاد؟ ثم عاد إلى دمشق؟

لقد مضى في رحمة الله، وترك الناس من بعده يجهلون ذلك وغيره، ويقربون ذلك تقريبًا.

ثقافة ابن مالك:

نشأ رحمه الله ولوعًا بالعلم، محبًا للثقافة، مقبلًا على مؤلفات القدماء يلتهمها التهامًا، ويهضم ما فيها، متريثًا أمام نصوصها شأنه في ذلك شأن الطالب المعتمد على نفسه الذي يقرأ بفكر واع.

وقد جمع له الله -تعالى- الأسباب التي تؤهله، لأن يكون رجلًا عظيمًا "واحد عصره"(1) كما يقولون.

فهيأ له البيئة التي تموج بالعلم. وتدفع إليه دفعًا، ومنحه العقل المفكر، والذهن الألمعي، والحافظة الذاكرة، والرغبة الدافعة،

(1) نفح الطيب 7/ 257، مرآة الجنان 4/ 174، دائرة معارف القرن العشرين مجلد 9/ 431.

ص: 21

حتى يقال: "إنه حفظ يوم موته عدة أبيات حدها بعضهم بثمانية، لقنها إياه ابنه"(1)، وهو على فراش الموت.

ثم إن رحلته من المغرب إلى المشرق، وتنقله بين البلدان، ومن مكان إلى مكان، أتاح له الاتصال بكبار العلماء، فأفاد منهم ما استطاع، وما امتد وقته.

وما لم تمتد إليه يد الفناء من آثار ابن مالك ينبئ عن اتصال بنواح كثيرة من العلوم كاللغة والنحو، والصرف، والعروض، والحديث، والقراءات. فتنوعت دراساته حتى كادت تشمل أكثر علوم العربية في عصره.

وامتزاج الثقافات عنده ظاهر جلي، وقد ساعدته درايته باللغة، وإحاطته بالنحو والصرف، وإلمامه بالأدب على حل المشكلات التي تنشأ من الاختلاف في فهم النصوص.

وكان المشرف اليونيني يقرأ الحديث بين يدي شيخه ابن مالك، فإذا مر بهم لفظ يوهم ظاهره مخالفة قوانين العربية. سأله الشيخ:"هل الرواية فيه كذلك"؟

فإن أجاب بأنه منها شرع ابن مالك في توجيه الرواية، لتسير في ظلال القواعد العربية.

ومن ثم وضع كتابه المسمى "شواهد التوضيح، والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح"(2).

وقد حفظ التاريخ ما كتبه ابن مالك على الورقة الأولى من

(1) نفح الطيب 7/ 279، 283 فوات الوفيات 2/ 237، دائرة معارف البستاني مجلد 1/ 675.

(2)

القسطلاني على البخاري 1/ 141.

ص: 22

الجزء الأخير من نسخة الشرف اليونيتي من صحيح البخاري، وهذا صورته:

"سمعت ما تضمنه هذا المجلد من صحيح البخاري رضي الله عنه بقراءة سيدنا الشيخ الإمام العالم، الحافظ المتفنن شرف الدين أبي الحسين علي بن محمد بن أحمد اليونيني رضي الله عنه وعن سلفه- وكان السماع بحضرة جماعة من الفضلاء، ناظرين في نسخ معتمد عليها، فكلما مر بهم لفظ ذو إشكال بينت فيه وجه الصواب، وضبطته على ما اقتضاه علمي بالعربية.

وما افتقر إلى بسط عبارة، وإقامة دلالة أخرت أمره إلى جزء أستوفي فيه الكلام مما يحتاج إليه من نظير وشاهد، ليكون الانتفاع به عامًا، والبيان تامًا -إن شاء الله تعالى- وكتبه محمد بن عبد الله بن مالك -حامدًا الله تعالى".

كما كتب الحافظ اليونيني على ظهر آخر ورقة من المجلد المذكور ما صورته:

"بلغت مقابلة وتصحيحًا، وإسماعًا بين يدي شيخنا شيخ الإسلام، حجة العرب، مالك أزمة الأدب العلامة أبي عبد الله بن مالك، الطائي، الجياني -أمد الله في عمره- في المجلس الحادي والسبعين، وهو يراعي قراءتي، ويلاحظ نطقي، فما اختاره ورجحه وأمر بإصلاحه أصلحته، وصححت عليه.

وما ذكر أنه يجوز فيه إعرابان، أو ثلاثة أعملت ذلك على ما أمر ورجح.

ص: 23

وكتبه علي بن محمد الهاشمي اليونيني" (1).

وبهذا يثبت ما قاله المؤرخون "كان ابن مالك آية في الحديث"(2)، فهو سمعه وأرهف السمع ليضبط مشكله، ويخرج ما ظاهره البعد عن قياس العربية ثم صنف فيه، وبذا يكون حصل منه ما لم يحصله كثير من أمثاله.

ومن هنا يعلم السر في كثرة استشهاد الشيخ بما ورد في الحديث الشريف بصورة أفزعت كثيرا من العلماء على رأسهم أبو حيان، الذي أكثر من الاعتراض على المصنف كقوله في "التذييل والتكميل شرح التسهيل"(3).

"قد نهج هذا المصنف في تصانيفه كثيرا بالاستدلال بما وقع في إثبات القواعد الكلية في لسان العرب.

وما رأيت أحدًا من المتقدمين، ولا المتأخرين سلك هذه الطريقة غير هذا الرجل".

وكان المصنف رحمه الله أكثر ما يستشهد بالقرآن الكريم، وله في استحضار الآيات للاستدلال بها قوة وقدرة، فقد كان إمامًا في القراءات، وعالمًا بها، نظم فيها قصيدته الرائعة التي يعتبرها العلماء في قدر "الشاطبية"(4)، وإن كانت في نظر صاحبها أعظم وأجل، وأشمل وها هوذا يقول في مقدمتها (5):

(1) ابن مالك: شواهد التوضيح والتصحيح من 220، 221.

(2)

دائرة معارف البستاني المجلد الأول ص 674، فوات الوفيات 2/ 227، نفح الطيب 7/ 263 دائرة معارف القرن العشرين 9/ 431.

(3)

جـ 7 ص 90.

(4)

نفح الطيب 7/ 269، 260، الوافي بالوفيات للصلاح الصفدي 3/ 359.

(5)

القصيدة المالكية لابن مالك ص 1.

ص: 24

وبعد فذا نظم وجيز قد احتوى

على ما احتوى حرز الأماني وأزيدا

يريد بـ "حرز الأماني" القصيدة المشهورة بالشاطبية فاسمها "حرز الأماني ووجه التهاني".

وكان الشيخ إذا لم يجد في القرآن شاهدًا عدل إلى الحديث الشريف، يستخرج منه ما صحت روايته معتمدًا في ذلك على خبرته الواسعة، وممارسته كتب الحديث النبوي الموثوق بصحة ما فيها.

فإن لم يتيسر له العثور على ضالته المنشودة عرج على شعر العرب، وكلامهم.

ولعل كثرة اطلاعه على شعر القدماء، وسرعة حفظه لما يقع تحت بصره سهل له نظم الشعر، بل طبعه على قوله حتى عالجه في أصعب مسالكه، وهو نظم العلوم.

فلا شك أن هذا اللون من أشق ألوان النظم؛ لأن أفكاره محددة، وموضوعاته مفروضة، وعلى ناظم العلوم أن يستوفي ما أمامه من أراء وأفكار.

وقد يجمع المصنف في استدلالاته بين القرآن الكريم والحديث الشريف، والموثوق

به من الشعر وكلام العرب.

ولقد كان له في اللغة باع طويل.

قال الصفدي (1):

أخبرني أبو الثناء محمود (2) قال:

(1) الوافي بالوفيات 3/ 359.

(2)

شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي، ثم الدمشقي، أبو الثناء كاتب السر بدمشق توفي سنة 725 هـ.

ص: 25

"جلس ابن مالك يومًا، وذكر ما انفرد به صاحب المحكم (1) عن الأزهري (2) في اللغة".

وهذا -لا ريب- أمر عظيم؛ لأنه يحتاج إلى معرفة ما في الكتابين معرفة دقيقة، ثم الموازنة بين ما اشتملا عليه.

أما النحو والصرف، فقد كان فيهما بحرًا لا يشق لجه، حتى صار يضرب به المثل في دقائق النحو، وغوامض الصرف (3).

وفي هذا المجال عجب الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته واستحضاره لكل ما مر به، حتى أصبحوا في حيرة من أمره (4)، وانبري من بينهم من يقول:

"إن ابن مالك ما خلى للنحو حرمة"(5).

وسمع ابن مالك يقول (6) عن ابن الحاجب (7):

"إنه أخذ علمه عن صاحب المفصل، وصاحب المفصل نحوي صغيره".

(1) أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيدة، ولد سنة 398 هـ وتوفي سنة 458 هـ.

(2)

أبو منصور محمد بن أحمد بن أزهر، صاحب كتاب التهذيب ولد سنة 282 هـ وتوفي سنة 370 هـ.

(3)

المقري: نفح الطيب 7/ 278.

(4)

السيوطي: بغية الوعاة ص 53.

(5)

القاتل هو الشيخ ركن الدين بن القوبع، كما في نفح الطيب 7/ 272، وبغية الوعاة ص 55.

(6)

بغية الوعاة ص 55، نفح الطيب 7/ 272.

(7)

عثمان بن عمر بن أبي بكر. ولد بإسنا من صعيد مصر سنة 570 هـ، وتوفي في الإسكندرية سنة 646 هـ.

ص: 26

وصاحب المفصل هو الزمخشري.

ولا يجرؤ على قول هذا على جار الله، إلا من بلغ القمة.

حياته:

ورد على كراريس من كتاب "تسهيل الفوائد، وتكميل المقاصد" بخط ابن مالك مؤلفه:

"صورة قصة رفعها -الفقير إلى رحمة ربه: محمد بن عبد الله بن مالك، يقبل الأرض، وينهي إلى السلطان -أيد الله جنوده، وأيد سعوده- إنه أعرف أهل زمانه بعلوم القراءات، والنحو، واللغة، وفنون الأدب.

وأمله أن يعينه نفوذ من سيد السلاطين، وسيد الشياطين -خلد الله ملكه، وجعل المشارق والمغراب ملكه- على ما هو بصدده من إفادة المستفيدين، وإرشاد المسترشدين، بصدقة تكفيه هم عياله، وتغنيه عن التسبب في صلاح حاله" (1).

وهذه الرسالة تعطي صورة واضحة المعالم لخشونة عيش المؤلف رحمه الله وتبين أن حياته كان فيها شيء غير قليل من العسر، الذي كان يستبد به أحيانًا فيطلب المعونة، ومن يدري لعله كانت تعوزه النفقة، ولا يجد من يمد له يد العون فيصبر قانعًا محتسبًا، مفضلًا مرارة العيش على ذلك الوظيفة وخدمة الولاة والسلاطين، مؤثرُا العزلة على الاختلاط بالمجتمع المتنافر من حوله.

لقد كان في استطاعة الشيخ تغيير أسلوب حياته، إن هو أقبل نحو الحكام متعاونًا. ولا ريب أنه أهل لمنصب لا بأس به، وكيف لا وقد كان قاضي القضاة يأتي مجلسه، ويتعلم منه، ويسأله (2).

(1) السيوطي: حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة 2/ 75.

(2)

المقري: نفح الطيب 7/ 295.

ص: 27

ولكن الاعتداد بالنفس الذي قضى عليه أن يلابس دهره كما شاء في الجملة، لا كما أراد بالتفصيل.

فضحك لجوانب الحياة المظلمة، وهزأ بما يراه غيره نعمة، ورضي من الزمان حلوه ومره، وقنع بالعيش يسره وعسره.

وفي الرضا والقناعة عزاء للنفس، وشفاء للروح.

أخلاقه:

حبا الله -تعالى- المصنف بأخلاق عالية، وطبعه على خلال حميدة، فغدا موضع الرضا والاحترام، والتكريم والتبجيل من كل من عرفه، أو اتصل به، ولم يسمع أن واحدًا من مريديه، أو المخالطين له أنكر عليه شيئًا رآه فيه.

وهو في نظر مؤرخيه كثير العبادة، حسن السمت، كامل العقل (1) مهذب ذو رزانة وحياء ووقار (2).

لا يرى إلا وهو يصلي، أو يتلو، أو يصنف، أو يقرئ، فله الدين المتين، والتقوى الراسخة (3)، والعفة (4).

ولعل أوضح أخلاق ابن مالك، وأبرزها وأخلدها على الزمان:

الترفع والإباء، والاعتداد بالنفس.

والاعتداد بالنفس صفة محمودة تصفي على صاحبها كمال

(1) فوات الوفيات 2/ 227، نفح الطيب 7/ 63، مرآة الجنان 4/ 173، دائرة معارف البستاني المجلد الأول ص 674، دائرة معارف القرن العشرين المجلد 9 ص 431، بغية الوعاة ص 53.

(2)

نفح الطيب 7/ 278.

(3)

طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 5/ 28.

(4)

حاشية الخضري على ابن عقيل ص 6.

ص: 28

الرجولة إذا لم يؤيدها المكابرة، والتشبث والعناد، وهو ما برئ منه الشيخ.

ومن الصفات الجميلة التي طبع عليها: الرجوع إلى الحق، وهي من صفات العلماء الأجلاء.

روى صاحب "نفح الطيب" قال: (1)

لما سئل ابن مالك عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بالله من الحور بعد الكور"(2)، هل هو بالراء أم بالنون؟

أنكر النون.

فقيل له: "إن في الغريبين للهروي "رواية بالنون"، فرجع عن قوله الأول. وكان رحمه الله لا يكتب شيئًا من محفوظه حتى يراجعه في محله (3).

كما كان حريصًا على وقته، منظمًا له، لا ينفقه إلا فيما رهن نفسه به من اطلاع، أو تأليف، أو قراءة أو تعليم.

وهناك موقف صغير يحكي عنه يدل على مدى اهتمامه بوقته، واعتزازه به،

ذلك أنه خرج يومًا مع أصحابه للفرجة بدمشق، فلما بلغوا الموضع الذي أرادوه غفلوا عنه سويعة ثم طلبوه فلم يجدوه، وبعد البحث عنه وجدوه مكبًا على أوراق (4).

واشتهر ابن مالك رحمه الله على ضيق ذات يده بالسماحة

(1) نفح الطيب 7/ 293 - 295.

(2)

أي: من النقصان بعد الزيادة، أو من فساد أمورنا بعد صلاحها.

(3)

نفح الطيب 7/ 282.

(4)

نفس المرجع والصفحة.

ص: 29

والكرم، حتى غدت هذه الصفة من السمات المميزة له، وسمع من المؤرخين من يردد" (1).

"انفرد ابن مالك عن المغاربة بشيئين: الكرم، ومذهب الإمام الشافعي".

وفاته:

إن كان بعض المؤرخين ممن تحدثوا عن المصنف أغفل عام ولادته، فإن واحدًا منهم لم يغفل يوم وفاته:

ولكن المؤرخين ساروا في ثلاثة طرق:

الطريق الأول: وفيه سار الجمهور، وهو أنه توفي في يوم الأربعاء الثاني عشر من شعبان سنة (672) هـ.

الطريق الثاني: وسار فيه العلامة الشمني (2)، وهو أنه توفي في يوم الأربعاء الثاني عشر من شعبان سنة (671) هـ.

الطريق الثالث: وسار فيه العلامة العيني (3)، وهو أنه توفي في ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان سنة (672) هـ.

ويؤيد رأي الجمهور ما كتبه تلميذه بقلمه في صدر كتابه "إكمال الأعلام في تثليث الكلام"، وهذه صورته:

"صنفه الشيخ، الإمام، العالم، الكامل، المحقق، فريد الدهر، وحيد العصر: جمال الدين أبو عبد الله بن مالك الطائي، الجياني، قدس الله روحه رواية مالكه، محمد بن أبي الفتح بن أبي الفضل، الحنبلي، إجازة عنه.

(1) فوات الوفيات 2/ 227، الوافي بالوفيات 3/ 359.

(2)

حاشية الشمني على المغني 1/ 106.

(3)

عقد الجمان جـ 20 القسم الثالث.

ص: 30

توفي مصنفه يوم الأربعاء ثاني عشر من شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة".

ويوافق هذا التاريخ اليوم الحادي والعشرين من فبراير عام أربعة وسبعين، ومائتين وألف من ميلاد السيد المسيح عليه السلام (1).

ودفن بسفح جبل قاسيون، وقبره بالروضة شرقي قبر الشيخ موفق الدين ابن قدامة، وعند رأسه حجر من صوان أحمر (2).

عصر المؤلف:

ولد المصنف في الأندلس، وقضى زهرة شبابه وخريف حياته في الشام، ولكل من المواطنين أثر فيه، لذا كان لزامًا على من يتعرض لحياة الشيخ من قريب أو بعيد أن يعرض للحياة في الأندلس، وللحياة في الشام من النواحي السياسية والعلمية، والاجتماعية.

فالإنسان لا يمكن أن ينفصل عما يدور حوله في بلد يحيا فيه.

ولقد قضى المصنف الشطر الأول من حياته في الأندلس، حيث اشتدت فيها المعارك بين المسلمين والفرنجة، وتساقطت البلاد في تلك الحقبة في يد الأعداء تابعًا.

ولم تكن الفترة التي عاشها في الشام بأطيب من هذه الحال، فقد اضطربت المور هناك، وكان ما كان من هجوم الصليبيين، والتتار، فشاهد بعينيه آثار أفعال هؤلاء القوم، كما عاصر الدولة العباسية، وهي تجود بأنفاسها الأخيرة ثم تسقط، ورأى دولًا تسقط لتقوم على أنقاضها دول أخرى.

(1) دائرة المعارف الإسلامية 1/ 272.

(2)

هداية السالك إلى ترجمة ابن مالك لابن طولون الصالحي ص 7.

ص: 31

وهكذا أراد الله -تعالى- أن يمتلئ عصر ابن مالك بالأحداث الهامة في الخارج والخطيرة في الداخل، حيث اتسمت أساليب الحكم في البلاد، التي عاش فيها بشيء غير قليل من العوج، والتلذذ بمناظر الدم.

وعلى العكس من ذلك عاصر الشيخ رحمه الله نهضة علمية عارمة، في الأندلس حين أشرقت شمس اللغة العربية فأضاءت ما حولها، وبددت ظلمات الجهل عما يجاورها من البلاد الأوربية.

وفي المشرق الإسلامي حين أصبحت أرض الكنانة، وما يتبعها من أقاليم ملجأ للعلماء الفارين من المشرق، ومأوى للعلماء الراحلين من المغرب، وكانت فرصة سانحة لتكاتف العلماء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التراث الثقافي الإسلامي، الذي كاد يجني عليه الجهل، والظلم، والتوحش.

وكان لإقبال الحكام، وأولي الأمر على العلم، وتقريبهم أساتذته، وتشجيعهم طلابه، وتيسيرهم سبل الحياة للراغبين فيه، ومعاونتهم بإقامة المكتبات، وتسابقهم في تشييد المدارس في مختلف أرجاء البلاد أثره الذي لا ينكر في ازدهار العلوم والفنون.

على أن الحركة العلمية في المشرق والمغرب كانت متقاربة، وتسير في اتجاه واحد، وساعد على هذا اتحاد المنبع الذي كان يروي غلة علماء العربية في كل مكان.

وهجرة العلماء من مكان إلى آخر، حيث كان الوطن الإسلامي كله كوادي النمل لا يخلو من جماعات تذهب، وجماعات تجيء.

وربما كان من أهم أسباب قرب الحركة العلمية في المغرب،

ص: 32

من الحركة العلمية في المشرق أن العلماء المغرابة بدأوا حياتهم العلمية باقتفاء أثر العلماء المشارقة، وتتبعهم والسير في منهجهم، والنسج على منوالهم، ومن لم تمكنه ظروفه المعيشية من الرحلة إلى المشرق، لم يعدم أستاذًا عاش فيه، ليتأثر به.

هذا وقد كان المجتمع الذي ضم الشيخ بين أحضانه مجتمعًا مضربًا، اختلطت فيه الدماء والأجناس بالأحداث. فتميز أهله بالميل الشديد إلى الثورة، والانطباع على القسوة والغلظة، وحب القتل، والتلذذ بمناظر الدماء.

واختلف الناس في كل شيء: في الأخلاق، هي العادات، في التقاليد، في الأديان، كما اختلفوا في فهم الحياة، وألوان المعيشة، فانقسم المجتمع طبقات يعلو بعضها رقاب بعض.

وشاع الانحلال الخلقي، وتفشت الفاحشة في كل مكان، فظهر التعصب للدين، وللمذهب، وللجنس.

وكان كل هذا، بل بعضه داعيًا للشيخ، ولأمثاله من العلماء المخلصين إلى أن يعتزلوا المجتمع، ويبتعدوا عنه، منقطعين للعلم والعبادة، مؤثرين التمسك بأهداب الدين على الاختلاط المشبوه.

لذا لم يحفظ التاريخ بين سطوره أن ابن مالك شغل وظيفة هامة، أو تولى منصبًا ذا قيمة، بل قنع بأن يكون طول حياته قارئًا متواضعًا على التربة العادلية، وهمه في حياته:"الدين والعبادة، وكثرة النوافل"(1).

(1) نفح الطيب 7/ 363، بغية الوعاة ص 53.

ص: 33

نظرة في مؤلفات ابن مالك:

عزف الشيخ رحمه الله عن مجتمعه، وشغل نفسه بالعلم.

فعشقه، وأكب على الدراسة فشغف بها، ومال إلى ما خلفه الأقدمون فالتهمه التهامًا. وساعده على ذلك ذكاء نادر، وقريحة وقادة، ونفس صافية، وطبيعة ناقدة حافظة. ومهد كل ذلك له معرفة كثير مما أغفله المتقدمون أو فاتهم. فتتبعهم بالتنبيه على مواضع السهو، ومواطن الزلل.

وقضى عمره -الذي نسأ الله له فيه- متنقلًا بين البلاد المختلفة حتى ألقى عصاه في دمشق. وفي كل مكان ينزله يسعى إليه طلاب العلم، وعشاق المعرفة يشاركونه فيما رهن نفسه به من مسائل في النحو، والصرف، واللغة، والحديث والقراءات. فكان يقرأ، ويدرس، ويبحث ويدون، ويصنف، ثم يملي على مريديه.

وكانت مهمته في التأليف والتصنيف مهمة صعبة، وشاقة، ذلك أن الذين كانوا يحضرون دروسه متفاوتون في المستويات العقلية، والعلمية، والاستعدادات الشخصية، وكان عليه أن يلبي رغبات الجميع ليشبع نهمهم.

من هنا اتسمت مؤلفات ابن مالك بسمات قل تحققها في مؤلفات عالم آخر ممن سبقه، أو أتى بعده منها:

التفاوت بين الطول، والقصر، والإطناب والإيجاز، والسهولة ووعورة المسلك.

والاقتصار -أحيانًا على موضوع واحد، كالمقصور والممدود، والمثلث من الكلام والفرق بين الظاء والضاد، وما يهمز وما لا يهمز، والفرائد في اللغة.

ص: 34

وهو إذا تحدث في موضوع ما تحدث فيه حديثًا شاملًا، واستقصاه استقصاء كاملًا في تنسيق بديع.

وربما دفعه اشتغاله بالتدريس، واحتكاكه الدائم بطلاب المعرفة إلى أن يؤلف الكتاب، ثم بعد مضي وقت يكر عليه بالتجويد، يزيد وينقص، وينقح أو يلخص.

كذلك أدى إطلاعه الدائم على عيون الشعر، وروائع النثر، ومتن اللغة إلى تغاير بعض آرائه من كتاب لآخر. فقد يعرض له من الشواهد ما يقنعه بالعدول عن رأي إلى غيره.

وكان الرجوع إلى الحق من أبرز صفاته -يرحمه الله.

ص: 35