الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5565 -
وعن أسماء بنت يزيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((يحشر الناس في صعيد واحد يوم القيامة، فينادي مناد فيقول: أين الذين كانت تتجافي جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون وهم قليل، فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يؤمر لسائر الناس إلى الحساب)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)).
(4) باب الحوض والشفاعة
الفصل الأول
5566 -
عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر)). رواه البخاري.
5567 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حوضي مسيرة
ــ
الحديث الرابع والخامس عن أسماء رضي الله عنها: قوله: {تتجافي جنوبهم عن المضاجع} أي: ترتفع وتتنحى عن المضاجع داعين ربهم عابدين له لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته وهم المتهجدون.
باب الحوض والشفاعة
((غب)): الشفع ضم الشيء إلى مثله، ومنه الشفاعة وهو الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى مرتبة، ومنه الشفاعة في القيامة.
الفصل الأول
الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((هذا الكوثر)) الكوثر فوعل من الكثرة.
و ((أذفر)) أي: طيب الريح، والذفر بالتحريك يقع على الطيب والكريه، ويفرق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به.
الحديث الثاني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((حوضي مسيرة شهر)) أي مسيرة حوضي وزواياه سواء أي مربع لا يزيد طوله على عرضه.
شهر، وزواياه سواء، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من يشرب منها فلا يظمأ أبدا)). متفق عليه.
5568 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن حوضي أبعد من أيلة من عدن لهو أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه)). قالوا: يا رسول الله! أتعرفنا يومئذ؟ قال: ((نعم لكم سيماء ليست لأحد من الأمم، تردون علي غراً محجلين من أثر الوضوء)). رواه مسلم.
ــ
و ((كيزانه كنجوم السماء)) أي: في الإشراق والكثرة.
وقوله: ((يشرب)) يجوز أن يكون مرفوعاً على أن ((من)) موصولة ومجزوماً على أنها شرطية.
قوله: ((ماؤه أبيض)) مح: النحويون يقولون: لا يبنى فعل التعجب وأفعل التفضيل من الألوان والعيوب بل يتوصل إليه بنحو: أشد وأبلغ، فلا يقال: ما أبيض زيداً، ولا زيد أبيض من عمرو، وهذا الحديث يدل على صحة ذلك وحجة على من منعوه، وهي لغة وإن كانت قليلة الاستعمال.
الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أبعد من أيلة من عدن)) من الأولى متعلقة بـ ((أبعد)) والثانية متعلقة ببعد مقدر، أي: أبعد من بعد أيلة من عدن، والحاصل أن بعد ما بين طرفي الحوض أزيد من بعد ما بين أيلة وعدن.
تو: ((أيلة)) بالياء الساكنة بلدة على الساحل من آخر بلاد الشام مما يلي بحر اليمن، و ((عدن)) آخر بلاد اليمن مما يلي بحر الهند.
قض: اختلاف الأحاديث في مقدار الحوض لأنه صلى الله عليه وسلم قدره على سبيل التمثيل والتخمين لكل أحد على حسب ما رآه وعرفه.
قوله: ((وأحلى من العسل)) أي: ألذ من العسل المخلوط ((باللبن)) ونظيره قول الشاعر:
ونغمه معتف جدواه أحلى
…
على أذنيه من نغم السماع
أي: ألذ.
وقوله: ((وإني لأصد الناس)) يراد بالناس المذكورون في الحديث الآتي.
قوله: ((سيماء)) فا: السومة والسيماء والسيمياء العلامة.
قوله: ((يغت)) قض: أي يدفق دفقا متتابعاً دائماً بقوة، فكأنه من ضغط الماء لكثرته عند خروجه، وأصل الغت الضغط.
5569 -
وفي رواية له عن أنس، قال:((ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء)).
5570 -
وفي أخرى له عن ثوبان، قال: سئل عن شرابه. فقال: ((أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل يغت، فيه ميزابان يمدانه من الجنة: أحدهما من ذهب والآخر من ورق)).
5571 -
وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي)). متفق عليه.
5572 -
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا! فيأتون آدم، فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك
ــ
الحديث الرابع عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((فرطكم)) مح: الفرط بفتح الفاء والراء هو الفارط الذي يتقدم الوراد ليصلح لهم الحياض والدلاء والأرشية وغيرها من أمور الاستسقاء، فمعناه: إني سابقكم إلى الحوض كالمهييء لكم.
قال القاضي عياض: ظاهر هذا الحديث يدل على أن الشرب منه يكون بعد الحساب والنجاة من النار.
و ((سحقاً سحقاً)) أي: بعداً لهم، ونصبه على المصدر، وكرر للتأكيد.
الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يهموا بذلك)) ((مح)): على بناء المجهول، أي: يحزنون لما امتحنوا به من الحبس، من قولهم:((أهمني)) إذا أقلقك وأحزنك.
قوله: ((لو استشفعنا)) لو هي المتضمنة للتمني والطلب.
وقوله: ((فيريحنا)) من الإراحة، ونصبه بأن المقدرة بعد الفاء الواقعة جواباً للو، والمعنى: لو استشفعنا أحداً إلى ربنا فيشفع لنا فيخلصنا مما نحن فيه من الكرب والحبس، قال في أساس البلاغة: شفعت له إلى فلان وأنا شافعه وشفيعه واستشفعني إليه فشفعت له، واستشفع بي، قال الأعشى:
مضى زمن والناس يستشفعون بي
…
فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
وقوله: ((أنت آدم)) هو من باب قوله: أنا أبو النجم وشعرى شعرى.
ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم. - ويذكر خطيئته التي أصاب: أكله من الشجرة وقد نهي عنها - ولكن ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً، فيقول: لست هناكم - ويذكر خطيئته التي أصاب: سؤاله: ربه بغير علم - ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. قال: فيأتون إبراهيم، فيقول: إني لست هناكم - ويذكر ثلاث كذبات كذبهن
ــ
وهو مبهم فيه معنى الكمال لا يعلم ما يراد منه ففسر بما بعده من قوله ((أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده)) إلى آخره.
قوله: ((كل شيء)) وضع شيء موضع الأشياء أي: المسميات، لقوله تعالى:{وعلم آدم الأسماء كلها} أي: أسماء المسميات إرادة للتقصي واحداً فواحداً حتى يستغرق المسميات كلها.
قوله: ((لست هناكم)) قض: أي يقول لهم آدم عليه السلام: لست في المكان والمنزل الذي تحسبونني، يريد به مقام الشفاعة.
وقوله: ((ويذكر خطيئته التي أصاب)) اعتذاراً عن التقاعد والتأني عن الشفاعة، والراجع إلى الموصول محذوف أي التي أصابها، وأكله بدل من خطيئته - انتهى كلامه - ويجوز أن يكون بياناً للضمير المبهم المحذوف، نحو قوله تعالى:{فقضاهن سبع سماوات في يومين} .
مح: قال القاضي عياض: لست هناكم كناية عن أن منزلتهم دون هذه المنزلة، يقولونه تواضعاً وإكباراً لما يسألونه، وقد يكون إشارة من كل واحد منهم إلى أن هذه الشفاعة وهذا المقام ليس له بل لغيره، وكل واحد منهم يدل على الآخر حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه، ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم معيناً، وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر لأن تتدرج الشفاعة في ذلك إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وبارك وسلم، ومبادرة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وإجابته لرغبتهم لتحققه أن هذه الكرامة والمقام له خاصة.
قال الشيخ محي الدين رحمه الله: والحكمة في أن الله تعالى ألهمهم سؤال آدم ومن بعده صلوات الله تعالى وسلامه عليهم في الابتداء، ولم يلهموا سؤال نبينا صلى الله عليه وسلم إظهاراً لفضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنهم لو سألوه ابتداء لكان يحتمل أن غيره يقدر على هذا، فأما إذا سألوه غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه فامتنعوا، ثم سألوه فأجاب وحصل غرضهم فهو النهاية في ارتفاع المنزلة
ولكن ائتوا موسى عبداً آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجياً. قال: فيأتون موسى فيقول: إني لست هناكم - ويذكر خطيئته التي أصاب قتله النفس - ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته)) قال: ((فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم،
ــ
وكمال القرب، وفيه تفضيله على جميع المخلوقين من الرسل والآدميين والملائكة المقربين، فإن هذا الأمر العظيم - وهي الشفاعة العظمى - لا يقدر على الإقدام عليه غيره صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
قوله: ((سؤاله ربه بغير علم)) موقع سؤاله هنا موقع أكله في القرينة السابقة، وقوله:((بغير علم)) حال من الضمير المضاف إليه في سؤاله، أي: صادراً عنه بغير علم، أو من المضاف، أي: ملتبسا بغير علم، و ((ربه)) مفعول سؤاله، والمراد بالسؤال قوله:{رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} طلب أن ينجيه من الغرق، والمراد من قوله:((بغير علم)) أنه سأل ما لا يجوز سؤاله، وكان يجب عليه أن لا يسأل كما قال الله تعالى:{فلا تسألني ما ليس لك به علم} وذلك أنه قال: {إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} أي: وعدتني أن تنجي أهلي من الغرق وإن ابني من أهلي فنجه، قيل له: ما شعرت من المراد بالأهل، وهو من آمن وعمل صالحاً، وابنك عمل غير صالح.
((مح)) قال المازري: قد ذكر المؤرخون أن إدريس جد نوح عليهما السلام، فإن قام دليل على أنه أرسل أيضاً لم يصح أنه قبل نوح، لإخبار النبي عن آدم عليه الصلاة والسلام أن نوحاً أول رسول بعث، وإن لم يقم دليل جاز ما قالوا، وصح أن يحمل أن إدريس كان نبياً غير مرسل.
قال القاضي عياض: وقد قيل: إن إدريس هو إلياس، وأنه كان نبياً في بني إسرائيل كما جاء في بعض الأخبار، فإن كان هكذا سقط الاعتراض بآدم وشيث ورسالتهما إلى من معهما، وإن كانا رسولين فإن آدم إنما أرسل إلى بنيه ولم يكونوا كفاراً، بل أمر بتعليمهم الإيمان وطاعة الله تعالى، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم، بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض.
قال القاضي: وقد رأيت أنبا الحسن ذهب إلى أن آدم ليس برسول ليسلم من هذا الاعتراض، وحديث أبي ذر نص دال على أن آدم وإدريس رسولان.
قوله: ((ويذكر ثلاث كذبات)) قض: إحدى الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم عليه السلام قوله: {إني سقيم} وثانيها قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} وثالثها قوله لسارة: ((هي أختي)) والحق أنها معاريض، ولكن لما كانت صورتها صورة الكذب سماها ((أكاذيب)) واستنقص من نفسه لها، فإن من كان أعرف بالله وأقرب منه منزلة كان أعظم خطراً، وأشد خشية، وعلى هذا القياس سائر ما أضيف إلى الأنبياء من الخطايا.
ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)). قال: ((فيأتوني فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد! وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه)). قال: ((فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء تحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً، فأخرج، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثانية فأستأذن على ربي في
ــ
قوله: ((غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ..)) ((مح)) هذا مما اختلفوا في معناه، قال القاضي: المتقدم ما كان قبل النبوة، والمتأخر عصمتك بعدها.
وقيل: المراد ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من سهو وتأويل - حكاه الطبري، واختاره القشيري.
وقيل: ما تقدم لأبيك آدم وما تأخر من ذنوب أمتك.
وقيل: المراد أنه مغفور له غير مؤاخذ بذنب لو كان.
وقيل: هو تنزيه له عن الذنوب.
قوله: ((فيؤذن لي)) قال القاضي عياض: فيؤذن لي في الشفاعة الموعود بها، والمقام المحمود الذي ادخره الله تعالى له وأعلمه أنه سيبعثه فيه.
قال القاضي: وجاء في حديث أنس وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما: ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم بعد سجوده وحمده والإذن له بالشفاعة بقوله: ((أمتي، أمتي)) وقوله: ((ما يبقى في النار إلا من قد حبسه القرآن)) أي: وجب عليه الخلود، وبين مسلم أن قوله:((وجب عليه الخلود)) هو تفسير قتادة الراوي، وهذا التفسير صحيح، ومعناه من أخبر القرآن أنه مخلد في النار، وهم الكفار، قال الله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به} وفي هذا دلالة لمذهب أهل الحق أنه لا يخلد في النار أحد مات على التوحيد.
قوله: ((فأستأذن على ربي في داره)) أي: فأستأذن في الدخول على دار ربي فيؤذن لي في الدخول عليه.
تو: إضافة دار الثواب هنا إلى الله تعالى كإضافته في قوله تعالى: {لهم دار السلام} على أن السلام اسم من أسماء الله تعالى في أحد الوجهين، وإضافتها إلى الله تعالى للشرف والكرامة، والمراد بالاستئذان عليه أن يدخل مكاناً لا يقف فيه داع إلا استجيب، ولا يقوم به سائل إلا أجيب، ولم يكن بين الواقف فيه وبين ربه حجاب، والحكمة في نقل النبي صلى الله عليه وسلم عن موقفه ذلك إلى دار السلام لعرض الحاجة هي أن موقف العرض والحساب موقف السياسة، ولما كان من حق الشفيع أن يقوم مقام كرامة فتقع الشفاعة موقعها أرشد صلى الله عليه وسلم إلى
داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً. فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد! وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه)) قال:((فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأخرج، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذي لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد! وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه)) قال: ((فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم أشفع؛ فيحد لي حداً، فأخرج، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من قد حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود، ثم تلا هذه الآية {عسى أن يبعثك الله مقامًا محموداً} قال: ((وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم)) متفق عليه.
ــ
النقلة عن موقف الخوف في القيامة إلى موقف الشفاعة والكرامة، وذلك مثل الذي يتحرى الدعاء في مواقف الخدمة ليكون أحق بالإجابة.
قوله: ((فيحد لي حداً)) تو: يريد أنه يبين لي في كل طور من اطوار الشفاعة حداً أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول:((شفعتك فيمن أخل بالجماعات))، ثم يقول:((شفعتك فيمن أخل بالصلوات)) ومثله فيمن شرب الخمر ثم فيمن زنى، وعلى هذا ليريه علو الشفاعة في عظم الذنب على ما فيه من الشفاعة.
قوله: ((فأخرجهم من النار)) فإن قلت: دل أول الكلام على أن المستشفعين هم الذين حبسوا في الموقف وهموا وحزنوا لذلك وطلبوا أن يخلصهم من ذلك الكرب، ودل قوله:((فأخرجهم من النار)) على أنهم من الداخلين فيها، فما وجهه؟
قلت: فيه وجهان:
أحدهما: لعل المؤمنين صاروا فرقتين، فرقة سير بهم إلى النار من غير توقف، وفرقة حبسوا في المحشر واستشفعوا به صلى الله عليه وسلم فخلصهم مما هم فيه وأدخلهم الجنة، ثم شرع في شفاعة الداخلين في النار زمراً بعد زمر، كما دل عليه قوله:((فيحد لي حداً إلخ)) فاختصر الكلام، وهو من حلية التنزيل وقد ذكرنا قانوناً في فتوح الغيب في سورة هود يرجع إليه في مثل هذا الاختصار.
وثانيهما: أن يراد بالنار الحبس والكرب، وما كانوا فيه من الشدة ودنو الشمس إلى رءوسهم وحرها وسفعها، وإلجامهم بالعرق، وبالخروج الخلاص منها - والله أعلم-.
5573 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك: فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد، فيأتوني فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي. فيقال: انطلق، فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع فأقول: يا! رب أمتي أمتي. فيقال: انطلق فأخرج
ــ
قوله: ((وهذا المقام)) يحتمل أن يكون فاعل قال الراوي، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التجريد [تعظيما لشأنه - والله سبحانه وتعالى أعلم -].
الحديث السادس: عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لست لها)) اللام فيه مثلها في قوله تعالى: {امتحن الله قلوبهم للتقوى} ، الكشاف: اللام متعلقة بمحذوف، واللام هي التي في قولك: أنت لهذا الأمر، أي كائن له ومختص به. قال:
أنت لها أحمد من بين البشر
وعلى هذا قوله: ((أنا لها)) وقوله: ((ليس ذلك لك)).
قوله: ((فيمن قال: لا اله إلا الله)) هذا يؤذن بأن ما قدر قبل ذلك بمقدار شعيرة ثم بمثقال حبة من خردل، غير الإيمان الذي يعبر به عن التصديق والإقرار، وهو ما يوجد في القلوب من ثمرة الإيمان، وهو على وجهين: أن يراد بالثمرة ازدياد اليقين وطمأنينة النفس، لأن ظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقوته.
وأن يراد بها العمل وأن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وينصر هذا الوجه حديث أبي سعيد بعد هذا، يعني قوله:((ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيرًا قط)).
من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي. فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردلة من إيمان، فأخرجه من النار. فأنطلق فأفعل، ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدًا، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله. قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله)). متفق عليه.
5574 -
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)). رواه البخاري.
ــ
خط: حبة الخردل مثل في القلة لا في الوزن لأن الإيمان ليس بجسم يحصل به الوزن والكيل، ولكن ما يشكل في العقول يرد إلى العيار المحسوس ليعلم.
قوله: ((ليس ذلك لك)) قض: أي: ليس هذا لك، وإنما أفعل ذلك تعظيماً لاسمي وإجلالاً لتوحيدي، وهو مخصوص بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة:((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة)) الحديث. ويحتمل أن يجري على عمومه ويحمل على حال ومقام آخر.
أقول: إذا فسرنا ما يختص بالله تعالى بالتصديق المجرد عن الثمرة من ازدياد اليقين أو العمل، وذكرنا أن ما يختص بالله تعالى بالتصديق المجرد عن الثمرة من ازدياد اليقين أة العمل، وذكرنا أن ما يختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإيمان مع الثمرة من ازدياد اليقين أو العمل فلا اختلاف.
الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أسعد الناس)) قض: أسعد هنا بمعنى السعيد، إذ لا يسعد بشفاعته من لم يكن من أهل التوحيد، أو المراد بمن قال من لم يكن له عمل يستحق به الرحمة ويستوجب به الخلاص من النار فإن احتياجه إلى الشفاعة أكثر، وانتفاعه بها أوفر.
أقول: قد سبق أن حلول شفاعته إنما هو في حق من أثمر إيمانه إما مزيد طمأنينة أو عمل، وتختلف مراتب اليقين والعمل فيكون التفضيل بحسب المراتب، ولذلك أكد خالصاً بقوله:((من قلبه))، وقد علم أن الإخلاص معدنه ومكانه القلب، فذكر القلب ها هنا تأكيد وتقرير، كما في قوله تعالى:{فإنه آثم قلبه} الكشاف: فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: فإنه آثم، وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟)).
قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند
5575 -
وعنه، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، ثم قال:((أنا سيد الناس يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وتدنو الشمس فيبلغ من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيقول الناس: ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون آدم)). وذكر حديث الشفاعة وقال: ((فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم قال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل، تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب! أمتي يا رب! فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب)). ثم قال: ((والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر)). متفق عليه.
5576 -
وعن حذيفة في حديث الشفاعة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً)). رواه مسلم.
ــ
إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: خذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي؟
الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يوم يقوم الناس)) بدل من قوله: ((يوم القيامة)).
قوله: ((إن ما بين المصراعين)) مظ: المصراعان البابان المغلقان على منفذ واحد، والمصراع مفعال من الصرع وهو الإلقاء، وإنما سمي الباب المغلق مصراعاً لأنه كثير الإلقاء والدفع.
وقيل: ((هجر)) قرية من قرى المدينة، وقيل: قرية من قرى البحرين، يعني مسافة ما بين البابين كمسافة ما بين مكة وهجر – والله أعلم-.
الحديث التاسع عن حذيفة رضي الله عنه، قوله:((جنبتي الصراط)) تو: يريد بجنبتي الصراط ناحيتيه اليمنى واليسرى، يقال: جنبه وجنبته بالتحريك وجنابته وجنابتيه، والمعنى: أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة أمرهما يتمثلان هناك للأمين والخائن، والواصل والقاطع، فيحاجان عن المحق الذي رعاهما، ويشهدان على المبطل الذي أضاعهما ليتميز كل منهما، وقيل: يرسل من الملائكة من يحاج لهما وعنهما، وفي الحديث حث على رعاية حقهما والاهتمام بأمرهما.
5577 -
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم:{رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني} وقال عيسى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} فرفع يديه، فقال:((اللهم أمتي أمتي)). وبكى فقال الله تعالى: ((يا جبريل! اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيه؟)) فأتاه جبريل
ــ
أقول: ويمكن أن تحمل الأمانة على الأمانة العظمى، وهي ما في قوله تعالى:{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان} وصلة الرحم صلتها الكبرى وهي ما في قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة
…
} إلى قوله: {
…
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} فيدخل في الحديث معنى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وكأنهما اكتنفا جنبي الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، وقطري الإيمان والدين القويم.
الحديث العاشر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((وقال عيسى)) مح: هو مصدر يقال: قال قولاً وقالاً وقيلاً، وقد أضيف إلى عيسى عطفاً على مفعول تلا، أي: قول الله وقول عيسى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} أقول: لعله صلى الله عليه وسلم أتى بذكر الشفاعة التي صدرت عن النبيين عن الخليل بتقدير الشرط والصيغة الشرطية، لأن المعنى أن الأصنام أضللن كثيراً من الناس، فمن تاب عن عبادتها وتبعني في التوحيد فإنه متصل بي، فاقبل شفاعتي فيهم، فلا بد من تقدير تاب لأنه مصحح الشفاعة في حق المشركين وعن روح الله كذلك، لأن الضمير في قوله:{وإن تغفر لهم} راجع إلى من اتخذه وأمه إلهين من دون الله، فيكون التقدير إن تغفر لهم بعد ما تابوا عن ذلك فإنك غفور رحيم، وعقبه بقوله:((أمتي، أمتي)) ليبين الفرق بين الشفاعتين، وبون ما بين المنزلتين، وتحريره أن قوله:((أمتي أمتي)) متعلق بمحذوف، إما أن يقدر:((شفعني في أمتي وأرضني فيها)) أو: ((أمتي ارحمهم .. وأرضني بالشفاعة فيهم)) والحذف لضيق المقام وشدة الاهتمام، وهذا يدل على الجزم والقطع والتكرير لمزيد التقرير، ومن ثم أجيب في الحديث: بقوله: ((أنا سنرضيك)) حيث أتى بإن وضمير التعظيم وسين التأكيد، ثم اتبعه بقوله:((لا نسؤك)) تقريراً بعد تقرير على الطرد والعكس، وفي التنزيل:{ولسوف يعطيكك ربك فترضى} زيد لام الابتداء على حرف الاستقبال، ولفظة ((ربك)) وجمع بين حرفي التوكيد والتأخير، فيكون المعنى: ولأنت سوف يعطيك ربك وإن تأخر العطاء.
وقوله: ((وربك أعلم)) من باب التتميم صيانة عما لا ينبغي أن يتوهم، فهو كقوله
فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال. فقال الله لجبريل: ((اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)). رواه مسلم.
5578 -
وعن أبي سعيد الخدري، أن ناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟)) قالوا: لا، يا رسول الله! قال: ((ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد.
فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى
ــ
تعالى: {والله يعلم إنك لرسوله} في قوله تعالى: {قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} اللهم ارزقنا شفاعة هذا النبي صلى الله عليه وسلم المكرم والشفيع المشفع يوم الدين، ولا تسؤه فينا بأن تحرمنا شفاعته يا رب العالمين.
مح: هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد: منها بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته واعتنائه بمصالحهم واهتمامه في أمرهم.
ومنها: البشارة العظيمة لهذه الأمة المرحومة زادها الله شرفا بما وعده الله تعالى بقوله: ((سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)) وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة.
ومنها: بيان عظم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، وعظم لطفه سبحانه وتعالى به صلى الله عليه وسلم، والحكمة في إرسال جبريل عليه السلام لسؤاله صلى الله عليه وسلم إظهار شرفه وأنه بالمحل الأعلى فسترضى وتكرم.
((ولا نسوؤك)) تأكيد للمعنى، أي: لا نخزيك في حق أمتك، لما قد يتوهم أن قوله:((سنرضيك)) قد يراد به في حق البعض بأن يعفو عنهم ويدخل الباقي في النار، فقال الله تعالى: نرضيك ولا ندخل عليك حزناً بل ننجي الجميع.
الحديث الحادي عشر عن أبي سعيد الخضري رضي الله عنه:
قوله: ((والأنصاب)) الأنصاب جمع نصب، وهي حجارة كانت تعبد من دون الله تعالى ويذبحون عليها تقرباً إلى آلهتهم، وكل ما نصب واعتقد تعظيمه من الحجر والشجر فهو نصب.
إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين قال: فماذا
ــ
قوله: ((أتاهم رب العالمين)) قال الشيخ الإمام أبو الفتوح العجلي في كتاب الأقاويل المشهورة: قال البيهقي: قد تكلم الشيخ أبو سليمان الخطابي رحمه الله في تفسر هذا الحديث وتأويله بما فيه الكفاية، قال: إن هذا موضع يحتاج الكلام فيه إلى تأويل وتخريج، وليس ذلك من أجل أننا ننكر رؤية الله سبحانه وتعالى بل نثبتها، ولا من أجل أنا ندفع ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر المجيء والإتيان غير أنا لا نكيف ذلك ولا نجعله حركة وانتقالاً كمجيء الأشخاص وإتيانهما فإن ذلك من نعوت الحدث تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ويجب أن يعلم أن الرؤية التي هي ثواب الأولياء وكرامة لهم في الجنة غير هذه الرؤية المذكورة في مقامهم، واحتج بحديث صهيب في الرؤية بعد دخول الجنة، وإنما تعرضهم لهذه الرؤية امتحان من الله تعالى فيقع به التمييز بين من عبد الله تعالى وبين من عبد الطواغيت ليتبع كل من الفريقين معبوده، وليس ينكر أن يكون الامتحان إذ ذاك بعد قائماً، وحكمه على الخلق جارياً حتى يفرغ من الحساب ويقع الجزاء بما يستحقونه من الثواب والعقاب، ثم ينقطع إذا حقت الحقائق واستقرت أمور العباد قرارها، ألا ترى قوله تعالى:{يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} وجاء في الحديث: إن المؤمنين يسجدون وتبقى ظهور المنافقين طبقاً واحداً.
قال: ويخرج معنى إتيان الله في هذا إياهم أنه يشهدهم رؤيته ليتيقنوه، فتكون معرفتهم له في الآخرة عياناً، كما كان اعترافهم بربوبيته في الدنيا علماً واستدلالاً، ويكون طريق الرؤية بعد أن لم يكن بمنزلة إتيان الآتي من حيث لم يكونوا شاهدوه.
قيل: ويشبه - والله أعلم - أن يكون إنما حجبهم عن تحقق الرؤية في الكرة الأولى حتى قالوا: ((هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا)) من أجل من معهم من المنافقين الذين لا يستحقون الرؤية وهم عن ربهم محجوبون، فلما تميزوا عنهم ارتفع الحجب، فقالوا عندما رأوه:((أنت ربنا)).
قال الشيخ: والذي يوضح ما ذكره الإمام أبو سليمان أن الدنيا وإن كانت دار ابتلاء فقد يتحقق الجزاء في بعض الأحوال كما قال الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} فهكذا الآخرة وإن كانت دار جزاء فقد يقع فيها الابتلاء، بدليل أن القبر وهو أول منزل من منازل الآخر يجري فيه الابتلاء.
ثم قال: فليس معنى الخبر هذا فذاك، وإلا فمعناه ما أراد صلى الله عليه وسلم مع تنزيه الله تعالى عن كل مماثلة ومشابهة - والله أعلم -.
تو: إتيان الله في الكتاب مفسر بإتيان أمره وإتيان بأسه، ولفظ التنزيل محتمل لكلا القولين، فأما هذا الحديث فإنه مؤول على إتيان أمره، وهو قوله:((فماذا تنتظرون)) ومن السلف
تنظرون؟ يتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا! فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم)). [5578]
ــ
من يتنزه عن تأويله خشية الخطأ مع تمسكه بالعروة الوثقى وهي تنزيه الله تعالى عن الاتصاف بما تتحدث به النفوس من أوصاف الخلق، وعلى هذا القول في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه)) ويجوز أن يعبر عن الإتيان والمجيء عن التجليات الإلهية والتعريفات الربانية، ولا سبيل إلى القول في هذا الحديث وأمثاله إلا من أحد الطريقين: إما التأويل على النسق الذي بينا، وإما السكوت على الوجه الذي ذكرنا.
((مح)): الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه، لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان، فعبر بالإتيان عن الرؤية مجازاً.
وقيل: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه الله إتياناً.
وقيل: المراد بالإتيان إتيان بعض ملائكته.
قال القاضي عياض: وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث، أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة من صور ملائكته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم، فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة: أنا ربكم، ورأوا عليه من علامة المخلوق ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم فيستعيذون بالله منه.
أقول: قول من قال: إن الرؤية حقيقية غير أنا لا نكيف ذلك ونحيل كنه معرفتها إلى علم الله تعالى، وتفسير الإتيان بالتجليات الإلهية والتعريفات الربانية، هو القول الحق، لأن هذا الإتيان مسبوق بقوله: هل تضارون في رؤية الشمس؟ وقد أكده بقوله: بالظهيرة صحواً، وزاد في تقريره وتأكيده بقوله: ليس معها سحاب، وكذا قوله: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر
…
؟ إلى آخره، فإن ليلة البدر هنا بمنزلة الظهيرة هناك، وأنت قد عرفت أن التأكيد والتقرير إنما يصار إليه لدفع توهم التجوز ورفع الخطأ والسهو، فإذا ذهبنا إلى المجاز في هذا المقام فكيف نأمن مثله في إثبات الرؤية الحقيقية في الجنة؟ ولا يذهب إلى هذا إلا من أنكر الرؤية مطلقا كالمعتزلة وأشباههم.
قوله: ((فماذا تنظرون)) أي: قلنا لكم: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فبعضكم اتبع ما عبده فلم لا تتبعونهم؟
وكان من جوابهم: إنا ما تبعناهم ما دمنا في الدنيا عند أفقر أوقات كوننا محتاجين إليهم، فكيف نتبعهم الآن وهم مع ما يعبدون من دون الله حصب جهنم؟.
5579 -
وفي رواية أبي هريرة: ((فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه)).
وفي رواية أبي سعيد: ((فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير
ــ
فقوله: ((أفقر)) حال، و ((ما)) مصدرية، و ((الوقت)) مقدر كما سبق.
مح: معناه أنهم تضرعوا إلى الله تعالى، ولجئوا إليه، وتوسلوا بهذا القول المشعر بالإخلاص إلى الخلاص، يعني: ربنا فارقنا الناس في الدنيا الذين زاغوا عن طاعتك من الأقرباء وممن يحتاج إليهم في المعاش والمصالح الدنيوية، وهكذا كان دأب الصحابة ومن بعدهم من المؤمنين في جميع الأحول والأزمان فإنهم كانوا يقاطعون من حاد الله ورسوله مع حاجتهم إليه، وآثروا رضا الله تعالى على ذلك.
قوله: ((من تلقاء نفسه)) أي: من نحوها وجهتها مخلصا لا لجهة اتقاء الخلق وتعلق الرجاء بهم، وهذا أيضاً يدل على أن الرؤية هي الرؤية الحقيقية.
((مح)): وهذا السجود امتحان من الله تعالى لعباده، وقد استدل بهذا، وبقوله تعالى:{يدعون إلى السجود فلا يستطيعون} على جواز تكليف ما لا يطاق.
وقوله: ((طبقة واحدة)) أي: صفحة، أي: صار فقار ظهره واحدة كالصفحة، وقد يتوهم في هذا الحديث أن المنافقين يرون الله تعالى مع المؤمنين، وهو باطل، إذ ليس في الحديث تصريح برؤيتهم الله تعالى، وإنما فيه أن الجمع الذي فيه المؤمنون والمنافقون يرون الله تعالى، ثم يمتحن بالسجود، فمن سجد كان مخلصاً، ومن لم يقدر عليه كان منافقاً، وهذا لا يدل على أن المنافقين يرون الله تعالى.
قوله: ((تحل الشفاعة)) أي تقع ويؤذن فيها.
قوله: ((ويقولون اللهم سلم سلم)) القائلون الرسل بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد هذا.
وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة في الحق - قد تبين لكم - من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا! كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من
ــ
قوله: ((كأجاويد الخيل)) نه: هي جمع أجواد وأجواد جمع جواد، وهي الفرس السابق الجيد.
قوله: ((فناج مسلم ....)) قسم المارة على الصراط من المؤمنين على ثلاث فرق، قسم مسلم فلا يناله شيء أصلاً، وقسم يخدش ثم يرسل فيخلص، وقسم يكردس ويلقى فيسقط في جهنم، وخدش الجلد قشره بعود أو نحوه، خدشه يخدشه خدشاً.
مح: ((مكدوس)) بالسين المهملة هكذا هو في الأصول، وكذا نقله القاضي عياض عن أكثر الرواة، قال: ورواه العذري بالشين المعجمة، ومعناه بالمعجمة السوق الشديد، وبالمهملة كون الأشياء بعضها راكبة على بعض، ومنه تكدست الدواب في سيرها إذا ركب بعضها بعضاً.
مح: ((مكدوس في النار)) أي: جمعت يداه ورجلاه وألقي فيها.
قوله: ((حتى إذا خلص)) ((حتى)) غاية قوله: ((ومكدوس في نار جهنم)) أي: يبقى المكدوس في النار حتى يخلص بعد العذاب بمقدار ذنبه، أو بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بفضل الله تعالى، ووضع المؤمنون في موضع الراجع إلى المكدوس إشعاراً بالعلية وأن صفة الإيمان منافية للخلود في النار.
قوله: ((ما من أحد منكم)) خطاب للمؤمنين.
قوله: ((بأشد)) خبر.
و ((مناشدة)) منصوب على التمييز.
و ((في الحق)) ظرف له.
و ((قد تبين)) حال إما من الضمير في أشد، وإما من الحق.
و ((من المؤمنين)) متعلق أفعل، أي: بأشد مناشدة منكم، فوضع المظهر موضع المضمر.
و ((الله)) متعلق بمناشدة.
مح: معناه ما منكم من أحد يناشد الله في الدنيا في استيفاء حقه واستقصائه وتحصيله من جهة خصمه والمعتدي عليه بأشد منكم مناشدة لله تعالى في الشفاعة لإخوانكم يوم القيامة - انتهى كلامه -.
وقوله: ((يقولون: ربنا كانوا يصومون)) بيان لمناشدتهم في الآخرة.
عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا! ما بقى فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دنيار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا ًكثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة،
ــ
وقوله: ((لم نذر فيها خيراً)) أي: من كان فيه شيء من ثمرات الإيمان، من ازدياد اليقين والعمل الصالح، فوضع الخير موضع الذات كما يوضع العدل موضعه مبالغة.
((مح)) قال القاضي عياض: قيل: معنى الخير هنا اليقين.
قال: والصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان، لأن مجرد الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ، وإنما يكون هذا التجزؤ بشيء زائد عليه من عمل صالح أو ذكر خفي أو عمل من أعمال القلب من الشفقة على مسكين، أو خوف من الله تعالى ونية صادقة.
قوله: ((فيقبض قبضة من النار)) هم الذين معهم مجرد الإيمان، وهم الذين لم تؤذن فيهم الشفاعة، وتفرد الله تعالى بعلم ما تكنه القلوب بالرحمة لمن ليس عنده إلا مجرد الإيمان، وفيه دليل: على أنه لا ينفع من العمل إلا ما حضر له القلب وصحبته نية، وعلى: زيادة الإيمان ونقصانه وهو مذهب أهل السنة.
والحمم: جمع حمة وهي الفحمة.
وعاد: بمعنى صار، ومنه حديث كعب:((وددت أن يعود هذا اللبن قطراناً) أي يصير.
و ((أفواه)) جمع فوهة بضم الفاء وتشديد الواو المفتوحة، وهو جمع سمع من العرب على غير قياس، وأفواه الأزقة والأنهار أوائلها.
قوله: ((كما تخرج الحبة)) ((حس)): الحبة بكسر الحاء وتشديد الباء، اسم جامع لحبوب البقول التي تنتثر إذا هاجت الريح، ثم إذا أمطرت من قابل نبتت.
وقال الكسائي: هي حب الرياحين، فأما الحنطة ونحوها فهي الحب لا غير، والحبة من العنب فبالفتح.
فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، فيخرجون كاللؤلؤ، في رقابهم الخواتم، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل ولا خير قدموه، فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه)). متفق عليه.
5580 -
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله تعالى: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امتحشوا، وعادوا حمماً، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ألم تروا أنها تخرج صفراء ملتوية)). متفق عليه.
5581 -
وعن أبي هريرة، أن الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكر معنى حديث أبي سعيد غير كشف الساق وقال: ((يضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، لا
ــ
و ((حميل السيل)): هو ما يحمله السيل من غثاء أو طين، فإذا اتفق فيه الحبة واستقرت على شط مجرى السيل نبتت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتاً.
مح: وإنما شبه بها لسرعة نباته وحسنه وطراوته.
قوله: ((في رقابهم الخواتيم)) قال صاحب التحرير: المراد بالخواتيم هنا أشياء من ذهب أو غيره تعلق في أعناقهم يعرفون بها.
قوله: ((لكم ما رأيتم)) فيه حذف، أي: ينظرون في الجنة إلى أشياء ينتهي إليها بصرهم، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه.
الحديث الثاني عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((قد امتحشوا)) جملة حالية، ((مح)) هو بفتح التاء المثناة، والحاء المهملة، والشين المعجمة هكذا هو في الروايات وبه ضبطه الخطابي والهروي، ونقله القاضي عياض عن شيوخه، ومعناه احترقوا، قال القاضي عياض: ورواه بعض شيوخنا بضم التاء وكسر الحاء.
الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه. قوله: ((كلاليب)) هي جمع كلوب، وهي حديدة معقوفة الرأس يعلق عليها اللحم ويرسل في التنور.
و ((السعدان)) بفتح السين نبت له شوكة عظيمة يقال له: حسيكة.
يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرجه ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله تعالى على النار أن تأكل أثر السجود، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة، مقبل بوجهه قبل النار، فيقول: يا رب! اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها،
ــ
وقوله: ((تخطفهم)) يروى بفتح الطاء وكسرها أو تخطفهم بسبب أعمالهم القبيحة أو بحسب أعمالهم.
قوله: ((فمنهم من يوبق بعمله)) نه: وبق يبق، ووبق يوبق إذا هلك، وأوبق غيره فهو موبق أيك مهلك.
والمخردل: المتقطع تقطعه كلاليب الصراط حتى يهوى في النار، يقال: خردلت اللحم بالدال والذال، أي: فصلت أعضائه وقطعته - انتهى كلامه -.
والفاء في قوله: ((فمنهم)) تفصيل للناس الذين تخطفهم الكلاليب بحسب أعمالهم، فالكافر يوبق، والمؤمن العاصي إما مخدوش مرسل أو مدوس مخردل في نار جهنم ثم ينجو.
و ((حتى إذا فرغ الله)) غاية قوله: ((يخردل)) ونحوه سبق في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:
ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون.
وقوله: ((ثم ينجو)) كالمجمل للتفصيل لأن المضارع قد يراد منه الاستمرار والتكرير.
قوله: ((إلا أثر السجود)) أي: إلا موضع أثر السجود.
مح: ظاهر هذا أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة وهي: الجبهة واليدان والركبتان والقدمان.
وقال القاضي عياض: المراد بأثر السجود الجبهة خاصة.
والمختار الأول.
و ((قشبني)) أي: سمني وآذاني وأهلكني، وقال الداودي: معناه غير جلدي وصورتي.
و ((ذكاؤها)) بالمد وفتح الذال المعجمة، وكذا وقع في جميع روايات الحديث أي: لهبها
فيقول: هل عسيت إن أفعل ذلك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا وعزتك، فيعطي الله ما شاء الله من عهد وميثاق، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة ورأي بهجتها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم قال: يا رب! قدمني عند باب الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى: أليس أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت. فيقول: يا رب لا أكون أشقى خلقك. فيقول: فما عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره. فيقول: لا وعزتك لا أسألك غير ذلك، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا بلغ بابها فرأي زهرتها وما فيها من النضرة والسرور، فسكت ما شاء الله أن يسكت، فيقول: يا رب! أدخلني الجنة فيقول الله تبارك
ــ
واشتعالها وشدة وهجها، والأشهر في اللغة مقصورة وقيل: إن القصر والمد لغتان، يقال: ذكت النار تذكو إذا اشتعلت، وأذكيتها أنا.
قوله: ((أن تسأل غير ذلك)) خبر عسى، و ((إن أفعل ذلك)) معترض بينهما، والمعنى: هل يتوقع منك السؤال؟
فإن قلت: كيف يصح هذا من الله تعالى وهو عالم بما كان وما يكون؟
قلت: معناه أنكم يا بني آدم لما عهد منكم من رخاوة الوعد ونقص العهد أحقاء بأن يقال لكم: يا هؤلاء ما ترون هل يتوقع منكم ذلك أم لا؟ وحاصله أن معنى عسى راجع إلى المخاطب لا إلى الله تعالى: وهو من باب إرخاء العنان وبعث المخاطب على التفكر في أمره وشأنه لينصف من نفسه ويذعن للحق.
والبهجة: الحسن والنضارة، وبهجة الجنة حسنها وحسن ما فيها من النعيم، يقال بهج الشيء يبهج فهو بهيج، ويهج به بالكسر إذا فرح به وسر.
قوله: ((لا أكون أشقى خلقك)) فإذا قلت: كيف طابق هذا الجواب قوله: ((أليس قد أعطيت العهود والميثاق؟)).
قلت: كأنه قال: يا رب بلى أعطيت العهود والميثاق، ولكن تأملت في كرمك وعفوك ورحمتك وقولك:{لا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} .
فوقفت على أني لست من الكفار الذين أيسوا من رحمتك، وطمعت في كرمك وسعة رحمتك، فسألت ذلك، وكأنه تعالى رضي عنه بهذا القول فضحك.
قوله: ((فسكت)) كذا في صحيح البخاري وأكثر نسخ المصابيح، فعلى هذا جواب ((إذا))
وتعالى: ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت. فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك أذن له في دخول الجنة، فيقول: تمن، فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله تعالى: تمن من كذا وكذا، أقبل يذكره ربه، حتى إذا انتهت به الأماني قال الله: لك ذلك ومثله معه)).
وفي رواية أبي سعيد: ((قال الله: لك ذلك وعشرة أمثاله)). متفق عليه.
5582 -
وعن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آخر من يدخل الجنة رجل، يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا جاؤوها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين فترفع
ــ
محذوف، والمعنى: إذا بلغ ورأي ما رأي تحير فسكت، ونظيره قوله تعالى:((وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها)).
قوله: ((تمن من كذا)) خط: ((من)) فيه للبيان، يعني تمن من كل جنس ما تشتهي منه.
أقول: نحوه {يغفر لكم ذنوبكم} ويحتمل أن تكون زائدة في الإثبات على مذهب الأخفش.
قوله: ((أقبل يذكره ربه)) بدل من الجملة السابقة على سبيل البيان، و ((ربه)) تنازع فيه العاملان.
الحديث الرابع عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه:
قوله: ((فهو يمشي)) الفاء يجوز أن تكون تفصيلية، أبهم أولا دخوله في الجنة ثم فصل كيفية دخوله فيها ثانياً، وأن تكون لتعقيب الأخبار، وأن تقدم ما بعدها على ما قبلها في الوجود فوقعت موقع ثم في هذا المعنى، كأنه قيل: أخبركم عقيب هذا القول حاله في المشي قبل دخوله إلى الجنة.
وقوله: ((لقد أعطاني)) جواب قسم محذوف، أي أقسم من الفرح أن نجاته نعمه ما ظفر بها أحد من العالمين.
و ((تسفعه النار)) أي أعلمت في وجهه علامة، يقال: سفعت الشيء إذا جعلت عليه علامة، يريد أثراً من النار.
له شجرةٌ فيقول: أي رب! أدْنني من هذه الشجرة فلأ ستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: يا بن آدم! لعلي إِن أَعطيتُكها سألتني غيرَها؟ فيقول: لا يارب! ويعاهده أن لا يسأله غيرها، وربُّه يعذره؛ لأنَّه يرَى مالا صبر له عليه، فيُدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثمَّ ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي ربِّ أدنني من هذه الشجرة لأشرب من مائها، وأستظل بظلها لا أسألكَ غيرها. فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟! فيقول: لعلي إِن أدنيتُك منها تسألني غيرَها؟ فيُعَاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيهِ منها
ــ
والفاء في قوله: ((فلأستظل)) سببية، واللام مزيدة للتأكيد أو عكسه.
قوله: ((هذه)) منصوبة المحل بالفعل يفسره ما بعده، أي: هذه أسألك ولا أسألك غيرها.
وقوله: ((لا أسألك غيرها)) حال أو استئناف.
و ((يعذره)) أي جعله معذورًا، نه: قد تكون ((أعذر)) بمعنى عذر، ومنه حديث المقداد:((لقد أعذر الله إليك)) أي أعذرك وجعلك موضع العذر فأسقط عنك الجهاد.
وقوله: ((لا أسألك غيرها)) حال تنازع فيه: أستظل وأشرب.
قوله: ((سألتني)) جواب الشرط، وهو دال على خبر لعل.
قوله: ((ما يصريني)) نه: وفي رواية: ((ما يصريك مني)) أي ما يقطع مسألتك ويمنعك من سؤالي، يقال: صريت الشيء إذا قطعته، وصريت الماء وصريته إذا جمعته وحبسته.
تو: صرى الله عنه شره إذا رفع، وصريته منعته، وصريت ما بينهم صريًا أي فصلت، يقال: اختصمنا إلى الحاكم فصرى ما بيننا، أي قطع ما بيننا وفصل، وحسن أن يقال: ما يفصل بيني وبينك، أي ما الذي يرضيك حتى تترك مناشدتك والمعنى أنى أجبتك إلى مسألتك كرة بعد أخرى وأخذت ميثاقك أن لا تعود ولا تسأل غيره وأنت لا تفي بذلك، فما الذي يفصل بيني وبينك في هذه القضية، ويكون على وجه المجاز والاتساع والمبتغى منه التوقيف على فضل الله ورحمته وكرمه وبره بعباده حتى أنه يخاطبهم مخاطبة المستعطف الباعث سائله على الاستزادة، وقال الشيخ: وفي المصابيح: ((ما يصريني منك)) وهو غلط، والصواب:((ما يصريك مني)) كذا رواه المتقنون من أهل الرواية، ((مظ)): يمكن أن يحمل على القلب فأصله: ما يصريك مني، وقلب للعلم به، والقلب شائع في كلامهم ذائع في استعمالهم.
أقول: ((الرواية صحيحة والمعنى صحيح على سبيل الكناية.
فيستظلُّ بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرةٌ عند باب الجنة هي أحسنُ من الأوليَين، فيقول: أي ربِّ أدنني من هذه فلأستظلَّ بظلِّها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها. فيقول: يا بن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟! قال: بلى يارب! هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه، فيُدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقولُ: أي ربِّ! أدخلنيها فيقول: يا بن آدم! ما يصريني منك؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها. قال: أي ربِّ! أتستهزئ مني وأنت ربّ العالمين؟ فضحك ابنُ مسعودٍ، فقال: ألا تسألوني مم
ــ
مح: ((يصريني)) يفتح الياء وإسكان الصاد المهملة كذا في صحيح مسلم، وروى في غير مسلم:((ما يصريك مني)) قال إبراهيم الحربي: هو الصواب وأنكر الرواية الأولى التي في صحيح مسلم وغيره، وليس كما قال، بل كلاهما صحيح، وإن السائل متى انقطع عن المسئول انقطع المسئول عنه، والمعنى: أي شيء يرضيك ويقطع السؤال بيني وبينك - انتهى كلامه - وكأن هذا من توارد الخواطر كوقع الحافر على الحافر.
وقوله: ((أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟)): وارد من القائل على سبيل الفرح والاستبشار.
مح: قال القاضي عياض: هذا الكلام صادر عنه وهو غير ضابط لما قال من السرور ببلوغ ما لم يخطر بباله، فلم يضبط لسانه دهشة وفرحًا، وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوق، ونحوه حديث التوبة قول الرجل عند وجدان زاده مع راحلته من شدة الفرح:((أنت عبدي وأنا ربك)).
تو: الضحك من الله تعالى ومن رسوله وإن كانا متفقين في اللفظ فإنهما متباينان في المعنى، وذلك أن الضحك من الله سبحانه يحمل على كمال الرضا عن العبد، وإرادة الخير ممن يشاء أن يرحمه من عباده.
قض: وإنما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجابًا وسرورًا بما رأي من كمال رحمة الله ولطفه على عبده المذنب وكمال الرضا عنه، وأما ضحك ابن مسعود فكان اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله:((هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قوله: ((ولكني على ما أشاء قادر)) فإن قلت: لم استدركه؟.
قلت: ((عن مقدر فإنه تعالى لما قال له: ((أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟)) فاستبعده العبد لما رأي أنه ليس أهلا لذلك وقال: أتستهزئ بي؟ قال سبحانه وتعالى: نعم كنت لست أهلا له لكني أجعلك أهلا لها وأعطيك ما استبعدته لأني على ما أشاء قادر قدير.
أضحك، فقالوا: ممَّ تضحكُ؟ فقال: هكذا ضحكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ممَّ تضحكُ يا رسول الله؟ قال: ((من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قدير)). رواه مسلم.
5583 -
وفي رواية له عن أبي سعيد نحوه، إلا أنه لم يذكر ((فيقولُ: يا بن آدم! ما يصريني منك؟)) إلى آخر الحديث وزاد فيه: ((ويذكره الله: سل كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله: هو لك وعشرة أمثاله قال: ثم يدخل بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين فيقولان: الحمد لله الذى أحياك لنا وأحيانا لك. قال: فيقول: ما أعطى أحدٌ مثل ما أُعطيت)).
5584 -
وعن أنسٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ليصيبن أقوامًا سفعٌ من النار بذنوبٍ أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضله ورحمته فيقال لهم: الجهنميون)). رواه البخاري.
5585 -
وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرجُ أقوامٌ من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنَّة ويُسمَّون الجهنميين)). رواه البخاري. وفي رواية: ((يخرج قوم من أُمَّتي من النَّار بشفاعتي، يسمَّون الجهنميين)).
ــ
قوله: ((زوجتاه)) مح: بالتاء تثنية زوجة هكذا ثبت في الروايات والأصول، وهي لغة صحيحة معروفة.
((الحمد لله الذى أحياك لنا وأحيانا لك)) معناه خلقك لنا وخلقنا لك، وضع أحيا موضع خلق إشعارًا بالخلود، وأنه تعالى جمع بينهما في هذه الدار التي لا موت فيها، وأنها دائمة السرور والحياة، قال الله تعالى:{وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} . والله أعلم.
الحديث الخامس عشر والسادس عشر عن عمران رضي الله عنه: قوله: ((يسمون الجهنميين)) ليست التسمية بها تنقيصًا لهم بل استذكارًا، ليزيدوا فرحًا على فرح، وابتهاجًا على ابتهاج، ولأن يكون ذلك علمًا لكونهم عتقاء الله تعالى، ونحوه ما سبق في حديث أبي سعيد:((فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل)).
5586 -
وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخولا، رجلٌ يخرج من النار حبوًا. فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيُخيل إليه أنها ملأي فيقول: يارب! وجدتها ملأي. فيقول الله: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. فيقول: أتسخر مني - أو تضحك مني - وأنت الملكُ؟! ولقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهلِ الجنة منزلة. متفق عليه.
5587 -
وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل الجنَّةِ دُخولا الجنةَ، وآخر أهل النار خُروجًا منها، رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغارا ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيقول: نعم لا يستطع أن ينكر وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه أن تعرض عليه. فيقال له: فإنَّ لك مكانَ كل سيئة حسنةً. فيقول: ربِّ قد عملت أشياء لا أراها هاهنا)) وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذُه. رواه مسلم.
5588 -
وعن أنسٍ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرجُ من النار أربعةٌ، فيُعرضون
ــ
الحديث السابع عشر إلى التاسع عشر عن أنس رضي الله عنه:
قوله: ((يخرج من النار أربعة)) لعل هذا الخروج - والله أعلم - بعد الورود المعنى بقوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} .
وقيل: معنى الورود الدخول فيها وهي خامدة فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم، وإليه الإشارة بقوله في الحديث الذي يليه:((يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم)) فذكر من الأربعة واحدًا وحكم عليه بالنجاة وترك الثلاثة اعتمادًا على المذكور لأن العلة متحدة في الإخراج من النار والنجاة منها، ولأن الكافر لا خروج له البتة فيدخل مرة أخرى، ولهذا قال:((حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة)) ونحوه في الأسلوب - وهو أن يراد أشياء ويذكر بعضها ويترك بعضها - قوله تعالى: {فيه
على الله، ثم يؤمرُ بهم إلى النار، فيلتفتُ أحدهم فيقول: أي رب! لقد كنت أرجو إذا أخرجتني منها أن لا تُعيدني فيها)) قال: ((فيُنجيه الله منها)). رواه مسلم.
5589 -
وعن أبي سعيد [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخلصُ المؤمنون من النار، فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذنَ لهم في دخول الجنة، فو الذى نفسُ محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان له في الدنيا)). رواه البخاري.
5590 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخلُ أحدٌ الجنة إلا أُري مقعده من النارِ لو أساءَ ليزداد شكرًا، ولا يدخل النار أحدٌ إلا أُري مقعده منَ الجنةِ لو أحسن ليكونَ عليه حسرةً)). رواه البخاري.
5591 -
وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صار أهل الجنة إلى
ــ
آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا} جمع الآيات وفصلها بآيتين إحداهما قوله تعالى: {مقام إبراهيم} وثانيهما: {من دخله كان آمنا} – الكشاف - ذُكرَ هاتان الآيتان وطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، ونحوه في طي الذكر قول جرير:
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم من العبيد وثلث من مواليها
الحديث العشرون عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه:
قوله: ((إذا هذبوا)) الجوهري: التهذيب كالتنقية، ورجل مهذب أي مطهر الأخلاق، فعلى هذا قوله:((ونقوا)) تفسير لقوله: ((هذبوا)) وأدخل واو العطف بين المفسر والمفسر.
((أهدى بمنزله في الجنة)) هدى لا يتعدى بالباء بل باللام وإلى فالوجه أن يضمن معنى اللصوق، أي ألصق بمنزله هاديًا إليه، وفي معناه قوله تعالى:{يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار} أي يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، فجعل {تجرى من تحتهم الأنهار} بيانًا له وتفسيرا، لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها.
الحديث الحادي والعشرون والثاني والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((جيء
الجنة، وأهل النار إلى النار؛ جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثمَّ يذبحُ، ثمَّ يُنادى مُناد: يا أهلَ الجنةِ! لا موت ويا أهل النار! لا موتَ. فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزُنًا إلى حزنهم)) متفق عليه.
الفصل الثاني
5592 -
عن ثوبانَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((حوضي من عدنَ إلى عمَّان البلقاء، ماؤهُ أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابُه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبدًا، أول الناس ورودًا فقراء المهاجرين الشعث رءوسًا، الدنسُ ثيابًا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا يفتح لهم السُّدَدُ)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [5592]
ــ
بالموت)) تو: المراد منه أن يمثل لهم ذلك على المثال الذي ذكره في غير هذه الرواية: ((يؤتى بالموت ككبش أعين ....)) الحديث وذلك ليشاهدوه بأعينهم فضلا أن يدركوه ببصائرهم، والمعاني إذا ارتفعت عن مدارك الأفهام واستعلت عن معارج النفوس لكبر شأنها صيغت لها قوالب من عالم الحس حتى تتصور في القلوب وتستقر في النفوس، ثم إن المعاني في الدار الآخرة تنكشف للناظر انكشاف الصور في هذه الدار الفانية، هذا وأما إذا أحببنا أن نؤثر الإقدام في سبيل لا معلم بها لأحد فاكتفينا بالمرور عن الإلمام.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن ثوبان رضي الله عنه:
قوله: ((إلى عمان البلقاء)) البلقاء مدينة بالشام.
حس: عمان بفتح العين وتشديد الميم، موضع بالشام، وبضم العين وتخفيف الميم موضع بالبحرين.
قوله: ((وأكوابه)) جمع كوب وهو الكوز الذي لا عروة له.
((والسدد)) الأبواب، والواحد سدة سمي بذلك لأن المدخل يسد به.
5593 -
وعن زيد بن أرقم، قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلنا منزلا، فقال:((ما أنتم جزءٌ من مائة ألف جزء ممن يردُ عليَّ الحَوضَ)). قيل: كم كنتم يومئذ؟ قال: سبعمائة أو ثمانمائة. رواه أبو داود. [5593]
5594 -
وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذ لكل نبي حوضًا، وإنهم ليتباهون أيُّهم أكثر واردةً، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردةً)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5594]
5595 -
وعن أنسٍ، قال: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال: ((أنا
ــ
الحديث الثاني والثالث عن سمرة رضي الله عنه: قوله: ((إن لكل نبي حوضًا)) يجوز أن يحمل على ظاهره فيدل على أن لكل نبي حوضًا، وأن يحمل على المجاز ويراد به العلم والهدى، ونحوه قوله:((ومنبري على حوضي)) في وجه، وإليه يلمح قوله صلى الله عليه وسلم:((ما من نبي من الأنبياء إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)).
وقوله: ((أيهم أكثر واردة)) أي ناظرين أيهم أكثر أمة واردة.
الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فأين أطلبك؟)) أي في أي موطن من المواطن التي أحتاج إلى شفاعتك أطلبك، لتخلصني من تلك الورطة؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم:((على الصراط وعند الميزان والحوض)) أي أنت في أفقر أوقاتك إلى شفاعتي في هذه المواطن، فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث وحديث عائشة رضي الله عنها في الفصل الثاني من باب الحساب: ((فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدًا؟)).
قلت: جوابه لعائشة رضي الله عنها بذلك لئلا تتكل على كونها حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي هريرة لئلا ييأس.
فاعل)). قلت: يا رسول الله! فأين أطلبك؟ قال: ((اطلبني أوَّل ما تطلبُني على الصراط)) قلتُ: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: ((فاطلبني عند الميزان)) قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: ((فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطيء هذه الثلاث المواطن)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5595]
5596 -
وعن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قيل له: ما المقامُ المحمودُ؟ قال: ((ذلك يومٌ ينزلُ الله تعالى على كرسيه فيئطُّ كما يئطُّ الرحلُ الجديد من تضايقه
ــ
((أول ما تطلبني)) ما: مصدرية، وأول: نصبه على المصدر، أي اطلبني أول طلب.
و ((الثلاث)) روي على صيغة التذكير والتأنيث، والتذكير ظاهر، وأما التأنيث فباعتبار البقعة.
الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((ذلك اليوم ينزل الله تعالى على كرسيه)) فإن قيل: كيف وجه المطابقة بين السؤال والجواب؟
قلت: ما دل على الجواب هو قوله: ((ثم أقوم على يمين الله)) أي المقام الذى فيه قيامي على يمين الله، فلما أراد أن يفخم ويعظم شأنه أتى في مقدمة الجواب باسم الإشارة الدال على بعده منزلة ثم أخبر عنه بقوله:((يوم)) ونكره تنكير تهويل، ثم وصفه بما يشتمل على عظمة شأنه عز اسمه وجل سلطانه من أخذ الزبدة من المجموع، من غير نظر إلى مفردات الكلام في جهة من جهتي الحقيقة والمجاز، على مامر في الحديث الرابع من الفصل الأول في باب النفخ في الصور، فأطنب في بيانه ثم أدرج فيه ما سيق الكلام لأجله من قوله:((ثم أقوم على يمين الله مقامًا)) هذا على سبيل الكناية الإيمائية، وأما على سبيل المجاز، والاستعارة التمثيلية فهو ما أشار إليه بقوله مثل التجلي لعباده بنعت العظمة والكبرياء، والإقبال عليهم للعدل والقضاء، وإدناء المقربين منهم على حسب مراتبهم، وكشف الحجاب فيما بينه وبينهم بنزول السلطان من غرف القصر إلى صدر الدار، وجلوسه على كرسي الملك للحكومة والفصل، وإقامة خواصه وأهل كرامته حواليه قدامًا ووراء ويمينًا وشمالا على تفاوت مراتبهم لديه.
وقوله: ((فيئط كما يئط الرحل)) مبالغة وتصويرًا لعظمة التجلي على طريقة الترشيح.
والريطة: الملاءة الرقيقة من الكتان التي لا تكون لفقتين يؤتى بها من الشام، وجمعها رياط. أقول: وقوله: ((وهو كسعة)) حال، أو معترضة جيء بها دفعًا لتوهم من يتوهم أن أطيط
به وهو كسعةِ ما بين السماء والأرض، ويُجاءُ بكم حُفاةٌ عُرَاةً غُرلا، فيكون أول من يُكسى إبراهيم يقول الله تعالى: اكسوا خليلي، فيؤتى بريطتيْنِ بيضاوين من رياط الجنَّة، ثم أُكْسَى على أثره، ثم أقومُ عن يمين الله مقامًا يغبطنى الأولون والآخرون)). رواه الدارمي. [5596]
ــ
الكرسي للضيق بسبب تشبيهه بالرحل في الأطيط فقال: ((وهو كسعة ما بين السماء والأرض)). دفعًا لهذا التوهم، وهو من قوله تعالى:{وسع كرسيه السماوات والأرض} .
فإن قلت: لفظ الحديث غير مطابق للفظ الآية فكيف شبهه به؟.
قلت: هذا تمثيل لسعة الكرسي وتصوير لتعظيمه بحسب العرف لا بحسب المقدار فإن الكرسي أوسع منهما عند التحقيق، ونحوه:{جنة عرضها السماوات والأرض} لأن أدنى مرتبة أهل الجنة مثل الدنيا وعشرة أمثالها، ومنه بحسب المدة قوله تعالى:{خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} . في وجه.
قوله: ((أول من يكسى إبراهيم)) في بعض النسخ برفع أول ونصب إبراهيم وفي بعضها على العكس، فعلى الثاني فيه تقديم وتأخير كما في قوله تعالى:{إن خير من استأجرت القوى الأمين} وقد سبق بيانه، وفي الحديث دلالة ظاهرة على فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على ما سوى الله تعالى من الموجودات، وحيازته قصب السبق من بين السابق واللاحق من الملائكة والثقلين، وكفي بالشاهد شهيدًا على أن الملك الأعظم إذا ضرب سرادق الجلال لقضاء شئون العباد وجمع أساطين دولته وأشراف مملكته وجلس على سرير ملكه، فلا يخفي أن من يكون على يمينه هو أولى بالقرب وأحق أن يغتبط منه.
وأما كسوة إبراهيم قبلة صلى الله عليه وسلم فلا يدل على تفضيله عليه بل على فضله، وأنه إنما قدم كسوته على كسوة مثل من يغتبطه الأولون والآخرون إظهارًا لفضله ومكانته، ونحوه قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله
…
} إلى قوله تعالى: {ثم أوحينا إليك
…
} الآية.
الكشاف: في ((ثم)) هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم عليه السلام من الكرامة، وأجل ما أوتى من النعمة، اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله تعالى عليه بها.
5597 -
وعن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شعار المؤمنين يوم القيامة على الصراط: رب سلِّم سلم)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5597]
5598 -
وعن أنسٍ، أذنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)). رواه الترمذي، وأبو داود. [5598]
ــ
الحديث السادس عن المغيرة رضي الله عنه: قوله: ((شعار المؤمنين)) أي: علامتهم التي يتعارفون بها مقتديا كل أمة برسولهم في قوله: ((اللهم سلم سلم)).
الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((شفاعتي لأهل الكبائر)) مح: قال القاضي: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلا ووجوبها سمعًا بصريح قوله تعالى: {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلقوا بمذهبهم في تخليد المذنبين في النار بقوله تعالى:{فما تنفعهم شفاعة الشافعين} وبقوله: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} ، وأجيب أن الآيتين في الكافرين، والمراد بالظلم الشرك، وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها مختصة بزيادة الدرجات فباطل، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار.
أقسام الشفاعة
والشفاعة خمسة أقسام، أولها: مختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم وهي الإراحة من هول الموقف وتعجيل الحساب.
الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهذه أيضًا وردت في نبينا صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: الشفاعة لقوم استوجبوا النار فيشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم ممن يشاء الله تعالى.
5599 -
ورواه ابن ماجه عن جابر [5599]
5600 -
وعن عوف بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني آت من عند ربي فخيَّرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5600]
5601 -
وعن عبد الله بن أبي الجدعاء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يدخلُ الجنَّةَ بشفاعة رجلٍ من أمتي أكثر من بني تميم)) رواه الترمذي، والدرامي وابن ماجه. [5601]
5602 -
وعن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: ((إنَّ من أمتي من يشفعُ للفئام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعُصبة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة)) رواه الترمذي [5602]
ــ
الرابعة: الشفاعة فيمن يدخل النار من المذنبين، فقد جاءت الأحاديث بإخراجهم من النار بشفاعة نبينا والملائكة وإخوانهم من المؤمنين، ثم يخرج الله تعالى كل من قال:((لا إله إلا الله))
الخامسة: الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها، وهذه لا ننكرها أيضًا.
أقول: معنى الحديث الذي نحن بصدده: أن شفاعتي التي تنجي الهالكين مختصة بأهل الكبائر.
الحديث الثامن إلى العاشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((للفئام)) الجوهري: الفئام الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه، والعامة تقول:((فيام)) بلا همز.
وقوله: ((حتى يدخلوا)) يحتمل أن يكون غاية يشفع، والضمير لجميع الأمة، أي تنتهي شفاعتهم إلى أن يدخلوا جميعهم في الجنة.
ويجوز أن يكون بمعنى ((كي)).
5603 -
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل وعَدَني أن يدخل الجنةَ من أمتي أربعمائة ألف بلا حساب)) فقال أبو بكر، زدنا يا رسول الله! قال: وهكذا، فحثا بكفيه وجمعهما، فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله! قال: وهكذا فقال عمر: دعنا يا أبا بكر! فقال أبو بكر: وما عليك أن يُدخلنا الله كلَّنا الجنة؟ فقال عمر: إنَّ الله عز وجل إن شاء أن يُدْخِلَ خلقه الجنَّةَ بكف واحد فعل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق عمر)) رواه في ((شرح السنة)). [5603]
5604 -
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يصف أهل النار، فيمرُّ بهم الرجلُ من أهل الجنة، فيقول الرجل منهم: يا فلان! أما تعرفني؟ أنا الذي سقيتك شربةً. وقال بعضهم: أنا الذى وهبت لك وضوءًا، فيشفع له فيدخله الجنة)). رواه ابن ماجه. [5604]
ــ
الحديث الحادي عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((زدنا يا رسول الله)) أي زدنا في الإخبار عما وعدك ربك من إدخال الجنة بشفاعتك، يدل على هذا التأويل حديث أبي أمامة فقال:((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفًا وثلاث حثيات من حثيات ربي)).
تو: إنما ضرب بالمثل الحثيات لأن من شأن المعطي إذا استزيد أن يحثي بكفيه من غير حساب، وربما ناوله ملء كف، وإنما لم يجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بمثل كلام عمر رضي الله عنه لأنه وجد في البشارات في ذلك مدخلا، فإن الله ينجى خلقه من عذابه بشفاعة الشافعين الفوج بعد الفوج، والقبيل بعد القبيل، ثم يخلص من قصر عنه شفاعة الشافعين بفضل رحمته، وهم الذين سلم لهم الإيمان، ولم يعملوا خيرًا قط، على ما مرَّ في الحديث.
الحديث الثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أنا الذي سقيتك)) مظ: فيه تحريض على الإحسان إلى المسلمين لاسيما مع الصلحاء، والمجالسة معهم ومحبتهم، فإن محبتهم زين في الدنيا ونور في الآخرة.
والوضوء: بفتح الواو، الماء الذي يتوضأ منه.
الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((أن تنظلقا فتلقيا)) خبر إن فإن قلت: كيف يجوز حمل الانطلاق إلى النار وإلقاء النفس فيها على الرحمة؟
5605 -
وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن رجلين ممَّن دخل النار اشتد صياحهما، فقال الربُّ تعالى: أخرجوهما. فقال لهما: لأي شيء اشتد صياحُكما؟ قالا: فعلنا ذلك لترحمنا. قال: فإنَّ رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار، فيُلْقي أحدهما نفسه، فيجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، ويقوم الآخر، فلا يُلقي نفسه، فيقول له الرب تعالى: ما منعك أن تلقى نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول: رب! إني لأرجو أن لا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني منها. فيقول له الرب تعالى: لك رجاؤك فيدحلان جميعًا الجنة برحمة الله)). رواه الترمذي. [5605]
5606 -
وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يردُ الناسُ النار، ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحُضر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشدِّ الرجلِ، ثم كمشيه)). رواه الترمذي، والدارمي. [5606]
ــ
قلت: هذا من حمل السبب على المسبب، وتحقيقه أنهما لما فرطا في جنب الله وقصرا في العاجلة في امتثال أمره، أمرا هنالك بالامتثال في إلقاء أنفسهما في النار إيذانًا بأن الرحمة إنما هي مترتبة على امتثال أمر الله عز وجل.
الحديث الرابع عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((يرد الناس)) تو: الورود لغة قصد الماء ثم يستعمل في غيره، والمراد هنا الجواز على جسر جهنم، وقد بينه بما بعده من قوله: ((فأولهم كلمح البرق
…
)) إلى تمام الحديث، وإنما سماه ورودًا لأن المارة على الصراط يشاهدون النار ويحضرونها، تقول: وردت ماء كذا، إذا حضرته وإن لم تشرع فيه.
ومعنى قوله: ((يصدرون منها)) أي ينصرفون عنها، فإن الصدر إذا عدى بمن اقتضى الانصراف على الاتساع، ومعناه النجاة منها بأعمالهم إذ ليس هناك انصراف وإنما هو المرور عليها، فوضع الصدر موضع النجاة منها للمناسبة التي بين الصدر والورود.
أقول: ثم في قوله: ((ثم يصدرون)) مثلها في قوله تعالى: {ثم ننجى الذين اتقوا} في أنها للتراخي في الرتبة لا الزمان. بين الله تعالى التفاوت بين ورود الناس النار وبين نجاة المتقين منها، لذلك بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم التفاوت بين ورود الناس النار وبين صدورهم منها على أن المواد بالصدور الانصراف، ولهذا عدى بمن ولم يعد بعن.
والحضر: بضم الحاء وسكون الضاد، العدو الشديد.
الفصل الثالث
5607 -
عن ابن عمر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إنَّ أمامكم حوضي، ما بين جنبيه كما بين جرباء، وأذرح)) قال بعض الرواة: هما قريتان بالشام، بينهما مسيرة ثلاث ليال. وفي رواية:((فيه أباريق كنجوم السماء، من ورده فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدًا)). متفق عليه.
5608 -
5609 - * وعن حذيفة وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجمعُ الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تُزلفَ لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة. فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ لستُ بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله)) قال: ((فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى الذي كلمة الله تكليما، فيأتون موسى عليه السلام، فيقول: لست يصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم، فيقوم فيؤذَنُ له، وتُرْسل الأمانةُ والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالا، فيمرُّ أوَّلكم كالبرق)). قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أيُّ شيء كمر البرق؟ قال: ((ألم تروا إلى البرقِ كيف يمرُّ ويرجع في طرفة عين. ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشدِّ الرِّجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: يارب!
ــ
قوله: ((ثم كراكب في رحله)) أي الراكب على راحلته، وعداه بفي لتمكنه من السير، والشد: العدو.
الفصل الثالث
الحديث الأول والثاني عن حذيفة رضي الله عنه:
قوله: ((استفتح لنا الجنة)) أي اطلب أن يفتح لنا باب الجنة حتى ندخلها.
قوله: ((من وراء)) مح: المشهور الفتح فيهما بلا تنوين، ويجوز في العربية بناؤهما على الضم. قال أبو البقاء. الصواب الضم فيهما، لأن تقديره من وراء ذلك. قال: وإن صح الفتح قبل.
وقال الشيخ أبو عبد الله: الفتح صحيح وتكون الكلمة مركبة كشذر مذر، وشغر بغر، فبناؤهما على الفتح، وإن ورد منصوبًا منونًا جاز.
سلم سلم. حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلَاّ زحفًا)). وقال:((وفي حافتي الصراط كلاليب معلقةٌ مأمورة، تأخذ من أُمرت به، فمخدوش ناج، ومكردسٌ في النار)). والذي نفسُ أبي هريرة بيده إن قَعر جهنم لسبعين خريفًا. رواه مسلم.
ــ
قال صاحب التحرير: هذا وارد على سبيل التواضع، أي لست بصدد تلك الدرجة الرفيعة، ومعناه أن المكارم التي أعطيتها كانت بواسطة سفارة جبريل عليه السلام، ولكن ائتوا موسى عليه الصلاة والسلام فإنه حصل له الكلام بغير واسطة، وإنما كرر لأن نبينا صلى الله عليه وسلم حصل له السماع بغير واسطة، وحصل له الرؤية أيضًا، فقال إبراهيم: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد صلى الله عليه وسلم.
وإرسال الأمانة والرحم لعظم أمرهما وكبر موقعهما فتصوران شخصين على الصفة التي يريدها الله سبحانه وتعالى، ومعناه: أنهما يقومان ليطالبا كل من يريد الجواز على الصراط بحقهما، فمن وفي بحقهما يعاوناه على الجواز على الصراط وإلا تركاه.
قوله: ((أي شيء كمر البرق)) أي ما الذي شبه من المارين بمر البرق.
وقوله: ((ألم تروا أن البرق)) بيان لما شبهوا به البرق وهو سرعة اللمعان، يعنى سرعة مرورهم على الصراط كسرعة لمعان البرق، كأنه استبعد أن يكون في الإنسان ما يشبه البرق في السرعة فسأله عن أمر آخر وهو المشبه، فأجاب بأن ذلك غير مستبعد وليس بمستنكر أن يمنحهم الله تعالى ذلك بسبب أعمالهم الحسنة، ألا ترى كيف أسند الجريان إلى الأعمال في قوله:((تجرى بهم أعمالهم)) أي تجرى وهي ملتبسة بهم، لقوله تعالى:{وهي تجرى بهم في موج كالجبال} ويجوز أن تكون الباء فيه للتعدية، ويؤيد الوجه الأول قوله:((حتى تعجز أعمال العباد)) وقوله: ((حتى يجيء الرجل)) بدل من قوله ((حتى تعجز)) وتوضيح له.
قوله: ((لسبعين خريفًا)) مح: في بعض الأصول ((لسبعون)) بالواو وهو ظاهر، وفيه حذف، أي مسافة قعر جهنم مسيرة سبعين خريفًا، وفي معظم الأصول والروايات ((لسبعين)) بالياء، وهو صحيح أيضًا على تقدير مسيرة سبعين، فحذف المضاف وترك المضاف إليه على إعرابه، أو يكون التقدير أن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفًا، فسبعين ظرف لمحذوف.