الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(6) باب رؤية الله تعالى
الفصل الأول
5655 -
عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنَّكم سترونَ ربَّكم عِيَانًا)) وفي رواية: قال: كنَّا جلوسًا عند رسول صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ إلى القمر ليلة البدر فقال: ((إنكم سترون ربَّكم كما ترون هذا القمر لاتضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن
ــ
باب رؤية الله تعالى
الفصل الأول
الحديث الأول عن جرير رضي الله عنه:
قوله: ((عيانًا)) يجوز أن يكون مصدرًا مؤكدًا أو حالًا مؤكدة إما من الفاعل أو المفعول، أي معاينين أو معاينًا.
((حس)): سئل مالك بن أنس عن قوله تعالى: {إلى ربهَا ناظرة} فقيل: قوم يقولون: إلى ثوابه؟.
فقال مالك: كذبوا، وأين هم عن قوله تعالى {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} . [ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة بأعينهم، وقال: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله الكفار بالحجاب فقال {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}]
((مح)): اعلم أن مذهب أهل الله قاطبة أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا، وأجمعوا أيضًا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين، وزعمت طوائف من أهل البدع (المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة) أن الله تعالى لايراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، ورواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبة مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة.
وأما رؤية الله تعالى في الدنيا فممكنة، ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم على أنها لاتقع في الدنيا، وحكى الإمام أبو القاسم القشيري في رسالته المعروفة عن أبي بكر بن فورك أنه حكى فيها قولين للإمام أبي الحسن الأشعري، أحدهما وقوعها، والثاني لا تقع.
ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال
لاتُغْلَبُوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبلَ غروبها فافعلوا)) ثمَّ قرأ: {وسبِّح بحمدِ ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبهَا} متفق عليه.
5656 -
وعن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا دخلَ أهلُ الجنة الجنَّةَ يقول الله تعالى: تريدون شيئًا أزيدُكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتُنجنا من النَّار؟)) قال: ((فيرفعُ الحجاب، فينظرون إلى وجه الله، فما أُعطوا شيئًا
ــ
الأشعة، ولا مقابلة المرئى ولا غير ذلك، ولكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضًا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط، وقد قرر أئمتنا المتكلمون ذلك بالدلائل الجلية.
ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات جهة له - تعالى عن ذلك - بل يراه المؤمنون لا في جهة كما يعلمونه لا في جهة.
قوله: ((كما ترون)) قال في جامع الأصول: قد يخيل إلى بعض السامعين أن الكاف في قوله: ((كما ترون)) كاف التشبيه للمرئى، وإنما هي كاف التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي، ومعناه ترون رؤية ينزاح معها الشك كرؤيتكم القمر ليلة البدر لا ترتابون فيه ولاتمترون.
و ((لا تضامون)) روى بتخفيف الميم من الضيم الظلم، على معنى أنكم ترونه جميعكم لا يظلم بعضكم في رؤيته فيراه البعض دون البعض.
وبتشديد الميم من الانضمام والازدحام أي: لا يُزدحم بكم في رؤيته، ويَضُمُّ بعضكم إلى بعض من ضيق كما يجرى عند رؤية الهلال مثلا دون رؤية القمر، إنما يراه كل منكم موسعًا عليه منفردًا به.
قوله: ((فإن استطعتم أن لاتغلبوا)) قض: ترتيب قوله: ((إن استطعتم)) على قوله: ((سترون)) بالفاء يدل على أن المواظب على إقامة الصلوات والمحافظ عليها خليق بأن يرى ربه، وقوله:((لا تغلبوا)) معناه لا تصيروا مغلوبين بالاشتغال عن صلاتي الصبح والعصر، وإنما خصهما بالحث لما في الصبح من ميل النفس إلى الاستراحة والنوم وفي العصر من قيام بالأسواق واشتغال الناس بالمعاملات، فمن لم يلحقه فترة في الصلاتين مع مالهما من قوة المانع فبالحري أن لايلحقه في غيرهما - والله أعلم -.
الحديث الثاني عن صهيب رضي الله عنه: قوله: ((ألم تبيض وجوهنا؟)) تقرير وتعجيب من أنه كيف يمكن الزيادة على ما أعطاهم الله من سعة فضله وكرمه.
((فيرفع الحجاب)) رفع الحجاب دفع للتعجب كأنه قيل لهم: هذا هو المزيد.
أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم)) ثمَّ تلا {للَّذين أحسنوا الحسنى وزيادة} . رواه مسلم.
الفصل الثاني
5657 -
عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أدنى أهل الجنَّةِ منزلة لمن ينطر إِلى جِنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسُرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على
ــ
قوله: {للذين أحسنوا الحسنى} أي للذين أجادوا الأعمال الصالحة وقرنوها بالإخلاص الحسنى، أي المثوبة الحسنى وهي الجنة، ونكر الزيادة ليفيد ضربا من التفخيم والتعظيم بحيث لايقدر قدره ولا يكتنه كنهه، وليس ذلك إلا لقاء وجهه الكريم، وإذا كان مفسر التنزيل من نزل عليه فمن تعداه فقد تعدى طوره.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما:
قوله: ((ينظر إلى جنانه)) كناية عن كون الناظر يملك في الجنة ما يكون مقداره مسيرة ألف سنة، لأن المالكية في الجنة خلاف ما في الدنيا، وفي التركيب تقديم وتأخير حيث جعل الاسم وهو قوله:((لمن ينظر)) خبرًا، أو الخبر وهو ((أدنى منزلة)) اسمًا اعتناء بشأن المقدم لأن المطلوب بيان ثواب أهل الجنة وسعتها وأن أدناهم منزلة من يكون ملكه كذا، نحوه قوله تعالى {إن خير من استأجرت القوي الأمين} .
الكشاف: فإن قلت: كيف جعل ((خير من استأجرت)) اسمًا، و ((القوي الأمين)) خبرًا؟.
قلت: هو مثل قوله:
ألا إن خير الناس حيًا وميتا أسير ثقيف عندهم في السلاسل
في أن العناية هي سبب التقديم.
الله من يظر إلى وجهه غدوةً وعشيَّة)) ثم قرأ {وجوه يومئذٍ ناضرة إِلى ربها ناظرة} . رواه أحمد، والترمذي. [5657]
5658 -
وعن أبي رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله! أكلُّنا يرى ربَّه مُخْليًا به يوم القيامة؟ قال: ((بلى)). قال: وما آيةُ ذلك في خلقه؟ قال: ((يا أبا رزين!
ــ
قوله: {يومئذ ناضرة} أي ناعمة غضة حسنة، وقدم صلة ((ناظرة)) إما لرعاية الفاصلة وهي ((ناضرة)) ((باسرة)) ((فاقرة)) وإما لأن الناظر يستغرق عند رفع الحجاب بحيث لا يلتفت إلى ما سواه، وكيف يستبعد هذا والعارقون في الدنيا ربما استغرقوا في بحار الحب بحيث لم يلتفتوا إلى الكون وذلك في مقام الغرق وهو انسداد مسالك الالتفات من القلب باستيلاء أنوار الكشف عليه قد شغفها حبًا قال:
فلما استبان الصبح أدرج ضؤه بإسفاره أنوار ضوء الكواكب
يجرعهم كأسًا لو ابتليت لظى بتجريعه صارت كأسرع ذاهب
ويعضده حديث جابر في آخر الفصل الثالث: ((فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم)).
الحديث الثاني عن أبي رزين رضي الله عنه: قوله: ((مخليا به)) أي: خاليًا. [((نه)): يقال خلوت به ومعه وإليه واختليت به إذا انفردت به: أي كلكم يراه منفردًا بنفسه، كقوله: لا تضارون في رؤيته]
أقول: قاس القائل رؤية الله تعالى على ما في المتعارف، فإن الجم الغفير إذا رأوا شيئًا يتفاوتون في الرؤية لا سيما شيئًا له نوع خفاء، فيضيم بعضهم بعضًا بالازدحام، فمن راء يرى رؤية كاملة وراء دونها، فالمراد بقوله:((مخليًا)) إثبات كمالها، ولهذا طابق الجواب بالتشبيه بالقمر ليلة البدر لا بالهلال.
أليس كلُّكم يرى القمر ليلةَ البدرِ مُخْليًا به؟)) قال: بلى. قال: ((فإنما هو خلقٌ من خَلْقِ الله، والله أجلُّ وأعظم)). رواه أبوداود. [5658]
الفصل الثالث
5659 -
عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتَ ربَّك؟ قال: ((نورٌ أنَّي أراه)). رواه مسلم.
5660 -
وعن ابن عبَّاس: {ماكذب الفؤادُ مارأي} {ولقد رآه نزلة أخرى}
ــ
الفصل الثالث
الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه:
قوله: ((نور أنى أراه؟)) قال الإمام أحمد: يعني على طريق الإيجاب.
أي أراد أن الاستفهام ليس للإنكار المستلزم للنفي، بل للتقرير المستلزم للإيجاب، أي نور حيث أراه.
((مح)): وفي الرواية الأخرى ((رأيت نورًا))، و ((أنى)) بفتح الهمزة وتشديد النون المفتوحة، هكذا رواه جميع الرواة في جميع الأصول، ومعناه: حجابه نور فكيف أراه، قال الإمام المازري: معناه أن النور منعني من الرؤية كما جرت العادة، فإن كمال النور يمنع الإدراك.
وروي: ((نوراني)) منسوب إلى النور، وما جاء من تسمية الله تعالى بالنور في مثل قوله سبحانه وتعالى:{الله نور السموات والأرض} وفي الأحاديث معناه ذو نور أو منورهما، وقيل: هادي أهل السماوات والأرض. وقيل: منور قلوب عباده المؤمنين.
الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما:
قوله: {ما كذب الفؤاد ما رأي} ((مح)): قال ابن مسعود: ((رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل)) وهذا الذي قاله هو مذهبه في هذه الآية، وذهب الجمهور من المفسرين إلى أن المراد أنه رأي ربه سبحانه وتعالى، ثم اختلفوا، فذهب جماعة إلى أنه صلى الله عليه وسلم رأي ربه بفؤاده دون عينه، وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه.
قال: رآه بفؤاده مرتين. رواه مسلم.
ــ
قال الإمام أبو الحسن الواحدي: قال المفسرون: هذا إخبار عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ليلة المعراج، قال ابن عباس وأبو ذر وإبراهيم التيمي رآه بقلبه، وعلى هذا رأي بقلبه ربه رؤية صحيحة وهو أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصرًا حتى رأي ربه رؤية صحيحة كما يرى بالعين.
قال: ومذهب جماعة من المفسرين أنه رأي بعينه، وهو قول: أنس وعكرمة والربيع، قال المبرد: إن الفؤاد رأي شيئًا فصدق فيه، و (ما رأي) في موضع النصب، أي ما كذب الفؤاد مرئيه.
أقول: لا يستقيم تأويل {فأوحى إلى عبده ما أوحى} استقامة يساعدها الذوق إذا جعل الضمير في أوحى لجبريل، وكذا نظم الكلام، وإنما يوافق إذا قلنا: إن الضمير لله سبحانه وتعالى وبيانه أن يجري الكلام إلى قوله: {وهو بالأفق الأعلى} على أمر الوحي بالواسطة وتلقيه من الملك في دفع شبه الخصوم، ومن قوله:{ثم دنا فتدلَّى} إلى قوله: {من آيات ربه الكبرى} على أمر العروج إلى الجناب الأقدس فحينئذ (عبده) من إقامة المظهر موضع المضمر لتصحيح نسبة القرب وتحقيق معنى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} ولا يخفي على كل ذي لب إباء مقام قوله: {ما أوحى} الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله ما أوحى، إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المنافاة بين المتساويين وما ينطوي عنده بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم، وكلمة ((ثم)) على هذا منزلة على التراخي بين المرتبتين، والفرق بين الوحيين: وحي بواسطة وتعليم، وآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحصل عنده الترقي من مقام {وما منا إلا له مقام معلوم} إلى مخدع {قاب قوسين أو أدنى} .
قال القاضي عياض: اختلف الخلف والسلف هل رأي نبينا صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، فأنكرته عائشة، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من (المحدثين) والمتكلمين.
وروي عن ابن عباس أنه رأي بعينه، ومثله عن أبي ذر وكعب والحسن - وكان يحلف على ذلك -، وحكى مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل، وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه.
ووقف بعض مشايخنا وقال: ليس عليه دليل واضح ولكنه جائز، ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة.
وفي رواية الترمذي قال: رأي محمد ربه. قال: عكرمة قلتُ: أليس الله يقول:
ــ
واختلفوا أن نبينا صلى الله عليه وسلم هل كلمه ربه سبحانه وتعالى ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟.
فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه، وعزاه بعضهم إلى جعفر بن محمد وابن مسعود وابن عباس.
وكذلك اختلفوا في قوله تعالى: {ثم دنا فتدلى} فالأكثرون على أن هذا الدنو والتدلي مقسم ما بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم رضي الله تعالى عنهم: أنه دنو من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه تعالى، أو من الله، والدنو والتدلي على هذا متأول ليس على وجهه، قال جعفر بن محمد: الدنو من الله لا حد له، ومن العباد بالحدود، فدنوه صلى الله عليه وسلم من ربه عزو جل: قربه منه، وظهور عظيم منزلته لديه، وإشراق أنوار معرفته عليه، واطلاعه على أسرار ملكوته وغيبه بما لم يطلع عليه سواه، والدنو من الله تعالى، إظهار ذلك له وإيصال عظيم بره وفضله إليه، و {قاب قوسين أو أدنى} على هذا عبارة عن لطف المحل، وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن الله إجابة الرغبة وإثابة المنزلة، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه:((من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا)) هذا آخر كلام القاضي عياض.
وأما صاحب التحرير فإنه اختار إثبات الرؤية، قال: والحجج في هذه المسألة وإن كانت كثيرة لكنا لانتمسك (إلا بالأقوى)، منها حديث ابن عباس رضي الله عنه: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين؟ والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة: هل رأي محمد صلى الله عليه وسلم ربه، فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضي الله عنها، لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم أر ربي، وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقوله تعالى:{ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب} ولقوله: {لا تدركه الأبصار} والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة، وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذا بالظن والاجتهاد، وقد قال عمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيئًا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي. هذا كلام صاحب التحرير.
{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} ؟ قال: ويحك! ذاك إِذا تجلَّى بنوره الذي هو نوره، وقد رأي ربَّه مرَّتين.
ــ
وقال الشيخ محيي الدين النواوي: الحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء، وإثبات هذا ليس إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا ينبغي أن يشكك فيه، ثم إن عائشة لم تنف الرؤية بحديث، ولو كان معها حديث لذكرته، وإنما اعتمدت على الاستباط من الآيات، أما احتجاجها بقوله تعالى:{لا تدركه الأبصار} فجوابه أن الإدارك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط، فإذا ورد النص بنفي الإحاطة به لا يلزم منه نفي الرؤية بغير الإحاطة، وبقوله:{ما كان لبشر أن يكلمه الله} الآية فجوابه أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، أو أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة، وقال ابن عباس وعلى هذا معنى {نزلة أخرى} يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له عروجات في تلك الليلة لاستحطاط عدد الصلوات، وكل عرجة نزلة – تم كلامه.
وفي التفسير الكبير: واعلم أن النصوص وردت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأي ربه بفؤاده وجعل بصره في فؤاده، أو رآه ببصره وجهل فؤاده في بصره، وكيف لا ومذهب أهل السنة الرؤية بالإراءة لا بقدرة العبد فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كانت رؤية بالإراءة، وإن حصل من طريق القلب كان معرفة، والله تعالى قادر على أن يحصل العلم يخلق مدرك للعلوم في القلب، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة، واختلاف الوقوع مما ينبيء عن الاتفاق على الجواز والله أعلم.
وروى السلمي عن جعفر بن محمد: أدناه منه حتى كان قاب قوسين، والدنو من الله تعالى لا حد له، والدنو من العبد بالحدود.
{فأوحى إلى عبده ما أوحى} قال: بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه لايعلم به أحد سواه بلا واسطة إلا في العقبى حتى يعطيه الشفاعة لأمته، {فأوحى إلى عبده ما أوحى} أي كان ما كان وجرى ما جرى.
وذكر الشيخ أبو القاسم القشيري في مفاتيح الحجج: أخبر الله تعالى بقوله: {فكان قاب قوسين أو أدنى} أنه صلى الله عليه وسلم بلغ من الرتبة والمنزلة والقدر الأعلى ما لا يفهم الخلق.
ــ
ثم قال: {أو أدنى} أي حل فوق ذلك.
قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره: {ما زاغ البصر} إخبار عن حالة صلوات الله تعالى وسلامه عليه بوصف خاص، وكأن {ما زاغ البصر} حاله في طرف الإعراض وفي طرف الإقبال، تلقى ما ورد عليه في مقام {قاب قوسين} بالروح والقلب {وما طغى} حاله في الفرار من الله تعالى حياء إلى مطاوي الانكسار لئلا تنبسط النفس.
وقال: فيه وجه آخر ألطف منه أنه {ما زاغ البصر} حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر {وما طغى} لم تسبق البصيرة البصر فتجاوز حده وتتعدى مقامه، ولم يزل صلى الله عليه وسلم مستجلسًا [حجاله في حقارة] أدب حاله حتى خرق حجب السماوات، فانصبت إليه أقسام القرب انصبابا، وانقشعت عنه الحجب حجابًا حجابًا، حتى استقام على صراط {ما زغ البصر وما طغى} فمر كالبرق الخاطف إلى مخدع الرمل واللطائف، وهذا غاية الأدب ونهاية الأرب.
وقال أبو العباس عن ابن عطاء: لم يره بطغيان ميل بل رآه على شرط اعتدال القوى.
وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاهد نفسه ولا إلى مشاهدتها، وإنما كان مشاهدا بكليته لربه يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل.
وعن حقائق السلمي قال الصادق: لما قرب الحبيب إلى الحبيب بغاية القرب نالته غاية الهيبة، فلاطفه الحق بغاية اللطف لأنه لايحمل غاية الهيبة إلا غاية اللطف، وذلك قوله:{فأوحى إلى عبده ما أوحى} أي كان ما كان وجرى ما جرى، قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه، وألطف له إلطاف الحبيب لحبيبه، وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه، فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدًا.
قال جعفر: لا يعلم ما رأي إلا الذي أرى، والذي رأي صار الحبيب إلى الحبيب قريبًا وله نجيا وبه أنيسًا، يرفع درجات من يشاء.
قال السلمي: ما كذب الفؤاد ما رأي البصر، وهو مشاهدة ربه كفاحًا ببصره وقلبه.
وقال ابن عطاء: ما اعتقد القلب خلاف ما رآه العين، وليس كل من رأي شيئًا مكن فؤاده من إدراكه، إذ العيان قد يظهر فيه فيضطرب السر عن حمل الوارد عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم محمول فيها فؤاده وعقله وحسه، وهذا يدل على صدق طويته وحمله فيما شوهد به والله أعلم.
5661 -
وعن الشعبي، قال: لقيَ ابنُ عباس كعبًا بعرفة، سأله عن شيء، فكبَّر حتى جاوبته الجبال. فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم فقال كعب: إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلَّم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين قال مسروقٌ: فدخلت على عائشة، فقلت: هل رأي محمدٌ ربَّه؟ فقالت: لقد تكلمت بشيءٍ قفَّ له شعري قلتُ: رويدًا، ثم قرأتُ {لقد رأي من آيات ربه الكبرى} فقالت: أين تذهب بك؟ إنما هو جبريل. من أخبرك أن محمدًا رأي ربه أو كتم شيئًا ممَّا أُمر به، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى:{إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث} فقد أعظم القرية، ولكنه رأي جبريل، لم يره في صورته إِلا مرَّتين: مرة
ــ
قوله: ((ذاك)) إذا تجلى بنوره [يعني دلَّت الآية على أنه تعالى لا تحيط به وبحقيقة ذاته حاسة الإبصار، هذا إذا تجلى بنوره] الذي هو نوره وظهر بصفة الجلال، وأما إذا تجلى بما يسعه نطاق البشرية من صفة الجمال فلا استبعاد إذن.
الحديث الثالث عن الشعبي:
قوله: ((حتى جاوبته الجبال)) صدى كأنه استعظم ما سأل عنه فكبر لذلك كذلك، ولعل ذلك السؤال سؤال رؤية الله تعالى كما سئلت عائشة رضي الله عنها: فقف لذلك شعرها.
وأما قوله: ((إنا بنو هاشم)) فبعث له على التسكين من ذلك الغيظ والتفكر في الجواب، يعني نحن بنو هاشم أهل علم ومعرفة فلا نسأل عما هو مستبعد غير واقع ومن ثمة لما تفكر قال:((إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام)) والله أعلم بحقيقته.
قوله: ((قف شعري)) أي قام من الفزع.
نه: ((رويدًا)) أي أمهل وتأن، وهو تصغير رود، يقال: أرود به إروادًا أي أرفق، ويقال: رويد زيد، ورويد زيدًا، وهي مصدر مضاف، وقد يكون صفة نحو ساروا سيرًا رويدًا، وهي من أسماء الأفعال المتعدية.
قوله: ((ثم قرأت {لقد رأي من آيات ربه الكبرى})) أي قرأت الآيات التي خاتمتها هذه، يدل عليه رواية مسلم: قلت لعائشة رضي الله عنها: فأين قوله تعالى: {ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} الآيات؟.
قوله: ((أين تذهب بك؟)) أي أخطأت فيما فهمت من معنى الآية وذهبت إليه، فأسندت الإذهاب إلى الآية مجازًا.
عند سدرة المنتهى، ومرَّة في أجياد، له ستُّمائة جناحٍ، قد سدَّ الأُفُقَ)). رواه الترمذي وروى الشيخان مع زيادة واختلاف وفي روايتهما: قال: قلت لعائشة: فأين قوله: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} ؟ قالت: ذاك جبريل عليه السلام؛ كان يأتيه في صورة الرجل، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسدَّ الأفق. [5661]
5662 -
وعن ابن مسعود في قوله: {فكان قاب قوسين أو أدنى} وفي قوله: {ما كذب الفؤاد ما رأي} وفي قوله: {رأي من آيات ربِّه الكبرى} قال فيها كلِّها: رأي جبريل عليه السلام، له ستُّمائة جناحٍ. متفق عليه.
وفي رواية الترمذي قال: {ما كذب الفؤاد مارأي} قال: رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حلة من رفرف، قد ملأ ما بين السماءِ والأرض.
وله وللبخاري في قوله: {لقد رأي من آيات ربِّه الكبرى} قال: رأي رفرفًا أخضر، سد أفق السَّماء. [5662]
5663 -
وسُئل مالك بن أنس عن قوله تعالى {إلى ربها ناظرة} فقيل: قومٌ يقولون: إلى ثوابه فقال مالك: كذبوا فأين هم عن قوله تعالى {كلَاّ إنهم عن ربِّهم يومئذ لمحجوبون} ؟ قال مالك: الناسُ ينظرون إلى الله يوم القيامة بأعيُنهم،
ــ
و ((أجياد)) موضع معروف بأسفل مكة من شعابها.
قوله: ((فتدلى)) أي تعلق عليه، ومنه تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير، والدوالي الثمار المعلقة.
و ((قاب قوسين)) مقدار قوسين، والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس المقدار، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والزرع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع.
وتقديره: وكان مقدار مسافة قربه [مثل قاب] قوسين، فحذفت هذه المضافات.
الحديث الرابع عن ابن مسعود رضي الله عنه:
قوله: ((من رفرف)) ((نه)): أي بساط، وقيل: فراش، ومنهم من يجعل الرفرف جمعًا واحده رفرفة، وجمع الرفرف رفارف.