الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) قاعدة
إذا روى الحفاظ الأثبات حديثاً بإسناد واحد، وانفرد واحد منهم بإسناد آخر، فإن كان المنفرد ثقة حافظاً، فحكمه قريب من حكم زيادة الثقة، في الأسانيد أو في المتون، وقد تقدم الكلام على ذلك.
وقد تردد الحفاظ كثيراً في مثل هذا. هل يرد قول من تفرد بذلك الإسناد، لمخالفة الأكثرين له، أم يقبل قوله، لثقته وحفظه.
ويقوي قبول قوله إن كان المروي عنه واسع الحديث، يمكن أن يحمل الحديث من طرق عديدة كالزهري، والثوري، وشعبة، والأعمش.
ومثال ذلك: ما روى أصحاب الأعمش مثل وكيع، وعيسى بن يونس، وعلي بن مسهر، وعبد الواحد بن زياد، وغيرهم عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث المدينة، فمر على نفر من اليهود، فسألوه عن الروح الحديث.
وخالفهم ابن إدريس، فرواه عن الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق عن عبد الله، ولم يتابع عليه فصححت طائفة الروايتين عن الأعمش.
وخرجه مسلم من الوجهين. وقال الدارقطني، لعلهما محفوظان وابن إدريس من الأثبات، ولم يتابع على هذا القول.
قلت: ومما يشهد لصحة ذلك أن ابن إدريس روى الحديث بالإسناد الأول أيضاً.
وهذا مما يستدل به الأئمة كثيراً على صحة رواية من انفرد بالإسناد إذا روى الحديث بالإسناد الذي روى به الجماعة، فخرجه ابن أبي خيثمة في كتابه، (ثنا) عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن الكرماني كتبت عنه (بكفربيا) ، ثنا عبد الله بن إدريس، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: إني لأمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
مثال آخر: روى أصحاب الزهري، (عن الزهري، عن) عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم "حديث الفأرة في السمن" ورواه معمر عن الزهري عن ابن المسيب، عن أبي هريرة.
فمن الحفاظ من صحح كلا القولين، ومنهم الإمام أحمد، ومحمد بن يحيى الذهلي، وغيرهما.
ومنهم من حكم بغلط معمر، لانفراده بهذا الإسناد، منهم البخاري، والترمذي، وأبو حاتم، وغيرهم.
وذكر الذهلي أن سعيد بن أبي هلال تابع معمراً على روايته عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، إلا أنه أرسله ولم يذكر أبا هريرة.
ويدل على صحة رواية معمر أنه رواه بالإسنادين كليهما.
وأما لفظ الحديث بالتفريق بين الجامد والمائع فقد ذكره معمر عن الزهري بالإسنادين معاً.
وتابعه الأوزاعي عن الزهري، فرواه عن عبيد الله عن ابن عباس.
وكذلك رواه إسحاق بن راهويه، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري لكنه حمل حديث ابن عيينة على حديث معمر.
وقد سبق ذلك كله مستوفى في كتاب الأطعمة.
فأما إن كان المنفرد عن الحفاظ سيىء الحفظ، فإنه لا يعبأ بانفرداه، ويحكم عليه بالوهم.
مثال ذلك ـ أن أصحاب الزهري رووا عن الزهري، عن حميد بن
عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجامع في رمضان.
ورواه هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. فحكم الأئمة بأنه وهم في ذلك.
فإن كان المنفرد عن الحفاظ، مع سوء حفظه قد سلك الطريق المشهور، والحفاظ يخالفونه، فإنه لا يكاد يرتاب في وهمه وخطئه، لأن الطريق المشهور تسبق إليه الألسنة والأوهام كثيراً. فيسلكه من لا يحفظ.
ومثال ذلك: روى حماد بن سلمة، عن ثابت، عن حبيب بن أبي سبيعة الضبعي، عن الحارث أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحب فلاناً. قال: أعلمته؟ قال: لا، الحديث. هكذا رواه حماد بن سلمة، وهو أحفظ أصحاب ثابت، وأثبتهم في حديثه، كما سبق. وخالفه من لم يكن في حفظه بذاك من الشيوخ الرواة عن ثابت كمبارك بن فضالة، وحسين بن واقد،
ونحوهما، فرووه عن ثابت، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحكم الحفاظ هنا بصحة قول حماد، وخطأ من خالفه، منهم أبو حاتم، والنسائي، والدارقطني.
قال أبو حاتم: مبارك لزم الطريق، يعني أن رواية ثابت عن أنس سلسلة معروفة، مشهورة، تسبق إليها الألسنة والأوهام، فيسلكها من قل حفظه، بخلاف ما قاله حماد بن سلمة، فإن في إسناده ما يستغرب فلا يحفظه إلا حافظ.
وأبو حاتم كثيراً ما يعلل الأحاديث بمثل هذا وكذلك غيره من الأئمة.
وقد سبق إلى نحو ذلك ابن عيينة وابن مهدي، فإن مالكاً روى عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذه من هذه.
وخالفه ابن عيينة، فرواه عن صفوان بن سليم عن أنيسة عن أم سعيد بنت مرة الفهرية، عن أبيها، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورجح الحفاظ كأبي زرعة، وأبي حاتم قول ابن عيينة في هذا الإسناد على قول مالك.
قال الحميدي: قيل لسفيان: إن عبد الرحمن بن مهدي يقول: إن سفيان أصوب في هذا الحديث من مالك. قال سفيان: وما يدريه، أدرك سفيان صفوان؟ قالوا: لا، لكنه قال: إن مالكاً قال: عن صفوان، عن عطاء بن يسار. وقال سفيان: عن أنيسة عن أم سعيد بنت مرة، عن أبيها، فمن أين جاء بهذا الإسناد؟.
فقال سفيان: ما أحسن ما قال. لو قال لنا صفوان، عن عطاء بن يسار كان أهون علينا من أن يجيء بهذا الإسناد الشديد.
ومن ذلك أن حصين بن عبد الرحمن روى عن عمرو بن مرة، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث رفع اليدين في الصلاة، ورواه شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري، عن عبد الرحمن اليحصبي، عن وائل بن حجر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وسئل عن ذلك أحمد، فقال: شعبة أثبت في عمرو بن مرة من حصين. القول قول شعبة. من أين يقع شعبة عن أبي البختري، عن عبد الرحمن اليحصبي عن وائل؟ يشير إلى أن هذا إسناد غريب لا يحفظه إلا حافظ، بخلاف علقمة بن وائل، عن أبيه، فإنه طريق مشهور.
وأعلم أن هذا كله إذا علم أن الحديث الذي اختلف في إسناده حديث واحد، فإن ظهر أنه حديثان بإسنادين، لم يحكم بخطأ أحدهما.
وعلامة ذلك أن يكون في أحدهما زيادة على الآخر، أو نقص منه، أو تغير ـ يستدل به على أنه حديث آخر، فهذا يقول علي بن المديني وغيره من أئمة الصنعة: هما حديثان بإسنادين.
وقد ذكرنا كلام ابن المديني في ذلك، في باب صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الصلاة.
وكثير من الحفاظ كالدارقطني وغيره لا يراعون ذلك، ويحكمون بخطأ أحد الإسنادين وإن اختلف لفظ الحديثين إذا رجع إلى معنى متقارب. وابن المديني ونحوه إنما يقولون: هما حديثان بإسنادين إذا احتمل ذلك، وكان متن ذلك الحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة: كحديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فأما ما لا يعرف إلا بإسناد واحد، فهذا يبعد فيه ذلك.
وكذلك حديث الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر في هدي النبي صلى الله عليه وسلم الغنم المقلدة.