المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: ما له أثر في حياة الطوفي: - الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية - جـ ١

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌أولا: المقدمة

- ‌المقدمة

- ‌ثانيا: قسم الدراسة

- ‌الفصل الأول: ما له أثر في حياة الطوفي:

- ‌الفصل الثاني: حياة الطوفي

- ‌ثالثا: التحقيق

- ‌الخطبة

- ‌ المقدمات ثلاث:

- ‌[المقدمة الأولى: سد باب الاستدلال بكتب أهل الكتاب]

- ‌[المقدمة الثانية: عدم استقلال العقل بمعرفة الشرائع]

- ‌[المقدمة الثالثة: ما تثبت به الأصول]

- ‌[المتنبئون الكذبة والتحذير منهم]

- ‌[حقيقة النبوة وحاجة الخلق إليها]

- ‌[فوائد النبوات ومنفعتها]

- ‌[النبي وشروطه]

- ‌[موقف النصارى من النكاح]

- ‌[فوائد النكاح وفضيلته]

- ‌[الأنبياء والنكاح]

- ‌[ظهور المعجز على يد النبي]

- ‌[موافقة ما يأتي به النبي للفطرة]

- ‌[موقف عتاة النصارى من نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم]

- ‌[امتحان شرط الصدق في نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم]

- ‌[المقصود بكلمات الله في القرآن الكريم]

- ‌[المقصود بلفظ الذكر في القرآن الكريم]

- ‌[الرد على تكذيب النصراني لبعض أخبار محمد صلى الله عليه وسلم]

- ‌[رد شبهة النصارى فى قوله:" يا أُخْتَ هارُونَ

- ‌[رد شبهة النصارى في سكوت زكريا عليه السلام]

- ‌[رد شبهة النصراني في حضور أم يوسف إليه، وسجود أبويه وإخوته له]

- ‌[رد شبهة النصراني في ورود بنات شعيب ماء مدين وعددهن واستئجار موسى ثماني حجج]

- ‌[تناقض كتب النصارى التي بأيديهم]

- ‌[ابطال دعوى صلب المسيح عليه السلام]

- ‌[أين تغرب الشمس كل يوم وموقف النصراني من ذلك]

- ‌[البشارة بمحمد- صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل]

- ‌[أصل خلق الإنسان واعتراض النصراني على الآيات المخبرة بذلك]

- ‌[قصة الغرانيق، وتعرض الشياطين للأنبياء]

- ‌[تجسم الشياطين وإنكار النصراني ذلك]

- ‌[بين القرآن والنصارى فيما أوتي سليمان عليه السلام]

- ‌[الرد علي النصراني في انكار الجن وتجسم الشياطين]

- ‌[تجسم الملائكة والرد على النصراني في إنكار ذلك]

- ‌[الرد على النصارى في إنكار صفات الباري سبحانه]

- ‌[القضاء والقدر وأفعال العباد وضلال النصارى في ذلك]

- ‌[كلام الأموات وإنكار النصارى ذلك]

- ‌[عذاب القبر ونعيمه وموقف النصارى منه]

- ‌[الحشر والحساب يوم القيامة والرد على النصراني في إنكاره]

- ‌[الإسراء والمعراج]

- ‌[الأكل والشرب في الآخرة وموقف النصارى منه]

- ‌[رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة]

- ‌[البعث والمعاد والرد على المنكر لذلك]

- ‌[الرد على اعتراض النصراني على خلق السموات والأرض في ستة أيام]

- ‌[مكان دفن الأنبياء]

الفصل: ‌الفصل الأول: ما له أثر في حياة الطوفي:

ثانيا: الدراسة

1 -

تعريف موجز بالطوفي وعصره:

‌الفصل الأول: ما له أثر في حياة الطوفي:

لا بد أن يكون للبيئة التي يعيش فيها المرء أثر واضح في شخصيته فيظهر ذلك في سلوكه وفكره وإنتاجه واهتمامه، وتختلف البيئات من حيث تأثيرها، ونوعيته، فبعضها أقوى في التأثير من البعض الآخر، فالذي يعيش في البيئة العلمية الجدلية يكون أقوى ممن يعيش في غيرها من حيث قوة المناظرة والمجادلة والإدلاء بالحجة والبراهين، والمران على إقناع الخصم أو إفحامه.

والبيئة التي تجتمع فيها المؤثرات العلمية والسياسية والاجتماعية ينشأ فيها نماذج من نوع خاص، استجابة للمؤثرات المختلفة.

ولهذا أرى أنه عند دراسة شخصية الطوفي لا بد من التعرف على بيئته وعلى المؤثرات التي تسودها حتى يتسنى لنا الحكم على شخصيته بصورة واضحة ودقيقة.

وعند النظر في تاريخ حياة الطوفي نجد أنه عاش في الفترة من سنة سبع وخمسين وستمائة من الهجرة النبوية وهو العام الذي ولد فيه إلى سنة سبعمائة وست عشرة من الهجرة، وهي السنة التي مات فيها ولذلك فإن الحديث عن ما له أثر في حياته سيكون في نقاط ثلاث:

ص: 21

ا- الحالة السياسية:

شهدت الفترة المتقدمة على ولادة الطوفى كثيرا من الأحداث التي أثرت على المسلمين تأثيرا مؤلما. فقد كانت هناك الحروب الصليبية الشرسة التي اشتعلت نارها في آخر المائة الخامسة من الهجرة، واستمرت نحو قرنين من الزمان «1» ، أظهر فيها الصليبيون حقدهم على الإسلام والمسلمين، وغيرها من المدن الإسلامية في بلاد الشام والأندلس، واشتبك معهم المسلمون في معارك كثيرة في بلاد الشام ومصر وإفريقية وغيرها.

وقد ذكر المؤرخون عدة أسباب لهذه الحروب منها:

1 -

تدهور الحالة الاقتصادية في أوربا في القرن الخامس والسادس الهجريين، مما حدا بالنصارى إلى الزحف على بلاد إفريقية والشام «2» .

2 -

استنجاد صاحب القسطنطينية «الأرثوذكسي» بملوك أوربا النصارى ضد السلاجقة الذين فرضوا عليه الضرائب، على أن يتنازل عن أرثوذكسيته «3» .

3 -

أن بعض حجاج بيت المقدس من النصارى كانوا يلقون سوء معاملة من المسلمين أثناء وجودهم في القدس، وكان منهم" بطرس السائح أو الناسك" الذي اتجه إلى البابا" أوبانس الثاني" وصور له تلك الحال، وطلب منه تخليص أرض المسيح من أيدي المسلمين، حتى ألهب حماسهم لذلك «4» .

(1) ابتدأت الحروب الصليبية سنة 491 هـ باستيلاء الإفرنج على مدينة انطاكية بعد حصار شديد، وانتهت بفتح الملك الأشرف خليل المملوكي لقلعة الروم في غربي الفرات سنة 691 هـ.

(2)

انظر الإسلام والحضارة العربية لمحمد كرد علي 1/ 292 - 294.

(3)

انظر السابق نفس الموضع، والأرثوذكسي: القائل بالتجسد.

(4)

انظر الكامل لابن الأثير 0/ 2721.

ص: 22

4 -

ولكن هناك سبب رئيس جدير بالمعرفة أشار إليه ابن تيمية «1» - رحمه الله تعالى- في رسالته «الفرقان بين الحق والباطل» ص 145 ط المدني بالقاهرة، قال:" فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول، سلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة

إلى أن قال:" وكان أهل الشام بأسوإ حال بين الكفار والنصارى والمنافقين الملاحدة" اه.

ولعل تلك الأسباب مجتمعة هي التي سببت هذه الحرب غير أنها كانت عقدية قبل أن تكون اقتصادية: ولَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ ولَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نَصِيرٍ (120)«2»

وكانت حال المسلمين السياسية طوال فترة الحروب الصليبية وقبلها عاملا مشجعا لاستمرار حرب النصارى الإفرنج، فقد انشغل الحكام المسلمون بالتنافس على الملك وضرب بعضهم بعضا من أجل ذلك؛ بل وصل الأمر إلى أن بعضهم كان يعطي بعض التنازلات للنصارى في بعض المدن والمناطق مقابل حمايته أو إعانته على أخيه المسلم الذي ينافسه على الملك «3» .

واستمرت هذه الحروب إلى سنة 691 هـ، أي قبل وفاة الطوفي بست وعشرين سنة.

(1) ستأتي ترجمته- إن شاء الله- في شيوخ وتلامذة الطوفي.

(2)

سورة البقرة:، 120.

(3)

من هؤلاء مثلا: الصالح إسماعيل المعروف بأبي الحبيش المتوفي سنة 638 هـ فقد استعان بالإفرنج وأعطاهم مدينة صيدا، وقلعة الشقيف (انظر طبقات الشافعية الكبرى 5/ 80).

ص: 23

وليست الأحداث السياسية في عصر الطوفي منحصرة في هذه الحرب ولا فيما فعله النصارى من خراب البلاد والمدن، والتجبر والفساد في الأرض الإسلامية، ولكن تعرض المسلمون وبلادهم إلى أمر عظيم لا يقل سوءا عن الحروب الصليبية، بل هو أمرّ وأحلك من ذلك الأمر. هو غزو التتار الذين أسقطوا الخلافة الإسلامية ودمروا المدن العامرة، وقتلوا الأنفس البريئة، حتى سالت الدماء في كل موطن دخلوه، من شدة فتكهم بالعباد، وكثرة قتلهم لهم.

ففي سنة 656 هـ أي قبل ولادة الطوفي بعام واحد تقريبا تعرضت دار الخلافة" بغداد" لهجوم التتار الذي غير معالمها وجمالها وبهاءها، وألبسها ثوب الحزن والهوان، بعد أن كانت منارة إشعاع العلم والمعرفة، ومركز المدنية والحضارة، ودارا للخلافة أكثر من خمسمائة سنة.

وكان دخولهم إليها بمساعدة وتدبير الرافضي الخبيث ابن العلقمي «1» الذي كان وزيرا للمستعصم بالله «2» آخر خلفاء بني العباس في بغداد فقد كان متعصبا لطائفته متحاملا على أهل السنة، فجاء بالتتار ظنا منه أنه سيكسب بذلك التأييد لطائفته وستصبح له ولها السيادة والزعامة على غيرهم.

ولكن الله أخزاه وفضحه فلم يظفر من خيانته بما يسره، بل لقد ندم أشد الندم، لأنه فقد ما كان فيه من الصولة والعزة التي كان يتمتع بها أيام الخليفة العباسي، وأهانته التتار حتى مات مغموما «3» .

(1) محمد بن أحمد بن علي أبو طالب مؤيد الدين الأسدي البغدادي توفي عام 656 هـ، وخلفه ابنه عز الدين محمد. (انظر البداية والنهاية 13/ 212، وشذرات الذهب 5/ 272، والأعلام 5/ 321).

(2)

أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر محمد بن الناصر العباسي. قتل سنة 656 هـ (انظر شذرات الذهب 5/ 270، والنجوم الزهرات 7/ 63).

(3)

انظر شذرات الذهب 5/ 270 - 273، والبداية والنهاية 13/ 200 - 203.

ص: 24

عند ما دخل التتار بغداد قتلوا الخليفة ومن ظفروا به معه من العلماء، والوزراء، والقواد والعباد، حتى أن عدد القتلى بلغ ما يقارب ألف ألف نسمة، حتى سال الدم مثل الأنهر في الشوارع، وكثرت الجثث وأصبحت الخيل تدوسها من كثرة انتشارها في الطرقات، وفسد الهواء من رائحتها، وانتشر الوباء بسببها حتى وصل إلى الشام كما يقال «1» .

واعتدوا على التراث الإسلامي في بغداد ورموه في النهر حتى أن ماءه اسودّ من كثرة تلك الكتب.

وبقي التتار فيها على تلك الحال يعيثون ويقتلون أربعين يوما، ثم رحل قائدهم هولاكو عنها وعين من ينوب عنه في حكم بغداد وما حولها.

وقد وصف ابن الأثير «2» هذا الحدث في كتابه الكامل في التاريخ (12/ 36) وصفا مبكيا ومحزنا.

وبقيت بلاد المسلمين بلا خلافة إلى عام 659 هـ ثم نصّب المستنصر بالله «3» في مصر، وبقي حكم العراق تحت أيدي التتار طوال حياة الطوفي.

ولم تستقر الأمور إبان حكمهم بل كانوا متناحرين فيما بينهم على السلطة وهكذا كانت حالة العراق، بلد الطوفي فإنه إن سلم ولو قليلا من أذى الصليبيين

(1) انظر شذرات الذهب 5/ 270 - 273، والبداية والنهاية 13/ 200 - 203.

(2)

علي بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري، عز الدين أبو الحسن.

ولد ونشأ في جزيرة ابن عمر. وسكن الموصل وتوفي بها سنة 630 هـ- (انظر طبقات الشافعية 5/ 127، والأعلام 4/ 331).

(3)

منصور بن الظاهر بن محمد بن الناصر ابن المستضيء، وهو باني المدرسة المستنصرية كما سيأتي- إن شاء الله- ولي بغداد بعد وفاة أبيه، وكان حازما حسن السياسية. توفي ببغداد سنة 640 هـ (انظر الكامل في التاريخ 9/ 369، والأعلام 7/ 304).

ص: 25

فإن هؤلاء التتار قد جعلوا حاله وحال أهله أسوأ من حال بقية المسلمين مع الصليبيين في الشام ومصر.

ولم يكن أذى التتار وهجومهم وحروبهم مع المسلمين مقصورا على العراق بل امتد ذلك إلى الشام فعبروا نهر الفرات أيام حكم آخر سلاطين الأيوبيين ووصلوا إلى حلب عام 658 هـ وحاصروها ثم سلمت إليهم بشرط الأمان فخانوا العهد وفتكوا بالمسلمين وفعلوا قريبا من فعلتهم في بغداد، ثم دخلوا دمشق بيسر وسهولة ودون مقاومة «1» .

ثم كانت بينهم وبين الظاهر بيبرس «2» موقعة عين جالوت التي انتصر فيها المسلمون نصرا محققا ولاحقوا التتار حتى أخرجوهم من حلب «3» ، واستمرت الحرب بين المسلمين والتتار حتى بعد انتهاء الحروب الصليبية بل استمرت إلى ما بعد وفاة الطوفي سنة 716 هـ.

وفي أثناء تلك الحروب الصليبية والتترية لم تسلم البلاد الإسلامية من الانقسام والاختلاف والاقتتال بين السلاطين، بل شهدت تلك الفترة كثيرا من التمزق والاختلاف، كما حصل من الأيوبيين فيما بينهم والمماليك الذين انتقلت سلطة الأيوبيين إليهم ابتداء بمصر سنة 648 هـ. وأصبحت مصر بعد سقوط بغداد

(1) انظر البداية والنهاية 13/ 218 - 220، وشذرات الذهب 5/ 287 - 288، 290 - 291.

(2)

بيبرس العلائي البندقداري الصالحي ركن الدين الملك الظاهر، ولد بأرض القبجاق وأسر فبيع في سيواس ثم انتقل إلى حلب ثم القاهرة، واشتري هناك، ثم صار للملك الصالح نجم الدين أيوب، ثم أعتقه، ثم كان أتابك العساكر بمصر في أيام الملك قطز، ثم دبر مقتل الملك وتولى السلطة.

توفي سنة 676 هـ (انظر النجوم الزاهرة 7/ 94، وفوات الوفيات 1/ 235 - 247، والبداية والنهاية 3/ 274).

(3)

انظر شذرات الذهب 5/ 291.

ص: 26

مقرا للخلافة العباسية التي لم يكن لها أي سلطة تذكر، وإنما كان وجودهم مظهرا دعائيا حرص سلطان المماليك على وجوده تسكينا لنفوس الناس وصرفا لهم عن التفكير في شرعية حكمهم. ولا أدل على ذلك من الإهانات والاعتقالات التي كان يلقاها الخلفاء من المماليك حتى أنه ليصل الأمر إلى عزل الخلفاء واستبدالهم كما أرادوا «1» .

ولا بد أن هذه الحوادث جميعا، قد أحدثت أثرا بارزا في الرأي العام للأمة وبالأخص العلماء، لأنهم هم الممثلون الحقيقيون لها، فتميزت تلك الفترة- فترة حياة الطوفي- 657 - 716 هـ- ببروز مجموعة كبيرة من العلماء العاملين المجاهدين في سبيل الله، وقفوا في وجه أعداء الإسلام من الصليبيين والتتار، فهذا ابن تيمية- رحمه الله «2» - يشارك في قتال التتار هو ومجموعة من أعيان المسلمين ضد التتار لما حاصروا دمشق، وسافر سنة سبعمائة إلى مصر ليستحث واليها على قتالهم، ويشارك في بعض المعارك ضدهم كمعركة" شقحب" سنة 702 هـ «3» .

وللعز بن عبد السلام والإمام النووي- رحمهما الله- مواقف جليلة في نصرة الحق سواء ضد التتار أو الصليبيين أو في القضاء على الفساد الضار بالمسلمين الناجم عن تساهل السلاطين «4» .

(1) انظر البداية والنهاية 14/ 176 - 180.

(2)

ستأتي ترجمته في شيوخ الطوفي- إن شاء الله-.

(3)

انظر البداية والنهاية 4/ 7/ 15، 16، 23، 24.

(4)

انظر حسن المحاضرة 2/ 71، وطبقات الشافعية 5/ 84.

ص: 27

ولعل من الأمر الواضح الجلي أن كل من كل من ينشأ في أوضاع مثل هذه الأوضاع لا بد أن يتأثر بها، وتنطبع حياته بما تأثر به، ومن أثر الأحداث المتقدمة: اهتمام الطوفي بمحاربة أعداء الإسلام باليد والقلم، وخاصة النصارى الضلال، لأنهم ينشرون فكرهم وشبههم، ويجب التصدي لهم وإبطال كيدهم، ولذلك خص بعض كتبه لذلك، كما سيأتي.

ب- الحالة الاجتماعية «1» :

من البديهي أن تتأثر الحياة الاجتماعية بالحياة السياسية التي تحيط بها، فاستقرار الأحوال الاجتماعية مرهون باستقرار الأحوال السياسية ويكون هناك مد وجزر كما يكون في الأخرى.

واختلاط المسلمين بغيرهم من الكفار سيكون له أثره في سلوك الفريقين، وقد اختلط بالمسلمين النصارى القادمون من أوروبا والتتار الكفار الذين لا يؤمنون بدين ولا يعرفون أخلاقا ولا فضيلة، فظهرت عادات غريبة، لأن الوافد يحمل معه عاداته، ومن عادة الكفار التفسخ والانحلال ولأن في المجتمع الإسلامي من تستهويه تلك العادات وينصهر في بوتقة الآخرين، لضعف دينه وتغلب نفسه الأمارة بالسوء عليه.

كما أن نزوح القبائل والأسر من مكان إلى آخر أوجد اختلاطا بين أجناس كثيرة من الناس مختلفة طبائعهم ومتفاوتة درجاتهم في التمسك بدين الله

(1) من مراجع هذه الفقرة غير ما ذكر في محله: الأدب في العصر الأيوبي لزغلول ص 51، وأهل الذمة في مصر لقاسم عبده ص 63 - 67، والخطط المقريزية 2/ 499 - 500، وحسن المحاضرة 2/ 295.

ص: 28

- عز وجل فقد اختلط الأتراك مع البربر، والأكراد مع الأقباط، والعرب مع العجم بسبب القلاقل والأحداث وسوء المعيشة التي أجبرت الناس على التنقل من مكان إلى اخر، ومن قطر إلى قطر. فكان كل عرق يحمل معه عاداته وتقاليده المغايرة لغيرها، ولديه من التقصير والبدع ما لم يعرفه المجتمع الذي نزل به.

وكانت تتغلب تلك العادات والسلوكيات بحسب قوة أهلها وتأثيرهم في الناس كما أنه كان يقيم بين المسلمين عدد كبير من اليهود والنصارى والزنادقة الملحدين، مما سبب في وقوع الصراعات الفكرية والعقدية واستفحالها في ظل الحروب الصليبية والتترية فأشغلت المفكرين والعلماء في المجتمع الإسلامي وعكف كثير منهم للتصدي لهذه العقائد الفاسدة والشبهات الخبيثة.

وساءت الأحوال الاقتصادية بين العامة والزهاد، وانتشرت الفاقة وعم البؤس وكثر قطاع الطرق واللصوص، واشتد الغلاء، وعمد الناس إلى الغش والخداع والحيل والاحتكار، والتطفيف في الكيل والميزان، فألف العلماء بسبب ذلك المؤلفات ليشاركوا في حل هذه المشكلة حلا إسلاميّا، ودعوا إلى النظر في مصالح العامة وفرض التسعيرات الجبرية عند اشتداد الغلاء، والضرب على أيدي المطففين والمحتكرين. من ذلك ما كتبه شيخ الطوفي وابن عمره، شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله في كتاب الحسبة في الإسلام، والسياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. في حين أن السلاطين وذوي الوزارات والوجاهات يعيشون في ترف وبذخ. فقصور الأمراء والأعيان فيها من مظاهر المتعة والأثاث وسائر الممتلكات ما يشهد بذلك.

فالأمراء والسلاطين يستولون على أموال كثيرة أثناء الحروب، وخاصة في عهد المماليك فيتلاعبون بها ويقطعون الأمراء والنواب والموالين لهم الاقطاعات

ص: 29

الكبيرة، ويعطونهم العطايا الجزيلة، وكانت أوضاع قصورهم وخدمهم تنبئ عن الإسراف في الانفاق الذي لا يعرف ضابطا ولا رادعا، وكانوا يستحدثون من الأبهات ما لم يسبقهم إليه أحد من السلاطين الأقدمين.

بالإضافة إلى الاحتفالات الكبيرة التي أحدثوها عند تولي خليفة أو سلطان الملك، أو ولادة مولود للسلطان، أو زواج لأحدهم أو أحد الأمراء أو غير ذلك من المناسبات التي يحبون التعبير عنها بهذه الحفلات «1» .

ومما يميز القرن السابع في عهد الفاطميين قبل ذلك أن المرأة كانت فيه لا تختلط بالأجانب ولا يسمح لها بذلك وقيدت باللباس الساتر وأبعدت عن المفسدات أو القرب منها، حتى أن بعض السلاطين كان يسلب حلي النساء اللاتي بدون أزواج ويضايقهن حتى يتزوجن بخلاف عهد الفاطميين الذي وصلت فيه المرأة من التحلل والاختلاط ومشابهة الرجال في بعض الملابس ما لم يقع في غيره من العصور «2» .

ولا شك أن هذا الوضع الاجتماعي المضطرب، والعادات الاجتماعية الوافدة، وسوء المعيشة، واشتداد النزاع بين أهل القبلة، وكثرة البدع والمنكرات، وترويج العقائد الفاسدة، وغياب السلطة التي يهمها أمر الإسلام والمسلمين، قد أحدث اضطرابا شديدا في فترة حياة الطوفي، لعلي لا أبالغ في القول بأنه من أشد القرون فتنة واضطرابا .. حتى أنه قد سقط في وحلها كثير من العلماء والأذكياء الأفذاذ فحدث لهم من الأخطاء أو الانحراف ما كان. والله المستعان.

(1) انظر البداية والنهاية 13/ 232، 233.

(2)

انظر البداية والنهاية 13/ 254، وشذرات الذهب 5/ 324.

ص: 30

ج- الحالة الفكرية والثقافية:

تبين لنا مما أوضحنا في الناحيتين السياسية والاجتماعية الظروف الصعبة التي عاشها المسلمون مما يصعب معه التهيؤ للنشاط العلمي، إذ يحتاج إلى استقرار وهدوء، وأنّى للمفكرين والعلماء أن يعملوا في جو الإرهاب الذي ساد الحياة في بغداد التي فقدت رئاستها الفكرية والثقافية في سنة 656 هـ؟ وفي الشام ومصر التي داهمتها الحروب الصليبية وأشغلت الأمراء والعلماء عن التوجه إلى العلم والاشتغال به؟ إضافة إلى الصراعات الداخلية بين السلاطين والأمراء، من ناحية الحكم، والخلافات الفكرية بين الطوائف والفرق المتعددة. وإلى أن أكثر الكتب الإسلامية والعلمية في بغداد رميت في النهر. إلا أن الناحية العلمية لم تهن ولم تضعف، بل كادت تصل إلى درجة النبوغ العلمي في كافة التخصصات التي ميزتها عن غيرها في العصور المختلفة، وذلك يرجع إلى أنها كانت قوية متينة في العصور السابقة لهذا العصر، ولم يكن من السهل القضاء عليها.

فما هي إلا فترة وجيزة بعد غزو التتار لبغداد إلا وقد جعل الله بعد الضيق مخرجا والشدة فرجا، فاستقرت الأوضاع نوعا ما، وقل الخوف والفزع وتهيأت النفوس لطلب العلم، ولقى العلماء تشجيعا من الأمراء، فأنشئوا دور العلم وأنفقوا على الأساتذة وطلبة العلم وأجروا عليهم الأرزاق من الطعام وغيره «1» .

بل كان بعضهم يجلس بنفسه لطلب العلم وبخاصة الفقه والحديث «2» .

هذه العناية وهذا الاهتمام دفعا بطلاب العلم إلى التسابق في مضماره والإقبال عليه بصدق، كما دفعا بالعلماء أيضا إلى التأليف وحل عويص المسائل

(1) انظر البداية والنهاية 13/ 139.

(2)

انظر شذرات الذهب 5/ 270.

ص: 31

والرد على النصارى وغيرهم ممن يريد النيل من دين الإسلام فحظي عصر الطوفي بنخبة من العلماء الأفذاذ في بغداد ودمشق ومصر والأندلس ألفوا عددا من المؤلفات في جميع فروع العلوم والفنون.

ومن دور العلم التي اشتهرت في ذلك العصر، وأسهمت في إبراز النهضة العلمية في بغداد:

1 -

المدرسة المستنصرية ببغداد: التي بناها الخليفة المستنصر بالله العباسي، وكمل بناؤها سنة 631 هـ وافتتحت في تلك السنة، ولم يبن مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة: من كل طائفة اثنان وستون فقيها، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب فقهي، وشيخ للحديث، وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى، والنفقة بما فيه كفاية وافرة لكل أحد، ووقفت كثير من الكتب عليها «1» .

2 -

المدرسة النظامية: أنشأها نظام الملك «2» ، ابتدئ بعمارتها في ذي الحجة سنة 457 هـ وفتحت يوم السبت العاشر من ذي القعدة سنة 459 هـ «3» ، ثم توقفت عن العمل كغيرها عند ما أغارت التتار على بغداد ثم لما دبت الحياة مرة أخرى في بغداد عادت للتدريس.

(1) انظر البداية والنهاية 13/ 139.

(2)

هو الوزير الحسن بن علي بن اسحاق الطوسي قوام الدين، كان من جلة الوزراء وكعبة المجد «كما يقال» ومنبع الجود، وكان مجلسه عامرا بالقراء والفقهاء أنشأ المدارس بالأمصار ورغب في العلم وحدث، قتله أحد الباطنية سنة 485 هـ. (انظر شذرات الذهب 3/ 373، والأعلام 2/ 202).

(3)

انظر وفيات الأعيان 3/ 218.

ص: 32

أما في الشام فإن المدارس والجوامع والزوايا قد كثرت لأن رئاسة العلم ومنارته قد انتقلت من بغداد بعد عبث التتار بها وقتل العلماء وتشريدهم منها ومن حولها من البلدان، وأصبحت دمشق والقاهرة تتجاذبان الرئاسة والسيادة ومن تلك المدارس والجوامع في الشام:

1 -

الجامع الأموي:

وهو أشهر وأكبر مؤسسة تعليمية في ذلك الوقت، فقد كان به عدد من الحلقات التي تشتغل بالعلم وتهتم به، وفيه حلقات كثيرة لتدريس القرآن الكريم وعلومه، والحديث الشريف وعلومه. وبه عدد من المدارس هي:

الغزالية، والأسدية (شافعية)، والمنجائية (حنبلية)، والقوصية والسفينة والمقصورة الكبيرة (ثلاثتها حنفية) والزاوية المالكية «1» .

2 -

المدرسة الأتابكية الشافعية بصالحية دمشق:

أنشأتها الحجة الأتابكية امرأة الأشرف موسى تركان بنت الملك عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن أتابك زنكي المتوفاة سنة أربعين وستمائة للهجرة «2» .

(1) انظر الدارس في تاريخ المدارس 2/ 412.

(2)

انظر الدارس في تاريخ المدارس 1/ 129، وشذرات الذهب 5/ 207.

ص: 33

3 -

المدرسة الأسدية الشافعية الحنفية:

أنشأها الملك المظفر أسد الدين شيركوه بن شادي بن مروان المتوفى سنة 564 هـ «1» .

4 -

المدرسة الأصفهانية «2» .

5 -

المدرسة الإقبالية التي افتتحت سنة ثمان وعشرين وستمائة «3» .

6 -

المدرسة العادلية الكبرى بدمشق:

المنسوبة إلى الملك العادل محمد بن أبي الشكر أيوب بن شاذي المتوفى سنة 615 هـ «4» .

7 -

المدرسة الصلاحية ببيت المقدس:

التي أنشأها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الأيوبي فاتح بيت المقدس- رحمه الله المتوفى سنة 659 هـ «5» ، وقد كانت كنيسة من زمن الروم تعرف بقبر حنة أم مريم- عليها السلام كما يقال- «6» .

8 -

المدرسة الجوزية

: التي أنشأها ابن الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي- رحمه الله المتوفى سنة ست وخمسين وستمائة للهجرة «7» .

(1) انظر الدارس في تاريخ المدارس 1/ 152، ووفيات الأعيان 3/ 245.

(2)

الدارس في تاريخ المدارس 1/ 158.

(3)

انظر البداية والنهاية 13/ 129.

(4)

انظر وفيات الأعيان 4/ 156، 5/ 78، وخطط الشام 6/ 81.

(5)

انظر شذرات الذهب 5/ 299.

(6)

انظر الأنس الجليل 2/ 41.

(7)

انظر الدارس في تاريخ المدارس 2/ 29، والبداية والنهاية 13/ 203.

ص: 34

وهناك عدد كبير من المدارس المنتشرة في الشام كالجادلية، والأوحدية، والمعظمية، والميمونية، والقيمرية، وغيرها «1» .

وكانت القاهرة عامرة بدور العلم والعلماء والمكتبات الحافلة بمجالس العلم والأدب، وكان اهتمام الناس بالكتب أمر يسترعي الانتباه، فالقاهرة غاصة بأسواق الكتبيين والوراقين وكذلك كان الحال في دمشق.

ومن الجوامع والمدارس المشهورة في القاهرة:

1) الجامع العتيق «2» : وهو من أكبر أماكن المدارس فقد كانت به عدد من الزوايا الفقهية كزاوية الشافعي، والمجدية، والصاحبية، والكاملية، والتاجية، والمعينية، والعلائية والزينية. وأدرك بعض العلماء فيه سنة 749 هـ بضعا وأربعين حلقة لإقراء العلم لا تكاد تبرح منه «3» .

2) جامع ابن طالون الذي كانت ترتب فيه دروس التفسير والحديث والفقه على المذاهب الأربعة، والقراءات، والطب، والميقات «4» .

3) الجامع الأزهر: ضم مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الشافعي- رحمه الله ورتب فيها أيضا محدث يسمع الحديث النبوي والرقائق

وسبعة قراء لقراءة القرآن الكريم «5» .

(1) انظر الأنس الجليل 2/ 42 - 48، والدارس في تاريخ المدارس الجزءان الأول والثاني.

(2)

جامع عمرو بن العاص.

(3)

انظر حسن المحاضرة 245/ 2، وخطط المقريزي 246/ 2.

(4)

انظر خطط المقريزي 265/ 2، وحسن المحاضرة 249/ 2.

(5)

انظر خطط المقريزي 275/ 2، 277، 363.

ص: 35

4) جامع الحاكم باب الفتوح أحد أبواب القاهرة، وكان شيخ الطوفي سعد الدين يدرس فيه «1» .

5) المدرسة الناصرية التي بنيت بجوار الجامع العتيق، وأصبح اسمها فيما بعد الشريفية وبها تولى الطوفي الإعادة في ولاية سعد الدين الحارثي كما سيأتي «2» .

6) المدرسة المنصورية أنشأها الملك المنصور قلاوون أبو المعالي سيف الدين التركي الصالحي المتوفي سنة 689 هـ «3» .

وفيها أيضا تولى الطوفي الإعادة في ولاية سعد الدين الحارثي كما سيأتي.

وذكر مؤلف الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد أنه كان بقوص في أيامه ستة عشر مكانا للتدريس «4» وذلك في أيام الطوفي الذي استقر بقوص فترة طويلة يقال إن له بها خزانة كتب.

وغير هذه الجوامع والمدارس كثير، كانت مصدر إشعاع للعلم في بغداد والشام والقاهرة ودمياط والصعيد، إضافة إلى المكتبات الكثيرة التي تضم آلاف النسخ والكتب المتكررة في الشام ومصر وقوص وبلاد المغرب والأندلس التي أعرضنا عن الحديث عنها مخافة التطويل.

لقد كانت العناية قي القرن السابع الهجري وأول الثامن- فترة حياة الطوفي- بجميع أنواع المعارف النقلية والفكرية.

(1) المصدر السابق وستأتي ترجمة سعد الدين في شيوخ الطوفي.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

انظر شذرات الذهب 409/ 5، والبداية والنهاية 178/ 13، 317.

(4)

الطالع السعيد ص: 44.

ص: 36

وتشمل النقلية: علوم القراءات وعلوم التفسير، والحديث والفقه وأصوله، وعلم أصول الدين واللغة العربية وأنواعها المتعددة وما يتصل بها.

وتشمل العقلية: الطب والكيمياء والفلسفة والرياضيات والفلك والنجوم والجغرافيا، وغيرها من المعارف والعلوم.

وبرع في كل فن من هذه العلوم نخبة من العلماء، بل لقد كان العالم يجمع بين عدد من أنواع العلوم المتعددة كما تيسر للإمام الطوفي- رحمه الله.

فقد ألف في فنون متعددة كما سيأتي بيانه في الفصل القادم- إن شاء الله-.

ومع ذلك كله فقد كانت هناك أفكار أخرى غير الأفكار الإسلامية المذكورة لأن المجتمع أصبح خليطا- كما سبق- من الزنادقة «1» والملاحدة «2» بالإضافة إلى الطوائف والفرق الأخرى مثل الاتحادية «3» - التي اشتغل الطوفي- رحمه الله بالرد عليهم- والفلاسفة «4» والمعتزلة «5» والشيعة «6» بطوائفهم المتعددة، التي

(1) جمع زنديق وهو القائل ببقاء الدهر، ولا يؤمن بالآخرة، ولا بوحدانية الله. ثم أصبح يطلق على كل من أنكر أصلا من أصول العقيدة وفي الإلحاد عموما كما قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: من طلب العلم بالكلام تزندق

، وقال يزيد بن هارون: من قال إن القرآن مخلوق فهو زنديق اه.

(انظر لسان العرب 10/ 147، وخلق أفعال العباد ص 14، وشرح الطحاوية ص 72).

(2)

جمع ملحد والملحد العادل عن الحق، ومن الإلحاد: التكذيب بالبعث والجنة والنار، (انظر لسان العرب 3/ 388، وتفسير القرطبي 15/ 366.

(3)

الاتحادية: هم القائلون بوحدة الوجود من الصوفية. وحقيقة مذهبهم أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره، ولا شيء سواه البتة. وهم أتباع ابن عربي (انظر حقيقة مذهب الاتحادية لابن تيمية ص 2، 4، 5).

(4)

الفلسفة باليونانية: محبة الحكمة، والفيلسوف: محب الحكمة، والحكمة قولية وفعلية، والفلاسفة تطلق على مجموعة من اليونان والمنتسبين إلى الأديان أعملوا عقولهم حتى أنكروا الغيبيات وأصبحوا لا يؤمنون إلا بالمحسوسات. (انظر الملل والنحل للشهرستاني 2/ 58 وما بعدها).

(5)

سيأتي التعريف بها- إن شاء الله- ص: 84.

(6)

سيأتي تعريفها- إن شاء الله- قريبا في مبحث مذهب الطوفي.

ص: 37

نشطت في بغداد وما حولها، ووقعت بينها وبين السنة فتن عظيمة في سنة 655 هـ وغيرها «1» .

وانتشرت البدع والشركيات، خاصة حول القبور والمزارات المزعومة وتمكن التعصب الشديد والتقليد الأعمى من نفوس أصحابها، مثل الصوفية الباطلة.

وأهل وحدة الوجود التي كان أثرها كبير في تهبيط همم المسلمين أيام الحروب الصليبية.

فهم يقولون لا فرق بين دين ودين لأن الله عام للجميع، وقد شاركوا النصارى في بعض عقائدهم كالحلول والاتحاد الذي هو أصل مذهبهم.

وممن عاش منهم في زمن حياة الطوفي عبد الحق بن إبراهيم المشهور بابن سبعين المتوفى بمكة سنة تسع وتسعين وستمائة للهجرة فقد وصل به الكفر إلى قوله حين يرى الطائفين بالبيت الحرام:" كأنهم الحمير حول المدار، وأنهم لو طافوا بي كان أفضل من طوافهم بالبيت"«2» .

ولقد أشغلت هذه الطائفة المسلمين في وقت هم أحوج إلى جمع الكلمة ضد عدوهم من النصارى والتتار.

وقد كانت مصر تعاني من هذه الطائفة أكثر من غيرها من البلاد وتكاد تتميز بذلك في القرن السابع الهجري لكثرة مشايخها والداعين لها، أمثال أحمد بن علي ابن إبراهيم الحسيني أبو العباس البدوي المتوفى سنة خمس وسبعين وستمائة للهجرة، وغيره «3» .

(1) انظر البداية والنهاية 13/ 196.

(2)

المرجع السابق 13/ 261.

(3)

انظر النجوم الزاهرة 6/ 149.

ص: 38

وفي نفس القرن كان تعصب النصارى الافرنج قد بلغ أشده، فقد أتوا إلى البلاد الإسلامية: الشام ومصر وإفريقيا والأندلس وهم يحملون الحقد الصليبي على الإسلام والمسلمين كما سبق في وصف الحالة السياسية وكان بعض أفراد النصارى يعيشون تحت ظل الدولة الإسلامية، ولما قدم الافرنج قلبوا ظهر المجن للمسلمين وشاركوهم في حرب المسلمين والطعن في الإسلام، وإثارة الشبهات. وقويت شوكتهم وعمرت كنائسهم التي كانت مندثرة وأنشئت كنائس أخرى في البلاد التي استولوا عليها؛ فمن كنائس النصارى التي كانت بالشام في القرن السابع:

1 -

كنيسة القمامة بالقدس الشريف- التي سموها كنيسة القيامة- وهذه الكنيسة عندهم بمكان عظيم، ويقصدونها في كل سنة في عدة أوقات من بلاد الروم والافرنج ومن بلاد الأرمن ومن الديار المصرية والشامية وسائر الأقطار، ويزعمون أن حجهم إليها «1» .

2 -

كنيسة المصلبية بالقدس الشريف: التي أخذت من النصارى في دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي النجمي الألفي المتوفى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة للهجرة «2» . وجعل فيها مسجدا. فلما كان في سنة خمس وسبعمائة وصلت رسالة من جهة ملك الكرج ورسل من جهة ملك الكرج رسل من جهة صاحب قسطنطينية إلى نائب الملك الناصر المشار إليه، وسألوا إعادة الكنيسة لهم، فلما توسلوا وتشفعوا في ذلك أعيدت لهم وسلمت إلى رسلهم «3» .

(1) انظر الأنس الجليل 2/ 51، 1/ 303، 309.

(2)

انظر النجوم الزاهرة 8/ 41، 9/ 325.

(3)

انظر الأنس الجليل 2/ 51.

ص: 39

3 -

كنيسة الزهري بمصر التي هدمت عدة مرات، وأغلقت في عهد الملك محمد ابن قلاوون- رحمه الله سنة سبعمائة من الهجرة «1» .

4 -

كنيسة الحمراء.

5 -

كنيسة البنات.

6 -

كنيسة أبي المينا.

7 -

كنيسة الفهادين بالقاهرة.

وكل هذه في مصر وتعرضت للخراب في يوم خراب الكنائس في عهد الملك الناصر محمد بن قلاوون المذكور.

أما اليهود فقد كانت لهم عقيدتهم ومذاهبهم الباطلة وكانوا ينشطون متى سنحت لهم الفرصة ويعلمون في خدمة الأمراء ونحوها حتى منع الملك الناصر محمد بن قلاوون من استخدامهم وأمر بأن لا يلبسوا الثياب الفاخرة وأن تكون لهم الذلة هم والنصارى.

ولقد وصل الحماس في التصدي لأهل الكتاب وخاصة النصارى ذروته ورأى المسلمون أن من حق الله على عباده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه، ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان.

يقول ابن تيمية- رحمه الله في الجواب الصحيح (1/ 13 - 14):" ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة أنباء المرسلين، ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين

وذلك أن الحق- إذا جحد وعورض بالشبهات- أقام

(1) انظر خطط المقريزي 2/ 512.

ص: 40

الله تعالى له مما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات والبينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة" اه.

لقد كان بعض المسلمين يتصدى للطاعنين في دين الله، وإذا لم يكن لديه القدرة على المناظرة ومقارعة الحجة ضرب الطاعن ليشفي بذلك غليله ويقول: هذا الجواب.

ولقد أثرت الحروب الصليبية في فكر المسلمين فسلكوا في الرد على النصارى طرقا عديدة منها:

المناظرات الشفوية التي تجرى بين العلماء وأهل الكتاب، والخطب التي تكون في التحريض على الجهاد والتصدي للنصارى الغزاة والترغيب فيه والترهيب من التقاعس عنه وألف في ذلك كله المؤلفات.

وكان العداء الشديد بين المسلمين والصليبيين دافعا قويا لكتّاب المسلمين على تتبع عقائدهم ومثالبهم وإبطال افتراءاتهم فألفوا في ذلك الكتب الكثيرة، مثل:

1 -

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: لابن تيمية- رحمه الله.

2 -

الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة: لشهاب الدين أحمد القرافي «1» .

(1) أبو العباس أحمد بن أبي العلاء إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يلين القرافي نسبة إلى قرافة بطن من قبيلة المعافر نزلوا مصر وقيل: إلى القرافة مقبرة بمصر، سكنها مدة.- وهذا ما رجحه هو بنفسه،- الصنهاجي ولد سنة 626 هـ، برع في الأصول، وبلغ مرتبة الاجتهاد وإن كان مالكيا من أشهر مصنفاته:" الفروق" في القواعد الفقهية توفي- رحمه الله سنة 684 هـ. (انظر ترجمته الوافية في مقدمة كتابه" الأجوبة الفاخرة" بتحقيق الباحث).

ص: 41

3 -

على التوراة اليونانية: لعلاء الدين الباجي «1» .

4 -

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام

: للإمام القرطبي «2» .

5 -

الدر المنضود في الرد على فيلسوف اليهود" بن كمونة"«3» لابن الساعاتي «4» .

6 -

الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية: للطوفي.

(1) الفقيه علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطاب الشافعي، ولد سنة 136 هـ، مصري أصله من المغرب، سافر إلى الشام وسمع بها العلماء كان أقوى أهل زمانه مناظرة، ولا يكاد ينقطع في بحث، له علم بالمنطق والحساب، ويقال: ما من علم إلا وله فيه مختصر، ناب في الحكم بالقاهرة، وتقشف في أواخر حياته توفي- رحمه الله سنة 714 هـ.

(انظر فوات الوفيات 3/ 73، والدرر الكامنة 3/ 101 - 102).

(2)

أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الأندلسي المفسر، كان من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين الورعين الزهاد في الدنيا، لا يعرف التكلف. له كتب كثيرة أشهرها التفسير.

توفي- رحمه الله في منية بني خصيب في شمال أسيوط بمصر 671 هـ ودفن بها في شوال من تلك السنة.

(انظر الديباج المذهب 2/ 308 - 309، والأعلام 1/ 322).

(3)

سعد بن منصور بن الحسين عز الدولة الكيميائي له اشتغال بالمنطق والحكمة، وله: تنقيح الأبحاث للملل الثلاث وهو الذي رد عليه ابن الساعاتي. توفي ابن كمونة سنة 683 هـ (انظر الأعلام 3/ 102 - 103).

(4)

أحمد بن علي ثعلب مظفر الدين عالم بفقه الحنفية، ولد في بعلبك وانتقل مع والده إلى بغداد فنشأ بها، وكان أبوه ساعاتيا عمل ساعات على المدرسة المستنصرية، التي كان يدرس بها ابنه، وله مؤلفات في الأصول والفقه من أشهرها: نهاية الوصول إلى علم الأصول، ومجتمع البحرين.

توفي سنة 694 هـ (انظر الأعلام 1/ 175، وهداية العارفين 1/ 100، ومرآة الجنان 4/ 227).

ص: 42

ولم يقتصر الأمر في الرد على أهل الكتاب على ما سبق، بل ألهبت الحروب الصليبية، وطغيان النصارى حماس الشعراء، فاستخدموا الشعر نوعا آخر من السلاح ضد النصارى، ومن يطعن في الإسلام من اليهود، ومن ذلك: منظومة الأبوصيري «1» في الرد على اليهود والنصارى، وشرحها له.

وقد قيل في مدح الملوك والسلاطين والأمراء الذين يقومون بحرب النصارى والاستنجاد بهم، والدعاء والابتهال إلى الله، وطلب النصر على النصارى: الشعر الكثير «2» .

مما سبق تتبين لنا الصورة الواضحة لعصر الطوفي وما فيه من أحداث وسلوك وثقافة، وفكر، دفعته- رحمه الله إلى المشاركة في هذه الأمور التي جعلت الحاجة ماسة إلى من ينقذ الناس من هذه المهلكات ويصلح حالهم، وقد أدى- عفا الله عنه- دوره على حسب ما استطاع.

والله الموفق.

(1) أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي المصري الأبوصيري نسبة إلى بوصير بمصر أمه منها وأصله من المغرب، ولد في بهشيم من أعمال البهنساوية، وهو شاعر الصوفية وصاحب البردة المشهورة في المولد النبوي وله قصائد أخرى. توفي سنة 695 هـ. (انظر فوات الوفيات 3/ 362 - 369، وشذرات الذهب 5/ 432).

(2)

انظر من الشعر في الحروب الصليبية كتاب: فوات الوفيات (2/ 7، 15) والحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية لأحمد بدوي ص 414، وغيرها من الصفحات، وكتاب الحروب الصليبية وأثرها في الأدب العربي لمحمد سيد كيلاني، ص 214 وغيرها من الصفحات.

ص: 43