المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(9) باب بدء الخلق وذكر الأنبياء - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ١١

[الطيبي]

الفصل: ‌(9) باب بدء الخلق وذكر الأنبياء

(9) باب بدء الخلق وذكر الأنبياء

عليهم الصلاة والسلام

الفصل الأول

5698 -

عن عمران بن حصين، قال: إنى كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم، فقال:((اقبلوا البشرى يابني تميم!)) قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن، فقال:((اقبلوا البشرى يا أهل اليمن! إذ لم يقبلها بنو تميم)). قالوا: قبلنا، جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: ((كان

ــ

باب

بدء الخلق وذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

الفصل الأول

الحديث الأول عن عمران رضي الله عنه: قوله: ((إذ جاءه قوم)) أي وقت مجيئهم.

قوله: ((اقبلوا البشرى يابني تميم)) أي اقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا بالجنة من التفقه في الدين والعمل به، ولما لم يكن جل اهتماهم إلا بشأن الدنيا والاستعطاء دون دينهم قالوا:((بشرتنا فأعطنا)) أي بشرتنا بالتفقه وإنما جئنا للاستعطاء فأعطنا فالفاء فصيحة، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذ لم يقبلها بنو تميم)).

قوله: ((عن أول هذا الأمر)) أي مبدأ العالم.

و ((ما)) في ((ما كان)) استفهامية، أي: أي شيء كان أول الأمر؟ كرر السؤال لمزيد الاهتمام، وإنما تحسر الراوي بقوله:((لوددت)) لأنه ظفر بالسؤال ولم يفز بالأول من التفقه في الدين.

قوله: ((ولم يكن شيء قبله)) حال، كما في قول الحماسي.

مشينا مشية الليث غدا والليث غضبان

وعلى مذهب الكوفي خبر، والمعنى يساعده إذ التقدير: كان الله في الأزل متفردًا متوحدًا، وهو مذهب الأخفش فإنه جوز دخول الواو في خبر كان وأخواتها نحو:((كان زيد وأبوه قائم)) على جعل الجملة خبرًا مع الواو تشبيها للخبر بالحال.

ص: 3599

الله ولم يكن شيء قبلة، وكان عرشُه على الماء، ثمَّ خلقَ السماواتِ والأرضَ، وكتبَ في الذكر كل شيء)) ثم أتاني رجلٌ فقال: يا عمرانُ! أدرك ناقتكَ فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها، وايم الله لوددت أنَّها قد ذهبت ولم أقُم رواه البخاري.

ــ

((تو)): هذا فصل مستقل بنفسه لا امتزاج له بالفصل الثاني وهو قوله: {وكان عرشه على الماء} لما بين الفصلين من المنافاة، فإنك إذا جعلت {وكان عرشه على الماء} من تمام القول الأول فقد ناقضت الأول بالثاني، لأن القديم من لم يسبقه شيء ولم يعارضه في الأولية، وقد أشار بقوله:{وكان عرشه على الماء} إلى أنهما كانا مبدأ التكوين، وأنهما كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض، ولم يكن تحت العرش قبل السماوات والأرض إلا الماء، وكيفما كان فالله سبحانه وتعالى خالق ذلك كله وممسكه بقوته وقدرته.

أقول: أراد الشيخ بما قال أن المعطوف عليه مقيد بقوله: ولم يكن قبله شيء)) فلو جعل المعطوف غير مستقل لزم المحذور، فإذا جعل مستقلا ويعطف الثانية على الأولى من حيث الجملية فلا، فإذن لفظة ((كان)) في الموضعين بحسب حال مدخولها فالمراد بالأول الأزلية والقدم، وبالثاني الحدوث بعد العدم.

غب: ((كان)) عبارة عما مضى من الزمان وفي كثير من وصف الله تنبيء عن معنى الأزلية، قال الله تعالى:{وكان الله بكل شيء عليما} وما استعمل منه في جنس الشيء متعلقًا بوصف له موجود فيه فتنبيه على أن ذلك الوصف لازم له قليل الانفكاك منه، قال الله تعالى:{وكان الشيطان للإنسان خذولا} ولا فرق بين أن يكون الزمان المستعمل فيه ((كان)) قد تقدم تقدمًا كبيرًا، وبين أن يكون في زمان قد تقدم بآن واحد على الوقت الذي استعملت فيه ((كان)) كقوله تعالى:{كيف نكلم من كان في المهد صبيا} - انتهى كلامه -.

ومما يدل على صحة قولنا: وبالثاني الحدوث بعد العدم، ما ورد في الفصل الثاني من النص القاطع:((كان في عماء ما تحته ماء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء)) فالحاصل أن عطف قوله: ((وكان عرشه على الماء)) على قوله: ((كان الله ولم يكن قبله شيء)) من باب الإخبار عن حصول الجملتين في الوجود، وتفويض الترتيب إلى الذهن فالواو فيه بمنزلة ثم، وقد سبق في باب الإيمان بالقدر مزيد تقرير وشرح لهذا الكلام

ص: 3600

5699 -

وعن عمر، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه رواه البخاري.

5700 -

وعن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((إنَّ الله تعالى كتب كتابًا قبلَ أن يخلق الخلق: إنَّ رحمتي سبقَت غضبي؛ فهو مكتوبٌ عنده فوق العرش)) متفق عليه.

ــ

الحديث الثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((حتى دخل أهل الجنة)) غاية أخبرنا أي أخبرنا مبتدئا من بدء الخلق حتى انتهى إلى وصول أهل الجنة الجنة، ووضع الماضي موضع المضارع للتحقيق المستفاد من قول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم.

الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كتب كتابًا)) تو: يحتمل أن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، ويكون معنى قوله:((فهو مكتوب عنده)) أي فعلم ذلك عنده، ويحتمل أن يكون المراد القضاء الذي قضاه وعلى الوجهين، فإن قوله:((فهو مكتوب عنده فوق العرش)) تنبيه على كينونته مكنونا على سائر الخلائق، مرفوعًا عن حيز الإدراك، ولا تعلق بهذا القول بما يقع في النفوس من التصورات، تعالى الله عن صفات المحدثات، فإنه هو المباين عن جميع خلقه المتسلط على كل شيء بقهره وقدرته، وفي سبق الرحمة بيان أن قسط الخلق منها أكبر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا بالاستحقاق، ألا ترى أنها تشمل الإنسان جنينًا ورضيعًا وفطيمًا وناشئًا من غير أن تصدر منه طاعة استوجب بها ذلك، ولا يلحقه الغضب إلا بما يصدر عنه من المخالفات {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} فالحمد لله على ما ساق إلينا من النعم قبل استحقاقنا.

مح: غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى إثابة المطيع وعقاب العاصي، والمراد بالسبق هنا وبالغلبة في أخرى كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة، إذا كثرا منه.

أقول: قوله: ((إن رحمتي سبقت غضبي)) يحتمل أن تكون ((أن)) مفتوحة بدلا من ((كتابا)) أو مكسورة حكاية لمضمون الكتاب، وهو على وزان قوله تعالى:{كتب على نفسه الرحمة}

ص: 3601

5701 -

وعن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((خُلقت الملائكة من نور، وخُلقَ الجان من مارج من نار، وخُلقَ آدمُ مما وصف لكم)). رواه مسلم.

5702 -

وعن أنس، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لما صورَ الله آدم في الجنة تركه ما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقًا لا يتمالك)). رواه مسلم.

ــ

أي أوجب وعدًا أن يرحمهم قطعًا، بخلاف ما يترتب عليه مقتضى الغضب من العقاب، فإن الله تعالى غفور كريم يتجاوز عنه بفضله، وأنشد:

وإنى إذا ما أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فالمراد بالسبق هنا القطع بوقوعها.

الحديث الرابع عن عاثشة رضي الله عنها:

قوله: ((الجان من مارج)) مح: الجان أي الجن والمارج، اللهب المختلط بسواد النار.

الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((لما صور الله آدم)) ((تو)): أرى هذا الحديث مشكلا جدًّا، فقد ثبت بالكتاب والسنة أن آدم خلق من أجزاء الأرض، وقد دل على أنه دخل الجنة وهو بشر حي، ويؤيده المفهوم من نص الكتاب:{وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} .

قض: الأخبار متظاهرة على أنه تعالى خلق آدم من تراب قبض من وجه الأرض، وخمره حتى صار طينًا، ثم تركه حتى صار صلصالا، وكان ملقى بين مكة والطائف ببطن نعمان، ولكن ذلك لا ينافي تصويره في الجنة لجواز أن تكون طينته لما خمرت في الأرض وتركت فيها حتى مضت عليها الأطوار واستعدت لقبول الصورة الإنسانية حملت إلى الجنة فصورت ونفخ فيها الروح، وقوله تعالى:{يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} فلا دلالة له أصلا على أنه أدخل الجنة بعد ما نفخ فيه الروح، إذ المراد بالسكون الاستقرار والتمكن، والأمر به لا يجب أن يكون قبل الحصول في الجنة، وقد تضافرت وتعاونت الروايات على أن حواء خلقت من آدم في الجنة وهي أحد المأمورين به، ولعل آدم عليه السلام لما كانت مادته التي هي البدن من العالم السفلي، وصورته التي بها يتميز عن سائر الحيوانات ويضاهي بها الملائكة من العالم العلوي، أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم تكون مادته إلى الأرض لأنها نشأت فيها، وأضاف حصول صورته إلى الجنة لأنها منها.

ص: 3602

5703 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اختتن إبراهيم النبيُّ وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم)) متفق عليه.

5704 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يكذب إبراهيم إلَاّ ثلاثَ كذباتٍ: ثنتين منهنَّ في ذات الله قوله {إني سقيم}، وقوله (بل فعله كبيرهم هذا)،

ــ

وقوله: ((لا يتمالك) أي لا يكون له قوة وثبات بل يكون متزلزل الأمر متغير الحال معرضًا للآفات.

مح: طاف بالشيء يطوف طوفًا وطوافًا، وأطاف يطيف إذا استدار حوله، ((لا يتمالك)) أي لا يملك نفسه ولا يتجنب الشهوات، وقيل: لا يملك دفع الوسواس عنه. وقيل: لا يملك نفسه عند الغضب.

أقول: الأجوف في صفة الإنسان مقابل للصمد في صفة الباريء.

قيل: السيد سمى بالصمد لأنه يصمد إليه في الحوائج، ويقصد إليه في الرغائب، من صمدت الشيء إذا قصدته، وقيل: إنه المميز عن أن يكون بصدد الحاجة أو في معرض الآفة، مأخوذ من الصمد بمعنى المصعد وهو الصلب الذي لا جوف له، فالإنسان مفتقر إلى الغير لقضاء حوائجه وإلى الطعام والشراب ليملأ جوفه، فإذا لا تماسك له في شيء ظاهرًا وباطنًا.

الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بالقدوم)) تو: القدوم بالتخفيف آلة النجار معروفة، وبالتشديد اسم موضع، وقيل: هو بالتخفيف أيضًا، هكذا في جامع الأصول وفي كتاب الحميدي: قال البخاري: قال أبو الزناد (وهو راوي الحديث): اختتن إبراهيم بالقدوم (مخففة) وهو موضع.

تو: ومن المحدثين من يشدد وهو خطأ.

مح: ((القدوم)) وقع في رواية البخاري الخلاف في التخفيف والتشديد، يقال لآلة النجار، قدوم بالتخفيف لا غير، وأما ((القدوم)) مكان بالشام ففيه التشديد والتخفيف، ومن رواه بالتشديد أراد به القرية، ورواية التخفيف تحتمل القرية والآلة، والأكثرون على التخفيف.

الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إلا ثلاث كذبات)) مح: قال المازري: أما الكذب فيما هو طريق البلاغ عن الله تعالى فالأنبياء معصومون منه، سواء قل أو كثر، فإن تجويزه منهم يرفع الوثوق بأقوالهم، ولأن منصب النبوة يرتفع عنه، وأما ما لا يتعلق بالبلاغ

ص: 3603

وقال: بينا هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إنَّ هاهُنا رجلا معه امرأةٌ من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها: من هذه؟ قال: أختي. فأتى سارة، فقال لها: إنَّ هذا الجبار إن يعلم أنكِ امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، [فإنك أختي] في الإسلام، ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري

ــ

ويعد من الصغائر كالكذبة الواحدة في حقير من أمور الدنيا ففي إمكان وقوعه منهم وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف.

قوله: ((في ذات الله)) قال في المغرب: ذو بمعنى الصاحب يقتضي شيئين موصوفًا ومضافًا إليه، وتقول للمؤنث: امرأة ذات مال، ثم اقتطعوها عن مقتضيها وأجروها مجرى الأسماء التامة المستقلة بأنفسها غير المقتضية لما سواها فقالوا: ذات قديمة أو محدثة، ونسبوا إليها من غير تغيير علامة التأنيث، فقالوا: الصفات الذاتية، واستعملوها استعمال النفس والشيء. وعن أبي سعيد: كل شيء ذات وكل ذات شيء.

مح: هذه أيضًا في ذات الله تعالى، لأنها سبب دفع كافر ظالم عن مواقعة فاحشة عظيمة لا يرضي بها الله تعالى، وإنما خص الثنتين بأنهما في ذات الله تعالى لكون الثالثة متضمنة نفعًا له ودفعًا لحرمه - انتهى كلامه -.

أقول: قوله: ((في ذات الله)) أي في الدفع عن ذات الله ما لا يليق بجلاله، يدل عليه ما جاء في حديث آخر:((ما منها كذبة إلا ما حل عن دين الله)) أي خاصم وجادل وذب عن دين الله تعالى، وهو معنى التعريض لأنه نوع من الكناية ونوع من التعريض يسمى بالاستدراج وهو: إرخاء العنان مع الخصم في المجاراة ليعثر حيث يريد تبكيته، فسلك إبراهيم عليه السلام مع القوم هذا المنهج، فقوله:((إنى سقيم)) إيهام منه أنه استدل بأمارة علم النجوم على أنه سقيم ليتركوه فيفعل بالأصنام ما أراد أن يفعل، أو سقيم لما أجد من الغيظ والحنق باتخاذكم النجوم آلهة.

وقوله: ((بل فعله كبيرهم)) تنبيه على أن الإله الذي لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه، كيف يرجى منه دفع الضرر عن الغير؟.

وقوله عن سارة: ((أختي)) دفع عنها قصد الجبار إياها، قيل: كان من ديدن هذا الجبار أو من دينه أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج، فلذلك قال:((إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك)) ويحتمل أن يكون المراد به أنه إن علم ذلك ألزمني بالطلاق، أو قصد قتلي حرصًا عليك.

فإن قلت: فإذا شهد له الصادق المصدوق بالبراءة عن ساحته، فما باله يشهد على نفسه بها في حديث الشفاعة في قوله:((وإني كنت قد كذبت ثلاث كذبات)) فذكرها نفسي نفسي نفسي؟ على أن تسميتها وأنها معاريض بالكذبات إخبار بالشيء على خلاف ما هو به؟.

ص: 3604

وغيرُكِ، فأرسل إليها، فأتي بها، قام إبراهيم يُصلي، فلمَّا دخلت عليه، ذهب يتناولها بيده، فأخذ - ويُروى فغطَّ - حتى ركض برجله، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق، ثم تناولها الثانية، فأخذ مثلها أو أشد، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق، فدعا بعض حجبته، فقال: إنك لم تأتني بإنسانٍ، إنما أتيتني بشيطانٍ، فأخدَمَها هاجر، فأتته وهو قائمٌ يصلي، فأومأ بيده مهيم؟ قالت: رد

ــ

قلت: نحن وإن أخرجناها عن مفهوم الكذبات باعتبار التورية وسميناها معاريض فلا ننكر أن صورتها صورة التعريج عن المستقيم، فالحبيب قصد إلى براءة ساحة الخليل عما لا يليق بها فسماها معاريض، والخليل لمح إلى مرتبة الشفاعة هنالك وأنها مختصة بالحبيب فتجوز بالكذبات.

مح: قوله: ((إذ أتى)) جواب: ((بينا)) أي بيناهما يسيران ذات يوم إذ أتيا على بلد جبار من الجبابرة فوشى بهما، وقوله:((من هذه؟)) بيان للسؤال سأل الجبار بهذا اللفظ، وقوله:((يغلبني عليك)) أي يأخذك مني قهرًا، من قولك: غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك وامتلكه.

وقوله: ((ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك)) يريد به قوله: {إنما المؤمنون إخوة} يعني أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والسبب اللاصق ما يفضل الأخوة في النسب، وليس أحد أحق بهذا الاسم العقد مني ومنك الآن، لأنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك.

وقوله: ((فأرسل إليها)) أي الجبار إلى سارة يطلبها.

وقوله: ((قام إبراهيم)) جملة مستأنفة، كأن قائلا قال: فما فعل بعد؟ فأجيب: قام.

((وذهب يتناولها)) أي طفق.

((فأخذ)) أي حبس نفسه وضغط، والمراد به الخنق هاهنا، أي أخذ بمجاري نفسه حتى سمع له غطيط، وكذا معنى ((الغط)).

((وركض برجله)) أي ضرب، وأصل الركض الضرب بالرجل كما تركض الدابة.

وقوله: ((فأخذ مثلها)) أي أخذه مثل الأخذة الأولى.

وقوله: ((إنما أتيتني بشيطان)) أراد به المتمرد من الجن، وكانوا يهابون الجن ويعظمون أمرهم.

وقوله: ((فأخدمها)) أي الجبار.

ص: 3605

الله كيد الكافر في نحره، وأخدم هاجر)) قال أبو هريرة: تلك أمكم يابني ماء السماء! متفق عليه.

5705 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم إذ قال: (ربِّ أرني كيف تحيي الموتى) ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي)). متفق عليه.

ــ

((هاجر)) خادمة لسارة.

و ((مهيم)) هي كلمة يمانية يستفهم بها، ومعناها ما حالك وما شأنك، جعلت مفسرة للإيماء، أي أومأ بيده إيماء يفهم منه معناها.

قوله: ((كيد الكافر في نحره)) النحر أعلى الصدر، هو من قوله تعالى:{ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله} .

قوله: ((أمكم يا بني ماء السماء)) ((قض)): قيل: أراد بهم العرب سموا بذلك لأنهم يبتغون المطر ويتعيشون به والعرب وإن لم يكونوا بأجمعهم من بطن هاجر لكن غلب أولاد إسماعيل على غيرهم.

وقيل: أراد بهم الأنصار لأنهم أولاد ((عامر بن حارثة الأزدي)) جد ((نعمان بن المنذر)) وهو كان ملقبا ((بماء السماء)) لأنه كان يستمطر به.

ويحتمل أنه أراد بهم ((بني إسماعيل)) وسماهم بذلك لطهارة نسبهم وشرف أصولهم.

الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((نحن أحق بالشك)) خط: مذهب هذا الحديث التواضع والهضم من النفس، وليس في قوله هذا اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما، يقول: إذا لم أشك أنا ولم أرتب في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم عليه السلام أولى بأن لا يشك ولا يرتاب فيه، وفيه الإعلام أن المسألة من قبل إبراهيم لم تعرض من قبل الشك ولكن من قبل زيادة العلم، واستفادة معرفة كيفية الإحياء، والنفس تجد من الطمأنينة بعلم الكيفية ما لم تجده بعلم الآنية، والعلم في الوجهين حاصل والشك مرفوع.

وقد قيل: إنما طلب الإيمان حسًّا وعيانًا لأنه فوق ما كان عليه من الاستدلال، والمستدل لا يزول عنه الوسواس والخواطر، وقد قال صلى الله عليه وسلم:((ليس الخبر كالمعاينة)).

ص: 3606

5706 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى كان رجلا حييا ستيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما تستر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص أو أدرة، وإن الله أراد أن يبرئه، فخلا يومًا وحده ليغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فجمح موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجرُ! ثوبي يا حجرُ! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عُريانا أحسن ما خلق الله وقالوا والله ما بموسي من بأس، وأخذ ثوبه، وطفق بالحجر

ــ

قوله: ((ويرحم الله لوطًا)) تمهيد وتقدمة للخطاب المزعج، كما في قوله تعالى:{عفا الله عنك لم أذنت لهم} .

((قض)): استعظام لما قاله واستغراب لما بدر منه حينما أجهده قومة فقال: {أو آوى إلى ركن شديد} إذ لا ركن أشد وأمنع من الركن الذي كان يأوى إليه، وهو عصمة الله تعالى وحفظه.

قوله: ((لأجبت الداعي)) يريد به قوله تعالى: {فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله} تو: هو منبيء عن إحماده صبر يوسف وتركه الاستعجال بالخروج من السجن مع امتداد مدة الحبس عليه.

ثم إن في ضمن هذا الحديث تنبيها على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا من الله بمكان لا يشاركهم فيه أحد، فإنهم بشر يطرأ عليهم من الأحوال ما يطرأ على البشر، فلا تعدوا ذلك منقصة ولا تحسبوه مسبة.

الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أدرة)) نه: الأدرة بالضم نفخة بالخصية، يقال: رجل أدر بين الأدرة، بفتح الهمزة والدال، وهي التي يسميها الناس الغيلة.

و ((جمح)) أي أسرع إسراعًا لا يرده شيء، وكل شيء مضى لوجهه على أمر فقد جمح.

و ((الندب)) بالتحريك أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد، فشبه به أثر الضرب بالحجر.

أقول: الفاء في قوله: ((فإن الله)) للتعقيب، وأصل الكلام فقالوا: كيت وكيت فأراد الله أن يبرئه، وأتى بإن المؤكدة تأكيدًا اعتناء بشأنه.

وقوله: ((عريانًا)) حال، وكذا قوله:((أحسن)) لأن الرؤية بمعنى النظر.

ص: 3607

ضربًا، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعة أو خمسًا. متفق عليه.

5707 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أيوب يغتسل عُريانا، فخر عليه جرادٌ من ذهب، فجعل أيوبُ يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوبُ! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك)). رواه البخاري.

ــ

قوله: ((ثلاثا)) أي ندبات، بيانًا وتفسيرًا لاسم إن.

مح: فيه معجزتان ظاهرتان لموسى عليه الصلاة والسلام، إحداهما: مشى الحجر بثوبه، والثانية: حصول الندب في الحجر بضربه، وفيه: حصول التمييز في الجماد، وفيه: جواز الغسل عريانًا في الخلوة وإن كان ستر العورة أفضل، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد، وخالفهم ابن أبي ليلى فقال: إن للماء ساكنًا.

وفيه: ابتلاء الأنبياء والصالحين من أذى السفهاء والجهال وصبرهم عليه.

وفيه: أن الأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم منزهون عن النقائص في الخلق والخلق، سالمون من العاهات والمعايب، اللهم إلا على سبيل الابتلاء.

قوله: ((بالحجر)) متعلق بخبر طفق، أي طفق يضرب الحجر ضربًا.

الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((فخر عليه)) نه: خر يخر بالضم والكسر إذا سقط من علو، وخر الماء يخر بالكسر.

و ((يحثى في ثوبه)) أي يصيد فيه.

أقول: الفاء في ((فخر)) مثلها في قوله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم أطوف بالكعبة فإذا دخل آدم)).

قال المالكى: الفاء في قوله: ((فإذا دخل آدم)) زائدة كالأولى في قوله تعالى: {فبذلك فليفرحوا} .

قال جار الله: أصل الكلام: قل: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا.

أقول: قدر ثلاث فاءات فالأولى: لربط الكلام بما قبله، والثالثة: جواب الشرط المقدر، والثانية: زائدة، لأن الباء في ((بذلك)) متعلقة بما بعده قدم للاختصاص.

قوله: ((ألم كن أغنيتك؟)) هذا ليس بعتاب منه تعالى، فإن الإنسان وإن كان مثريا لا يشبع

ص: 3608

5708 -

وعنه، قال: استبَّ رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود. فقال المسلم: والذي اصطفي محمدًا على العالمين. فقال اليهودي: والذي اصطفي موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودى، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك، فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيروني على موسى، فإنَّ الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطشٌ

ــ

بثراه بل يريد المزيد عليه، بل من قبيل التلطف والامتحان بأنه هل يشكر على ما أنعم عليه فيزيد في الشكر، وإليه الإشارة بقوله:((ولكن لا غنى لى عن بركتك)) ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه جوابًا عن قوله: ((أعطه أفقر إليه مني؟)) ((ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك)).

الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تخيروني على موسى)) تو: أي لا تفضلوني عليه، قول قاله على سبيل التواضع أولا، ثم لردع الأمة عن التخيير بين أنبياء الله من تلقاء أنفسهم ثانيًا، فإن ذلك يفضي بهم إلى العصبية، فينتهز الشيطان عند ذلك فرصة فيدعوهم إلى الإفراط والتفريط، فيطرون الفاضل فوق حقه ويبخسون المفضول حقه، فيقعون في مهواة الغي، ولهذا قال:((لا تخيروا بين الأنبياء)) أي لا تقدموا على ذلك بأهوائكم وآرائكم بل بما أتاكم من الله من البيان، وعلى هذا النحو قول النبي صلى الله عليه وسلم:((ولا أقول إن أحدًا خير من يونس بن متى)) أي: لا أقول من تلقاء نفسي، ولا أفضل أحدًا عليه من حيث النبوة والرسالة فإن شأنهما لا يختلف باختلاف الأشخاص، بل يقول: كل من أكرم بالنبوة فإنهم سواء فيما جاءوا به عن الله تعالى وإن اختلفت مراتبهم، وكذلك من أكرم بالرسالة، وإليه وقعت الإشارة بقوله سبحانه:{لا نفرق بين أحد من رسله} وإنما خص يونس بالذكر من بين الرسل لما قص الله عليه في كتابه من أمر يونس، وتوليه عن قومه، وضجره عند تثبطهم في الإجابة، وقلة الاحتمال عنهم والاحتفال بهم حين أرادوا التنصل، فقال عز من قائل:{ولا تكن كصاحب الحوت} وقال: {وهو مليم} فلم يأمن صلى الله عليه وسلم أن يخامر بواطن الضعفاء من أمته ما يعود إلى نقيصة في حقهم، فنبأهم أن ذلك ليس بقادح فيما آتاه الله من فضله، وأنه مع ما كان من شأنه كسائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين.

ص: 3609

بجانب العرش، فلا أدري كان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان فيمن استثنى الله؟)).

وفي رواية: ((فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطورِ، أو بعث قبلي؟ ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متى)).

5709 -

وفي رواية أبي سعيد قال: ((لا تخيروا بين الأنبياء)) متفق عليه.

وفي رواية أبي هريرة: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)).

5710 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خيرٌ من يونس بن متى)) متفق عليه.

ــ

هذا قول جامع في بيان ما ورد في هذا الباب فافهم ترشد إلى الأقوم.

وأما ما ذكره في هذا الحديث من الصعقة فهي بعد البعث عند نفخة الفزع، وأما في البعث فلا تقدم لأحد فيه على نبينا صلى الله عليه وسلم، واختصاص موسى عليه الصلاة والسلام بهذه الفضيلة لا يوجب تفضيلا على من تقدمه بسوابق جمة وفضائل كثيرة، والله المسئول أن يعرفنا حقوقهم، ويحيينا على محبتهم، ويميتنا على سنتهم، ويحشرنا على ما كانوا عليه.

قوله: ((ولا أقول: إن أحدًا)) قال المالكي: استعمل أحدًا في الإثبات لمعنى العموم لأنه في سياق النفي، كأنه قيل: لا أحد أفضل من يونس والشيء قد يعطى حكم ما هو في معناه وإن اختلف في اللفظ، فمن ذلك قوله تعالى:{أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر} فأجرى في دخول الباء على الخبر مجرى (أو ليس الذي) لأنه بمعناه، ومن إيقاع أحد في الإيجاب المؤول بالنفي قول الفرزدق:

ولو سئلت عني نوار وأهلها إذًا أحد لم تنطق الشفتان

فإن ((أحد)) وإن وقع مثبتًا لكنه في الحقيقة منفي لأنه مؤخر معنى، كأنه قال: إذا لم ينطق أحد.

قوله: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)) بالصاد المهملة ظاهر، أي لا تفرقوا بينهم، وبالضاد المعجمة معناه لا يوقع الفضل بين أنبياء الله، أي لا تفضلوا بعض الأنبياء على بعض نحو قوله تعالى:{لقد تقطع بينكم} أي وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد أوقع الجمع بينهما - في الكشاف -.

الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا خير)) قيل: ضمير المتكلم

ص: 3610

وفي رواية للبخاري قال: من قال: أنا خيرٌ من يونس بن متى فقد كذب)).

5711 -

وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا)) متفق عليه.

5712 -

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما سمى الخضر لأنه جلس

ــ

يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: يعود إلى كل قائل، أي لا يقول بعض الجاهلين من المجتهدين في العبادة أو العلم أو غير ذلك من الفضائل، فإنه لو بلغ ما بلغ إلا أنه لم يبلغ درجة النبوة، ويؤيده الرواية الأولى:((ما ينبغى لعبد أن يقول: إنى خير من يونس بن متى)).

مظ: إنما خص يونس بالذكر لأن الله تعالى لم يذكره في جملة أولي العزم من الرسل، وقال الله تعالى:{ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} فقصر به عن مراتب أولى العزم والصبر من الرسل، بقوله صلى الله عليه وآله وبارك وسلم: إذا لم آذن لكم أن تفضلوني على يونس بن متى، فلا يجوز لكم أن تفضلوني على غيره من ذوي العزم من أجلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا منه صلى الله عليه وسلم على التواضع والهضم من نفسه، وليس ذلك بمخالف لقوله:((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) لأنه لم يقل ذلك مفتخرًا ولا متطاولا به على الخلق، وإنما قال ذلك ذاكرًا للنعمة ومعترفًا بالمئة فيه، وأراد بالسيادة ما يكرم به في القيامة من الشفاعة، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يؤول قوله:((من قال: أنا خير منه فقد كذب)) لأن المراد أنا خير في النبوة والرسالة كما قال الله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله} والله أعلم.

الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((الخضر)) مح: جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا لا سيما عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه وحضوره في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر، وصرح الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بذلك، قال: وشذ من أنكره من المحدثين.

قال الجيزي المفسر وأبو عمرو، هو نبي، واختلفوا في كونه مرسلا.

وقال القشيري وكثيرون: هو ولي.

ص: 3611

على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء)). رواه البخاري.

5713 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران، فقال له: أجب ربك)). قال: ((فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها)) قال:

ــ

واحتج من قال بنبوته بقوله تعالى: {وما فعلته عن أمري} فدل على أنه أوحى إليه، وبأنه أعلم من موسى عليه الصلاة والسلام، ويبعد أن يكون الولي أعلم من نبي.

وأجاب الآخرون: يجوز أن يكون قد ألقى إليه بطريق الإلهام، كما ألقى إلى أم موسى في قوله تعالى: {إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه

}.

قال الثعلبي المفسر: الخضر نبي معمر محجوب عن أكثر الأبصار.

قال: وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن.

وذكر أقوالا في أنه في زمن ابراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أم بعده بقليل أو كثير.

قال القاضي عياض: في هذا حجة بينة لأهل السنة وصحة مذهبهم أن العبد لا قدرة له على الفعل إلا بإرادة الله وتيسيره له، خلافًا للمعتزلة القائلين بأن للعبد فعلا من قبل نفسه وقدرة على الهدى والضلال.

وفيه: أن الذين قضى لهم بالنار طبع على قلوبهم وختم وجعل من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا وحجابًا مستورًا، وجعل في آذانهم وقرًا، وفي قلوبهم مرض ليتم سابقته ويمضي كلمته لاراد لحكمه ولا معقب لأمره وقضائه.

وقد يحتج بهذا الحديث من يقول: أطفال الكفار في النار.

قوله: ((لأرهق أبويه)) نه: أي أغشاهما، يقال: رهقه بالكسر يرهقه رهقًا أي غشيه، وأرهقه أي أغشاه إياه، وأرهقني فلان إثما حتى رهقته أي حملني إثمًا حتى حمله له.

الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((على فروة بيضاء)) الفروة: الأرض اليابسة، وقيل: الهشيم اليابس من النبات.

أقول: لعل الثاني أنسب لأن قوله: ((خضراء)) إما تمييز أو حال، كأنه قيل: نظر الخضر عليه السلام إلى مجلسه ذاك فإذا هي تتحرك من جهة الخضرة والنضارة.

الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ففقأها)) أي قلعها وأعماها.

مح: هي بالهمز.

و ((متن الثور)) ظهره.

ص: 3612

((فرجع الملك إلى الله، فقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني)) قال: ((فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثورٍ، فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيثس بها سنةٌ، قال: ثم مه؟، قال: ثمَّ تموت. قال: فالآن من قريبٍ، رب أدنني من الأرض المقدسة رميةً بحجر)). قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر)) متفق عليه.

ــ

و ((رمية بحجر)) قدر ما يبلغه.

و ((ثم مه)) هي هاء السكت، و ((ما)) استفهامية، أي: ثم ماذا يكون أحياة أم موت؟.

و ((الكثيب)) الرمل المستطيل.

ومعنى: ((أجب ربك)) أي للموت.

وأما سؤاله الإدناء من الأرض المقدسة لشرفها وفضيلة ما فيها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم.

قالوا: وإنما سأل الإدناء ولم يسأل نفس بيت المقدس لأنه خاف أن يكون قبره مشهورًا عندهم فيفتتن به الناس.

وفي هذا استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والمواطن المباركة والقرب من مدافن الصالحين.

قال المازري: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث، وقالوا: كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت؟.

وأجاب عن هذا بأجوبة: أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام قد أذن الله له في هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحانًا للملطوم، والله سبحانه يفعل في خلقه ما يشاء ويمتحنهم بما أراد.

والثاني: أن هذا على المجاز والمراد أن موسى ناظره وحاجَّه فغلبه بالحجة، يقال: فقأ فلان عين فلان إذا غلبه بالحجة، قال: وفي هذا ضعف لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فرد الله عليه عينه)) فإن قيل: أراد رد حجته، كان بعيدًا.

والثالث: أن موسى لم يعلم أنه ملك من عند الله وظن أنه رجل قصده يريد نفسه فدافعه عنها، فأدت المدافعة إلى فقء عينه، لا أنه قصدها، وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين، واختاره المازري والقاضي عياض، وأتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت فاستسلم له بخلاف الأولى.

ص: 3613

5714 وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عرض على الأنبياءُ فإذا موسى ضربٌ من الرجال، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم فإذا أقرب من رأيت به

ــ

حس: يجب على المسلم الإيمان به على ما جاء به من غير أن يعتبره بما جرى عليه عرف البشر فيقع في الارتياب، لأنه أمر مصدره قدرة الله تعالى وحكمه، وهي مجادلة جرت بين ملك كريم ونبي كليم، كل واحد منهما مخصوص بصفة يخرج بها عن حكم عوام البشر ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خص به، فلا يعتبر حالهما بحال غيرهما، وقد اصطفي الله تعالى موسى بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة، فلما دنت وفاته وهو بشر يكره الموت طبعًا لطف الله به بأن لم يفاجئه بغتة، ولم يأمر الملك الموكل به بأن يأخذه قهرًا، بل أرسله على سبيل الامتحان في صورة بشر، فلما رآه موسى استنكر شأنه واستوعر مكانه، فاحتجز منه دفعًا عن نفسه بما كان من صكه إياه فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية، وقد كان في طبع موسى عليه السلام حدة على ما قص الله تعالى علينا من أمره في كتابه، من: وكزه القبطي، وإلقائه الألواح، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، هذا وقد جرت سنة الدين بدفع كل قاصد بسوء.

وقد ذكر الخطابي رحمه الله هذا المعنى في كتابه ردًا على من طعن في هذا الحديث وأمثاله من أهل البدع الملحدين - أبادهم الله تعالى - انتهى كلامه -.

فإن قلت: أي فرق بين قول الملك: ((عبد لك)) على التنكير، وبين قول الله: عبدى؟.

قلت: يدل قول الملك على نوع طعن حيث نكره وشنع عليه بقوله: لا يريد الموت، وقول الله تفخيم لشأنه وتعظيم مكانة حيث أضافه إلى نفسه ردًا عليه وتنبيها أن ما ظهر من موسى كان دلالا منه واعتزازًا وأننا نرضي بما يريد فجعلنا الخيرة له إكرامًا.

قوله: ((فما توارت يدك)) قض: هكذا مذكور في صحيح مسلم، ولعل الظاهر فما وارت يدُك بالرفع، وأخطأ بعض الرواة، ويدل عليه ما روى البخاري في صحيحه: فله ما غطت يده بكل شعرة سنة.

ويحتمل أن يكون بدلا منصوبًا بنزع الخافض، وفي ((توارت)) ضمير، وإنما أنثه لكونه مفسرًا بالشعرة)).

أقول: قوله: ((من شعرة)) بيان ((ما)) والضمير فيه راجع إلى متن الثور، وما توارت قطعة منه فأنثه باعتبار القطعة التي توارت بيدك أو تحت يدك.

الحديث السادس عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فإذا موسى ضرب من الرجال)) قض: لعل أرواحهم مثلت له بهذه الصورة، ولعل صورهم كانت كذلك، أو صور أبدانهم كوشفت له في نوم أو يقظة.

ص: 3614

شبهًا عروة بن مسعود، ورأيت إبراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبهًا صاحبكم - يعنى نفسه -، ورأيت جبريل، فإذا أقرب من رأيت به شبهًا دحية بن خليفة)) رواه مسلم.

5715 -

وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((رأيت ليلة أسرى بي موسى، رجلا آدم طوالا، جعدًا كأنه من رجال شنوءة، ورأيت رجلا مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس، ورأيت مالكًا خازن النار، والدَّجَّال في آيات أراهن الله إياه، فلا تكن في مرية من لقائه)) متفق عليه.

ــ

والضرب: الرجل الخفيف.

وأما ((شنوءة)): فبشين معجمة مفتوحة ثم نون ثم واو ثم همزة ثم هاء، وهي قبيلة معروفة، قال ابن قتيبة: سموا بذلك من قولهم: رجل فيه شنوءة أي تقزز.

وقال الجوهرى: الشنوءة التقزز وهو التباعد عن الأدناس، ومنه أزد شنوءة وهم حي من اليمن نسب إليهم شنوئي.

قال: قال ابن السكيت: أزد شنوَّة بالتشديد غير مهموز وينسب إليه الشنوي.

فإن قلت: ما الفرق بين تشبيه موسى وبين التشبيهين الآخرين؟.

قلت: التشبيهات الثلاثة للبيان، والأولى من باب قولك: لون عمامتي من لون هذه العمامة لعمامة بين يدي المخاطب.

والثاني والثالث: كقولك: لون هذه العمامة كلون عمامتي.

فالتشبيه الأول لمجرد البيان، والأخيران للبيان مع تعظيم المشبه في مقام المدح.

قوله: ((به شبهًا)) قدم على العامل للاختصاص تأكيدًا لإضافة أفعل إلى من، أي وكان عروة ابن مسعود أخص الناس بعيسى شبها.

الحديث السابع عشر عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((رجلا آدم)) نه: الآدم من الناس الأسمر الشديد السمرة.

و ((الطوال)) بضم الطاء وتخفيف الواو، الطويل.

و ((الجعد)) ضد السبط، وسبط بكسر الباء وفتحها مسترسل الشعر - انتهى كلامه -.

وقوله: ((إلى الحمرة)) حال، أي مائلا لونه إلى الحمرة والبياض، فلم يكن شديد الحمرة والبياض.

وقوله: ((في آيات)) أي رأيت المذكور في جملة آيات، لعله أراد الآيات المذكورة في قوله

ص: 3615

5716 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليلة أسري بي، لقيتُ موسى - فنعته -: فإذا رجلٌ مضطربٌ، رجلُ الشعر، كأنه من رجال شنوءة، ولقيت عيسى ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام - ورأيت إبراهيم وأنا أشبه

ــ

تعالى: {لقد رأي من آيات ربه الكبرى} فعلى هذا في الكلام التفات حيث وضع إياه في موضع إياي، أو الراوى نقل معنى ما تلفظ به، والظاهر أن قوله:{فلا تكن في مرية من لقائه} يتعلق بأول الكلام وهو حديث موسى عليه الصلاة والسلام تلميحًا إلى ما في التنزيل من قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه} .

الكشاف: قيل: من لقائك موسى عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، فيكون ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام وما يتبعه من الآيات مستطردًا لذكر موسى، وإنما قطعة عن متعلقه وأخره ليشمل معناه الآيات على سبيل التبعية والإدماج، أي لا تكن يا محمد في رؤية ما رأيته من الآيات في شك، فعلى هذا الخطاب في قوله تعالى:{فلا تكن} رسول الله صلى الله عليه وسلم والكلام كله متصل ليس فيه تغيير من الراوى إلا لفظة إياه. ويشهد له قول الشيخ محيى الدين في شرح هذا الحديث: كان قتادة يفسرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لقى موسى عليه الصلاة والسلام، ودافعه عليه جماعة، منهم: مجاهد والكلبى والسدى، ومعناه فلا تكن في شك من لقائك موسى، والشارحون ذهبوا إلى أن قوله: في آيات أراهن الله

إلى آخره من كلام الراوى ألحقه بالحديث دفعًا لاستبعاد السامعين، وإماطة لما عسى أن يختلج في صدورهم.

وقال المظهر: الخطاب في {فلا تكن} خطاب عام لمن سمع هذا الحديث إلى يوم القيامة، والضمير في ((لقائه)) عائد إلى الدجال، أي إذا كان خروجه موعدًا فلا تكن في شك من لقائه.

وقال غيره: الضمير راجع إلى ما ذكر، أي فلا تكن في شك من رؤية ما ذكر من الآيات إلى يوم القيامة.

وفي الوجوه بحث على ما لا يخفي والله أعلم.

الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فنعته)) هو من كلام الراوي أدرجه بين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: ((مضطرب)) قض: يريد أنه كان مستقيم القد حادًّا، فإن الحاد يكون قلقًا متحركًا كأن فيه اضطرابًا، ولذلك يقال: رمح مضطرب إذا كان طويلا مستقيمًا.

وقيل: إنه كان مضطربًا من خشية الله تعالى، وهذه صفة النبيين والصديقين، كما روى أنه صلى الله عليه وسلم: كان يصلي ولقلبه أزيز كأريز المرجل.

ص: 3616

ولده به)) قال: ((فأتيت بإناءين: أحدُهما لبنٌ والآخر فيه خمرٌ. فقيل لي: خُذْ أيهما شئت. فأخذت اللبن فشربته، فقيل لي: هديت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك)) متفق عليه.

5717 -

وعن ابن عباس، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فمررنا بواد، فقال:((أي واد هذا؟)) فقالوا: وادي الأزرق. قال: ((كأني أنظر إلى موسى)) فذكر من لونِه وشعرِه شيئًا، واضعًا أصبعيه في أذنيه، له جؤارٌ إلى الله

ــ

قوله: ((رجل الشعر)) نه: أي لم يكن شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما.

قوله: ((عيسى ربعة)) بالتسكين، أي لا طويل ولا قصير، والتأنيث على تأويل النفس.

قوله: ((أحدهما لبن)) مظ: كان القياس ((فيه لبن)) كما قال: ((فيه خمر)) عدل إرادة لتكثير اللبن وكأن الإناء انقلب لبنًا، ولما كان الخمر منهيًّا عنه قلله.

قوله: ((هديت الفطرة)) قض: أي الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها، فإن فيها الإعراض عما فيه غائلة وفساد كالخمر المخل بالعقل الداعى إلى الخير الوازع عن الشر المؤدى إلى صلاح الدارين وخير المنزلين، والميل إلى ما فيه نفع خال عن مضرة دنيوية ومعرة دينية كشرب اللبن فإنه من أصلح الأغذية وأول ما به حصلت التربية.

تو: العالم القدسي تصاغ فيه الصور من العالم الحسي لتدرك بها المعانى، ولما كان اللبن في العالم الحسي من أول ما يحصل به التربية ويترشح به المولود صيغ عنه مثال الفطرة التي تتم بها القوة الروحانية، وينشأ عنها الخاصية الإنسانية.

الحديث التاسع عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((واضعًا .. مارًّا)) حالان مترادفتان أو متداخلتان من موسى عليه الصلاة والسلام وقد تخلل بينهما كلام الراوي.

و ((الجؤار)) رفع الصوت.

و ((هرشي)) بفتح الهاء والشين المعجمة مقصورة، جبل على طريق الشام والمدينة قرب الجحفة.

و ((لفت)) يروي فيه كسر اللام وإسكان الفاء وفتحها معه، وفتحهما.

و ((الخطام)) بكسر الخاء الحبل الذي يقاد به البعير، يجعل على خطمه أي مقدم أنفه وفمه. و ((الخلبة)) بضم الخاء المعجمة والباء الموحدة بينهما لام يجوز فيها الضم والإسكان كذلك، حبل الليف.

ص: 3617

بالتلبية، مارًّا بهذا الوادي)). قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية. فقال: ((أي ثنية هذه؟)) قالوا: هرشي - أو لفت فقال: ((كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، عليه جبة صوف، خطام ناقته خلبة، مارًّا بهذا الوادي ملبيًا)) رواه مسلم.

5718 -

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرح، فيقرأ القرآن قبل أن تسرح دوابُّه، ولا يأكل إلا من عمل يديه)) رواه البخاري.

ــ

مح: فإن قيل: كيف يحجون ويلبون وهم أموات والدار الآخرة ليست بدار عمل؟.

الجواب من وجوه: أحدها: أنهم كالشهداء بل أفضل، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا ويتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا، لأنهم وإن كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدتها وتعقبتها الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل.

وثانيها: التلبية دعاء وهو من عمل الآخرة، قال الله تعالى:{دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} .

وثالثها: أن تكون هذه رؤية منام في غير ليلة الإسراء كما قال في رواية ابن عمر رضي الله عنهما ((بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة ..)) وذكر الحديث في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام.

ورابعها: أنه صلى الله عليه وسلم أرى حالهم التي كانت في حياتهم، ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا؟ وكيف كان حجهم وتلبيتهم؟ كما قال صلى الله عليه وسلم:((كأني أنظر إلى موسى)).

وخامسها: أن يكون أخبر عما أوحى إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم وما كان منهم وإن لم يرهم رؤية عين - هذا آخر كلام القاضي عياض -.

وفي الحديث دليل على استحباب وضع الأصبع في الأذن عند رفع الصوت بالآذان ونحوه، وهذا الاستنباط والاستحباب يجيء على مذهب من يقول من أصحابنا وغيرهم إن شرع من قبلنا شرع لنا والله أعلم.

الحديث العشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((فيقرأ القرآن)) نه: الأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته، وسمى القرآن قرآنا لأنه جمع: القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض، كالغفران والكفران، وقد يطلق على القراءة نفسها، يقال: قرأ يقرأ قراءة وقرآنًا.

ص: 3618

5719 -

وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى: لا تفعل، يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى)) متفق عليه.

5720 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة - وفي رواية: بمائة امرأة - كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له الملك: قل إن شاء الله. فلم يقل ونسي، فطاف عليهن، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجلٍ، وايم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون)) متفق عليه.

ــ

تو: يرد بالقرآن الزبور، وإنما قال القرآن لأنه قصد به إعجازه من طريق القراءة. وقد دل الحديث على أن الله تعالى يطوي الزمان لمن شاء من عباده، كما يطوي المكان لهم، وهذا باب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني.

الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((فقضى به للكبرى)) مح: قالوا: يحتمل أن داود عليه الصلاة والسلام قضى به للكبرى لشبه رآه فيهما، أو لكونه كان في يدها، وأما سليمان فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية، وإنما أراد اختبار شفقتهما لتتميز له الأم لا القطع حقيقة، فلما تميزت حكم به للصغرى بإقرار الكبرى لا بمجرد الشفقة.

قال العلماء: ومثل ذلك يفعله الحكام ليتوصلوا به إلى حقيقة الصواب.

فإن قيل: كيف نقض سليمان حكم أبيه داود؟.

فالجواب من وجوه: أحدها: أن داود لم يكن جزم بالحكم.

وثانيها: أن يكون ذلك فتوى من داود.

وثالثها: لعله كان في شرعهم فسخ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافه.

الحديث الثاني والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((كلهن تأتي بفارس)) أي كل واحدة منهن، والكل هاهنا واجب أن يكون إفراديًا.

قوله: ((وايم الذي نفس محمد بيده)) تو: الأصل في ((ايم الله)) ((ايمن الله)) حذف منه النون،

ص: 3619

5721 -

وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((كان زكريَّاء نجارًا)) رواه مسلم.

5722 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة، الأنبياء إخوةٌ من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحدٌ، وليس بيننا نبيٌّ)). متفق عليه.

ــ

وهو اسم وضع للقسم هكذا بضم الميم والنون وألفه ألف وصل عند أكثر النحويين، ولم يجيء في الأسماء ألف الوصل مفتوحة غيرها، وتقديره ((ايمن الله قسمى)) وإذا حذفت منه النون قيل:((ايم الله)) بكسر الهمزة أيضًا.

و ((أجمعون)) تأكيد للضمير، ومنهم من يرويه ((أجمعين)) على الحال، والرواية المعتد بها ((أجمعون)) بالرفع.

قيل: والحديث يدل على أن من أراد أن يعمل عملا يستحب أن يقول عقيب قوله: ((إنى أعمل كذا)) ((إن شاء الله)) تتميمًا تبركًا وتيمنًا وتسهيلا لذلك العمل.

الحديث الثالث والعشرون والرابع والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا أولى الناس بعيسى)) ((قض)): الموجب لكونه أولى الناس بعيسى عليهما الصلاة والسلام أنه كان أقرب المرسلين إليه، وأن دينه متصل بدينه ليس بينهما نبي، وأن عيسى كان مبشرًا به ممهدًا لقواعد دينه داعيًا للخلق إلى تصديقه.

و ((العلة)) الضرة، مأخوذ من العلل وهو الشربة الثانية بعد الأولى، وكأن الزوج علَّ منها بعد ما كان ناهلا من الأخرى.

وأولاد العلات: أولاد الضرات من رجل واحد، والمعنى أن حاصل أمر النبوة والغاية القصوى من البعثة التي بعثوا جميعًا لأجلها دعوة الخلق إلى معرفة الحق، وإرشادهم إلى ما به ينتظم معاشهم ويحسن معادهم، فهم متفقون في هذا الأصل، وإن اختلفوا في تفاريع الشرع التي هي كالوصلة المؤدية والأوعية الحافظة له، فعبر عما هو الأصل المشترك بين الكل بالأب ونسبهم إليه، وعبر عما يختلفون فيه من الأحكام والشرائع المتفاوتة بالصورة المتقاربة في الغرض بالأمهات، وهو معنى قوله:((أمهاتهم شتى ودينهم واحد)) وأنهم وإن تباينت أعصارهم وتباعدت أيامهم فالأصل الذي هو السبب في إخراجهم وإبرازهم - كلا في عصره - أمر واحد وهو الدين الحق الذي فطر الناس مستعدين لقبوله ممكنين من الوقوف عليه والتمسك به، فعلى هذا المراد بالأمهات الأزمنة التي اشتملت عليهم وانكشفت عنهم.

قوله: ((الأنبياء إخوة من علات

إلى آخره)) استئناف فيه دليل على الحكم السابق وكأن

ص: 3620

5723 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بنى آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعيه حين يولد، غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب)). متفق عليه.

5724 -

وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسيةُ امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) متفق عليه.

ــ

سائلا سأل عما هو المقتضى لكونه أولى الناس به فأجاب بأن بين الأنبياء أخوة ليست بينهم وبين سائر الناس، ثم بينهما من قرب الزمان واتصال الدعوة ما ليس بين عيسى وغيره من الأنبياء، وهو معنى قوله:((ليس بيننا نبي)) أي بيني وبين عيسى عليه السلام والله أعلم.

أقول: قوله: ((الأنبياء إخوة من علات)) كما مر استئناف على بيان الموجب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة)) فينبغى أن ينزل البيان على المبين، يعني الأنبياء كلهم متساوون فيما بعثوا لأجله من أصل التوحيد وليس لأحد اختصاص فيه، لكن أنا أخص الناس بعيسى لأنه كان مبشرًا بي قبل بعثتي وممهدًا لقواعد ملتي، تم في آخر الزمان متابع لشريعتي وناصر لديني فكأننا واحد.

و ((الأولى والآخرة)) يحتمل أن يراد بهما الحالة الأولى وهي كونه مبشرًا، والحالة الآخرة وهي كونه ناصرًا ومقويًا لدينه عليه الصلاة والسلام وعلى جميع النبيين.

فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} - أي أنا أخصهم به وأقربهم منه-؟.

قلت: الحديث وارد في كونه صلى الله عليه وسلم، متبوعًا، والتنزيل في كونه تابعًا وله الفضل تابعًا ومتبوعًا، قال الله تعالى:{ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم} وقد مرَّ تفسيره.

الحديث الخامس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((فطعن في الحجاب)) أي المشيمة، وهذا يدل على أن المس في قوله صلى الله عليه وسلم:((ما من مولود إلا يمسه الشيطان)) على الحقيقة كما مر في باب الوسوسة.

الحديث السادس والعشرون عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((كفضل الثريد على سائر الطعام)) لم يعطف عائشة رضي الله عنه على آسية لكن أبرز الكلام في صورة جملة مستقلة تنبيها على اختصاصها بما امتازت به عن سائرهن، ونحوه في الأسلوب قوله صلى الله عليه وسلم:((حبب إلى من الدنيا ثلاث: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)).

ص: 3621

وذكر حديث أنس: ((يا خير البرية)). وحديث أبي هريرة: ((أي الناس أكرم)) وحديث ابن عمر: ((الكريم بن الكريم)) في ((باب المفاخرة والعصبية)).

الفصل الثاني

5725 -

عن أبي رزين. قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: ((كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء)).

رواه الترمذي وقال: قال يزيد بن هارون العماء: أي ليس معه شيء. [5725]

ــ

تو: قيل إنما مثل بالثريد لأنه أفضل طعام العرب ولا يرون في الشبع أغنى غناء منه.

وقيل: إنهم كانوا يحمدون الثريد فيما طبخ بلحم.

وروى: ((سيد الطعام اللحم)).

وكأنها فضلت على النساء كفضل اللحم على سائر الأطعمة، والسر فيه أن الثريد مع اللحم جامع بين: الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤنة في المضغ وسرعة المرور في المريء، فضرب مثلا ليؤذن بما أعطيت من: حسن الخلق وحلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل والتحبب إلى البعل، فهي تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إليها، وحسبك أنها عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء وروت ما لم يرو مثلها من الرجال.

وعما يدل على أن الثريد أشهى الأطعمة عندهم وألذها قول الشاعر:

إذا ما الخبز تأدمه يلحم فذاك أمانة الله الثريد

الفصل الثاني

الحديث الأول عن أبي رزين رضي الله عنه: قوله: ((كان في عماء)) ((فا)): هو السحاب الرقيق، وقيل: السحاب الكثيف المطبق.

وقيل: شبه الدخان يركب رءوس الجبال، وعن الجرمى: الضباب.

نه: العماء بالفتح والمد السحاب، قال أبو عبيدة: لا ندرى كيف كان ذلك العماء؟ وفي

ص: 3622

5726 -

وعن العباس بن عبد المطلب، زعم أنه كان جالسا في البطحاء في عصابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيهم، فمرت سحابة، فنظروا إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما تسمون هذه؟)). قالوا: السَّحاب. قال: ((والمزن؟)) قالوا: والمزن. قال:

ــ

رواية: ((عمى)) بالقصر، ومعناه ليس معه شيء، وقيل: هو كل أمر لا تدركه عقول بنى آدم ولا يبلغ كنهه الوصف والفطن.

ولا بد في قوله: ((أين كان ربنا؟)) من مضاف محذوف كما حذف في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم} ونحوه، فيكون التقدير:((أين كان عرش ربنا؟)) يدل عليه قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} .

قال الأزهرى: نحن نؤمن به ولا نكيفه بصفة، أي نجرى اللفظ على ما جاء عليه من غير تأويل.

أقول: لم يفتقر إلى التقدير، ولا بد لقوله:((في عماء)) بالمد، من التأويل حتى يوافق الرواية الأخرى:((عمى)) مقصورًا، وأما ما ورد في الصحاح عن عمران بن الحصين رضي الله عنه:((كان الله ولم يكن شيء وكان عرشه على الماء)) وذلك أن قوله: ((ما تحته هواء وما فوقه هواء)) جاء تتميمًا وصونا لما يفهم من قوله: ((في عماء)) من المكان فإن الغمام المتعارف محال أن يوجد بغير هواء فهو نظير قوله: ((كلتا يديه يمين)) على ما سبق، فالجواب من الأسلوب الحكيم، سئل عن المكان فأجاب عن أن لامكان، يعني إن كان هذه مكانًا فهو في مكان، وهو إرشاد له في غاية اللطف.

قض: المراد به ما لا تقبله الأوهام ولا تدركه الفطن والأفهام، عبر به عن عدم المكان بما لا يدرك ولا يتوهم، وعن عدم ما يحويه ويحيط به بالهواء، فإنه يطلق ويراد به الخلاء الذي هو عبارة عن عدم الجسم ليكون أقرب إلى فهم السامع، ويدل عليه أن السؤال كان عما قبل أن يخلق خلقه، فلو كان العماء أمرًا موجودًا لكان مخلوقًا إذ ما من شيء سواه إلا وهو مخلوق خلقه وأبدعه، فلم يكن الجواب طبق السؤال.

الحديث الثاني عن العباس رضي الله عنه:

قوله: ((المزن)) نه: هو الغيم والسحاب واحدته مزنة، وقيل: هي السحاب الأبيض وكذا: ((العنان)) بالفتح السحاب والواحدة عنانة، وقيل: ما عن لك فيها، أي اعترض وبدا لك إذا رفعت رأسك.

ص: 3623

((والعنان؟)). قالوا: والعنان. قال: ((هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟)) قالوا. لا ندري قال: ((إن بعد ما بينهما إما واحدة وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، والسماء التي فوقها كذلك)) حتى عد سبع سماوات. ثم ((فوق السماء السابعة بحر، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال، بين أظلافهن ووركهن مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهن العرش، بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى سماء، ثم الله فوق ذلك)). رواه الترمذي، وأبو داود. [5726]

5727 -

وعن جبير بن مطعم، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: جهدت الأنفس، وجاع العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا

ــ

و: ((الأوعال)) هي تيوس الجبل واحدها: ((وعل)) بكسر العين؟ والمراد هاهنا ملائكة على صورة الأوعال.

و ((الظلف)) للبقر والغنم كالحافر للفرس والبغل.

و ((الورك)) ما فوق الفخذ وهي مؤنثة.

أقول: استعمل ((زعم)) ونسبه إلى عباس رمزًا إلى أنه لم يكن حينئذ مسلمًا ولا تلك العصابة كانوا مسلمين، يدل عليه قوله:((في البطحاء)) وأراد صلى الله عليه وسلم أن يشغلهم عن السفليات إلى العلويات، والتفكر في ملكوت السموات والعرش، ثم يترقوا إلى معرفة خالقهم ورازقهم ويستنكفوا عن عبادة الأصنام ولا يشركوا بالله الملك العلام، فأخذ في الترقى من السحاب، ثم من السماوات، ثم من البحر ثم من الأوعال، ثم من العرش إلى ذى العرش، فالفوقية بحسب العظمة لا المكان، فإن الله فوق أن يكون العرش منزله ومستقره، بل الله خالقه وهو منزه عن المقر والمكان والله أعلم.

والمراد بـ ((السبعون)) في الحديث التكثير لا التحديد، لما ورد أن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، والتنكير هنا أبلغ والمقام له أدعى.

الحديث الثالث عن جبير رضي الله عنه:

قوله: ((جهدت الأنفس)) الجهد: بفتح الجيم المشقة، وبضمها الطاقة.

و ((نهك)) أي دنف وضنى، فهو منهوك، والمراد به هاهنا نقصان الأموال وتلفها.

قوله: ((فإنا نستشفع بك على الله)) يقال: استشفعت بفلان على فلان فتشفع لى إليه وشفعه

ص: 3624

نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، سبحان الله)). فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال:((ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماوا ته لهكذا)) وقال بأصابعه مثل القبة عليه ((وإنه ليئط أطيط الرحل بالراكب)) رواه أبو داود. [5727]

5728 -

وعن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، أن ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقيه مسيرة سبعمائة عام)). رواه أبو داود. [5728]

ــ

أجاب شفاعته، ولما قيل: إن الشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرًا له وسائلا عنه إلى ذي سلطان منع صلى الله عليه وسلم أن يستشفع بالله تعالى على أحد، وقوله ذلك إشارة إلى أثر هيبة أو خوف استشعر من قوله ((سبحان الله)) تنزيها عما نسب إلى الله تعالى من الاستشفاع به على أحد، وتكراره ذلك مرارًا.

وقوله: ((لهكذا)) اللام فيه ابتدائية دخلت في خبر ((إن)).

و ((مثل القبة)) حال من المشار به، وفي ((قال)) معنى الإشارة، أي: أشار بأصابعه مشابهة هذه الهيئة، وهي الهيئة الحاصلة للأصابع الموضوعة على الكف مثلا حالة الإشارة.

قوله: ((ليئط به)) نه: يعني أنه ليعجز عن حمله وعظمته إذا كان معلومًا أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله.

خط: هذا الكلام إذا أجرى على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية، والكيفية عن الله سبحانه وتعالى وعن صفاته منفية.

قيل: إنه ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى في النفوس، وإفهام السائل من حيث يدركه فهمه، إذ كان أعرابيا جافيًا لا علم له بمعانى ما دق من الكلام، وقرر بهذا التمثيل والتشبيه معنى عظمة الله تعالى وجلاله في نفس السائل، وأن من يكون كذلك لا يجعل شفيعًا إلى من هو دونه.

ص: 3625

5729 -

وعن زرارة بن أوفي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: ((هل رأيت ربك؟ فانتفض جبريل وقال: يا محمد! إن بيني وبينه سبعين حجابًا من نور، لو دنوت من بعضها لاحترقت)) هكذا في ((المصابيح)). [5729]

5730 -

ورواه أبو نعيم في ((الحلية)) عن أنس إلا أنه لم يذكر: ((فانتفض جبريل)). [5730]

5731 -

وعن ابن عباس، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذ الله خلق إسرافيل، منذ يوم خلقه صافًا قدميه لا يرفع بصره، بينه وبين الرب تبارك وتعالى سبعون نورًا، ما منها من نورٍ يدنو منه إلا احترق)) رواه الترمذي وصححه.

5732 -

وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله آدم وذريته، قالت الملائكة: ياربِّ! خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون، فاجعل لهم الدنيا

ــ

الحديث الرابع والخامس عن زرارة رضي الله عنه: قوله: ((فانتفض)) أي: ارتعد من هيبة ما سمع، قيل: فيه دليل على حقيقة رؤية الله تعالى في دار البقاء، فإنه لو كانت مستحيلة ما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها.

الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((منذ يوم خلقه)) ((مظ)): منذ هاهنا حرف جر وهو بمعنى في - انتهى كلامه -.

و ((صافًا)) حال من إسرافيل لا من ضميره المنصوب، و ((منذ يوم)) ظرف لصافًا وليس بمعنى في، المعنى أن الله خلق إسرافيل صافًا قدميه من أول مدة خلقه.

قال الدار الحديثى: اتفقوا أن مذ ومنذ إنما يدخلان أسماء الزمان، ثم قالوا: إن أريد ابتداء الزمان الماضى الذي انتهاؤه أنت فيه يكونان للابتداء، نحو ما رأيته منذ يومين أو منذ سنة كذا، أي انتفي الرؤية من ابتداء يومين أنا في آخرهما، وليسا بمعنى في وإن قال به بعض؛ لأن المفهوم منهما نفي الرؤية في مدة معينة أنت في آخرها مقصودًا به ابتداؤها وانتهاؤها.

الحديث السابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لا اجعل)) يحتمل أن تكون ((لا)) نفي لأجعل، وأن تكون ردًا لقولهم، ثم يبتدىء بالجملة الاستفهامية إنكارًا عليهم وهو أبلغ.

ص: 3626

ولنا الآخرة. قال الله تعالى: لا أجعلُ من خلقته بيديَّ ونفخت فيه من روحي؛ كمن قلت له: كن فكان)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5732]

الفصل الثالث

5733 -

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته)) رواه ابن ماجه. [5733]

5734 -

وعنه، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: ((خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق وآخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل)) رواه مسلم.

ــ

قوله: ((كمن قلت له: كن)) أي لا يستوي في الكرامة من خلقته بنفسي ولا وكلت خلقه إلى أحد، ((ونفخت فيه من روحي)) وهو آدم وأولاده مع من يكون بمجرد الأمر بقول: كن، وهو الملك، وإضافة الروح إلى نفسه إضافة تشريف كقوله: بيت الله.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((المؤمن أكرم على الله)) يراد بالمؤمن عوامهم، وببعض الملائكة عوامهم أيضًا.

قال محيى السنة في تفسير قوله تعالى: {ولقد كرمنا بنى آدم} : الأولى أن يقال: عوام المؤمنين أفضل من عوام الملائكة، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة، قال الله تعالى:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} ويستدل به أهل الله في تفضيل الأنبياء على الملائكة.

الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((روايا الأرض)) ((نه)): سمى السحاب روايا البلاد، والروايا من الإبل الحوامل للماء واحدتها راوية، فشبهها بها، وبه سميت المزادة راوية، وقيل: بالعكس.

ص: 3627

5735 -

وعنه، قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:((هل تدرون ما هذا؟)). قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((هذه العنان هذه روايا الأرض، يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه، ولا يدعونه)). ثم قال: ((هل تدرون ما فوقكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنها الرقيع، سقف محفوظ، وموج مكفوفٌ)). ثم قال: ((هل تدرون ما بينكم وبينها؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((بينكم وبينها خمسمائة عام)) ثم قال: ((هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ((سماءان بعد ما بينهما خمسمائة سنة)). ثم قال كذلك حتى عدَّ سبع سموات ((ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض)). ثم قال: ((هل تدرون ما فوق ذلك؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((إن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين)). ثم قال: ((هل تدرون ما الذي تحتكم؟)). قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((إنها الأرض)) ثم قال: ((هل تدرون ما تحت ذلك؟)). قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((إن تحتها أرضًا أخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة)). حتى عدَّ سبع أرضين ((بين كل أرضين مسيرة خسمائة سنة)). قال ((والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله)). ثم قرأ: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيءٍ عليم) رواه أحمد، والترمذي. وقال الترمذي:

ــ

و ((الرقيع)) اسم لكل سماء، والجمع أرقعة، وقيل: الرقيع اسم سماء الدنيا.

و ((المكفوف)) الممنوع من الاسترسال، يعني أن الله تعالى حفظها أن تقع على الأرض وهي معلقة بلا عمد كالموج المكفوف.

وقوله: ((دليتم)) أي أرسلتم، يقال: أدليت الدلو ودليتها إذا أرسلتها في البئر.

قوله: ((على علم الله وقدرته وسلطانه)) أما علم الله تعالى فهو من قوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم} .

وأما قدرته فهو من قوله تعالى، {هو الأول والآخر} أي هو الأول الذي يبديء كل شيء ويخرجه من العدم إلى الوجود، والآحر الذي يفنى كل شيء:{كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} .

وأما سلطانه فمن قوله: {والظاهر والباطن} قال الأزهري: يقال: ظهرت على فلان إذا غلبته، وظهرت على السطح إذا علوته - انتهى كلامه -.

ص: 3628

قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش، كما وصف نفسه في كتابه. [5735]

5736 -

وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((كان طول آدم ستين ذراعا في سبع أذرع عرضًا)). [5736]

5737 -

وعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله! أي الأنبياء كان أول؟ قال: ((آدم)). قلت: يا رسول الله! ونبي كان؟ قال: ((نعم نبيٌّ مكلم)). قلتُ: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: ((ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا)). [5737]

ــ

المعنى: هو الغالب الذي لا يغلب فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه.

والباطن: هو الذي لا ملجأ ولا منجي دونه.

والكاف في ((كما)) منصوب على الصدر، أي هو مستو على العرش استواء مثل ما وصف نفسه به في كتابه، وهو مستأثر بعلمه باستوائه عليه، وفي قول الترمذي إشعار إلى أنه لا بد لقوله ((لهبط على الله)) من هذا التأويل المذكور، ولقوله:{على العرش استوى} من تفويض علمه إليه تعالى والإمساك عن تأويله، كما سبق أن بعضًا من خلاف الظاهر يحتاج إلى التأويل ومنها ما لا يجوز الخوض فيه.

الحديث الرابع والخامس عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((ونبي كان)) لا بد فيه من تقدير همزة الاستفهام للتقرير لما قال أولا: ((أي الأنبياء؟)) وأجيب بقوله: ((آدم)) أي: أو هو نبي كان؟.

ذكر ((نبي)) بعد قوله: ((نعم)) لينيط به ((مكلم)) أي لم يكن نبيًا فقط بل كان نبيًا مكلما أنزل عليه الصحف.

الكشاف في قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} هذا دليل بيِّن على تغاير الرسول والنبي، والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله.

ص: 3629