الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الفتن
الفصل الأول
5379 -
عن حذيفة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه. متفق عليه.
5380 -
وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب
ــ
عليه الخلافة، وفي القرينتين السابقتين تامة. و ((أمير المؤمنين)) خبر ((أن تكون)) وقوله:((بعد الملك)) ظرف للخبر على تأويل الحاكم العادل؛ نحوه قوله تعالى: {وهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} أي معبود فيها.
كتاب الفتن
الفصل الأول
الحديث الأول عن حذيفة: قوله: ((وإنه ليكون منه الشيء)) أي ليحدث منه الشيء مما نسيته، فإذا عاينته تذكرت ما نسيت. وقوله:((مقاما))، إما مصدر ميمي أو اسم مكان. والجملة المنفية صفة. وقوله:((مقامه)) وضع موضع ضمير الموصوف. و ((في مقامه)) متعلق بـ ((ترك)) أي قام مقاما ما ترك في مقامه ذلك شيئاً يحدث إلى قيام الساعة إلا حدث به.
الحديث الثاني عن حذيفة: قوله: ((تعرض الفتن)). [((نه))]: أي توضع عليها وتبسط كما يبسط الحصير، من عرض العود على الإناء والسيف على الفخذين يعرضه إذا وضعه. [((فا))]: قيل: من عرض الجند بين يدي السلطان لإظهارهم واختبار أحوالهم. قوله: ((عودا عودا)) ((تو)): قد روى بالرفع، كذا نرويه عن كتاب مسلم. وعلى هذا الوجه أورده صاحب المصابيح والتقدير: وهو عود عود. ورواه آخرون بالنصب.
((مح)) هذان الحرفان مما اختلف في ضبطه على ثلاثة أوجه: أظهرها وأشهرها: ضم العين والدال المهملة. والثاني: فتح العين والذال المعجمة. ومعنى ((تعرض)) أنها تلصق بعرض القلوب أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم. ويؤثر فيه شدة التصاقها. ومعنى ((عودا
أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين: أبيض بمثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز، مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)). رواه مسلم.
ــ
عودا)) أي يعاد ويكرر شيئاً بعد شيء. قال ابن سراج: ومن رواه بالذال المعجمة فمعناه سؤال الاستعاذة منها، كما يقال: غفرا غفرا، أي نسألك أن تعيذنا من ذلك وأن تغفر لنا.
وقال الخطابي: معناه: يظهر على القلوب، أي يظهر لها فتنة بعد أخرى كما ينسج الحصير عوداً وعوداً وشطبة بعد أخرى.
قال القاضي عياض: وعلى هذا تترجح رواية ضم العين؛ وذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع عودا أخذ آخر ونسجه. فشبه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحداً بعد واحد. و ((أشربها)) أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب. ومنه قوله تعالى: {وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ} أي حب العجل. و ((أنكرها)) أي ردها. ((قض)): ((حتى يصير)) أي جنس الإنسان على قسمين: قسم ذو قلب أبيض كالصفاء، وقسم ذو قلب اسود مربداً.
((مظ)): الضمير في ((يصير)) أي تصير القلوب على نوعين: أحدهما أبيض وثانيهما: أسود. ((تو)): ((الصفا)): الحجارة الصافية الملساء. وأريد به هاهنا النوع الذي صفا بياضه.
وعليه نبه بقوله: ((أبيض)) وإنما ضرب المثل به؛ لأن الأحجار إذا لم تكن معدنية لم تتغير بطول الزمان. ولم يدخلها لون آخر. لا سيما النوع الذي ضرب به المثل، فإنه أبدا على البياض الخالص الذي لا تشوبه كدرة. والربدة لون بين السواد والغبرة. ومنه ظليم أربد وقد أربد اربداداً، أي تلون وصار على لون الرماد. وإنما وصف القلب بالربدة؛ لأنه أنكر ما يوجد من أنواع السواد، بخلاف ما تشوبه صفا ويعلوه طراوة من النوع الخالص.
((مح)): قال القاضي عياض: ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه، لكن صفة أخرى لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء. وأما قوله:((مربادا)) فكذا هو في روايتنا وأصول بلادنا. وهو منصوب على الحال.
وذكر القاضي عياض خلافا في ضبطه، فإن منهم من ضبطه كما ذكرناه ومنهم من رواه ((مربئداً)) بهمزة مكسورة بعد الباء. وأصله أن لا يهمز. ويكون مربدا مثل مسوداً ومحمراً لأنه من
5381 -
وعنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا: ((إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة)). وحدثنا عن رفعها قال: ((ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل أثر المجل
ــ
أربد إلا على لغة من قال: إحمار بهمزة بعد الميم لالتقاء الساكنين. فيقال: إرباد فهو مربئد، والدال مشددة على القولين. وأما قوله:((مجخيا)) فهو بميم مضمومة ثم جيم مفتوحة، ثم خاء معجمة مكسورة. ومعناه مائلا كذا قاله الهروي. وفسره الراوي في الكتاب بقوله:((منكوساً)) ((نه)) المجخي المائل عن الاستقامة والاعتدال، شبه القلب الذي لا يعي خبراً بالكوز الذي لا يثبت فيه شيء ((قوله إلا ما أشرب من هواه)) ((مظ)) يعني لا يعرف القلب إلا ما قبل من الاعتقادات الفاسدة والشهوات النفسانية أقول: ولعله أراد أنه من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح أي ليس فيه حبة خير البتة إلا هذا وهذا ليس بخير، فيلزم منه أن يكون فيه خير.
الحديث الثالث عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((حديثين)): ((مح)): الأول: ((حدثنا إن الأمانة ..)). الخ. والثاني: ((حدثنا عن رفعها)). والجذر بفتح الجيم وكسرها لغتان والذال المعجمة فيهما وهو الأصل. وأما الأمانة، فالظاهر أن المراد بها التكليف الذي كلف الله تعالى به عباده. والعهد الذي أخذه عليهم. قال صاحب التحرير: الأمانة في الحديث هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ} الآية وهي عين الإيمان. و ((الوكت)) بفتح الواو وإسكان الكاف، وبالتاء المثناة من فوق. و ((المجل)) بإسكان الجيم، وفتحها لغتان، المشهور الإسكان. [((فا))] الفرق بين الوكت والمجل أن الوكت النقطة في الشيء من غير لونه يقال: بعينه وكت، ووكت البر إذا بدت فيه نقطة الإرطاب. والمجل غلظ الجلد من العمل لا غير ويدل عليه قوله:((فتراه منتبرا)) أي منتفخا وليس فيه شيء. ((مح)): قال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئا فشيئاً. فإذا زال شيء أول جزء منها زال نورها، وخلفته ظلمة كالوكت وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله. فإذا زال شيء آخر صار كالمجل. وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة وهذه الظلمة فوق التي قبلها. ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر. ويبقى التنفيط. وإنما ذكر نفط ولم يقل نفطت اعتبارا بالعضو.
أقول لعله إنما حملهم على تفسير الأمانة في قوله: ((إن الأمانة نزلت بالإيمان)) لقوله آخراً:
كجمر دحرجته على رجلك، فنفط، فتراه منتبراً، وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلا أميناً ويقال للرجل ما أعلقه! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)). متفق عليه.
5382 -
وعنه، قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني، قال: قلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال:((نعم)). قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخن)). قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم
ــ
((وما في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان)) فهلا حملوها على حقيقتها لقوله: ((ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة)) فيكون وضع الإيمان آخرا موضعها تفخيما لشأنها وحثا على أدائها. قال صلى الله عليه وسلم: ((لا دين لمن لا أمانة له)) و ((ثم)) في قوله: ((ثم ينام النومة)) للتراخي في الرتبة. وهي تقتضيه ((ثم)) في قوله ((ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة)) كما أن علم القرآن والسنة يزيد أصل الأمانة في القلوب ويربيها. كذلك ينقص استمرار ورفع الأمانة وقبضها من أثرها؛ فإن اثر المجل المشبه بالنفاطة التي ليس فيها شيء أبلغ في الخلو من أثر الوكت. وفيه تشبيهان مفردان شبهت حالهما مجموعة بحالة جمر أثر في عضو. ثم نفط وارتفع. وإنما شبه أولا أثر الأمانة أولا بأثر الوكت ثم ثانيا بأثر المجل. ثم شبههما بالجمرة المدحرجة على الرجل تقبيحا لحالهما وتهجينا لتستنفر عنها النفس وتعافهما؛ فإن الأمانة والخيانة ضدان. فإذا ارتفع أحدهما تعاقبت الأخرى.
الحديث الرابع عن حذيفة رضي الله عنه قوله: ((عن الشر)) أي الفتنة ووهن عرى الإسلام واستيلاء الضلال وفشو البدعة، والخير عكسه يدل عليه قوله:((إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير)) أي ببعثك وتشييد مباني الإسلام، وهدم قواعد الكفر والضلال.
قوله: ((قال: نعم، وفيه دخن)) أي يكون بعد ذلك الشر خير. والحال أن في ذلك الخير شراً والمعنى أن ذلك لا يصفو بل يشوبه كدورة. [ومنه قولهم: هدنة على دخن أي سكون لعلة لا للصلح. ((نه)): أصل الدخن أن يكون في لون الدابة كدورة] إلى السواد. وقيل: الدخن – بالتحريك – مصدر دخنت النار تدخن، إذا ألقى عليها حطب رطب يكثر دخانها وفسدت.
((مظ)): ((تعرف منهم وتنكر)) أي ترى فيهم ما تعرفه أنه من ديني، وترى منهم أيضا ما تنكر
يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم؛ دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)). قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال ((هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)). قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)). قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة
ــ
أنه من ديني. ((شف)): تعرف منهم المنكر بأن يصدر المنكر عنهم، وتنكرهم خبر بمعنى الأمر، أي أنكر عليهم صدور المنكر عنهم.
أقول: الوجه الأول راجع إلى معنى قوله: ((نعم، وفيه دخن)) أي تعرف فيهم الخير فتقبل والشر فتنكر فهو من المقابلة المعنوية والوجه الثاني راجع إلى قوله: ((يستنون بسنتي)) فالوجه أن يكون المعطوف والمعطوف عليه كلاهما في معنى الأمر. أي اعرف منهم ذلك وأنكر. والخطاب في ((تعرف)) و ((تنكر)) من الخطاب العام.
((مح)): قيل المراد بـ ((الخير)) بعد ((الشر)) أيام عمر بن عبد العزيز. والمراد بالشر بعد الخير الأمر بعده. ((شف)): ((دعاة على أبواب جهنم)) أي جماعة يدعون الناس إلى الضلالة، ويصدونهم عن الهدى بأنواع من التلبيس لإدخالهم إياه في جهنم دخولهم فيها، وجعل كل نوع من أنواع التلبيس بمنزلة باب من أبواب جهنم. ((نه)):((من جلدتنا)) أي من أنفسنا وعشيرتنا. ((شف)): قيل: معناه من أهل ملتنا. ويتكلمون بما قال الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بالمواعظ والحكم. وما في قلوبهم شيء من الخير يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ((تو)):((ولو أن تعض بأصل شجرة)) أي تتمسك بما يصبرك وتقوي به عزيمتك على اعتزالهم، ولو بما لا يكاد يصح أن يكون متمسكا.
أقول: هذا شرط يعقب به الكلام تتميما ومبالغة، أي اعتزال الناس اعتزالا لا غاية بعده، ولو قنعت فيه بعض أصل الشجرة افعل فإنه خير لك. و ((الجثمان)): الجسمان يقال: ما أحسن جثمان الرجل! وجسمانه أتى جسده. وقال الأصمعي: الجثمان الشخص والجثمان الجسم. وقوله: ((فاسمع وأطع)) جزاء الشرط، أتى لمزيد تقريره واهتمام بشأنه، وإلا فما قبل الشرط مما أغنى عنه. ((مح)): هذه الرواية في كتاب مسلم عن أبي سلام عن حذيفة. قال الدارقطني: هذا مرسل، لأن أبا سلام لم يسمع حذيفة. قال الشيخ محيي الدين: هو كما قال، لكن
حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم: قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس)). قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله! إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع الأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)).
5383 -
وعن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويسمى كافراً، ويسمى مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)). رواه مسلم.
5384 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم:
ــ
المتن صحيح متصل بالطريق الأول. وإنما أتى مسلم بهذا متابعة. والحديث المرسل إذا روى من آخر طريق متصلاً تبينا به صحة المرسل. جاز الاحتجاج به ويصير في المسألة حديثان صحيحان.
الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بادروا بالأعمال)) أي سابقوا وقوع الفتن بالاشتغال بالأعمال الصالحة، واهتموا بها قبل نزولها، كما روى ((بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا)) فالمبادرة المسارعة بإدراك الشيء قبل فواته. أو بدفعه قبل وقوعه. وقوله:((يصبح الرجل)) استئناف بيان لحال المشبه. وهو قوله: ((فتنا)) وقوله: ((يبيع دينه بعرض من الدنيا)) بيان للبيان.
((مظ)): فيه وجوه: أحدها: أن يكون بين الطائفتين من المسلمين قتال لمجرد العصبية والغضب. فيستحلون الدم والمال. وثانيها: أن تكون ولاة المسلمين ظلمة فيريقون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم بغير حق ويشربون الخمر فيعتقد بعض الناس أنهم على الحق، ويفتيهم بعض علماء السوء على جواز ما يفعلون من المحرمات. وثالثها: ما يجري بين الناس مما يخالف الشرع من المعاملات والمبايعات وغيرها فيستحلونها. والله أعلم.
الحديث السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((من تشرف لها تستشرفه)) ((تو)): أي من تطلع لها دعته إلى الوقوع فيها. والتشرف: التطلع. واستعير هاهنا للإصابة بشرها أو أريد بها أنها تدعوه إلى زيادة النظر إليها، وقيل: إنه من استشرفت الشيء أي علوته، يريد من انتصب لها انتصبت له وبلته وصرعته. وقيل: هو من المخاطرة. والإشفاء على الهلاك أي من خاطر بنفسه فيها أهلكته.
قال: ((تكون فتنة، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، فمن وجد ملجأ أو معاذاً فليستعذ به)).
5385 -
وعن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه)). فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: ((يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت؟)) ثلاثا، فقال رجل يا رسول الله! أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال ((يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار)). رواه مسلم.
ــ
أقول: لعل الوجه الثالث أولى لما يظهر منه معنى اللام في ((لها)) وعليه كلام الفائق. وهو قوله: أي من غالبها غلبته.
الحديث السابع عن أبي بكرة رضي الله عنه: قوله: ((ألا ثم تكون فتنة)) فيه ثلاث مبالغات. أقحم حرف التنبيه بين المعطوف والمعطوف عليه لمزيد التنبيه لها. وعطف بـ ((ثم)) لتراخى مرتبة هذه الفتنة الخاصة تنبيها على عظمها. وهو لها على أنه من عطف الخاص على العام لاختصاصها بما يفارقها من سائرها، وأنها كالداهية الدهياء. نسأل الله العافية منها بفضله وعميم طوله.
قوله: ((من الساعي، إليها)) أي يجعلها غاية سعيه ومنتهى غرضه لا يرى مطلبا غيرها. ولام الغرض وإلى الغاية متقاربان معنى فحينئذ يستقيم التدرج والترقي من الماشي فيها إلى الساعي إليها. وقوله: ((فمن كان له إبل .. إلى آخره)) كناية عن الاعتزال عنها والاشتغال بخويصة نفسه. قال الشاعر:
إن السلامة من ليلى وجارتها أن لا تمر على حال بواديها
وقوله: ((يعمد إلى سيفه فيدق)) عبارة عن تجرده تجرداً تاماً. كأنه قيل: من لم يكن له ما يشتغل به من مهامه فلينج برأسه. و ((ثلاثا)) مصدر فعل محذوف. أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: اللهم! هل بلغت إلى عبادك ما أمرتني به أن أبلغه إليهم؟ قوله: ((يبوء بإثمه وإثمك)) فيه وجهان: أحدهما: أراد بمثل إثمك على الاتساع، أي يرجع بإثمه ومثل إثمك المقدر لو قتلته. وثانيهما: أراد بإثم قتلك على حذف المضاف، وإثمه السابق على القتل.
5386 -
وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)). رواه البخاري.
5387 -
وعن أسامة بن زيد، قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة، فقال:((هل ترون ما أرى؟)) قالوا: لا، قال:((فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر)). متفق عليه.
5388 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش)). رواه البخاري.
ــ
الحديث الثامن عن أبي سعيد رضي الله عنه قوله: ((يوشك أن يكون)) قال المالكي: ((يوشك)) أحد أفعال المقاربة يقتضي اسما مرفوعا، وخبرا منصوب المحل لا يكون إلا فعلا مضارعا مقرونا بـ ((أن)). ولا أعلم تجرده من ((أن)) إلا في قول الشاعر:
يوشك من فر من منيته في بعض غزاته يواقعها
وقد يسند إلى ((أن)) والفعل المضارع فيسد ذلك مسد اسمها وخبرها. وفي هذا الحديث شاهد على ذلك.
قوله ((غنم)) نكرة موصوفة هو اسم ((يكون)) والخبر قوله ((خير مال)) وهو معرفة فلا يجوز. اللهم إلا أن يراد بـ ((المسلم)) الجنس فلا تعيين فيه حينئذ. وفائدة التقديم أن المطلوب حينئذ الاعتزال وتحري الخير بأي وجه كان. وليس الكلام في الغنم ولذلك أخرها.
وقال المالكي: يجوز في ((خير وغنم)) رفعهما على الابتداء. و ((الخير)) في موضع نصب خبرا لـ ((يكون)) واسمه ضمير الشأن؛ لأنه كلام تضمن تحذيرا وتعظيما لما يتوقع وتقديم ضمير الشأن عليه مؤكد لمعناه. قوله: ((شعف الجبال)) ((نه)): شعف كل شيء أعلاه وجمعها شعاف. يريد به رأس كل جبل من الجبال. انتهى كلامه. والقطر عبارة عن العشب والكلأ. أي يتبع بها مواقع العشب والكلأ في شعاف الجبال.
الحديث التاسع عن أسامة رضي الله عنه: قوله: ((أطم)): ((نه)) هو بالضم بناء مرتفع وجمعه آطام قوله ((تقع)) يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا. والأقرب إلى الذوق أن يكون حالا، والرؤية بمعنى النظر. أي كشف لي فأبصرها عيانا.
الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((على يدي غلمة)) أي أحداث السن
5389 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج)). قالوا: وما الهرج؟ قال: ((القتل)). متفق عليه.
5390 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قتل؟ ولا المقتول فيم قتل؟)) فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: ((الهرج، القاتل والمقتول في النار)). رواه مسلم.
5391 -
وعن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العبادة في الهرج كهجرة إلى)). رواه مسلم.
5392 -
وعن الزبير بن عدي، قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقي من الحجاج. فقال: ((اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم)). سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري.
ــ
الذين لا مبالاة لهم بأصحاب الوقار وذوي النهي. ((مظ)): لعله أريد بهم الذين كانوا بعد الخلفاء الراشدين، مثل: يزيد وعبد الملك بن مروان وغيرهما.
الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يتقارب الزمان)) ((تو)): يريد به اقتراب الساعة. ويحتمل أنه أراد بذلك تقارب أهل الزمان بعضهم من بعض في الشر أو تقارب الزمان نفسه في الشر حتى يشبه أوله آخره. وقيل: بقصر أعمار أهله. ((قض)) يحتمل أن يكون المراد به أن تتسارع الدول إلى الانقضاء، والقرون إلى الانقراض، فيتقارب زمانهم وتتدانى أيامهم.
الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((القاتل والمقتول في النار)). ((مح)): أما القاتل فظاهر وأما المقتول؛ فإنه أراد قتل صاحبه. وفيه دلالة للمذهب الصحيح المشهور أن من نوى المعصية وأصر على النية يكون آثما، وإن لم يفعلها ولا تكلم بها.
الحديث الثالث عشر والرابع عشر عن الزبير قوله: ((أشر منه)). ((قض)): أخير وأشر أصلان متروكان لا يكادان يستعملان إلا نادراً. وإنما المتعارف في التفضيل خير وشر.
الفصل الثاني
5393 -
عن حذيفة، قال: والله ما أدرى أنسى أصحابي أم تناسوا؟ والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً وإلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته. رواه أبو داود. [5393]
5394 -
وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة)). رواه أبو داود، والترمذي. [5394]
5395 -
وعن سفينة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ((الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً)). ثم يقول سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرة، وعثمان اثنتي عشرة، وعلي ستة. رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [5395]
ــ
الفصل الثاني
الحديث الأول عن حذيفة رضي الله عنه قوله: ((يبلغ من معه)) الجملة في موضع الجر صفة ((قائد)) تقديره يبلغ مع قائد الفتن المبلغ المذكور. ((مظ)): أراد بـ ((قائد الفتنة)) من يحدث بسببه بدعة أو ضلالة أو محاربة: كعالم مبتدع يأمر الناس بالبدعة، أو أمير جائر يحارب المسلمين انتهى كلامه. وقوله ((إلى أن تنقضي الدنيا)) متعلق بمحذوف، أي ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا مهملا، لكن قد سماه فالاستثناء منقطع.
الحديث الثاني عن ثوبان رضي الله عنه قوله: ((وإذا وضع السيف)) عطف على قوله: ((إنما أخاف)) على سبيل حصول الجملتين، وتفويض ترتب الثانية على الأولى إلى ذهن السامع، كأنه قيل: أخاف على أمتي من شر الأئمة المضلين، وإضلالهم الذي يؤدي إلى الفتنة والمرج، والهرج، وهيج الحروب ووضع السيف بينهم، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع .. إلخ.
الحديث الثالث عن سفينة: قوله: ((الخلافة ثلاثون سنة)). ((حس)): يعني أن الخلافة حق الخلافة إنما هي للذين صدقوا هذا الاسم بأعمالهم، وتمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده. فإذا خالفوا السنة وبدلوا السيرة فهم حينئذ ملوك، وإن كان أساميهم الخلفاء. ولا بأس أن يسمى
5396 -
وعن حذيفة، قال: قلت: يا رسول الله! أيكون بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر؟ قال ((نعم)) قلت: فما العصمة؟ قال ((السيف)) قلت: وهل بعد السيف بقية؟ قال ((نعم، تكون إمارة على أقذاء، وهدنة على دخن)). قلت ثم ماذا؟ قال: ((ثم ينشأ دعاة الضلال، فإن كان لله في الأرض خليفة جلد ظهرك، وأخذ مالك، فأطعه، وإلا فمت وأنت عاض على جذل شجرة)).
ــ
القائم بأمور المسلمين ((أمر المؤمنين))، وإن كان مخالفا لبعض سير أئمة العدل لقيامه بأمر المؤمنين. ويسمى خليفة؛ لأنه خلف الماضي قبله وقام مقامه. ولا يسمى أحد خليفة الله بعد آدم وداود عليهما السلام.
وروى أن رجلا قال لأبي بكر يا خليفة الله! فقال أنا خليفة محمد، وأنا راض بذلك، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: يا خليفة الله! فقال: ويحك! لقد تناولت متناولا، إن أمي سمتني عمر، فلو دعوتني بهذا الاسم قبلت ثم وليتموني أموركم فسميتموني أمير المؤمنين فلو دعوتني بذلك كفاك. قوله:((ثم يقول سفينة: أمسك)) أي يقول لراويه عد مدة الخلافة. أقول لعل الوجه أن يقال: أمسك أي اضبط الحساب عاقدا أصابعك، حتى يكون ((أمسك)) محمولا على أصله.
الحديث الرابع عن حذيفة رضي الله عنه قوله: ((فما العصمة؟)) أي فما العصمة عن الوقوع في ذلك الشر. ((قال: السيف)) أي تحصل العصمة باستعمال السيف. حمل قتادة هذا على أهل الردة الذين كانوا في زمن الصديق رضي الله عنه. قوله ((إمارة على أقذاء)). ((نه)) الأقذاء جمع قذا والقذى جمع قذاة. وهو ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو نتن أو وسخ أو غير ذلك. أراد أن اجتماعهم يكون على فساد في قلوبهم. فشبهه بقذى العين والماء والشرب. ((قض)) أي أمارة مشوبة بشيء من البدع وارتكاب المناهي، وصلح مع خداع وخيانة ونفاق.
قوله: ((وهدنة على دخن)). ((فا)) هدن سكن. يقال: هدن يهدن هدونا ومهدنا ومهدنة. وضربه مثلا لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر. قوله ((وإلا فمت وأنت عاض)). ((قض)) أي إن لم يكن لله في الأرض خليفة فعليك بالعزلة والصبر على مضض الزمان، والتحمل لمشاقه وشدائده، وعض جذل الشجر وهو أصله كناية عن مكابدة الشدائد من قولهم: فلان يعض بالحجارة لشدة الألم. ويحتمل أن يكون المراد منه أن ينقطع عن الناس ويتبوأ أجمة. ويلزم أصل شجرة إلى أن يموت أو ينقلب الأمر من قولهم عض الرجل بصاحبه إذا لزمه ولصق به. ومنه: ((عضوا عليها بالنواجذ)).
وقيل: هذا الجملة قسيم قوله: ((فأطعه)) ومعناه إن لم تطعه أدتك المخالفة إلى ما لا تستطيع أن
قلت: ثم ماذا؟ قال ((ثم يخرج الدجال بعد ذلك، معه نهر ونار، فمن وقع في ناره؛ وجب أجره، وحط وزره. ومن وقع في نهره، وجب وزره، وحط أجره)). قال: قلت: ثم ماذا؟ قال ((ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة)) وفي رواية: قال: ((هدنة على دخن، وجماعة على أقذاء)). قلت: يا رسول الله! الهدنة على الدخن ما هي؟ قال: ((لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه)). قلت: بعد هذا الخير شر؟ قال: ((فتنة عمياء صماء، عليها دعاة على أبواب النار، فإن مت يا حذيفة! وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحداً منهم)). رواه أبو داود. [5396]
5397 -
وعن أبي ذر، قال: كنت رديفاً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على
ــ
تصبر عليه. ويدل على المعنى الأول، قوله في الرواية الأخرى:((فتنة عمياء صماء، عليها دعاة على أبواب النار. فإن مت يا حذيفة! وأنت عاض على جذل، خير لك من أن تتبع أحدا منهم)).
أقول: على الوجه الأول لفظه خبر ومعناه الأمر. وهو قسيم لقوله: ((فإن كان لله في الأرض خليفة)). وعلى الثاني هو مسبب من قوله: ((فأطعه)).
قوله ((ثم ينتج المهر فلا يركب)). ((تو)): ينتج من النتج لا من النتاج ولا من الإنتاج. يقال: نتجت الفرس أو الناقة على بناء ما لم يسم فاعله نتاجا. ونتجها أهلها نتجا. والإنتاج أقرب ولادها. وقيل: استبانة حملها. وقوله ((فلا يركب)) بكسر الكاف من قولهم اركب المهر إذا حان وقت ركوبه.
قوله ((فتنة عمياء صماء)). ((قض)) والمراد بكونها عمياء صماء أن تكون بحيث لا يرى منها مخرج ولا يوجد دونها مستغاثا، أو أن يقع فيها الناس على غرة من غير بصيرة فيعمون فيها ويصمون عن تأمل الحق واستماع النصح.
أقول: الوجه الأول من الاستعارة المكنية شبه الفتنة في كونها لا مخرج عنها ولا مستغاث منها بامرأة عمياء صماء. ثم نسب إليها ما هي من لوازم المشبه به. والوجه الثاني من الإسناد المجازي؛ لأن الفتنة ليست عمياء صماء بل صاحبها هو الأعمى والأصم. فأسند إليها لكونها سببا فيهما. ووصف الصاحب بالعمى والصمم أيضا ليس على الحقيقة؛ لأن المراد منه صممه عن استماع الحق وعماه عن النظر إلى الدلائل.
الحديث الخامس عن أبي ذر رضي الله عنه قوله: ((خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم) ظرف، وقع صفة
حمار، فلما جاوزنا بيوت المدينة، قال ((كيف بك يا أبا ذر! إذا كان بالمدينة جوع تقوم عن فراشك ولا تبلغ مسجدك حتى يجهدك الجوع؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((تعفف يا أبا ذر!)). قال: ((كيف بك يا أيا ذر! إذا كان بالمدينة موت يبلغ البيت العبد حتى إنه يباع القبر بالعبد؟)). قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال ((تصبر يا أبا ذر!)). قال ((كيف بك يا أيا ذر! إذا كان بالمدينة قتل تغمر الدماء أحجار الزيت؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال ((تأتي من أنت منه)). قال: قلت:
ــ
مؤكدة لـ ((رديفاً)). قوله ((تعفف)) ((نه)): هو الكف عن الحرام والسؤال من الناس. والمراد بـ ((البيت)) هاهنا القبر. وأراد أن مواضع القبور تضيق فيبتاعون موضع كل قبر بعبد. ((تو)): وفيه نظر؛ لأن الموت وإن استمر بالأحياء وفشا فيهم كل الفشو، لم ينته بهم إلى ذلك. وقد وسع الله عليهم الأمكنة. انتهى كلامه. وأجيب بأن المراد بمواضع القبور الجبانة المعهودة وقد جرت العادة بأنهم لا يتجاوزون عنها.
((حس)): قيل: معناه أن الناس يشتغلون عن دفن الموتى لما هم فيه، حتى لا يوجد من يحفر قبر الميت فيدفنه إلا أن يعطي عبداً أو قيمة عبد. وقيل: معناه أن لا يبقى في كل بيت كان فيه كثير من الناس إلا عبد يقوم بمصالح ضعفة أهل ذلك البيت.
((مظ)): يعني يكون البيت رخيصاً فيباع بيت بعبد. أقول: وعلى الوجهين الأخيرين لا يحسن موقع ((حتى)) حسنها على الوجهين الأولين.
((خط)): قد يحتج بهذا الحديث من يذهب إلى وجوب قطع النباش. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى القبر بيتا، فدل على أنه حزر كالبيوت. قوله:((أحجار الزيت)) ((تو)) هي من الحرة التي كانت بها الوقعة زمن يزيد. والأمير على تلك الجيوش العاتية مسلم بن عقبة المري المستبيح لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان نزوله بعسكره في الحرة الغربية من المدينة، فاستباح حرمتها وقتل رجالها، وعاث فيها ثلاثة أيام. وقيل: خمسة. فلا جرم أنه انماع كما ينماع الملح في الماء، ولم يلبث أن أدركه الموت وهو بين الحرمين وخسر هنالك المبطلون.
قوله: ((تأتي من أنت منه)) خبر في معنى الأمر. ((قض)) أي ارجع إلى من أنت جئت منه، وخرجت من عنده. يعني أهلك وعشيرتك.
أقول: ولا يطابق على هذا سؤاله بقوله ((وألبس السلاح؟)) والظاهر أن يقال: أن ترجع إلى إمامك ومن بايعته، فحينئذ له أن يقول: وألبس السلاح وأقاتل معه؟. فقال: لا. أي:
وألبس السلاح؟ قال: ((شاركت القوم إذا)). قلت: فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: ((إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ناحية ثوبك على وجهك ليبوء بإثمك وإثمه)). رواه أبو داود. [5397]
5398 -
وعن عبد الله بن عمر بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((كيف بك إذا أبقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم؟ واختلفوا فكانوا هكذا؟)) وشبك بين أصابعه. قال: فبم تأمرني؟ قال ((عليك بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامهم)). وفي رواية: ((ألزم بيتك، واملك عليك لسانك؛ وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك ودع أمر العامة)) .. رواه الترمذي، وصححه. [5398]
ــ
كن معه ولا تقاتل؛ ولذلك عقبه بقوله: ((إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف)) وهو كناية عن سلامة نفسه لمن يقصده فيقتله. يدل عليه قوله ((ليبوء بإثمك وإثمه)) ونظيره: قوله في حديث أبي بكرة في الفصل الأول: ((إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى احد الصفين)) إلى قوله: ((يبوء بإثمه وإثمك)) كما قال هاهنا: ((فألق ناحية ثوبك على وجهك ليبوء بإثمك وإثمه)) فإنه كناية عن التسليم. قيل: وهذا الكلام زجر منه صلى الله عليه وسلم [للسعي] على كثرة إراقة الدماء وإلا فمن المعلوم من أصل الشرع أن دفع الخصم واجب.
الحديث السادس عن عبد الله: قوله: ((كيف بك؟)) مبتدأ وخبر. والباء زائدة في المبتدأ أي كيف أنت أي حالك؟. ((نه))؛ ((الحثالة)) الرديء من كل شيء. ومنه حثالة التمر والأرز والشعير وكل ذي قشر.
قوله: ((مرجت عهودهم)) ((تو)): أي اختلطت وفسدت فقلت فيهم أسباب الديانات. وقوله: ((هكذا، وشبك بين أصابعه)) أي يموج بعضهم في بعض ويلتبس أمر دينهم، فلا يعرف الأمين من الخائن ولا البر من الفاجر. قوله ((عليك بما تعرف)) أي ألزم وافعل ما تعرف كونه حقا، واترك ما تنكر أنه حق. ((مظ)):((وعليك بخاصة نفسك)) أي ألزم. أمر نفسك وأحفظ دينك، واترك الناس ولا تتبعهم. وهذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثر الأشرار وضعف الأخيار. والإملاك: السد والإحكام، يعني سد لسانك، ولا تتكلم في أحوال الناس كيلا يؤذوك.
5399 -
وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويسمى مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا فيها قسيكم، وقطعوا فيها أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم)).، رواه أبو داود. وفي رواية له: ذكر إلى قوله ((خير من الساعي)). ثم قالوا: فما تأمرنا؟ قال ((كونوا أحلاس بيوتكم)). وفي رواية الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الفتنة ((كسروا فيها قسيكم، وقطعوا فيها أوتاركم، والزموا فيها أجواف بيوتكم، وكونوا كابن آدم)). وقال هذا حديث صحيح غريب. [5399]
5400 -
وعن أم مالك البهزية، قالت ذكر رسول الله فتنة فقربها قلت: يا رسول الله! من خير الناس فيها؟ قال: ((رجل في ماشيته يؤدي حقها، ويعبد ربه، وجل آخذ برأس فرسه يخيف العدو ويخوفونه)). رواه الترمذي. [5400]
5401 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستكون فتنة
ــ
الحديث السابع عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((إن بين يدي الساعة)) يريد بذلك التباسها وفظاعتها وشيوعها واستمرارها. قوله ((كخير ابني آدم) 9 يعني فليستسلم حتى يكون مقتولا كهابيل، ولا تكن قاتلا كقابيل، وأحلاس البيوت ما يبسط تحت حر الثياب، فلا تزال ملقاة تحتها.
الحديث الثامن عن أم مالك: قوله: ((فقربها)). ((شف)): معناه وصفها للصحابة وصفا بليغاً؛ فإن من وصف عند أحد وصفاً بليغاً فكأنه قرب ذلك الشيء إليه. قوله ((يخيف العدو)) أي يرتبط في بعض ثغور المسلمين يخيف الكفار ويخوفونه. ((مظ)): يعني رجل هرب من الفتن وقتال المسلمين، وقصد الكفار يحاربهم ويحاربونه.
الحديث التاسع عند عبد الله قوله ((تستنظف العرب)) ((نه)) أي تستوعبهم هلاكاً يقال: استنظفت الشيء إذا أخذته كله. ومنه قولهم: استنظفت الخراج، ولا يقال: نظفته. قوله ((قتلاها في النار)) مبتدأ وخبر. ((قض)): والمراد بـ ((قتلاها)) من قتل في تلك الفتنة. وإنما هم
تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5401]
ــ
من أهل النار؛ لأنهم ما قصدوا بتلك المقاتلة والخروج إليها إعلاء دين، أو دفع ظالم أو إعانة حق. وإنما كان قصدهم التباغي والتشاجر طمعا في المال والملك.
قوله: ((اللسان فيها أشد)) أي القول والتكلم فيها إطلاقا للمحل وإرادة الحال ((مظ)). يحتمل هذا احتمالين: أحدهما: أن من ذكر أهل تلك الحرب بسوء يكون كمن حاربهم، لأنهم مسلمون. وغيبة المسلمين إثم. ولعل المراد بهذه الفتنة: الحرب التي وقعت بين أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه. ولا شك أن من ذكر أحدا من هذين الصدرين وأصحابهما يكون مبتداعا؛ لأن أكثرهم كانوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن المراد به أن من مد لسانه فيهم بشتم أو غيبة يقصدونه بالضرب والقتل. ويفعلون به ما يفعلون بمن حاربهم.
أقول: ويؤيد قوله: ولعل المراد بهذه الفتنة .. إلخ. ما روينا عن الأحنف بن قيس: قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ يا أحنف! قلت أريد نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال يا أحنف! ارجع؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا توجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار)) قال: فقلت يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ فقال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه)). متفق عليه.
وأما قوله: ((قتلاها في النار)) فللزجر والتوبيخ والتغليظ عليهم. وأما كف الألسنة عن الطعن فيهم؛ فإن كلا منهم مجتهد. وإن كان علي رضي الله عنه مصيباً، فلا يجوز الطعن فيهما. والأسلم للمؤمنين أن لا يخوضوا في أمرهما. قال عمر بن عبد العزيز تلك دماء طهر الله أيدينا منها. فلا نلوث ألسنتنا بها.
((مح)): كان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ؛ لأنه بالاجتهاد والمجتهد إذا أخطأ فلا إثم عليه. وإن كان علي رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب. هذا مذهب أهل السنة. وكانت القضايا مشتبهة حتى كان جماعة من الصحابة تحيروا فيها، فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا. ولم تيقنوا الصواب لم يتأخروا عن مساعدته.
5402 -
وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ستكون فتنة صماء بكماء عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف)) رواه أبو داود. [5402]
5403 -
وعن عبد الله بن عمر، قال: كنا قعوداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الفتن، فأكثر في ذكرها، حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: وما فتنة الأحلاس؟ قال: ((هي هرب وحرب))، ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي، يزعم أنه مني وليس مني، إنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع، ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل: انقضت
ــ
الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((إشراف اللسان)) أي إطالة اللسان. ومعنى هذا مثل معنى قوله ((اللسان فيها أشد من وقع السيف)) على ما سبق.
الحديث الحادي عشر عن عبد الله رضي الله عنه: قوله ((فتنة الأحلاس)). ((نه)): الأحلاس جمع حلس، وهو الكساء الذي على ظهر البعير تحت القتب، شبهها به للزومها ودوامها. والحرب – بالتحريك – نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له. قوله ((فتنة السراء)) مبتدأ وخبره الجملة بعده، والجملة معطوفة على ((فتنة الأحلاس)) من حيث المعنى. أي قال فتنة الأحلاس هرب وحرب. ثم قال: و ((فتنة السراء دخنها)) كذا .. وقوله: ((لا تدع)) خبر لـ ((فتنة الدهيماء)) والجملة عطف على ما قبلها. ((تو)) يحتمل أن يكون سبب وقوع الناس في تلك الفتنة وابتلائهم بها أثر النعمة. فأضيفت إلى ((السراء)) ويحتمل أن يكون صفة لـ ((فتنة)) فأضيفت إليها إضافة مسجد الجامع ويراد منها سعتها لكثرة الشرور والمفاسد. ومن ذلك قولهم قناة سراء، إذا كانت وسعة. وقوله:((دخنها)) أي إثارتها وهيجانها شبهها بالدخان الذي يرتفع. وإنما قال: ((من تحت قدمي رجل)) تنبيها على أنه هو الذي يسعى في إثارتها، أو إلى أنه يملك أمرها. قوله ((كورك على ضلع)). ((نه)): أي يصطلحون على رجل لا نظام له ولا استقامة؛ لأن الورك لا يستقيم على الضلع. ولا يتركب عليه لاختلاف ما بينهما وبعده. ((حس)): معناه: الأمر الذي لا يثبت ولا يستقيم. وذلك لان الضلع لا يقوم بالورك ولا يحمله. وإنما يقال في باب الملاءمة والموافقة إذا وصفوا هو ككف في ساعد وساعد في ذراع ونحو ذلك. يريد أن هذا الرجل غير خليق للملك ولا مستقل به.
قوله ((ثم فتنة الدهيماء)). ((نه)): هي تصغير الدهماء يريد الفتنة المظلمة، والتصغير فيها للتعظيم. وقيل: أراد بـ ((الدهيماء)) الداهية. ومن أسماء الداهية: الدهيم. زعموا أن الدهيم اسم
تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه. فإذا كان ذلك فانتظروا الدجال من يومه أو من غده)) رواه أبو داود. [5403]
5404 -
وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ويل للعرب من شر قد اقترب، أفلح من كف يده)). رواه أبو داود. [5404]
5405 -
وعن المقداد بن الأسود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن؛ ولمن ابتلي فصبر فواها)) رواه أبو داود. [5405]
ــ
ناقة غزا عليها سبعة إخوة، فقتلوا عن آخرهم وحملوا عليها .. حتى رجعت بهم، فصارت مثلا في كل داهية. واللطم هو الضرب بالكف.
أقول: وهو استعارة مكنية. شبه الفتنة بإنسان ثم خيل لإصابتها الناس اللطم الذي هو من لوازم المشبه به، وجعلها قرينة لها. و ((الفسطاط)) – بالضم والكسر – المدينة التي فيها مجتمع الناس، وكل مدينة فسطاط. وإضافة الفسطاط إلى الإيمان. إما بجعل المؤمنين نفس الإيمان مبالغة وإما بجعل الفسطاط مستعارا للكنف والوقاية على المصرحة. أي هم في كنف الإيمان ووقايته.
الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((من شر قد اقترب)) أراد به الاختلاف الذي ظهر بين المسلمين، من وقعة عثمان رضي الله عنه وما وقع بين علي رضي الله عنه ومعاوية.
الحديث الثالث عشر عن المقداد رضي الله عنه قوله: ((فواها)) اسم صوت وضع موضع المصدر وسد مسد فعله. ((نه)): قيل معنى هذا التلهف. وقد يوضع موضع الإعجاب بالشيء. يقال: واها له. وقد يرد بمعنى التوجع. وقيل: يقال في التوجع: آهاً له. انتهى كلامه.
ويجوز أن يكون ((فواهاً)) خبرا لـ ((من)) على أن اللام مكسورة، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، فعلى هذا فيه معنى التعجب. أي من ابتلي وصبر فطوبى له، وأن لا يكون خبرا على أن اللام مفتوحة. ويكون قوله:((ولمن ابتلي)) عطفا على قوله ((لمن جنب الفتن)) فعلى هذا ((واها)) للتلهف والتحسر. أي فواها على ما باشرها وسعى فيها.
5406 -
وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي الله، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) رواه أبو داود. [5406]
5407 -
وعن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أوست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن
ــ
الحديث الرابع عشر عن ثوبان رضي الله عنه: قوله: ((على الحق)) خبر لقوله ((لا يزال)) أي ثابتين على الحق. وقوله: ((ظاهرين)) يجوز أن يكون خبرا بعد خبر. وأن يكون حالا من ضمير الفاعل في ثابتين أي ثابتين على الحق في حال كونهم غالبين على العدو.
الحديث الخامس عشر عن عبد الله قوله: ((تدور رحى الإسلام)) ((قض)): دوران الرحى كناية عن الحرب والقتال شبهها بالرحى الدوارة التي تطحن الحب لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس. قال الشاعر:
فدارت رحانا واستدارت رحاهم
((تو)) إنهم يكنون عن اشتداد الحرب بدوران الرحى، ويقولون: دارت رحى الحرب، أي استتب أمرها ولم نجدهم استعملوا دوران الرحى في أمر الحرب من غير جريان ذكرها والإشارة إليها. وفي هذا الحديث لم يذكر الحرب. وإنما قال:((رحى الإسلام)). فالأشبه أنه أراد بذلك أن الإسلام يستتب أمره ويدوم على ما كان عليه المدة المذكورة في الحديث. ويصح أن يستعار دوران الرحى في الأمر الذي يقوم لصاحبه ويستمر له، فإن الرحى توجد على نعت الكمال ما دامت دائرة مستمرة. ويقال: فلان صاحب دارتهم إذا كان أمرهم يدور عليه. ورحى الغيث: معظمه.
ويؤيد ما ذهبنا إليه ما رواه الحربي في بعض طرقه: ((تزول رحى الإسلام)) مكان ((تدور)) ثم قال: كأن ((تزول)) أقرب؛ لأنها تزول عن ثبوتها واستقرارها. وأشار بـ ((السنين الثلاث)) إلى الفتن الثلاث. مقتل عثمان رضي الله عنه وكان سنة خمس وثلاثين. وحرب الجمل وكانت سنة ست، وحرب صفين وكانت سنة سبع، فإنها كانت متتابعة في تلك الأعوام الثلاثة. قوله:((فإن يهلكوا فسبيل من هلك)) أي فسبيلهم سبيل من قد هلك من القرون السالفة.
يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً)). قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال ((مما مضى)). رواه أبو داود. [5407]
ــ
قوله: ((وإن يقم لهم دينهم)) قال الخطابي: أراد بالدين الملك. وأنشد قول زهير:
لئن حللت بحر في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدك
قال: ويشبه أن يكون أراد بهذا ملك بني أمية وانتقاله عنهم إلى بني العباس. وكان ما بين استقرار الملك لبني أمية إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان، وضعف أمر بني أمية ودخل الوهن فيه نحواً من سبعين سنة.
ويرحم الله أيا سليمان! فإنه لو تأمل الحديث كل التأمل وبني التأويل على سياقه، لعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بذلك ملك بني أمية دون غيرهم من الأمة. بل أراد به استقامة أمر الأمة في طاعة الولاة وإقامة الحدود والأحكام وجعل المبدأ فيه أول زمان الهجرة، وأخبرهم أنهم يلبثون على ما هم عليه خمسا وثلاثين سنة، أو ستا وثلاثين أو سبعا وثلاثين. ثم يشقون عصا الخلاف فتفترق كلمتهم. فإن هلكوا فسبيلهم سبيل من قد هلك قبلهم. وإن عاد أمرهم إلى ما كان عليه من إيثار الطاعة ونصرة الحق يتم لهم ذلك إلى تمام السبعين. هذا مقتضى اللفظ.
ولو اقتضى اللفظ أيضا غير ذلك لم يستقم لهم ذلك القول؛ فإن الملك في بعض أيام العباسية لم يكن أقل استقامة في أيام المروانية، مع أن بقية الحديث تنقض كل تأويل يخالف تأويلنا هذا. وهي قول ابن مسعود: قلت: يا رسول الله! أمما بقي أو مما مضى؟ يريد أن السبعين تتم لهم مستأنفة بعد خمس وثلاثين، أم تدخل الأعوام المذكورة في جملتها؟ قال: مما مضى، يعني يقوم لهم أمر دينهم إلى تمام سبعين سنة من أول دولة الإسلام، لا من انقضاء خمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين إلى انقضاء سبعين.
وفي جامع الأصول: قيل: إن الإسلام عند قيام أمره على سنن الاستقامة والبعد من إحداثات الظلمة إلى أن تنقضي مدة خمس وثلاثين سنة. ووجهه أن يكون قد قاله. وقد بقيت من عمره صلى الله عليه وسلم خمس سنين أو ست سنين، فإذا انضمت إلى مدة خلافة الخلفاء الراشدين، وهي ثلاثون سنة كانت بالغة ذلك المبلغ. وإن كان أراد سنة خمس وثلاثين من الهجرة، ففيها خرج أهل مصر وحصروا عثمان رضي الله عنه. وإن كان سنة ست وثلاثين من الهجرة ففيها كانت وقعة الجمل. وإن كانت سنة سبع وثلاثين، ففيها كانت وقعة صفين.