الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[أصل خلق الإنسان واعتراض النصراني على الآيات المخبرة بذلك]
قال:" وفي سورة النور «1» : واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ وفي سورة الفرقان «2» :
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وصِهْراً
…
(54) / وفي سورة الروم «3» :
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وفي سورة فاطر «4» :
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
…
(11) وفي سورة الأنبياء «5» : وجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
…
(30) وهذا بين التناقض، والكذب لازم في إحدى القضيتين وخلاف هذا في التوراة، حيث يقال: إن الدواب خلقت من التراب والإنسان من الماء، وخلاف ذلك أيضا في الوجود، إذ بعض الأشياء مخلوقة من الأرض وبعضها من الماء.
قلت: الجواب: أنه لا تناقض في هذا ولا كذب- بحمد الله- عند من عرف وتبين ذلك ببيان معنى كل آية على انفرداها، ثم بيان الجمع بين الجميع.
- وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ .... الآية [سورة الحشر: 2]. [انظر حدائق الأنوار ومطالع الأسرار 1/ 47 - 48، والبداية والنهاية 4/ 75، وسيرة ابن هشام المجلد الثاني ص 190، وتفسير ابن كثير 4/ 331].
(1)
الآية رقم: 45.
(2)
الآية رقم: 54.
(3)
الآية رقم: 20.
(4)
الآية رقم: 11.
(5)
الآية رقم: 30.
أما قوله: واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ «1» فنقول: الدابة في وضع اللغة كل ما دب ودرج. وفي عرف الاستعمال اللغوي: مختص بذوات الأربع كالفرس ونحوه، فإن حمل لفظ الدابة على هذا المعنى العرفي فلا إشكال في أنها من ماء، وهو الماء الذي ينزله الذكر في الأنثى وتنزله هي عند الوقاع «2» .
وإن حمل على الوضع اللغوي فالجواب من وجوه:
أحدها: أن" من" في قوله مِنْ ماءٍ للسببية. بمعنى أن للماء مدخلا وتأثيرا بحقيقته أو بما هو من طبيعته في وجود كل دابة «3» .
وهذا صحيح. فإن كل دابة فهي حيوان، وكل حيوان لا بد فيه من رطوبة مائية بها تتقوم حياته، فيدخل في ذلك العقارب والخنافس ونحوها من الحشرات التي يقال إنها تتولد من التراب، لأنها وإن كانت متولدة من التراب إلا أنها لا تستغني عن رطوبة، هي من طبيعة الماء تقوّم حياتها.
الوجه الثاني: أن نقول في الدابة وضعا ما قلناه في الدابة عرفا، وهو أن سائر أشخاصها مخلوقة من" ماء" الوقاع، لأن فيها ذكورا وإناثا قطعا، ولا فائدة للصنفين المذكورين إلا التناسل المعتاد بين سائر أصناف الحيوان، وما يقال: من أن بعض الدواب تخلف من التراب، فلا شك أنه قد قيل، ولكنا لم نشاهده فلا نقلد فيه. ولا عليه دليل قاطع من جهة العقل/، فإن شاهدناه أجبنا حينئذ بحسب ما ينبغي.
(1) سورة النور، آية:45.
(2)
انظر تفسير القرطبي 12/ 291، وتفسير الطبري 18/ 155، وتفسير الشوكاني 4/ 42.
(3)
انظر تفسير القرطبي 12/ 291، وتفسير الشوكاني 4/ 42.
والذي رأيته في هذا: ما ذكر في تواريخ الأولين: أن الملك" سنحاريب"«1» رأى في منامه أن عقربا صعدت سريره فلدغته، فوقع عنه.
فاستدعى بعض المعبرين فسأله عن رؤياه، فقال له: إنها تدل على أنه يغلب على ملكك/ رجل لا أصل له، لأن/ العقرب لا أصل لها، وإنما تخلق من التراب، فكان تأويله أن غلب فرعون على سنحاريب فأخذ ملكه، ولم يكن لفرعون أصل في الملك وإنما كان أبوه راعي غنم. هكذا قيل. لكن في هذا مناقشات كثيرة لا يعتمد عليها معها.
الوجه الثالث: إن ثبت أن بعض الدواب مخلوق من غير الماء كان قوله تعالى: خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ «2» عاما مخصوصا بذلك أي أنه أطلق العام وأراد الخاص، وهو كثير كقوله: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
…
(62)«3» وخص بالعقل:
ذاته وصفاته تعالى.
وقوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ «4» - يعني الريح العقيم- وخص بالعقل السموات والأرض وغيرهما مما لم تدمره. وقوله: وأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .. (23)«5»
- يعني بلقيس- وخص بالعقل: ما لم تؤته من ملك سليمان وغيره.
(1) سنحاريب: هو ملك بابل والموصل في زمن النبي اشعيا- عليه السلام ولما كثرت ذنوب بني إسرائيل ومرض ملكهم حزقيا فسلط الله عليهم سنحاريب فدخل بيت المقدس وحصل منهم ضرر كبير على بني إسرائيل ثم هزم سنحاريب ومات بعد سبع سنوات من رجوعه إلى بابل.
[انظر البداية والنهاية 2/ 32 - 33، والأنس الجليل 1/ 147، والكامل في التاريخ 1/ 143 - 144].
(2)
سورة النور، آية:45.
(3)
سورة الزمر، آية:62.
(4)
سورة الأحقاف، آية:25.
(5)
سورة النمل، آية:23.
والتخصيص لازم فيما حكاه الخصم من قوله في التوراة: إن الدواب خلقت من التراب، لأنا نقول:
أي الدواب تريد؟ إن أردت مجموع جنسها أولا وآخرا في جميع أزمنة الوجود فهذا يكذبه العيان، لأنا نشاهد الدواب تتكون من ماء الذكر والأنثى.
وإن أردت أنواع جنس الدواب الأول التي هي لأنواعها كآدم لنوع «1» البشر، وهو المراد لآن هذا الكلام في سفر الخليفة «2» ، وهو إنما يذكر فيه أوائل الموجودات.
وحينئذ يلزم التخصيص إن أريد باللام في" الدواب" الاستغراق.
وإن أريد العهد- يعني أوائل أنواع الدواب- لم يكن فيه حجة على مناقضة القرآن إذ يصير تقديره: بعض جنس الدواب من التراب.
والقرآن تضمن أن كل دابة خلقت من" ماء" فيخص أحد الكتابين الآخر، إن سلمنا صحة التوراة، وإلا لم/ يلزمنا ما فيها، بناء على ما سبق.
وأما قوله: خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً .. «3» فإن حملنا لفظ (الدابة) على المعنى الوضعي دخل فيه البشر، واتفقت الآيتان. وإن حملناه على العرفي لم يتناول البشر، وكان في هذه الآية مفردا بالذكر على وفق ما ذكر في الدابة من الخلق من الماء، والمراد أنه خلق الإنسان من الماء يعني" مني" الزوجين وهو مشاهد.
(1) في (م): لأنواع.
(2)
أي سفر التكوين في التراجم الحديثة. وهو في الأصحاح الأول منه
(3)
سورة الفرقان، آية:54.
وأما قوله: وجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
…
(30)«1» فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن" من" فيه للسببية والتقرير ما سبق في الوجه الأول من جواب قوله" خلق كل دابة من ماء".
وأيضا: فإن حياة كل حي إما كاملة كحياة الإنسان وغيره من الحيوانات، أو قاصرة كحياة الزرع والنبات،/ وكل ذلك لا بد في تحقق حياته من/ الماء على ما هو مشاهد.
الثاني: أن كل حي مخلوق من ماء الوقاع كما سبق في الوجه الثاني من جواب الآية المذكورة.
ويمكن أن يحمل على إرادة الخاص بالعام كما سبق في الوجه الثالث هناك على تقدير أن يثبت من الأحياء ما ليس من الماء.
وأما قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ
…
«2» فالمراد خلق أباكم- يعني آدم- من تراب بناء على ما قص «3» الله علينا في كتابه، وأجمع عليه المسلمون من أن آدم خلق من تراب، وإنما خاطبنا بذلك لأنا نسل آدم وولده، وحيث كنا كامنين فيه بالقوة كان خلقه من تراب كخلقنا من تراب وإذ تقرر الكلام على الآيات مفردة ظهر وجه الجمع بينها وأن لا تناقض فيها.
(1) سورة الأنبياء، آية:30.
(2)
قال الله تعالى في سورة الروم الآية (20): ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وفي سورة فاطر الآية (11): واللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً الآية.
(3)
في (أ): على ما نص.
فقوله في سورة الروم وفاطر: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ
…
يعني أصلكم وأباكم آدم، وقوله في الفرقان: .. خَلَقَ مِنَ الْماءِ .. يعني المني من الذكر والأنثى
…
بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وصِهْراً
…
(54)«1» وهو لا ينافي الخلق من تراب، لأن المخلوق من الماء غير المخلوق من التراب- على ما بيناه- ويدل عليه ما في سياق آية فاطر حيث يقول: واللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ .. «2» .
أي خلق أباكم آدم من تراب ثم خلقكم منه ومن غيره من ذريته من نطفة «3» .
وكذلك قوله تعالى: ولَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ .. يعني آدم .. مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)«4» أو يكون المراد بالإنسان ذريته خلقوا من سلالة وهي المني المستلّ من الأصلاب لكن أصل تلك السلالة من طين باعتبار آدم ثُمَّ جَعَلْناهُ يعني الإنسان غير آدم" نطفة" وهو المني
…
فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) وهو الرحم ولَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً .. (14)«5» الآية.
(1) سورة الفرقان، آية:54.
(2)
سورة فاطر، آية:11.
(3)
انظر تفسير الطبري 22/ 122، وتفسير القرطبي 14/ 332. وغيرهما من كتب التفسير.
(4)
سورة المؤمنون، آية:12.
(5)
ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، آية 13 - 14]، انظر فيما ذكر المؤلف من تفسير الآيات: تفسير الطبري 18/ 7 - 9، وتفسير القرطبي 12/ 109، وتفسير الشوكاني 3/ 476 - 477. وغيرها من كتب التفسير.