الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية عن أبي أمامة، قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله كم وفاءُ عدة الأنبياء؟ قال: ((مائة ألف وأربعةٌ وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًا غفيرًا)).
5738 -
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الخبر كالمعاينة، إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يُلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت)) روى الأحاديت الثلاثة أحمد [5738].
[كتاب الفضائل والشمائل]
(1) باب فضائل سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه
الفصل الأول
5739 -
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت من خير قرون بني
ــ
وقوله: ((كم وفاء؟)) أي: وكم كمال عددهم؟.
نه: يقال: وفي الشيء وفاء إذا تم وكمل.
قوله: ((جمًا غفيرًا)) نه: أي مجتمعين كثيرين وأصل الكلمة من الجموم والجمة، وهو الاجتماع والكثرة.
والغفير: من الغفرة وهو التغطية والستر، جعلت الكلمتان في موضع الشمول والإحاطة، ولم تقل العرب ((الجماء)) إلا موصوفة وهي منصوبة على المصدر كطرًا وقاطبة فإنها أسماء وضعت موضع المصدر.
الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((إن الله تعالى أخبر)) استشهاد وتقرير لمعنى قوله: ((ليس الخبر كالمعاينة)) فإنه تعالى لما قال: {إنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري} عند نزول ألواح التوراة عليه لم يلق الألواح، {ما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه} .
كتاب الفضائل والشمائل
باب فضائل سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه
الفصل الأول
الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قرنا فقرنًا)) حس: القرن كل طبقة
آدمَ قرناً فقرناً، حتى كنتُ من القرن الذي كنتُ منه)). رواه البخاري.
ــ
مقترنين في وقت، سمى قرناً لأنه يقرن أمة بأمة وعالماً بعالم، وهو مصدر قرنت، أي وصلت، وجعل اسماً للوقت أو لأهله.
وقيل: القرن ثمانون سنة، وقيل: أربعون، وقيل: مائة.
قوله: ((حتى كنت)) غاية قوله: ((بعثت)) والمراد بالبعث تقلبه في أصلاب الآباء أباً فأباً قرناً فقرناً حتى ظهر في القرن الذي وجد فيه، يعني انتقلت أولاً من صلب ولد إسماعيل، ثم من كنانة، ثم من قريش، ثم من بني هاشم، فالفاء في قوله:((قرناً فقرناً)) للترتيب على سبيل الترقي من الآباء الأبعد إلى الأقرب فالأقرب، كما في قولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل، نحو:{فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً} وعلى أن الطوائف الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل والتاليات، وفي معناه أنشد ابن الرومي:
كم من أب قد علا بابن ذرى شرف
…
كما علا برسول الله عدنان
وفي قولنا: ((حتى ظهر في القرن الذي وجد)) نسخته مما روى الإمام ابن الجوزي في كتابه الوفاء عن كعب الأحبار رضي الله عنه قال: لما أراد الله عز وجل أن يخلق محمداً صلى الله عليه وسلم أمر جبريل عليه السلام فأتاه بالقبضة البيضاء التي هي موضع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعجنت بماء التسنيم، فغمست في أنهار الجنة، وطيف بها في السموات، فعرفت الملائكة محمداً صلى الله عليه وسلم وفضله قبل أن يعرف آدم، ثم كان نور محمد يرى في غرة جبهة آدم، وقيل له: يا آدم هذا سيد ولدك من المرسلين، فلما حملت حواء بشيث انتقل النور من آدم إلى حواء، وكانت تلد في كل بطن ولدين إلا شيئاً فإنها ولدته وحده كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم يزل ينتقل من طاهر إلى طاهر إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم.
وروى أيضًا أنه مر عبد الله بن عبد المطلب بامرأة من خثعم يقال لها: (فاطمة بنت مر) وكانت من أجمل الناس وأعفهم، وكانت قرأت الكتب، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت: هل لك أن تقع على وأعطيك، مائة من الإبل؟ فقال:
أما الحرام فالممات دونه
…
وأما الحل فلا حل
ثم مضى إلى امرأته بنت وهب وكان معها، ثم ذكر الخثعمية وما عرضت عليه فأقبل إليها، فلم ير منها الإقبال عليه آخراً كما رآه منها أولاً، فقال لها: هل لك فيما قلت لي؟ فقالت: قد كان ذلك مرة فاليوم لا. فذهب ميلاً، وقالت: أي شيء صنعت بعدي، قال: وقعت على زوجتي آمنة، فقالت: والله لست بصاحبة ريبة ولكني رأيت نور النبوة في وجهك فأردت أن يكون ذلك في، فأبى الله إلا أن يجعله حيث جعله.
5740 -
وعن واثلة بن الأسقع، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِن الله اصطفي كنانة من ولد إِسماعيل، واصطفي قريشاً من كنانة، واصطفي من قريش بنى هاشم، واصطفاني من بني هاشم)) رواه مسلم.
وفي رواية للترمذي: ((إن الله اصطفي من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفي من ولد إسماعيل بني كنانة)). [5740]
5741 -
وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافعٍ، وأول مشفع)) رواه مسلم.
ــ
وفي رواية: لما خرج عبد المطلب بعبد الله ليزوجه مر به على كاهنة يقال لها: (فاطمة بنت مر) وقد قرأت الكتب فرأت في وجهه نوراً، فقالت: يا فتى هل لك أن تقع على وأعطيك .. إلى آخره.
الحديث الثاني عن واثلة رضي الله عنه: قوله: ((واصطفاني من بني هاشم)) حس: هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ولا يصح حفظ النسب فوق عدنان، وقريش هم أولاد النضر بن كنانة كانوا يتفرقون في البلاد فجمعهم قصي بن كلاب في مكة، فسموا قريشاً لأنه قرشهم أي جمعهم ولكنانة ولد سوى النضر وهم لا يسمون قريشاً لأنهم لم يقرشوا.
الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أنا سيد ولد آدم)) مح: قال الهروي: السيد هو الذي يفوق قومه في الخير، وقال غيره: هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد، فيقوم بأمورهم ويتحمل عنهم مكارههم ويرفعها عنهم، والتقييد بيوم القيامة مع أنه صلى الله عليه وسلم سيدهم في الدنيا والآخرة معناه أنه: يظهر يوم القيامة سؤدده بلا منازع ولا معاند بخلاف الدنيا فقد نازعه فيها ملوك الكفار وزعماء المشركين، وهو قريب من معنى قوله تعالى:{لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} مع أن الملك له قبل ذلك، لكن كان في الدنيا من يدعي الملك أو من يضاف إليه مجازاً فانقطع كل ذلك في الآخرة.
وفي الحديث دليل على فضيلته صلى الله عليه وسلم على كل الخلق، لأن مذهب أهل
5742 -
وعن أنسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة)) رواه مسلم،.
5743 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آتى باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمدٌ فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)). رواه مسلم.
5744 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبياً ما صدقه من أمته إلا رجل واحد)) رواه مسلم.
ــ
السنة أن الآدمي أفضل من الملائكة، وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الآدميين بهذا الحديث وغيره، وأما الحديث الآخر:((لا تفضلوا بين الأنبياء)) فجوابه من خمسة أوجه:
أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم.
والثاني: قاله أدباً وتواضعاً.
والثالث: أن المنهى إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنفيص المفضول.
والرابع: إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة.
والخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة ولا تفاضل فيها، وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى، ولابد من اعتقاد التفضيل فقد قال الله تعالى:{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} .
الحديث الرابع والخامس عن أنس رضي الله عنه:
قوله: ((بك أمرت)) بك متعلق بأمرت، والباء للسببية قدمت للتخصيص، والمعنى: بسببك أمرت أن لا أفتح لغيرك لا بشيء آخر، ويجوز أن يكون صلة للفعل و ((أن لا أفتح)) بدلاً من الضمير المجرور، أي أمرت بأن لا أفتح لأحد غيرك.
الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه.
قوله: ((أنا أول شفيع في الجنة)) مظ: أي أنا شافع للعصاة من أمتي في دخول الجنة.
وقيل: أنا أول شافع في الجنة لرفع درجات الناس فيها.
و ((ما)) في ((ما صدقت)) مصدرية، وهذا كناية عن أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء أمة.
5745 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه ترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار، يتعجبون من حسن بنيانه، إلا موضع تلك اللبنة، فكنتُ أنا سددت موضع اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل)). وفي رواية: ((فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)). متفق عليه.
5746 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) متفق عليه.
ــ
الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مثلي ومثل الأنبياء)) هذا من التشبيه التمثيلي، شبه الأنبياء وما بعثوا به من الهدى والعلم وإرشادهم الناس إلى مكارم الأخلاق بقصر شيد بنيانه وأحسن بناؤه، ولكن ترك منه ما يصلحه وما يسد خلله من اللبنة، فبعث نبينا لسد ذلك الخلل مع مشاركته إياهم في تأسيس القواعد ورفع البنيان، هذا على أن يكون الاستثناء منقطعاً، ويجوز أن يكون متصلاً من حيث المعنى إذ حاصل الكلام: تعجبهم المواضع إلا موضع تلك اللبنة، وليس ذلك المصلح إلا ما اختص به من معنى المحبة، وحق الحقيقة الذي يعتنيه أهل العرفان.
وقوله: ((أنا سددت موضع اللبنة)) يحتمل وجهين: أن يكون الساد بلبنة ذلك الموضع، وأن يسده بنفسه ويكون بمنزلة اللبنة، ويؤيد هذا الرواية الأخرى من قوله:((فأنا اللبنة)).
الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما من الأنبياء من نبي)) من فيه بيانية، ومن الثانية زائدة تزاد بعد النفي، و ((ما)) في ((ما مثله)) موصولة وقعت مفعولاً ثانياً لأعطى، و ((مثله)) مبتدأ، و ((آمن)) خبره، والجملة صلة الموصول، والراجع إلى الموصول ضمير المجرور في عليه وهو حال، أي مغلوباً عليه في التحدي والمباراة، والمراد بالآيات المعجزات، وموقع المثل هنا موقعه في قوله تعالى:{فأتوا بسورة من مثله} أي مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم، يعني: ليس نبي من الأنبياء إلا قد أعطاه الله تعالى من المعجزات الدالة على نبوته الشيء الذي من صفته أنه إذا شوهد اضطر المشاهد إلى الإيمان به، وتحريره أن كل نبي اختص بما يثبت دعواه من خارق العادات بحسب زمانه، فإذا انقطع زمانه انقطعت تلك المعجزة، كقلب العصا ثعباناً في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، وإخراج اليد البيضاء، لأن الغلبة في زمنه للسحر فآتاهم بما هو فوق السحر واضطر إلى الإيمان، وفي زمن
5747 -
وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) متفق عليه.
5748 -
وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلت على الأنبياء بست:
ــ
عيسى عليه الصلاة والسلام الطب فآتاهم بما هو أعلى من الطب وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وفي زمانه صلى الله عليه وسلم البلاغة والفصاحة فجاء بالقرآن وأبطل الكل.
قوله: ((وإنما كان الذي أوتيته وحياً)) قض: أي معظم الذي أوتيت وأفيده، إذ كان له غير ذلك معجزات من جنس ما أوتيه غيره.
والمراد بالوحي: القرآن البالغ أقصى غاية الإعجاز في النظم والمعنى، وهو أكثر فائدة وأعم منفعة من سائر المعجزات، فإنه يشتمل على الدعوة والحجة، ويستمر على مر الدهور والأعصار، وينتفع به الحاضرون عند الوحي المشاهدون، والغائبون عنه والموجودون بعده إلى يوم القيامة على السواء، ولذلك رتب عليه قوله:((فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة)).
الحديث التاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((نصرت بالرعب)) نه: الرعب الفزع والخوف، وقد أوقع الله تعالى في قلوب أعداء النبي صلى الله عليه وسلم الخوف منه، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوا وفزعوا منه.
قوله: ((وجعلت لي الأرض مسجداً)) حس: أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، وأباح الله عز وجل لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا تخفيفاً عليهم وتيسيراً، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس.
وقوله: ((طهوراً)) أراد به التيمم بالتراب.
قوله: ((وأعطيت الشفاعة)) أي المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون.
والتعريف في ((النبي)) لاستغراق الجنس وهو أشمل من لو جمع، لما تقرر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، لأن الجنسية في المفرد قائمة في وحدانيته فلا يخرج منه شيء، وفي الجمع فيما فيه الجنسية من الجموع فيخرج منه واحد أو اثنان على الخلاف في أقل الجمع اثنان أو ثلاثة.
الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فضلت على الأنبياء بست)) تو: وفي
أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)) رواه مسلم.
5749 -
وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتني أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي)) متفق عليه.
5750 -
وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط
ــ
حديث جابر بخمس، وليس هذا باختلاف تضاد، وإنما هو اختلاف زمان، يقع فيه حديث الخمس متقدماً وذلك أنه أعطيها فحدث به، ثم زيد له السادسة فأخبر عن ست.
قوله: ((أعطيت جوامع الكلم)) حس: قيل: هي القرآن جمع الله سبحانه وتعالى بلطفه معاني كثيرة في ألفاظ يسيرة، وقيل: إيجاز الكلام في إشباع من المعنى، فالكلمة القليلة الحروف منها تتضمن كثيراً من المعاني وأنواعاً من الكلام.
وقوله: ((إلى الخلق كافة)) كافة يجوز أن يكون مصدراً، أي أرسلت إرسالة عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو أن تكون حالاً إما من الفاعل، والتاء على هذا للمبالغة كتاء الراوية والعلامة، وإما من المجرور أي مجموعين قيل: هذا الحديث وإن دل بمنطوقه على أنه صلى الله عليه وسلم مخصوص من عند الله بالفضائل الست، لكن لا يدل بمفهومه على حصر فضائله فيها، فإن له فضائل غير منحصرة.
وقوله: ((وختم بي النبيون)) أي أغلق باب الوحي وقطع طريق الرسالة وسد، وأخبر باستغناء الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجة وتكميل الدين، كما قال الله تعالى:{اليوم أكملت لك دينكم} أما باب الإلهام فلا ينسد، وهو مدد يعين النفوس الكاملة فلا ينقطع لدوام الضرورة وحاجتها إلى تأكيد وتجديد وتذكير، وكما أن الناس استغنوا عن الرسالة والدعوة احتاجوا إلى التذكير والتنبيه لاستغراقهم في الوساوس وانهماكهم في الشهوات، فالله تعالى أغلق باب الوحي بحكمته وفتح باب الإلهام برحمته لطفاً منه بعباده.
الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بمفاتيح خزائن الأرض)) نه: أراد ما سهل الله تعالى له ولأمته من افتتاح البلاد المتعددات، واستخراج الكنوز المتنوعات.
عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا)). رواه مسلم.
ــ
الحديث الثاني عشر عن ثوبان رضي الله عنه: قوله ((زوى لي الأرض)) تو: زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد به تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب منها.
خط: توهم بعض الناس أن ((من)) في ((منها)) للتبعيض وليس ذلك كما توهمه بل هي للتفصيل للجملة المتقدمة، والتفصيل لا يناقض الجملة، ومعناه أن الأرض زويت لي جملتها مرة واحدة فرأيت مشارقها ومغاربها، ثم هي تفتح لأمتي جزء فجزء حتى يصل ملك أمتي إلى كل أجزائها.
تو: يريد بالأحمر والأبيض خزائن كسرى وقيصر، وذلك لأن الغالب على نقود ممالك كسرى الدنانير، والغالب على نقود ممالك قيصر الدراهم،.
قوله: ((بسنة عامة)) السنة: القحط والجدب وهي من الأسماء الغالبة.
وقوله: ((من سوى أنفسهم)) صفة ((عدوا))، أي كائنا من سوى أنفسهم، وإنما قيده بذلك القيد لما سأل أولاً ذلك فمنع، على ما يأتي في الحديث الآتي.
وقوله: ((فيستبيح بيضتهم)) أي مجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم وبيضة الدار وسطها ومعظمها، أراد عدواً يستأصلهم ويهلكهم جميعهم.
وقيل: أراد إذا هلك أصل البيضة كان هلاك كلها من طعم أو فرخ وإذا لم يهلك أصل البيضة ربما سلم بعض أفراخها.
والنفي منصب على السبب والمسبب معاً، فيفهم منه أنه قد يسلط عليهم عدو لكن لا يستأصل شأفتهم.
قوله: ((أعطيتك لأمتك)) اللام فيه هي التي في قوله سابقاً: ((سألت ربي لأمتي)) أي أعطيت سؤالك لدعائك لأمتك، والكاف هو المفعول الأول.
قوله: ((أن لا أهلكهم)) هو المفعول الثاني كما هو في قوله: ((سألت ربي أن لا يهلكها)) هو المفعول الثاني.
وجواب: ((لو)) ما يدل عليه قوله: ((وأن لا أسلط)).
و ((حتى)) بمعنى كي، أي لكي يكون بعض أمتك يهلك بعضاً.
فقوله: ((إني إذا قضيت قضاءً فلا يرد)) توطئة لهذا المعنى، ويدل عليه حديث خباب بن الأرت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن
5751 -
وعن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف فقال:((سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)). رواه مسلم.
5752 -
وعن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف ببعض
ــ
لا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها)).
((مظ)): أعلم أن لله تعالى في خلقه قضائين، مبرماً ومعلقاً، أما القضاء المعلق فهو عبارة عما قدره في الأزل معلقاً بفعل، كما قال: إن فعل الشيء الفلاني كان كذا وكذا، وإن لم يفعله فلا يكون كذا وكذا فهو من قبيل ما يتطرق إليه المحو والإثبات، كما قال الله تعالى في محكم خطابه:{يمحو الله ما يشاء ويثبت} .
أما القضاء المبرم فهو عبارة عما قدره سبحانه في الأزل من غير أن يعلقه بفعل، فهو في الوقوع نافذ غاية النفاذ بحيث لا يتغير بحال ولا يتوقف على المقضى عليه ولا المقضى له، لأنه من علمه بما كان وما يكون وخلاف معلومه مستحيل قطعاً، وهذا مما لا يتطرق إليه المحو والإثبات، قال الله تعالى:{لا معقب لحكمه} فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا قضيت قضاء فلا يرد)) من القبيل الثاني، ولذلك لم يجب إليه.
وفيه: أن الأنبياء مستجابو الدعوة إلا في مثل هذا.
الحديث الثالث عشر عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((أمتي بالغرق)) يراد به والله أعلم الغرق العام كما فعل تعالى بقوم نوح وقوم فرعون.
والضمير في ((أعطانيها)) عائد إلى المسألة.
الحديث الرابع عشر عن عطاء رضي الله عنه: قوله: ((أجل)) هو حرف يصدق به الخبر خاصة تقول لمن قال: ((قام زيد)): أجل. وجوز بعضهم وقوعه بعد الاستفهام، وفي الحديث جاء جواباً للأمر على تأويل: قرأت التوراة هل وجدت صفة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها؟ فأخبرني قال: أجل.
قوله: ((إنا أرسلناك شاهداً)) حال مقدرة من الكاف، أو من الفاعل، أي مقدراً أو مقدرين شهادتك على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم.
صفته في القرآن: {يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً} وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة؛ ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً. رواه البخاري. [5752]
ــ
قوله: ((حرزاً للأميين)) قض: أي حصناً وموئلاً للعرب يتحصنون به من غوائل الشيطان، أو عن سطوة العجم وتغلبهم، وإنما سموا أميين لأن أغلبهم لا يقرءون ولا يكتبون.
((ليس بفظ)) يحتمل أن يكون آية أخرى في التوراة لبيان صفته، وأن يكون هو حالاً إما من ((المتوكل)) وإما من الكاف في ((سميتك))، فعلى هذا فيه التفات.
وكذا في قوله: ((لن يقبضه حتى يقيم)) بالياء المثناة من تحت على رواية المشكاة ويعضده ما في شرح السنة: ((لن يقبضه الله)).
قال الكلبي: ((فظاً)) في القول، ((غليظ القلب)) في الفعل.
قوله: ((ولا سخاب في الأسواق)) أي هو لين الجانب شريف النفس لا يرفع الصوت على الناس لسوء خلقه، ولا يكثر الصياح عليهم في السوق لدناءته، بل يلين جانبه لهم ويرفق بهم.
قوله: ((الملة العوجاء)) قض: يريد به ملة إبراهيم، فإنها قد اعوجت في أيام الفترة، فزيدت ونقصت وغيرت وبدلت، وما زالت كذلك حتى قام الرسول صلى الله عليه وسلم فأقامها.
قوله: ((بأن يقولوا)) متعلق بقوله: ((يقيم)) فإن قلت: قوله: ((إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن)) يقتضى أن تكون المذكورات كلها مثبتة في القرآن؟.
قلت: أجل، أما قوله:{يأيها النبي إنا أرسلناك} ففي الأحزاب.
وقوله: ((حرزاً للأميين)) ففي قوله: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب} .
وقوله: ((وسميتك المتوكل ..)) إلى قوله: ((ولكن يعفو ويغفر)) في قوله: {ولو كنت فظاً غليظ القلب
…
} إلى قوله: {
…
إن الله يحب المتوكلين}.
قوله: ((ولا سخاب في الأسواق)) في قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} أي دم على التسبيح والتحميد، واجعل نفسك من الذين لهم مساهمة ونصيب
5753 -
وكذا الدارمي، عن عطاء، عن ابن سلام نحوه.
وذكر حديث أبي هريرة: ((نحن الآخرون)) في ((باب الجمعة)). [5753]
ــ
وافر في السجود، فلا تخل بها ولا تشتغل بغيرها، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:((ما أوحى إلى أن اكون من التاجرين ولكن أوحى إلى أن أكون من الساجدين)) قوله: ((ولا سخاب في الأسواق)) من باب قوله تعالى: {ولا شفيع يطاع} إذ هو يحتمل أن يراد به نفي سخاب وحده ونفيهما معاً، وهو المراد هنا.
وقوله: ((ولا يدفع السيئة بالسيئة)) في قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن} .
وقوله: ((حتى يقيم به الملة العوجاء)) في قوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} أي ما يوحى إلي أن أقيم التوحيد وأنفي الشرك.
قلت: كيف الجمع بين قوله: ((ويفتح به أعيناً عمياً)) وبين قوله تعالى: {وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم} ؟.
قلت: دل على إيلاء الفاعل المعنوي حرف النفي على أن الكلام في الفاعل، وذلك أن الله تعالى نزل حرصه على إيمان القوم بمنزلة من يدعى استقلالاً بالهداية، فقال له: أنت لست بمستقل فيها بل إنك لتهدي إلى صراط مستقيم بإذن الله تعالى وتيسيره، وعلى هذا ((يفتح)) معطوف على قوله:((يقيم الله بواسطته الملة العوجاء، بأن يقولوا ((لا إله إلا الله)) ويفتح بواسطة هذه الكلمة أعيناً عمياً، هذا على رواية البخاري والدارمي وكتاب الحميدي وجامع الأصول، وأما في المصابيح:((يفتح بها أعين عمى)) على بناء المفعول، والأول أصح رواية ودراية.
فإن قلت: هل لليهود أن يتمسكوا بقوله: ((حرزاً للأميين)) على ما زعموا أنه مبعوث إلى العرب خاصة؟.
قلت: لا، لقوله:((حتى يقيم به الملة العوجاء)) لأنهم حرفوا وبدلوا وغيروا، فأرسل ليقيم عوجهم وأودهم، وهل أحد أقوم وأولى منه بإقامة عوجهم والله أعلم.
الفصل الثاني
5754 -
عن خباب بن الأرت، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، فأطالها. قالوا: يا رسول الله! صليت صلاةً لم تكن تصليها قال: ((أجل، إنها صلاة رغبة ورهبة، وإني سألت الله فيها ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها)). رواة الترمذي، والنسائي. [5754]
5755 -
وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِن الله عز وجل أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة)). رواه أبو داود. [5755]
ــ
الفصل الثاني
الحديث الأول عن خباب رضي الله عنه:
قوله: ((وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض)) هو من قوله تعالى: {أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض} المعنى: يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم متابعة لإمام، وينشب القتال بينكم وتختلطوا وتشتبكوا في ملاحم القتال، يضرب بعضكم رقاب بعض.
الحديث الثاني عن أبي مالك رضي الله عنه:
قوله: ((وأن لا يظهر أهل الباطل)) تو: يريد أن الباطل وإن كثر أنصاره فلا يغلب الحق بحيث يمحقه ويطفئ نوره، ولم يكن ذلك بحمد الله مما ابتلينا به من الأمر الفادح والمحنة العظمى بتسليط الأعداء علينا مع استمرار الباطل، فالحق أبلج والشريعة قائمة لم تخمد نارها ولم يندرس منارها.
أقول: وحرف النفي في القرائن زائد، مثله في قوله تعالى:{ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} وفائدته توكيد معنى الفعل الذي يدخل عليه وتحقيقه، وذلك أن الإجارة تثبت إذا كانت الخلال مثبتة لا منفية.
5756 -
وعن عوف بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين: سيفاً منها وسيفاً من عدوها، رواه أبو داود. [5756]
5757 -
وعن العباس، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه سمع شيئاً، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال:((من أنا؟)) فقالوا: أنت رسول الله. فقال: ((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين،
ــ
الحديث الثالث عن عوف رضي الله عنه: قوله: ((سيفين سيفاً منها وسيفاً من عدوها)) قض: معناه أن سيوفهم وسيوف أعدائهم لا يجتمعان عليهم فيؤديان إلى استئصالهم، بل إذا جعلوا بأسهم بينهم سلط الله عليهم العدو فيشغلهم به عن أنفسهم ويكف عنهم بأسهم - وهو قول الشيخ التوربشتي-.
أقول: والظاهر أن يقال: إنه تعالى وعدني أن لا يجتمع على أمتي محاربتين: محاربة بعضهم بعضاً ومحاربة الكفار معهم، بل يكون أحدهما، فإذا كانت إحداهما لا تكون الأخرى، لأنه موافق للأحاديث السابقة، لأنه صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم ليستأصلهم، وسأله أن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فأجاب الأول ومنع الثاني ولم يجمع بين المنعين.
الحديث الرابع عن العباس رضي الله عنه: قوله: ((فكأنه سمع)) مسبب عن محذوف، أي جاء العباس غضبان بسبب ما سمع طعنا من الكفار في رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو قوله تعالى:{لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} كأنهم حقروا شأنه وأن هذا الأمر العظيم الشأن لا يليق إلا بمن هو عظيم من إحدى القريتين: كالوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي مثلاً، فأمرهم صلى الله عليه وسلم على سبيل التبكيت على ما يلزم تعظيمه وتفخيمه، وأنه أولى بهذا الأمر من غيره لأن نسبه أعرق وأرومته أعلى وأشرف، ومن ثم لما قالوا ((أنت رسول الله)) ردهم بقوله:((أنا محمد بن عبد الله)) ويعضد هذا التأويل ما روى البخاري عن أبي سفيان أنه حين سأله هرقل عظيم الروم عن نسبه صلى الله عليه وسلم فقال: ((هو فينا ذو نسب)) فقال هرقل: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها)) ألا ترى أنه جعل النسب ظرفاً لتبعث وأتى بفي، أي عريق في النسب.
قوله: ((ثم جعلهم قبائل)) بعد قوله: ((ثم جعلهم فرقتين)) إشارة إلى بيان الطبقات الست التي عليها العرب وهي: الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة.
في خير فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً)). رواه الترمذي. [5757]
5758 -
وعن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله! متى وجبت لك النبوة؟ قال: ((وآدم بين الروح والجسد)). رواه الترمذي. [5758]
5759 -
وعن العرباض بن سارية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((إني عند الله مكتوب. خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري، دعوة
ــ
فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة.
وسميت الشعوب لأن القبائل تنشعب منها.
فقوله: ((خلق الخلق)) أي الملائكة والثقلين.
((فجعلني في خيرهم)) أي في الإنس.
((ثم جعلهم فرقتين)) العرب والعجم.
((فجعلني في خيرهم)) أي في العرب. وهلم جرا.
فأنا بفضل الله ولطفه على ما في سابقة الأزل: خير الخلق نفساً، حيث خلقني إنساناً، رسولاً، خاتماً للرسل، تمم دائرة الرسالة بي، وجعلني نقطة تلك الدائرة يطوف جميعهم حولي، ويحتاجون إلي، وخيرهم بطناً، حيث نقلني من طيب إلى طيب، إلى أن نقلني من صلب عبد الله بالنكاح من أشرف القبائل والبطون، فأنا أفضل خلق الله عليه وأكرمهم لديه.
الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وآدم بين الروح والجسد)) جواباً لقولهم: ((متى وجبت؟)) أي وجيت في هذه الحالة، فعامل الحال وصاحبها محذوفان.
الحديث السادس عن العرباض بن سارية رضي الله عنه: قوله: ((وإن آدم لمنجدل)) فا: انجدل مطاوع جدله إذا ألقاه على الأرض، وأصله الإبقاء على الجادلة - وهي الأرض الصلبة - وهذا على سبيل إنابة فعل مناب فعل.
و ((الطينة)) الخلقة من قولهم: طانه الله على طينتك.
إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاء لها منه قصور الشام)). رواه في ((شرح السنة)). [5759]
ــ
والجار الذي هو ((في)) ليس بمتعلق ((بمنجدل)) وإنما هو خبر ثان، لأن الواو وما بعدها في محل النصب على الحال من المكتوب، والمعنى: كتبت خاتم الأنبياء في الحال الذي آدم عليه الصلاة والسلام مطروح على الأرض، حاصل في أثناء الخلقة لما يفرغ من تصويره وإجراء الروح فيه.
أقول: قوله: على سبيل إنابة فعل مناب فعل لا يجوز إجراء ((منجدل)) على أن يكون مطاوعاً لجدل، لما يلزم منه أن يكون آدم منفعلاً من الأرض الصلبة، بل هو ملقى عليها، ولا يجوز أن يكون في متعلقاً بمنجدل، لما يلزم منه أن يكون المنجدل مظروفاً في طينته، وإنما هو ظرف له وهو حاصل فيه.
وفيه أن الغايات والكمالات سابقة في التقدم لاحقة في الوجود.
قوله: ((بأول أمري)) قيل: أي بأول ظهر من نبوتي ومبعثي في الدنيا على لسان أبي الملة الحنيفية إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ((دعوة إبراهيم)) أي هو دعا ربه حين بنى الكعبة فقال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} فاستجاب الله دعاءه فيه.
((وبشارة عيسى)): أراد قوله تعالى: {ومبشراً برسول يأتيي من بعدي اسمه أحمد} .
قوله: ((ورؤيا أمي)) يحتمل أن يراد منه الرؤية في المنام وفي اليقظة:
فعلى الأول: معنى ((وضعتني)) أي شارفت وقربت من الوضع، وذلك لما روى ابن الجوزي في كتاب الوفاء أن أمه صلى الله عليه وسلم رأت حين دنت ولادتها أن أتاها آت فقال لها: قولي: أعيذه بالواحد الصمد من شر كل حاسد. بعد أن رأت حين حملت به أن آتيا أتاها وقال: هل شعرت أنك حملت بسيد هذه الأمة ونبيها؟.
وعلى الثاني: يكون المرئي محذوفاً وهو ما دل عليه قوله: ((وقد خرج لها نور أضاء لها منه قصور الشام)).
5760 -
ورواه أحمد، عن أبي أمامة من قوله:((سأخبركم)) إلى آخره. [5760]
5761 -
وعن أبي سعيد، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر. وما من نبي يومئذ: آدم فمن سواهُ إلا تحت
ــ
الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((ولا فخر)) حال مؤكدة، أي: أقول هذا ولا فخر.
تو: الفخر إدعاء العظمة والمباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه.
مح: فيه وجهان: أحدهما: قاله امتثالاً لأمر الله تعالى {وأما بنعمة ربك فحدث} .
وثانيهما: أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه في توقيره صلى الله عليه وسلم كما أمرهم الله تعالى به.
قال الراغب: فإن قلت: كيف استحسن مدح الإنسان نفسه وقد علم في الشاهد استقباحه؟ حتى قيل للحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقاً؟ قال: مدح الإنسان نفسه؟.
قلنا: قد يحسن ذلك عند تنبيه المخاطب على ما خفي عليه من حاله، كقول المعلم للمتعلم: اسمع مني فإنك لا تجد مثلي، وعلى ذلك قول يوسف عليه الصلاة والسلام:{اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} وسئل بعض المحققين عن شيء لم يقبح إطلاقه في الله تعالى مع ورود الشرع فأنشد:
ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا
قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((المدح هو الذبح)) وذلك لأن المذبوح هو الذي يفتر عن العمل، فكذلك الممدوح، لأن المدح يوجب الفتور ويورث الكبر والعجب، وهو لذلك مهلك كالذبح، فإن سلم المدح عن هذه الآفات لم يكن به بأس بل ربما كان مندوباً إليه، ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة، وكانوا أجل رتبة من أن يورثهم ذلك كبراً وعجباً، بل يزيدهم جداً ببعثهم على أن يزيدوا فيما يستوجبون الحمد من مكارم الأخلاق.
نه: قاله صلى الله عليه وسلم إخباراً عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد، وتحدثاً بنعمة الله تعالى عنده، وإعلاماً لأمته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله:((ولا فخر)) أي
لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر)). رواه الترمذي. [5761]
5762 -
وعن ابن عباس، قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله، فخرج، حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، قال بعضهم: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وقال
ــ
أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله تعالى لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي، فليس لي أن أفتخر بها.
واللواء: الراية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش، يريد به انفراده بالحمد يوم القيامة على رءوس الخلائق، والعرب تضع اللواء موضع الشهرة.
أقول: فعلى هذا لواء الحمد عبارة عن الشهرة وانفراده بالحمد على رءوس الخلائق.
ويحتمل أن يكون لحمده لواء يوم القيامة حقيقة يسمى: لواء الحمد، وعليه كلام الشيخ التوربشتي حيث قال: لا مقام من مقامات عباد الله الصالحين أرفع وأعلى من مقام الحمد، ودونه تنتهي سائر المقامات، ولما كان نبينا سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أحمد الخلائق في الدنيا والآخرة أعطى لواء الحمد، ليأوي إلى لوائه الولون والاخرون، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:((آدم فمن دونه تحت لوائي)) ولهذا المعنى افتتح كتابه بالحمد، واشتق اسمه من الحمد فقيل: محمد وأحمد، وأقيم يوم القيامة المقام المحمود، ويفتح عليه في ذلك المقام من المحامد ما لم يفتح على أحد قبله ولا يفتح على أحد بعده، وأمد أمته ببركته من الفضل الذي أتاه فنعت أمته في الكتب المنزلة قبله بهذا النعت فقال: أمته الحامدون يحمدون الله في السراء والضراء، ولله الحمد أولاً وآخراً.
قوله: ((وما من نبي يومئذ آدم)) ((نبي)) نكرة وقعت في سياق النفي وأدخل عليه ((من)) الاستغراقية فيفيد استغراق الجنس.
وقوله: ((آدم فمن سواه)) بدل أو بيان من محله، و ((من)) فيه موصولة و ((سواه)) صلته، وصح لأنه ظرف، وأوثر الفاء التفصيلية في ((فمن سواه)) على الواو للترتيب على منوال قولهم: المثل فالأمثل.
الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما:
قوله ((سمعهم)) حال من الضمير في ((دنا)) وقد مقدرة.
و ((يتذاكرون)) حال من الضمير المنصوب في ((سمعهم)).
آخر: موسى كلمه الله تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمه الله وروحه. وقال آخر: آدم اصطفاه الله، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجى الله وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وانا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم
ــ
والفاء في قوله: ((فعيسى)) جواب شرط محذوف، أي إذا ذكرتم الخليل والكليم فاذكروا عيسى كقوله تعالى:{فلم تقتلوهم} أي إذا افتخرتم بقتلهم فإنكم لم تقتلوهم.
وقوله: ((كلمة الله)) سمى بها لأنه وجد من غير واسطة أب.
و ((روحه)) إضافة تشريف كبيت الله ونحوه.
وقوله: ((فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) كرره لينيط به غير ما أناط به أولاً، أو يكون خرج أولاً من مكان وثانياً منه إلى آخر.
وقوله: ((قد سمعت كلامكم)) من باب قوله: قلدته سيفاً ورمحاً، أي سمعت كلامكم وأدركت عجبكم.
قوله: ((وأنا حبيب الله ولا فخر)) هو قريب من القول الموجب، قرر أولاً ما ذكر من فضائلهم بقوله:((وهو كذلك)) ثم نبه على أنه أفضلهم واكملهم وجامع لما كان متفرقاً فيهم، فالحبيب خليل ومكلم ومشرف.
وقيل: من قاس الحبيب بالخليل فقد أخطأ، لأن الحبيب من جهة القلب، يقال: حببته أي أصبت حبة قلبة، كما يقال: كابدته وراءسته وفاءدته، أي أصبت كبده ورأسه وفؤاده.
والخليل من الخلة وهي الحاجة، أي المحب لحاجته إلى من يخالله، والحبيب محب لا لحاجته.
وعن جعفر بن محمد قال: أظهر اسم الخلة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام لأن الخليل ظاهر في المعنى، وأخفي اسم المحبة لمحمد صلى الله عليه وسلم لتمام حاله إذ لا يحب الحبيب إظهار حال حبيبه بل يحب إخفاءه وستره لئلا يطلع عليه سواه، ولا يدخل أحد فيما بينهما، وقال لنبيه وصفيه لما أظهر له حال المحبة:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وليس الطريق إلى محبة الله إلا باتباع حبيبه، ولا يتوصل إلى الحبيب بشيء أحسن من مصاحبة حبيبه وطلب رضاه.
القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر)) رواه الترمذي والدارمي. [5762]
5763 -
وعن عمرو بن قيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن الآخرون،
ــ
غب: قيل الخلة تنسب إلى العبد ولا تنسب إلى الله تعالى، فيقال: إبراهيم خليل الله، ولا يقال: الله خليل إبراهيم، وهو وإن كان من الأسماء المتضايقة التي يقتضى وجود أحدهما وجود الآخر وارتفاعه ارتفاع الآخر، إلا أنه ليس المراد بقولهم:((إبراهيم خليل الله)) مجرد الصداقة بل المراد الفقر إليه، وخص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذا الاسم وإن شاركته الموجودات كلها في افتقارها إليه لمعنى فيه، وهو أنه لما استغنى عن المعينات من أعراض الدنيا واعتمد على الله حقا وصار بحيث لما قال له جبريل عليه السلام: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وصبر إذ ألقى في النار، وعرض ابنه للذبح، صار لاستغنائه عما سواه فقيراً إليه، فخص بهذا الاسم.
أما المحبة فأجيز نسبتها إلى الله تعالى، فقيل: محمد حبيب الله، وقد قال الله تعالى:{فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} وقال الله تعالى: {فاتبعوني يحببكم الله} قال بعض الصوفية: من أحب الله فهو المراد ومنزلته منزلة من سأله فقال: {رب اشرح لي صدي} ومن أحبه الله فهو المراد ومنزلته منزلة من قال له: {ألم نشرح لك صدرك} قوله: ((ومعي فقراء المؤمنين)) هذا دليل على فضلهم وكرامتهم على الله تعالى، لأنهم استحقوا محبة الله تعالى لمتابعتهم حبيبه واتصافهم بصفته، وليس الفقر عند الصوفية الفاقة والحاجة، بل الفقر عندهم الحاجة إلى الله تعالى لا إلى غيره، والاستغناء به لا عنه بغيره،
قال الثوري: نعت الفقير السكون عند العدم والبذل عند الوجود.
وقيل لسهل بن عبد الله: أليس النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر؟
فقال: إنما استعاذ من فقر النفس، الذي مدح صلى الله عليه وسلم الغنى في ضده فقال:((الغنى غنى النفس)) فكذلك الفقر المذموم فقر النفس، وهو الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث العاشر عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((نحن الآخرون)) يعني في المجئ إلى
ونحن السابقون يوم القيامة، وإني قائل قولاً غير فخر: إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، ومعي لواء الحمد يوم القيامة، وإن الله وعدني في أمتي، وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة)). رواه الدارمي. [5763]
5764 -
وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر)). رواه الدارمي. [5764]
5765 -
وعن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مستشفعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا الكرامة، والمفاتيح يومئذ بيدي، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، يطوف على ألف خادم كأنهن بيض مكنون، أو لؤلؤ منثور)). رواه الترمذي، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [5765]
5766 -
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((فأكسا حلة من حلل الجنة،
ــ
والسابقون: في دخول الجنة وغيرها من الفضائل.
و ((في أمتي)) أي في شأنهم وشفاعتهم وتخليصهم.
((وأجارهم)) أي أنقذهم.
الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فأنا خطيبهم إذا أنصتوا)) أي أنا المتكلم من بين الناس حين سكتوا عن الاعتذار فأعتذر لهم عند ربهم، فأطلق لساني بالثناء على الله تعالى بما هو أهله ولم يؤذن لأحد في التكلم.
قوله: ((وأنا مستشفعهم)) في بعض النسخ بفتح الفاء على بناء المفعول من قولهم: استشفعته إلى فلان، أي سألته أن يشفع إليه.
وفي بعضها بكسر الفاء على بناء الفاعل، أي سألت الله أن أكون شفيعاً لهم.
الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فأكسا)) عطف على مقدر على ما رواه صاحب الجامع.
ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري)). رواه الترمذي. وفي رواية ((جامع الأصول)) عنه: ((أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسا)).
5767 -
وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((سلوا الله لي الوسيلة)) قالوا: يا رسول الله، وما الوسيلة؟ قال:((أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو)). رواه الترمذي. [5767]
5768 -
عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم غير فخر)). رواه الترمذي. [5768]
5769 -
وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله،: ((إن لكل نبي ولاة
ــ
الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه:
قوله: ((سلوا الله لي الوسيلة)) هي المذكورة في دعاء الأذان: ((آت محمداً الوسيلة)).
نه: هي في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها: وسائل، يقال: وسل إليه وسيلة وتوسل - انتهى كلامه-.
وإنما طلب صلى الله عليه وسلم من أمته الدعاء له بطلب الوسيلة افتقاراً إلى الله وهضماً لنفسه، أو لتنفع أمته وتثاب به، أو يكون إرشاداً لهم في أن يطلب كل منهم من صاحبه الدعاء له.
وقوله: ((أن أكون أنا هو)) قد وضع فيه الضمير المرفوع مقام المنصوب في خبر كان، وقد سبق بيانه مراراً.
وقوله: ((وما الوسيلة؟)) معطوف على مقدر، أي نفعل ذلك وما الوسيلة؟.
الحديث الخامس عشر عن أبي رضي الله عنه: قوله: ((إمام النبيين)) تو: هو بكسر الهمزة، والذي يفتحها ينصبها على الظرف لم يصب.
الحديث السادس عشر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((ولاة من النبيين)) تو: أي أحباء وقرناء وهم أولى به من غيرهم.
من النبيين، وإن وليي أبي وخليل ربي. ثم قرأ:{إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ولي المؤمنين} . رواه الترمذي. [5769]
5770 -
وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال)) رواه في ((شرح السنة)). [5770]
ــ
((وإن وليي أبي)) يعنى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد بينه بقوله:((وخليل ربي))، وفي كتاب المصابيح:((وإن وليي ربي)) وهو غلط، ولعل الذي حرف هذا دخل عليه من قوله سبحانه:{إن وليي الله الذي نزل الكتاب} والرواية على ما ذكرناه هو الصواب.
مظ: لو كان كما ذكره التوربشتي لكان قياس التركيب أن يكون: وليي أبي خليل ربي من غير واو العطف الموجب للمغايرة، وبإضافة الخليل إلى ربي ليكون عطف بيان لأبي.
أقول: والرواية المعتبرة كما ذكره الشيخ في جامع الترمذي وجامع الأصول، وكذا في مسند أحمد بن حنبل أيضًا، وأيضًا لو ذهب إلى أن خليل ربي عطف بيان بلا واو لزم خمول كون إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبا النبي صلى الله عليه وسلم ووليه فأتى به بياناً، وإذا جعل معطوفاً عليه لزم شهرته به، والعطف يكون لإثبات وصف آخر له عليه الصلاة والسلام على سبيل المدح، فعلى ما عليه الرواية يلزم مدحه مرتين بخلاف ذلك، ونحوه في الاعتبار قول الشاعر:
إنا بني نهشل لا ندعي لأب عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
أي أنا أذكر من لا يخفي شأنه ولا يفعل كذا، فلو جعل بنو نشهل خبراً لزم خمول المتكلم أو الجهل بارتفاع شأن قومه.
فإن قلت: لزم من قوله: ((لكل نبي ولاة)) أن يكون لكل واحد منهم أولياء متعددة؟.
قلت: لا لأن النكرة المفردة إذا وقعت في مكان الجمع أفادت الاستغراق، أي: أن لكل واحد واحداً لقوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} .
الحديث السابع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((مكارم الأخلاق)) هو من إضافة الصفة إلى الموصوف كقولهم: جرد قطيفة، وأخلاق ثياب.
5771 -
وعن كعب يحكى عن التوراة قال: نجد مكتوباً محمد رسول الله عبدى المختار، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام، وأمته الحمادون، يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبرونه على كل شرف، رعاة للشمس، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها، يتأزرون على أنصافهم، ويتوضئون على أطرافهم، مناديهم ينادى في جو السماء، صفهم في القتال وصفهم
ــ
وكذا قوله: ((محاسن الأفعال)).
غب: كل شيء يشرف في باب فإنه يوصف بالكرم، قال تعالى:{وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} {ومقام كريم} {إنه لقرآن كريم} وإذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر، وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه، ولا يقال: هو كريم، حتى يظهر ذلك منه، قال بعض العلماء: الكرم كالحرية، إلا أن الحرية قد تقال في المحاسن الصغيرة والكبيرة، والكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة - انتهى كلامه -.
ومعنى هذا الحديث وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((مثلى ومثل الأنبياء)) إلى قوله: ((أنا سددت موضع تلك اللبنة)) يلتقيان في معنى إتمام الناقص.
الحديث الثامن عشر عن كعب رضي الله عنه:
قوله: ((ملكه بالشام)) مظ: أراد بالملك هاهنا النبوة والدين، فإن ذلك يكون بالشام أغلب، وإلا فملكه بجميع الآفاق لقوله:((وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها))، وقيل: معناه الغزو والجهاد ثمة لأنها تصير بلاد الكفار، والجهاد ملكاً لأهل الإسلام، ولهذا لا ينقطع الجهاد في بلاد الشام أصلا، وأمره بالمسافرة إليها لإدراك فضيلة الجهاد والمرابطة في سبيل الله.
((يحمدون الله في كل منزلة)) أي في كل منزل، لعل تأنيثه باعتبار البقعة والناحية، قال ذو الرمة:
أمنزلتى مي سلام عليكما.
أي: يا منزلتى مي، إذا نزلوا شكروا الله تعالى عليه لأنه آواهم إلى المنزل والسكون فيه.
قوله: ((على كل شرف)) أي يكبرون الله على كل موضع عال، تعجباً لعظمة الله تعالى وقدرته، لما يشرفون منها على عجائب خلق الله.
في الصلاة سواء، لهم بالليل دوى كدوى النحل)). هذا لفظ ((المصابيح)). وروى الدارمي مع تغيير يسير. [5771]
5772 -
وعن عبد الله بن سلام، قال: مكتوب في التوراة: صفة محمد وعيسى بن مريم يدفن معه. قال أبو مودود: وقد بقى في البيت موضع قبره. رواه الترمذي. [5772]
ــ
قوله: ((على كل شرف)) أي يكبرون الله على كل موضع عال، تعجباً لعظمة الله تعالى وقدرته، لما يشرفون منها على عجائب خلق الله.
قوله: ((ورعاة للشمس)) جمع راع، أي أنهم يحفظون أوقات الصلاة بطلوع الشمس وغروبها ودلوكها، يراقبون ذلك وينظرون سيرها ليعرفوا مواقيت الصلاة كيلا تفوت عنهم الصلاة في وقتها.
وقوله: ((يتأزرون على أنصافهم)) أي يشدون الإزار على أنصافهم من السرة إلى الركبة، أو يشدون معقد السراويل، والمراد مبالغتهم في ستر عوراتهم، ويجوز أن يكون على معنى إلى، أي: أزرهم إلى أنصاف سوقهم.
أقول: وفيه إدماج لمعنى التجلد والتشمر للقيام إلى الصلاة، لأن من شد إزاره إلى ساقه شمر لمزاولة ما اهتم بشأنه، يقال: كشف عن ساق الجد، وقامت الحرب على ساقها.
أو يكون كناية عن التواضع والإخبات، كما أن جر الإزار كناية عن الكبر والخيلاء.
((ويتوضئون على أطرافهم)) أي يصبون الماء في التوضؤ على أطرافهم، ويسبغون أماكن الوضوء.
((مناديهم ينادى في جو السماء)) أي يؤذن مؤذنهم في مواضع عالية كالمنارة وغيرها.
وقوله: ((صفهم للقتال شبه صفوفهم في الجماعات)) شبه صفوفهم في الجماعات - بسبب مجاهدتهم النفس الأمارة والشيطان - بصف القتال والمجاهدة مع أعداء الدين، وأخرجه مخرج التشابه في التشبيه إيذاناً بأن كل واحد منهما يصح أن يكون مشبها ومشبهاً به، بل أخر ذكر صف الصلاة، ليكون مشبهاً به لكونه أبلغ.
الفصل الثالث
5773 -
عن ابن عباس، قال: إن الله تعالى فضل محمدا صلي لله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء. فقالوا: يا أبا عباس! بم فضله الله على أهل السماء؟ قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين} وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر
ــ
معه)) هذا هو المكتوب في التوراة، أي مكتوب في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، عيسى ابن مريم يدفن معه، أو المكتوب صفة محمد كذا وعيسى بن مريم يدفن معه.
وأبو مودود هو أحد رواة الحديث. ((مدني)).
الفصل الثالث
الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما:
قوله: ((ومن يقل منهم إني إله من دونه)) يفهم التفضيل من صولة الخطاب وغلظته في مخاطبة أهل السماء، وفرض ما لا يتأتى منهم وجعله كالواقع، وترتب الوعيد الشديد عليه إظهار لكبريائه وجلالته، وأنهم بعداء من أن ينسبوا إلى ما يشاركوني، كقوله تعالى:{وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم.
ومن ملاطفته بالخطاب معه صلى الله عليه وسلم، وأن ما صدر أو يصدر منه مغفور، وجعل فتح مكة عليه للمغفرة والنصرة وإتمام النعمة والهداية إلى الصراط المستقيم وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين، انظركم التفاوت بين هذا الوعد وذلك الوعيد.
وأما بيان فضله على الأنبياء: فإن الآية دلت على أن لكل نبي مرسل إلى قوم مخصوص وهو صلى الله عليه وسلم مرسل إلى كافة الناس، ولا ارتياب بأن الرسل إنما بعثوا لإرشاد الخلق إلى الطريق المستقيم وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الملك العلام، فكل من كان منهم في هذا الأمر أكثر تأثيراً كان أفضل وأفضل، فكان له صلى الله عليه وسلم فيه القدح المعلى، وحاز قصب السبق، إذ لم يكن مختصاً بقوم دون قوم، وزمان دون زمان، بل دينه انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وتغلغل في كل مكان، واستمر امتداده على وجه كل مكان، زاده الله شرفاً على شرف، وعزاً على عز، ماذر شارق ولمح بارق، فله الفضل بحذافيره سابقاً ولاحقاً، ولقد صدق الله وعده في قوله تعالى:{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون} وحقق قول حبيبه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من قوله:
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تقدم من ذنبك وما تأخر} قالوا: وما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء} الآية، وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{وما أرسلناك إلا كافة للناس} فأرسله إلى الجن والإنس.
5774 -
وعن أبي ذر الغفاري، قال: قلت: يا رسول الله! كيف علمت أنك نبي حتى استيقنت؟ فقال: ((يا أبا ذر! أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما إلى الأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم. قال فزنه برجل، فوزنت به فوزنته، ثم قال: زنه بعشرة، فوزنت بهم فرجحتهم، ثم قال، كأني أنظر إليهم ينتثرون على من خفة الميزان. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لو وزنته بأمته لرجحها)). رواهما الدارمي. [5774]
ــ
((زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، فسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)).
قوله: ((فأرسله)) الفاء للتعقيب، ظاهر العبارة يقتضي أن يكون للنتيجة وتوجيهه أن تعريف:((الناس)) لاستغراق الجنس، وكافة تكف كل فرد من أفراد هذا الجنس أن يخرج من الإرسال، لأن ((كافة)) إما حال من المفعول أو صفة مصدر محذوف، والجن تبع للإنس، وهداية الجن تابعة لهداية الإنس، فمن طريق هذا الالتزام يلزم تناول رسالته صلى الله عليه وسلم للثقلين جميعاً.
الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((حتى استيقنت؟)) حتى غاية للعلم، أي كيف تدرجت في العلم حتى بلغ علمك غايته التي هي اليقين؟.
قوله: ((فوزنته)) أي غلبته في الوزن.
((ينتثرون على)) أي يتساقط الألف الموزون على من خفة تلك الكفة.
وفيه: أن الأمة كما يفتقرون في معرفة كون النبي صادقاً إلى إظهار خوارق العادات بعد التحدي، كذلك النبي يفتقر في معرفة كونه نبياً إلى أمثال هذه الخوارق.
5775 -
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كتب على النحر ولم يكتب عليكم، وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها)). رواه الدارقطني. [5775]
ــ
الحديث الثالث عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما:
قوله: ((كتب على النحر)) أي أوجب، وعنى به قوله:{فصل لربك وانحر} ولم يوجد في الأحاديث وجوب الضحى عليه صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الحديث، والله أعلم.