الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يقال لهم: هل يلزم من خلق الفعل والعقوبة عليه غير القبح والتجوير؟
ثم هو لازم على قولكم في خلق القدرة على الفعل؟ فإن الله سبحانه يخلقها ويتسبب بها إلى إيقاع المعاصي من خلقه، ولو لم يخلق لهم قدرة عليها لم تقع منهم.
وأجمع العقلاء على أن التسبب إلى القبيح قبيح، وإذا لزم القبح على المذهبين لم يكن أحدهما أولى بالفساد من الآخر، ثم يرجع إلى نصوص الشرع وهي في طرفنا. والله أعلم.
قال:" نبذ من صحيح الحديث تنضم إلى ما نحن فيه" يعني من القدح في الصدق.
[كلام الأموات وإنكار النصارى ذلك]
ذكر منها قوله- عليه السلام:" إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة/ قالت:
يا ويلها، أين تذهبون بها؟ «1» / يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق" «2» .
(1) في النسخ الثلاث:" أين تذهبون بي؟ والمثبت من جميع ألفاظ الحديث.
(2)
أخرجه البخاري في الجنائز، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء، وباب قول الميت وهو على الجنازة: قدموني، وباب كلام الميت على الجنازة، وأخرجه النسائي في الجنازة، باب السرعة بالجنازة، وأحمد في المسند (3/ 41، 58) بألفاظ متقاربة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
قال:" وهذا أبين من أن يتكلم على بطلانه، إذ كيف يكون لميت صوت تسمعه البهائم والجمادات دون الإنسان، لأن شرط المسموع أن يكون صوتا خارجا، يتموج به الهواء، فيقرع صماخ الأذن «1»، فهل للبهائم والجمادات أسماع فضلا عن أن تكون أفضل فيها «2» من الإنسان؟ ".
هذا حاصل ما قرر به «3» هذا السؤال، مع تشنيع ذكره يسير.
قلت: الجواب العام عن كل حديث ذكره في هذا الكتاب: أنه من أخبار الآحاد التي توجب العمل لا العلم، فلا يثبت بها أصل، ولا يقدح بها في أصل وإنما يقدح في الشرائع ما تثبت بمثله الشرائع، وقد قرر هذا في المقدمات «4» ، وفي آخر شرط الصدق بعد هذا «5» . ولكنا نتبرع بالجواب «6» .
وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن الكلام في هذا وأمثاله من الحقائق الإلهية التي يقصر العقل عن
(1) الصماخ من الأذن: الخرق الباطن الذي يفضي إلى الرأس، ومنه حديث أبي داود في الطهارة، باب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم" وأدخل أصابعه في صماخ أذنيه" وهذا في لغة تميم، ويقال:
السماخ بالسين المهملة، وهي لغة فيه، ويقال: أن الصماخ الأذن نفسها.
(انظر لسان العرب 3/ 34)
(2)
فيها: ساقطة من (أ).
(3)
في (أ): قررته هذا.
(4)
انظر ص: 241 من هذا الكتاب، وانظر ص: 147 وما بعدها من قسم الدراسة. ونحن لا نوافق الطوفي في قوله هذا كما سبق.
(5)
انظر ص: 519 من هذا الكتاب.
(6)
في (ش): الجواب.
ادراكها «1» ، فرع على ثبوت النبوة وتابع لها، كمسألة القدر، فحق الكلام أن يكون في رتبة قبلها. وأنت فقد قدمت من كلام" أرسطو" وغيره، أن نسبة إدراكاتنا إلى المبادئ الأولى كنسبة الخفاش إلى ضوء الشمس، ثم إنك في الاعتراض على هذه الأخبار تناقض «2» ذلك. فأنت هناك مشرع جامد، وهاهنا فيلسوف محلول، وحالك لا ينضبط.
الثاني: أن العلماء نقلوا عن موسى، أنه لما ناجاه ربه أمر الريح فأخذت على أسماع الناس، ولولا ذلك لماتوا من صوته- تعالى «3» -، ونحن عندنا أن الكلام والادراكات ليس من شرطها الأدوات، بل يجوز أن يخلقها الله- تعالى- في الجمادات كما قال سبحانه: وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
…
(44)«4» .
وهو عند المحققين على حقيقته التي تليق بكل شيء بحسب قوته واستعداده وما يهيئه الله له، فكذلك يجوز أن ينطق الله تعالى الميت كما أحيى الموتى لعيسى/ ويحجب صوته عن الإنسان لئلا يصير إيمانه بهذه الحقائق الغائبة ضروريا، فتبطل فائدة التكليف بالإيمان بالغيب، ويسمع صوتها «5» غير الإنسان على حسب ما يليق بالأشياء، لأنها ليست مكلفة فلا محذور.
(1) قلت: هذا وجه من وجوه إلزام المؤلف بأن الآحاد الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول حقائق إلهية يقصر العقل عن إدراك حقائقها، فيجب عليه التسليم بهذه الأحاديث وأنها تفيد العلم والعمل معا. وقد تناقض الأصوليون في هذه المسألة مع أنفسهم فتارة ينكرون إفادة الآحاد العلم وذلك عند استدلالهم بها على شيء من مذاهبهم وتارة يقولون إنها تفيد العمل لا العلم وهذا تناقض واضح. مع أنهم لا يرفضون العمل بخبر الآحاد بل يوجبون العمل دون العلم.
(2)
كلمة" تناقض" ساقطة من (أ).
(3)
لم أجده بعد البحث الكثير.
(4)
سورة الإسراء، آية:44.
(5)
«صوتها» : ليست في (ش).
وإذا كان الله سبحانه هو خالق الذوات من حيوان ناطق وصامت وجماد فهو خالق/ صفاتها وادراكاتها، وكما أخرج تلك القوى والادراكات من العدم إلى الوجود، كذلك هو قادر على أن يقوي ضعيفها ويضعف قويها، حتى يبلغ مراده، وهو بالغ أمره، وكل ما ينسب إلى قدرة الله- تعالى- من الممكنات لا ينبغي أن يصادم بالانكار، خصوصا إذا اقترن به أخبار أهل النواميس «1» الدالة على صدق أصحابها، وليس في هذا وأمثاله من الاستبعاد، إلا كونه غير مدرك لنا، ولو أدركناه لزال الاستعباد، كما أننا لو لم تثبت عندنا معجزات الأنبياء كقلب العصا حية، وتفجير الماء من الحجر «2» ، وإخراج ناقة عظيمة من جبل «3» ،
(1) نواميس: جمع ناموس. وصاحب الناموس هو صاحب السر، وقيل: صاحب سر الخير. ومن معاني الناموس: وعاء العلم. وصاحب سر الملك، أو الرجل الذي يطلعه على سره وباطن أمره، ويخصه بما يستره عن غيره وجبريل عليه السلام يسمى الناموس والمقصود هنا: الذين أتاهم الوحي.
والله أعلم. [انظر فتح الباري 1/ 26، والروض الأنف 1/ 273، ولسان العرب 6/ 243 - 244].
(2)
وهاتين المعجزتين لموسى عليه السلام. قال الله تعالى: وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي ولِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [سورة طه 17 - 20] وقد بين الله تعالى في نفس السورة أنها أصبحت تلقف ما يأفك سحرة فرعون وذلك في الآيات من 64 - 70. وقال الله تعالى عن المعجزة الأخرى: وإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً
…
الآية [سورة البقرة: 60].
(3)
هذه معجزة صالح في قومه ثمود فقد جعل الله لهم الناقة معجزة فقال لهم: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ سورة الأعراف: 73]، وأما أنها أخرجت من جبل أو هضبة أو صخرة تسمى الكاثبة وأنهم طلبوا من صالح ذلك، فهذا لم يرد فيه نص صريح بأنها من جبل أو صخرة أو هضبة ولكن ذكر ذلك المفسرون ومنهم الطبري في تفسيره (8/ 224) والقرطبي في تفسيره (7/ 238)، وابن كثير في تفسيره (2/ 228) وابن عطية في تفسيره (7/ 98) وابن الجوزي في زاد المسير (3/ 24).
وإحياء الموتى «1» ونحوه، لما صدقت به العقول بادئ الرأي، إلا بعد نظر دقيق واستدلال «2» .
وهكذا ما نحن فيه، لمّا نظرنا فيه قد اتجه إمكانه، وأما وقوعه فيعتمد [على]«3» خبر الصادق، وقد بينا صدقه، وسنبين.
ويجوز أن يحمل قوله:" سمع صوتها كل شيء إلا الإنسان" على السماع التقديري، أي لو كانت هذه الأشياء مما يسمع لسمعته، ويكون فائدة ذلك: الاخبار بصياح/ الميت عن داع وحرقه «4» ، تنبيها على أسفه وشدة ندمه «5» ليتعظ به الأحياء، كما قال الشاعر في صفة الفرس:
وشكا إليّ بعبرة وتحمحم «6»
(1) هذه من معجزات عيسى- عليه السلام التي أتى بها إلى بني إسرائيل وقال لهم ورَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ورَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)[سورة آل عمران: 49].
(2)
في (ش): واستدلالي.
(3)
كلمة [على] زدتها ليستقيم العبارة.
(4)
الأولى الوقوف عند النص، وأنه يسمع الصوت الحقيقي كل شيء إلا الإنسان، ولا حاجة إلى هذا التأويل. والله أعلم بكيفية ذلك.
(5)
في (ش): وشدة نكبته.
(6)
قائله" عنترة في معلقته: وهذا عجز البيت وصدره:
فازورّ من وقع القنا بلبانه
…
...
…
وقد فسر عنترة هذا البيت بالبيت الذي بعده:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي [انظر تفسير القرطبي 11/ 26، وجمهرة أشعار العرب 2/ 502، شرح المعلقات السبع للزوزني ص 256].
وقال في صفة الحوض:
امتلأ الحوض وقال: قطني مهلا «1» رويدا، قد ملأت بطني «2» أي لو كان ممن يتكلم لقال ذلك، وأنتم تستبعدون هذا التقدير، لأن لغتكم وأذهانكم قلف «3» مثلكم، مقصورة على إرادة الحقائق، وليس فيها توسع في المجاز، على أن المجازات في كتب الأنبياء كشعياء وغيره كثير «4» جدا «5» ، وهو خفي بعيد حتى أنه في بعض المواضع رمز عقد بمرة «6» .
(1) في لسان العرب والمشوف المعلم" سلا رويدا" وسلا بمعنى أي ارفق بصب الماء لئلا يفيض.
(2)
حكى هذا البيت يعقوب بن إسحاق المشهور بابن السكيت في معنى القطن.
[انظر لسان العرب 13/ 344، والمشوف المعلم 2/ 651]
(3)
هكذا في (م) وفي (أ): قلفا. والقلف: قشر الشجرة ونحوها والرجل الأقلف الذي لم يختتن [لسان العرب 9/ 290] والذين لم يختنوا هم: النصارى.
(4)
هكذا في النسخ الثلاث. والأصح: كثيرة.
(5)
قلت: لو ترك الطوفي هذا التقدير لكان أولى لأمور منها:
1 -
أنه أثبت المجاز في شريعة الأنبياء الذي معناه أن الألفاظ التي تكلم بها الأنبياء لا تدل على الحقيقة وإنما استعملت في غير معناها الحقيقي وهذا خطأ لا يقبل.
2 -
أن الأنبياء منزهون من أن يخبروا الناس ويأمروهم بأمور، وهم لا يريدون حقيقة ما تدل عليه الألفاظ.
3 -
أن كلام الله ووحيه للأنبياء يصير مجازا لا حقيقة وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فنقول إن الإخبار بهذه الأحاديث إخبار عن حقيقة وإن لم يدرك العقل كنهها وكيفيتها وهذه من المغيبات التي يحتاج الناس فيها إلى وحي من الله لعدم قدرتهم على إدراك ذلك بعقولهم والله أعلم.
(6)
رمز عقد بمرة: مرة الحبل: طاقته وقيل حبل طويل دقيق أجيد فتله. وهذه العبارة كناية عن حسن المجاز وكثرته في لغة العرب. [انظر لسان العرب 5/ 168 - 169].