الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي الأصحاح الثالث والعشرين منه «1» :" اسمع قولي يا يعقوب وإسرائيل الذي دعوت. أنا الأول وأنا الآخر، ويدي أصلحت أساس الأرض، ويميني بسطت السماء".
وفي الأصحاح التاسع عشر منه «2» :" هذا الله الرب، يأتي بعزه وذراعه بقوة، ثوابه «3» معه، وعمله بين يديه" إلى أن قال:" وشبر «4» السماء بشبره، وكال تراب الأرض بكفه، ووزن الجبال بالمثقال والآكام بالميزان".
وهذا كثير في كتب الأنبياء لو تتبعته لطال. وهذه صفات ظاهرها المتعارف التجسيم، فجوابك عنها هو جوابنا «5» عما ذكرت من الأحاديث./
[القضاء والقدر وأفعال العباد وضلال النصارى في ذلك]
قال:" ومن هذه الأوصاف الواردة في حق الله تعالى عنها ما جاء في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ
…
(7)«6» الآية.
وفي سورة النساء «7» :
…
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ
…
(88) الآية.
(1) في التراجم الحديثة: في الأصحاح الرابع والأربعين.
(2)
في التراجم الحديثة: في الأصحاح الأربعين.
(3)
في (ش): وابه.
(4)
في (أ): وسير.
(5)
في (أ): جوابها.
(6)
سورة البقرة، آية: 6، 7.
(7)
الآية: 88.
وفي الاسراء «1» : وما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.
وقال: واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ (96)«2» وقال: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .. (78)«3» ،
والقرآن مصرح في مواضع كثيرة غير هذه بأن أفعال الخلق خيرها وشرها هي بإرادة الله وخلقه، لا بإرادة الخلق وفعلهم".
ثم ذكر أحاديث القدر من الصحيحين وهي مشهورة. ثم قال:" فثبت بهذه الأحاديث ما ثبت بالآيات المذكورة آنفا: من أن الله سبحانه خالق جميع أفعال العباد من الخير والشر، كالقتل والكذب والزنا وغير ذلك، وهو الذي يعاقب ويثيب. وهذا مذهب أهل سنة الإسلام.
وحجتهم عليه: ما أوردناه من الآيات والأحاديث. وإذا تبين لهم فساد هذا المذهب وشناعته، وأن هذا الذي يصفون به الله لا يوصف به إلا الشيطان، لجئوا إلى التمسك بهذه الآية: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْئَلُونَ (23)«4» .
قال:" والدليل على فساد هذا المذهب: الحجة والتنزيل.
أما «5» الحجة فمن وجهين:
(1) الآية: 60.
(2)
سورة الصافات، آية:96.
(3)
سورة النساء، آية:78.
(4)
سورة الأنبياء، آية:23.
(5)
عبارة:" الحجة والتنزيل. أما" سقطت من: (أ).
أحدهما: ما تقرر في المعقول/ من أن مريد الخير خيّر ومريد الشر شرير،/ ومريد العدل عادل، ومريد الظلم ظالم، فلو كان الله سبحانه مريدا للشر والظلم لكان موصوفا بالخيرية والشرية، والعدل والظلم وذلك محال. وشنع في حق الله تعالى.
الوجه الثاني: أن كل آمر بشيء فهو مريد له، فيستحيل من الله تعالى/ أن يأمر عبده بالطاعة ثم لا يريدها. والجمع بين اقتضاء الطاعة وطلبها بالأمر بها، وبين كراهة وقوعها جمع بين نقيضين. وذلك بمثابة الأمر بالشيء والنهي عنه في حالة واحدة".
هذا تلخيص حجته. ثم ذكر كلاما بعده يرجع إليه.
وأما التنزيل: فقول الله في التوراة لقابيل «1» :" إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت سيطلع على إساءتك لأنك مالك إرادتك، وأنت مسلط عليها بالاختيار"«2» .
وقول داود النبي في الزبور «3» : «روحي في يدي أبدا" يعني: تحت قدرتي.
وقول سليمان:" إن الله صنع الإنسان مستقيما وهو أدخل نفسه في مسائل غير متناهية"«4» يعني بإرادته المخصوصة.
ثم شنع بأن ضرب مثلا، وهو" من أوثق إنسانا شدا وكتافا، ثم ألقاه من
(1) انظر سفر التكوين الأصحاح الرابع.
(2)
قلت: دليل هذا النصراني من التوراة فيه تناقض يدل على فساد ما ادعاه ففي النص ما يدل على أن قابيل يملك إرادته فلا إرادة لأحد عليه" لأنك مالك إرادتك" ثم آخر النص يدل على أن له اختيارا وأنه مسلط على إرادته" وأنت مسلط عليها بالاختيار" فإرادته تحت إرادة غيره.
(3)
لم أهتد إلى موضع هذا في التراجم الحديثة" مزامير داود".
(4)
لم أهتد إلى موضع هذا في التراجم الحديثة من الأمثال.
جبل. وقال له في حال هويه: إن لم تقف أو ترجع إليّ، وإلا فعلت بك وفعلت" فهذا سفه وحمق، وتكليف ما لا يطاق.
وحكى قول الزمخشري «1» في الكشاف:" إن كان الله ينهى عن الذنب ثم يلجئ إليه، ويعاقب عليه، فأنا أول من يقول: إنه شيطان وليس بإله"«2» .
هذا ملخص «3» ما ذكره في هذا السؤال من غير إخلال بمهم.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا الخصم بصدد القدح في النبوة. وإيرادك هذا السؤال لا يحصل لك المقصود، لأنه ليس كل طوائف المسلمين يقولون بهذه المقالة. فلو ناظرت في هذا معتزليا لخالفك في الإسلام ووافقك في القول بالقدر فانقطعت في هذا المقام. وأنا الذي قد تصديت لمناقضتك لو التزمت مذهب القدرية في هذا، لساغ لي في حكم النظر، لأن البحث بين/ مسلم ونصراني، لا بين قدري وسني.
(1) تقدمت ترجمته ص 174 من قسم الدراسة وهو من نفاة القدر. زعم أن العبد يخلق فعله بنفسه
…
ويقولون: كيف يخلق الله أفعال العباد ثم يعاقبهم عليها؟ وهذا مردود بأن الله خالق العباد وأفعالهم ولا يخرجون عن ملكه وسلطانه. لكنه جعل لهم اختيارا وقدرة لا تخرج عن قدرة الله وإرادته. يعاقبهم عليها. وله حكمة هو يعلمها فيما قدره على العبد. من خير أو شر.
(2)
النص ليس بهذا اللفظ عند الزمخشري وقد بالغ النصراني في تغليط العبارة كما سيأتي في كلام الطوفي، ولكن له كلام قريب من هذا عند تفسيره لآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة، آية: 6، 7].
(3)
في (أ): تلخيص.
الوجه الثاني: أن هذه مسئلة من فروع الشريعة «1» تثبت بثبوت أصلها وتنتفي بانتفائه «2» ، فهي تابع لا مقصود، فيغنيك عنها القدح في أصل الدين «3» / إن يثبت «4» لك. وإنما ذكرك لمسألة القدر في هذا المقام كمن يقدح
(1) مسألة القدر هي من أصول الدين التي يجب على المسلم الإيمان بها، والقدر أحد أركان الإيمان فلا يصح الإيمان إلا به، كما قال ابن عباس- رضي الله عنهما:" من وحد الله وكذب بالقدر فقد نقض تكذيبه توحيده" لكن المؤلف- رحمه الله يقصد بأن مسألة القدر فرع بالنسبة للأصل وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والتي هي أول واجب، كما هو مقرر في علم أصول الدين فلا يصح أن يتكلم الإنسان في القدر أو اعتقاد القدر قبل أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا أتى بالأصل وهو الإسلام فإنه يلزمه المرتبة الثانية من مراتب الدين وهو الإيمان الذي منه الإيمان بالقدر خيره وشره. يقول ابن تيمية- رحمه الله في التدمرية ص 193:" والاقرار بالأمر والنهي والوعد والوعيد مع انكار القدر خير من الاقرار بالقدح مع انكار الأمر والنهي والوعد والوعيد" ثم يقول- رحمه الله في الرد على من أهل أخل بالنبوة وما جاء فيها من الأمر والنهي ص 199:" فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم، أولئك يشبهون بالمجوس، وهؤلاء يشبهون بالمشركين الذين قالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الانعام 148] والمشركون شر من المجوس، فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه، فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة: شهادة ألا إلا إلا الله، وأن محمدا رسول الله" اهـ.
(2)
في (أ): بانتفائها.
(3)
أي: القدح في النبوة التي لا يتحقق الإيمان بالقدر إلا بها ولا يعرف الإنسان الحق إلا بها.
(4)
في (م):" إن ثبت".
في دين النصرانية بقبح التعميد «1» ، وبناء المذبح «2» ، وتقريب القربان، فإنك أنت كنت تقول له: تكلم فيما هو فوق هذا. ثم انزل إليه.
الوجه الثالث: أما الآيات والأحاديث فصحيحه. ونحن نقول بها على وجه نقرره، وهو أن المسلمين أجمعوا على أن القرآن حق وصدق، وأن بعضه يوافق بعضا، فما أوهم منه التعارض تلطفوا للجميع بينه بما أمكن من الأسباب الجائزة.
ثم إنهم رأوا الآيات المتضمنة لأفعال العباد موهمة للتعارض. تارة تضاف الأفعال فيها إلى الله، نحو واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ (96) «3» وقوله: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
…
(62)«4» ،
…
ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)«5» ، وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى
(1) التعميد عند النصارى تغطيس المرء في الماء مرة أو مرتين أو ثلاثا على اختلاف بين طوائفهم، فهم يفعلونه للذي يريد الدخول في دينهم، أو يتوب من المعاصي ويتقدم إلى القسيسين فيمنعونه من اللحم والخمر أياما ثم يعلمونه اعتقادهم وإيمانهم فإذا تعلم ذلك اجتمع له القسيسون فتكلم بعقيدة إيمانهم أمامهم ثم يغطسونه في ماء يغمره.
[انظر الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 403].
(2)
ما يذبحون فيه قرابينهم من العجول، والجزور، والخرفان، وهذا في شريعة التوراة على ما يقال، غير أن النصارى استثقلوا هذه الحيوانات لارتفاع ثمنها وبخلهم ولأنه لا يوجد فيها ما يوجد في الخمر من اللذة والطرب، فاستبدلوا الحيوانات المذكورة بالخمر زاعمين أن المسيح قال لهم:" من أكل لحمي وشرب دمي كان فيّ وأنا فيه" ولأن القسيس المنصوب من الله على زعمهم" ملكي صادق" أول من قرب الخمر والخبز.
(انظر الإعلام ص 427 - 429).
(3)
سورة الصافات، آية:96.
(4)
سورة الزمر، آية:62.
(5)
سورة الرعد، آية:33.
عِلْمٍ (23)«1» ونحوها.
وتارة تضاف إلى العباد نحو فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا
…
(38)«2»
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)«3» - هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)«4» ؟
ونحوها. وهي من الطرفين كثيرة./ ففي هذا المقام انقسم المسلمون إلى ثلاث فرق، فرقة قالت بمقتضى القسم الأول، وألغت الثاني وهم الجبرية «5»: زعموا أن الله موجد أفعال خلقه استقلالا والعباد في وقوعها على جوارحهم مضطرون إليها كاضطرار السعفة إلى الحركة في الريح العاصف وسلبوهم الاختيار.
وفرقة قالت: بمقتضى القسم الثاني وهم القدرية «6» / زعموا أن العباد
(1) سورة الجاثية، آية:23.
(2)
سورة المائدة، آية:38.
(3)
سورة الواقعة، آية:24.
(4)
سورة المطففين، آية:36.
(5)
الجبرية: هم الذين يسندون فعل العبد إلى الله ويقولون إن العبد مجبور على فعله وهم صنفان:
الجبرية الخالصة: وهي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا. كجهم بن صفوان وأصحابه. والجبرية المتوسطة: وهم الذين يثبتون للعبد قدرة ولكنها غير مؤثرة وتنسب الفعل إليه على جهة الكسب والمباشرة كالأشعرية.
[انظر اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 68، مجموعة فتاوى ابن تيمية 8/ 118، 13/ 37].
(6)
هم الذين قالوا بأن لا قدر وأول من قال ذلك: معبد الجهني المتوفى سنة 80 هـ: فهو الذي قال:
" لا قدر والأمر أنف" أي مستأنف لم يسبقه قدر. ثم تبعهم في ذلك المعتزلة أتباع واصل بن عطاء وغيرهم من الجهيمة.
[انظر منهاج السنة 1/ 362، ومجموع فتاوى ابن تيمية 13/ 36 - 37].
موجدون لأفعالهم استقلالا وأن الله- تعالى- «1» لا تعلق له بها بخلق ولا إرادة.
وفرقة توسطت الطرفين المنحرفين، وقالت «2» بمقتضى القسمين. فنسبوا الأفعال إلى الله إرادة وخلقا، وإلى العباد اجتراحا وكسبا، وفسروا الكسب بأنه أثر القدرة القديمة في محل القدرة الحادثة، وساعدهم على ذلك ظواهر نصوص الكتاب والسنة من الطرفين «3» . وورد على كل واحدة من الفرقتين الأوليين ما قالت به الأخرى، فاحتاجت إلى تأويله، والتعسف في تبطيله، فلزم الجبرية
(1) - تعالى-: زيادة من (ش).
(2)
في (أ): أو قالت.
(3)
هذا قول الأشعرية. ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد الذين يقولون:
إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل. لكن الأشعرية يقولون: إن الله فاعل فعل العبد وإن عمل العبد ليس فعلا للعبد بل كسب له وإنما هو فعل الله فقط. وأما قول جمهور أهل السنة فغير هذا فهم يقولون: إن العبد فاعل حقيقة وإن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية، لها تأثير لفظا ومعنى كما قال تعالى: ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وآثارَهُمْ، [يس: 12] وهذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها فالله تعالى خالق الأسباب، والمسببات. يقول الله تعالى: واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96]. وخلقه لفعل العبد لا يدل على أن العبد لا يفعل باختياره، وأنه لا قدرة له، وإلا فما الحكمة من خلقه؟ إنه خلقه ليعمل وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات 56]" اعملوا فكل ميسر لما خلق له"[صحيح البخاري تفسير سورة والليل إذا يغشى].
ولكن عمل العبد وقدرته تحت مشيئة الله وقدرته: وما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30]. [من مراجع هذه الفقرة: منهاج السنة 1/ 358 وما بعدها، شفاء العليل ص 24 وما بعدها، خلق أفعال العباد للبخاري ص 39 وما بعدها].
التجوير «1» ، والقدرية تعجيز القدير، والإشراك معه في آثار المقادير. ولهذا سموا مجوس الأمة، تشبيها بالمجوس القائلين بخالقين.
إذا عرفت هذا فنقول: إنا إذا اشتققنا اسم فاعل من فعل أو صفة نحو شرير وظالم وضارب وقاتل، فتارة يراد به موجد ذلك الفعل وخالقه وعلة وجوده/ وتارة يراد به كاسبه وسببه. فقولك: لو كان الله مريدا للشر، والظلم لكان شريرا ظالما، إن عنيت بالشرير والظالم كاسب الشر، وسببه. فلا نسلم، إنما ذاك الآدمي «2» .
وإن عنيت خالقه وعلته فهو صحيح، لكن يكون في اطلاق لفظ «3» الشرير عليه إساءة أدب. إذ لم ترد الشرائع بإطلاق مثل هذا عليه «4» .
(1) من الجور: وهو نقيض العدل. والميل عن القصد. ومنه قوله تعالى في سورة النحل 9: ومِنْها جائِرٌ أي عادل عن الحق فلا يهتدي به.
وقيل: عادل عنه فلا يهتدي إليه. والمقصود أهل الأهواء المختلفة ومنهم اليهود والنصارى (انظر لسان العرب 4/ 153، تفسير القرطبي 10/ 81) والجبرية ينسبون الله بهذا إلى الجور ضد العدل، وسلكوا فيه غير القصد.
(2)
الله سبحانه خالق الإنسان وعمله كما تقدم والآدمي فاعل حقيقة فيضاف الفعل لله من حيث الخلق وللعبد من حيث أنه فاعل له حقيقة. وإضافته إلى الله إضافة خلق لا مباشرة واضافته إلى العبد إضافة مباشرة وتحصيل.
(3)
لفظ: ليست في (أ).
(4)
قال الله تعالى: وأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (الجن 10) فقد أضيف الخير إلى الله صراحة، وحذف فاعل الشر وبني الفعل للمجهول تأدبا مع الله تعالى. وإضافة مثل: الشر إلى الله تعالى ووصفه بذلك فهذا فيه نقص من وجه، ولا يليق ذلك بجلاله إلا في مقابلة مثلها، لأنها تدل على أن فاعلها ليس بعاجز عن-
والأشهر عندنا: أن أسماء الله توقيفية «1» لا قياسية وبهذا التفصيل يندفع ما ذكرته من المحال والتشنيع.
وأما قولك:" كل آمر بشيء فهو مريد له، فممنوع. فإن هذا محل وهم، ومزلة قدم. وذلك لأن الإرادة تستعمل تارة بمعنى الطلب وتارة بمعنى رجحان «2» / وجود الممكن في نفس المرجح «3» . فالأول ترجيح طلبي بمعنى الأمر، والثاني: ترجيح وجودي، وهو: موضوع الإرادة في الأصل. وأحد الأمرين يشتبه بالآخر، لأن الأول أثر الثاني، فإنه إنما يصدر الطلب غالبا بعد
- مقابلة عدوه بمثل فعله، كما قال تعالى: ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال 30] وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وأَكِيدُ كَيْداً [الطارق 15 - 16]. وقال سبحانه: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وهُوَ خادِعُهُمْ [النساء 142] إلى غير ذلك (انظر تفسير الكريم المنان للسعدي 7/ 491، وشرح لمعة الاعتقاد للعثيمين ص 10).
(1)
أي أن الله يسمى بما سمى به نفسه في كتبه المنزلة وبما سماه به أعلم الناس به وهم الأنبياء عليهم السلام.
(2)
في (أ): رجوح.
(3)
الإرادة في نصوص الشرع نوعان: قدرية كونية خلقية: أي شاملة لجميع المخلوقات قال الله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، آية: 82]، وقال سبحانه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [سورة الأنعام، آية: 125].
والثانية: إرادة أمرية طلبية شرعية. قال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة، آية: 185] وقال سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ويَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة النساء، آية: 26].
رجحان الوجود في النفس «1» . وحينئذ نقول: ما تعني بقولك:" كل آمر بشيء" فهو مريد له؟ " الإرادة الطلبية أو الوجودية؟ الأول: مسلم. لكن هذا يصير كقولك كل آمر بشيء فهو أمر به، لأن الإنسان قد يقول لصاحبه أو لعبده: أطلب منك، أو آمرك أن تفعل كذا. وأريد منك أن تفعل كذا بمعنى. والثاني: ممنوع، فلا يصح قولك: كل آمر بشيء فهو مريد له، أي: مرجح لوجوده.
وقد ضرب الأصوليون لهذا مثلا، وهو: من أمر عبده بما لا يريده منه تمهيدا لعذره عند من لامه «2» على ضربه. فإن هذا جائز عقلا. وفيه حكمة مقصودة «3» ، فجاز أن يكون/ لله سبحانه في الأمر بالشيء، وعدم إرادته «4» حكمة، وإن لم
(1) الفرق بين الإرادة الكونية القدرية الخلقية والأمرية الشرعية: أن الأولى متعلقة بخلق فعل العبد إن شاء الله خلقه وإن لم يشأ لم يخلقه وإذا أراد الله خلق فعل العبد فلا بد من وجود المراد ووقوعه. ولا يستلزم أن تتضمن المحبة والرضا فالله يريد الكفر والمعاصي كونا وقدرا ولا يرضاهما. أما الأمرية الشرعية فهي متعلقة بأمره سبحانه فهو يريد من العبد الفعل ولا يلزم إعانته عليه. ولا يستلزم وقوع مرادها إلا إذا تعلقت بالكونية، وهذه الأمرية متضمنة للمحبة والرضا والكونية والأمرية تجتمعان في حق المطيع المؤمن البر، وتنفرد الكونية في حق العاصي والكافر، فالأمرية خاصة بحزب الله وعباده الصالحين.
[انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 117، 137، 138].
(2)
في (ش): لانه.
(3)
قال الله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [سورة النساء: 165] وقال تعالى: وما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
…
[سورة النساء: 64].
(4)
أي عدم محبة وقوعه، وتقدير ضده.
ندركها «1» .
وقد ذكر" بقطينوس الحكيم"«2» - وهو من فضلاء النصارى وعلمائهم- من شأن الله- سبحانه- مع ملائكته ما إن صح، صلح أن يكون حكمة لهذا.
وقد أشرت إليه في التعليق على الإنجيل. ولا يسهل عليّ الآن ذكره «3» .
(1) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله:" فالذي يفعله- أي الله- لحكمة اقتضت ذلك، كما أن الذي يمتنع من فعله لحكمة تقتضي تنزيهه عنه، وعلى هذا فكل ما فعله علمنا أن له فيه حكمة، وهذا يكفينا من حيث الجملة، وإن لم نعرف التفاصيل، وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة علمنا بكيفية ذاته، وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا، وأما كنه ذاته فغير معلوم لنا فلا نكذب بما علمناه وما لم نعلمه. وكذلك نحن نعلم أنه حكيم فيما يفعله ويأمر به، وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته، فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها
…
" اهـ.
[مجموع الفتاوى 6/ 128].
(2)
لم أجد له ترجمة.
(3)
سئل بقطينوس الحكيم عن فائدة ظهور المسيح إلى البشر، فقال كلاما معناه:" إن الله لما خلق الملائكة جعلوا يتقربون إليه بالعبادة، ويزيد هو في إكرامهم، وكان فيهم مقدم جاهل، قال لهم:
إني أرى أن الله إنما يزيد في إكرامنا خشية أن نقهره على ملكه، فهو يصانعنا، فهلموا نغلبه على ملكه ونكون مكانه، فوافقته فرقة وخالفته فرقة، فالذين خالفوا بقوا على ملكيتهم، والذين وافقوه ركب الله سبحانه أرواحهم اللطيفة النيرة في هذه الأجسام الكثيفة المظلمة، ثم كلفهم أنواع التكاليف، فمن أطاع هاهنا رفع بعد الموت إلى حيث كان من الملائكة، ومن عصى أهبط إلى أسفل، وجعل الله سبحانه مقدم الملائكة الذين أشار عليهم بذلك الرأي إبليس في دار التكليف، ومغويهم كما كان مغويهم في عالم السماء، ثم إن الله أدركته الرحمة لملائكة فظهر للبشر ليستنقذهم من حبائك شيطانهم ومغويهم" هذا كلام بقطينوس الذي ذكر الطوفي في التعليق على الأناجيل. وفيه ما ترى من التخبيط. [انظر تعاليق على الأناجيل للمؤلف ص 30 - 31 مخطوط].
وحينئذ لا يلزم التناقض بين اقتضاء الطاعة وطلبها وبين كراهة فعلها «1» ، لأن اقتضاءها خطابي وكراهتها نفسية. وقد يوجد هذا من البخلاء كثيرا، حيث يقول أحدهم لصاحبه: إذن فكل معي، تجملا «2» وهو يكره ذلك منه لآمة وبخلا، وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين/ الأمر بالشيء والنهي عنه. لأن الأمر والنهي خطابان محلهما اللسان، نحو افعل./ لا تفعل. بخلاف الكراهة فان محلها النفس، فلا تناقض الأمر.
وأما ما ذكر من نصوص كتب الأنبياء فحق نقول به. وقد ورد به شرعنا.
فإن الإنسان له قدرة واختيار يكتسب بهما، لكنهما تابعان لقدرة الله واختياره، فهما ناقصان نقص التبعية، وكون الشيء ناقصا لا يقدح في وجود مسماه، إنما يقدح في تمامه وكماله «3» .
(1) الله سبحانه لا يكره فعل الطاعة. بل يحب من العبد أن يفعلها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)[الصف: 4][سورة الصف: 4] وقال تعالى: وأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)[البقرة: 195] وقال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [سورة آل عمران: 31]. والآيات في هذا كثيرة تبين أن الله يحب فعل الطاعة وإن كان لا يعين المأمور بها أحيانا لحكمة يعلمها سبحانه ويعود إليه الأمر فيها.
(2)
التجمل: تكلف الجميل والحياء والمودة. [انظر لسان العرب 11/ 126 - 127].
(3)
قلت: ذكر الفرق بين إرادة الخالق سبحانه وإرادة العبد يوضح هذا: فإرادة الله لا تعدم في وقت من الأوقات: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فإرادته وفعله متلازمان فما أراده كونا فعله وما فعله فقد أراده، أما العبد فإنه قد يريد شيئا ولا يفعله وقد يفعل شيئا ولا يريده وهذا يدل على أن إرادته تحت إرادة الله ومشيئته.
[انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 137 - 138، وشرح لمعة الاعتقاد للعثيمين ص 54 - 56].
وأما المثل الذي شنع به من ربط الشخص وإلقائه من جبل. ثم يقال له:
ارجع وإلا عاقبتك، فليس نظير ما نحن فيه، لأن هذا «1» إلجاء محض، وقسر صرف، وصاحبه جائر قاسط، وتعالى الله وحاشاه أن يفعل هذا، وإنما الله سبحانه لطيف لما يشاء، فتلطف إلى بلوغ مراده من شقوة من أراد شقوته من خلقه على وجه لا يلجئهم إلى مراده ولا يهملهم حتى يخرجوا من تحت قهره وقدرته، وسلط «2» على عبده نفسا أمارة، وهوى داعيا، وشيطانا مزينا للشهوات، وفي مقابلة هذه روحا وعقلا ودينا، فالقبيلان كجيشين يصطدمان على فعل الشر وتركه، ويترجح أحدهما بالتوفيق أو الخذلان.
ثم قطع حجته بأن قال: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) ولِساناً وشَفَتَيْنِ (9) وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)«3» يعني طريق الخير والشر، ليجتلب ويجتنب، فإذا أراد الله سبحانه شقوة عبد خذله فيرجح جيش شيطانه، وإذا أراد إسعاده وفقه فيرجح جيش عقله، والتوفيق والخذلان للإنسان في مدة عمره، كالخفير وقاطع الطريق في مسافة سفره، فكما أنك إذا استرشدك من لك به عناية عن «4» طريق أريته جهته، ثم سيرت معه غلامك، أو سرت «5» معه بنفسك، فخفرته فيها-/ من أن يضل عنها، أو يطأ فيها مهلكا، أو يقع في مغارة- حتى يقطعها إلى مقصده.
(1) في (ش): لانه إلجاء.
(2)
في (ش)، (م): فسلط.
(3)
سورة البلد، آية: 8 - 10.
(4)
في (ش): من.
(5)
في (أ): أو شرب.
وإن لم يكن لك به عناية، قلت له: هذا الطريق. ثم تركته بلا تخفير، فمر على عماه «1» ، فوقع على سبع فافترسه، أو لص فقتله، أو مهلك فتلف فيه، أو مغارة فمات عطشا، كذلك الله- سبحانه- إذا اعتنى بعبده جعل التوفيق له إلى الموت خفيرا، يمنعه من مفارقة الطاعات، ومقارفة المعاصي، وإذا غضب عليه لم يصحبه التوفيق وذلك هو خذلانه له، فقارف «2» المعاصي، وفارق الطاعات فكان شقيا.
فحقيقة القدر إذا حقّقت وجدت عدمية، وهي كون الله سبحانه/ لا يتفضل على عبده «3» بالتوفيق العاصم من الهلاك، وليس عليه سبحانه ذلك بناء على أصلنا/ في أنه لا يجب عليه رعاية الأصلح لخلقه، بل يتفضل به تفضلا «4» ، فالله سبحانه لا يلجئ أحدا إلى شر، لكن يخلي بينه وبين الشر.
وفرق بين أنك تترك تخفير رجل في الطريق فيقتل وبين أن تقطع عليه الطريق فتقتله، وبين أنك تراه يريد أن يلقي نفسه من جبل فلا تمنعه، وبين أن تدفعه منه فيقع. فإن الأول ترك نفع، وهو عدم محض، والثاني: فعل ضرر محض، ولهذا أجمع الفقهاء على: أن من أخذ شخصا فغطه في الماء حتى اختنق
(1) من العمه وهو التحير والتردد في الطريق، فهو لا يدري أن يتوجه.
[انظر لسان العرب 13/ 519].
(2)
في (ش)، (أ):" فقارن" وقارف المعاصي: أي لزم فعلها وخالطها. [انظر منال المطالب ص 300، ولسان العرب 9/ 279 - 280، ومختار الصحاح ص 531].
(3)
في (ش): ضده.
(4)
انظر هامش ص: 254 من هذا الكتاب.
يقاد به «1» ، وعلى أن من رأى إنسانا في الماء قد كاد يغرق، وقدر على تخليصه فلم يخلصه حتى غرق، لا يقتل. لكن في ضمانه له بالدية خلاف. الأصح أيضا النفي، وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق.
وأصل هذه المسألة إذا حققت رعاية للأصلح «2» .
وقد أشير في نبوة ارمياء إلى حقيقة القدر، حيث يقول الرب سبحانه لعصاة بني إسرائيل:" كما لا يقدر/ الهندي أن يغير سواد جلده، والنمر تبقيعه، كذلك أنتم لا تقدرون على الإحسان والخير، لأنكم قد تعودتم الشر"«3» .
وتقرير هذا: أن الباري- سبحانه- ركز في طباع العالم وجبلاتهم الميل إلى أفعالهم من خير وشر، كما ركز الإحراق في طبيعة النار، والإغراق في طبيعة الماء، وكما وضع السواد في الجسم «4» ، والتبقيع في النمر والفهد والغراب الأبقع، والسم في الحية والظلم والاستيلاء في طبع السبع، لكنه أجرى فعل تلك الطبائع على كسب أهلها. فعلى الكسب يترتب الجزاء، وعلى ركز الفعل في الطبع، وتحريك الداعي له- وهو خلقه، المنسوب إلى الله سبحانه- يترتب التسليم، والله بكل شيء عليم.
(1) هذا من أنواع القتل العمد. [انظر المغني لابن قدامة 7/ 640 - 641، والمقنع 3/ 333، 334].
(2)
في (أ): الأصل. وفي (ش): الأصلح. وانظر هامش ص: 254 من هذا الكتاب.
(3)
انظر نبوة ارمياء: الأصحاح الثالث عشر وهذا قول الله على زعمهم.
(4)
هكذا في النسخ الثلاث، والأصح: في الجلد.
وقد استقصيت القول في مسألة" القدر" في كتاب مفرد، سميته:" درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح"«1» على وجه بليغ لمن عقل الأسرار الإلهية.
والله أعلم.
وأما ما حكى عن الزمخشري فهو صحيح. لكنه أسرف في تغليط العبارة «2» فإنا ننزه الله تعالى عن أن يعاقب على فعل ألجأ إليه كما بينا.
ثم نقول: إن الزمخشري رجل معتزلي غال في الاعتزال،/ حرف القرآن عن مواضعه، ليوافق مذهبه، واضطره ذلك فيما حكمى عنه السخاوي «3» - حتى حمل قوله تعالى: ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا
…
(28)«4» على معنى:
أصبناه غافلا، كما يقال: أجبنت الرجل وأبخلته إذا وجدته كذلك «5» . وتشبث
(1) انظر عن الكتاب ص 77 من قسم الدراسة.
(2)
أسرف النصراني في تغليط عبارة الزمخشري لأن العبارة ليست بهذا اللفظ الشنيع. [انظر ص:
454 من هذا الكتاب هامش: 2].
(3)
هو علم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني المصري الشافعي. عالم بالقراءات والتفسير والنحو، وله مصنفات كثيرة منها: المفضل شرح المفصل للزمخشري- خ في أربعة أجزاء، وله شعر كثير. قيل: إنه من أذكياء بني آدم. توفي في ثاني عشر من شهر جمادى الآخرة، سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
[انظر طبقات الشافعية 5/ 126 - 127، والأعلام 4/ 332].
(4)
سورة الكهف، آية:28.
(5)
عبارة الزمخشري في تفسيره (2/ 258):" من أغفلنا: من جعلنا قلبه غافلا عن الذكر بالخذلان، أو وجدناه غافلا عنه، كقولك: أجبنته وأفحمته وأبخلته إذا وجدته كذلك
…
وقرئ" أغفلنا قلبه" بإسناد الفعل إلى القلب على معنى حسبنا قلبه غافلين. من أغفلته إذا وجدته غافلا"، قلت: وهذا ضلال كبير، لأن الآية تدل على أن ما يعرض للعبد من غفلة ومعصية، إنما هو-
فيه بما لا حاصل له على ما بينته غير هاهنا" وأضله الله على علم" حتى نسي قوله: اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ «1» الآية ونظائرها".
بقي هاهنا سؤال إذا ضويق القدرية فزعوا إليه، وهو: أن الله سبحانه وتعالى «2» / إذا خلق الفعل، فإما أن يمكن العبد تركه، أولا، والأول: تعجيز للرب حيث لم يتم مراده، والثاني: إلجاء للعبد، إذ لا يعني بالالجاء إلا اضطراره إلى الفعل على وجه لا يمكنه التخلص منه.
فنقول: إن الله سبحانه إنما يخلق أسباب الفعل ودواعيه الأولية. ثم حقيقة الفعل توجد بكسب العبد مرتبة على تلك الأسباب. والالجاء لا نعرفه إلا بالمباشرة كما مثلتم في من/ ربط شخصا، وألقاه من جبل ثم توعده على السقوط. أما حتم وقوع الفعل بفعل الأسباب والوسائط فلا نراه إلجاء. فإن سميتموه إلجاء فهو نزاع في عبارة، ثم يلزمكم أن لا يستحق على الطاعة ثوابا لأن فاعلها ملجأ إليها، والثواب إنما هو لمن أطاع اختيارا. وذلك لأن الطاعات مترتبة بكسب الآدمي على أسبابها المخلوقة لله، كما أن المعاصي كذلك.
والقدرية يجعلون ثواب الطاعة مستحقا عليها ومعلولا لها.
- بمشيئة الله إذ لا يقع شيء البتة كائنا ما كان إلا بمشيئته الكونية القدرية. وما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [سورة الإنسان: 30]، أما الزمخشري فيزعم أن العبد بقدرته وإرادته بأفعاله، مستقل بها دون مشيئة الله. وهذا لا يخفى على العاقل بطلانه. وقوله:
" حسبنا قلبه غافلين" هذا على زعمه أن الله لا يعلم أفعال العباد قبل وجودها.
(1)
سورة الأحقاف، آية:23.
(2)
وتعالى: ليست في (م) و (ش).