الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ـ صلى الله عليه وسلم أو إلى من انتهى به إليه دونه، لأن كل واحد مثبت لمن حدثه، ومثبت على من حدث عنه.
قال: ومن كثر غلطه من المحدثين، ولم يكن له أصل كتاب صحيح، لم يقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادات، لم تقبل شهادته.
قال: وأقبل الحديث حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلساً، ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته. وليست تلك العورة بكذب فيرد بها حديثه، ولا (على) النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلناه من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول: حدثني أو سمعت.
"
مضمون كلام الشافعي
"
فقد تضمن كلامه رحمه الله أن الحديث لا يحتج به حتى يجمع رواته من أولهم إلى آخرهم شروطاً.
أحدها: الثقة في الدين، وهي العدالة، وشروط العدالة مشهورة معروفة في كتب الفقه.
والثاني: المعرفة بالصدق في الحديث ويعني بذلك، أن يكون الراوي معروفاً بالصدق في رواياته، فلا يحتج بخبر من ليس بمعروف بالصدق، كالمجهول الحال، ولا من يعرف بغير الصدق.
وكذلك ظاهر كلام الإمام أحمد أن خبر مجهول الحال لا يصح، ولا يحتج به.
ومن أصحابنا من خرج قبول حديثه على الخلاف في قبول المرسل.
وقال الشافعي أيضاً: كان ابن سيرين والنخعي وغير واحد من التابعين
يذهب هذا المذهب في أن لا يقبل إلا ممن عرف. قال: وما لقيت ولا علمت أحداً من أهل (العلم) بالحديث يخالف هذا المذهب.
الثالث: العقل لما يحدث به، وقد روي مثل هذا الكلام عن جماعة من السلف. ذكر ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم شيء من الحديث، يقال: ليس من أهله، خرجه مسلم في مقدمة كتابه.
وروى إبراهيم بن المنذر، حدثني معن بن عيسى، قال: كان مالك يقول: لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ من سفيه معلن بالسفه، وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضل وعباده إذا كان لا يعرف ما يحدث به.
قال إبراهيم بن المنذر فذكرت هذا الحديث لمطرف بن عبد الله (اليساري) مولى زيد بن أسلم، فقال: ما أدري ما هذا، ولكن أشهد أني سمعت مالك بن أنس يقول: لقد أدركت بهذا البلد، يعني المدينة مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة، يحدثون، ما سمعت من واحد منهم حديثاً قط، قيل: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: لم يكونوا يعرفون ما يحدثون.
وروى ضمرة: عنه سعيد بن عبد العزيز عن مغيرة، عن إبراهيم قال: لقد رأيتنا وما نأخذ الأحاديث إلا ممن يعرف حلالها من حرامها، وحرامها من حلالها، وإنك لتجد الشيخ يحدث بالحديث فيحرف حلاله عن حرامه، وحرامه عن حلاله، وهو لا يشعر.
وقال محمد بن عبد الله بن عمار الحافظ الموصلي وقد سئل عن علي بن غراب، فقال: كان صاحب حديث بصيراً به، فقيل له: أليس هو ضعيفاً؟ قال: إنه كان يشيع، ولست بتارك الرواية عن رجل صاحب حديث يبصر الحديث بعد أن لا يكون كذوباً للتشيع أو للقدر، ولست براوٍ عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله ولو كان أفضل من فتح، يعني الموصلي.
وحكى الترمذي في علله عن البخاري قال:
كل من لا يعرف صحيح الحديث من سقيمه لا أحدث عنه، وسمى منهم زمعة بن صالح وأيوب بن عتبة.
وحكى الحاكم هذا المذهب عن مالك وأبي حنيفة.
وحكى عن أكثر أهل الحديث الاحتجاج بحديث من لا يعرف ما يحدث به ولا يحفظه.
والظاهر ـ والله أعلم ـ حمل كلام الشافعي على من لا يحفظ لفظ الحديث، وإنما يحدث بالمعنى كما صرح بذلك فيما بعد، وكذلك نقل الربيع عنه في موضع آخر، أنه قال:
تكون اللفظة تترك من الحديث فتحيل المعنى، أو ينطق بها بغير لفظ المحدث، والناطق بها غير عامد (لاحالة) الحديث (فيختل معناه، فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى وكان غير عاقل للحديث) فلم يقبل حديثه إذا كان يحمل ما لا يعقل، إذا كان ممن لا يؤدي الحديث بحروفه، وكان يلتمس روايته على معانيه، وهو لا يعقل المعنى، إلى أن قال: فالظنة فيمن لا يؤدي الحديث بحروفه ولا يعقل معانيه أبين منها في الشاهد لمن ترد شهادته (له) فيما هو ظنين فيه.
فهذا يبين أن الشافعي إنما اعتبر في الراوي أن يكون عارفاً بمعاني الحديث إذا كان يحدث بالمعنى ولا يحفظ الحروف، والله أعلم.
فقوله هنا، عاقلاً لما يحدث به، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ هو شرط واحد ليس فيه تكرير، بل مراده يعقل ما يحدث به فهم المعنى، ومراده بالعلم بما يحيل المعنى من الألفاظ معرفة الألفاظ التي تؤدي بها المعاني.
وقد فسر أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة قول الشافعي: عاقلاً لما يحدث به بأن مراده أن يكون الراوي ذا عقل فقط، قال: وهذا شرط بإجماع.
وهذا الذي قاله فيه نظر وضعيف، وهذا (كله) في حق من لا يحفظ
الحديث بألفاظه بدليل أنه قال بعد ذلك: أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه، ولا يحدث به على المعنى، فجعل هذا قسيماً للذي قبله، فقسم الرواة إلى قسمين:
من يحدث بالمعنى، فيشترط فيه أن يكون عاقلاً لما يحدث به من المعاني، عالماً بما يحيل المعنى من الألفاظ.
ومن يحدث باللفظ، فيشترط فيه الحفظ للفظ الحديث، واتقانه، وما علل به من اشتراط معرفة المعنى واللفظ المؤدي له فهو حق واضح، وقد سبق معنى ذلك عن إبراهيم النخعي.
وقد قال أحمد في رواية الأثرم: سعيد بن زكريا المدائني كنا كتبنا عنه، ثم تركناه، قيل له: لم؟ قال: لم أكن أرى به في نفسه بأساً ولكن لم يكن بصاحب حديث.
وهذا محمول على أنه كان يحدث من حفظه أيضاً فيخشى عليه الغلط.
الرابع: حفظ الراوي، فإن كان يحدث من حفظه اعتبر حفظه لما يحدث به، لكن إن كان يحدث باللفظ اعتبر حفظه لألفاظ الحديث، وإن كان يحدث بالمعنى اعتبر معرفته بالمعنى واللفظ الدال عليه كما تقدم، وإن كان يحدث من كتابه اعتبر حفظه لكتابه، وقد سبق كلام الأئمة واختلافهم في جواز التحديث من الكتاب، وفي صفة حفظ الكتاب بما فيه كفاية.
الخامس: أن يكون في حديثه الذي لا ينفرد به يوافق الثقات في حديثهم، فلا يحدث بما لا يوافق الثقات وهذا الذي ذكره معنى قول كثير من الأئمة الحفاظ
في الجرح في كثير من الرواة يحدث بما يخالف الثقات، أو يحدث بما لا يتابعه الثقات (عليه) لكن الشافعي اعتبر أن لا يخالفه الثقات، ولهذا قال بعد هذا الكلام:(بريئاً) أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يحدث الثقات خلافه. وقد فسر الشافعي الشاذ من الحديث بهذا.
قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره، إنما الشاذ من الحديث أن يروي الثقات حديثاً فيشذ عنهم واحد فيخالفهم.
وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد وإن (لم) يرو الثقات خلافه أنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه.
قال صالح بن محمد الحافظ: الشاذ، الحديث المنكر الذي لا يعرف، وسيأتي لذلك مزيد إيضاح عند ذكر الحديث الغريب إن شاء الله تعالى.
السادس: أن لا يكون مدلساً، فمن كان مدلساً يحدث عمن رآه بما لم يسمعه منه فإنه لا يقبل منه حديثه حتى يصرح بالسماع ممن روى عنه، وهذا الذي ذكره الشافعي قد حكاه يعقوب بن شيبة عن يحيى بن معين.
وقال الشاذكوني: من أراد التدين بالحديث فلا يأخذ عن الأعمش، ولا عن قتادة إلا ما قالا: سمعناه.
وقال البرديجي: لا يحتج من حديث حميد إلا ما قال: (ثنا) أنس.
ولم يعتبر الشافعي أن يتكرر التدليس من الراوي، ولا أن يغلب على
حديثه، بل اعتبر ثبوت تدليسه، ولو بمرة واحدة. واعتبر غيره من أهل الحديث أن يغلب التدليس على حديث الرجل، وقالوا: إذا غلب عليه التدليس لم يقبل حديثه حتى يقول: (ثنا) وهذا قول ابن المديني، حكاه يعقوب بن شيبة عنه.
وذكر مسلم في مقدمة كتابه أنه إنما يعتبر التصريح بالسماع ممن شهر بالتدليس، وعرف به، وهذا يحتمل أن يريد به كثرة التدليس في حديثه، ويحتمل أن يريد ثبوت ذلك عنه، وصحته، فيكون كقول الشافعي.
وفرقت طائفة بين أن يدلس عن الثقات أو عن الضعفاء، فإن كان يدلس عن الثقات قبل حديثه، وإن عنعنه، وإن كان يدلس عن غير الثقات لم يقبل حديثه حتى يصرح بالسماع، وهذا الذي ذكره حسين الكرابيسي، وأبو الفتح الأزدي الموصلي الحافظ، وكذلك ذكره طائفة من فقهاء أصحابنا، وهذا بناء على قولهم بقبول المراسيل، واعتبروا كثرة التدليس في حق من يدلس عن غير الثقات، وكذا ذكر الحاكم أن المدلس إذا لم يذكر سماعه في الرواية فحكم حديثه حكم المرسل.
وكذلك أشار إليه أبو بكر الصيرفي في شرح رسالة الشافعي.
وأما الإمام أحمد فتوقف في المسألة، قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس في الحديث، يحتج فيما لم يقبل فيه: حدثني، أو سمعت؟ قال: لا أدري.
وأما من يدلس عمن لم يره، فحكم حديثه حكم المرسل، وقد سبق ذكره ومتى صرح بالسماع، أو قال:(ثنا) أو (أنا) فهو حجة.
وزعم أبو الطيب الطبري من الشافعية أنه لا يحتج بقول المدلس: (أنا) ؛ لأنه قد يكون إجازة وهذا ضعيف، فإن مثله يتطرق إلى قوله:(ثنا) أيضاً، فإن ذلك جائز عند كثير من العلماء في الإجازة كما سبق، ثم إن الإجازة والمناولة تصح الرواية بهما على ما تقدم، فيحتج بحديث من حدث بهما حينئذ، وأيضاً فقد تستعمل "حدثنا" في الإرسال كما كان الحسن يقول:(ثنا) ابن عباس، ويتأوله أنه حدث أهل البصرة، ولكن هذا استعمال نادر، والحكم للغالب.
وأما قول الشافعي: إن التدليس ليس بكذب يرد به حديث صاحبه كله، فهذا أيضاً قول أحمد وغيره من الأئمة، لأن قول المدلس "عن فلان" ليس بكذب منه وإنما فيه كتمان من سمع منه عن فلان.
وحكى الخطيب هذا القول عن كثير من العلماء، وعن بعضهم أنه كذب يرد به حديث صاحبه، وممن قال إنه كذب: حماد بن زيد وأبو أسامة. وقال شعبة: هو أخو الكذب، وقال مرة: هو أشد من الزنا. وروى رزق الله بن موسى عن وكيع، قال: لا يحل تدليس (الثوب) ، فكيف يحل تدليس الحديث، وهذا في التدليس عن غير الثقات (أشد) .
وقال أحمد في التدليس: أكرهه. قيل له: قال شعبة: هو كذب. قال أحمد: لا قد دلس قوم، ونحن نروي عنهم، وقال يحيى بن معين: كان
الأعمش يرسل، فقيل له: إن بعض الناس قال: من أرسل لا يحتج بحديثه. فقال: الثوري إذا لا يحتج بحديثه. وقد كان يدلس: إنما سفيان أمير المؤمنين في الحديث، انتهى.
والتدليس مكروه عند الأكثرين لما فيه من الإيهام، وهو عن الكذابين أشد.
وقد صرح طائفة من العلماء، منهم مسلم في مقدمة كتابه بأن من روى عن غير ثقة، وهو يعرف حاله، ولم يبين ذلك لمن لا يعرفه أنه يكون آثماً بذلك، يريدون أنه فعل محرم، فإسقاط من ليس بثقة من الحديث أقبح من الرواية عنه من غير تبيين حاله.
ورخص في التدليس طائفة، قال يعقوب بن شيبة، من رخص فيه فإنما رخص فيه عن ثقة سمع (منه) ، وأما من دلس عمن لم يسمع منه، فلم يرخص فيه، وكذا إذا دلس عن غير ثقة، كذا قال يعقوب.
وقد كان الثوري وغيره يدلسون عمن لم يسمعوا منه أيضاً، فلا يصح ما قال يعقوب.
وقول الشافعي رحمه الله: وأقبل الحديث حدثني فلان عن فلان، إذا لم يكن مدلساً مراده أن تقبل العنعنة عمن عرف منه أنه ليس بمدلس، فإن الربيع نقل عنه أيضاً، قال في كلام له:
لم يعرف التدليس ببلدنا، فيمن مضى، ولا ممن أدركنا من أصحابنا، إلا حديثاً، فإن منهم من قبله عمن لو تركه عليه كان خيراً له. وكان قول الرجل: سمعت فلاناً (يقول: سمعت فلاناً) وقوله: "حدثني فلان عن
فلان" سواء عندهم، لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه، (فمن عرفناه) بهذا الطريق قبلنا منه: حدثني فلان عن فلان، إذا لم يكن مدلساً. وظاهر هذا أنه لا يقبل العنعنة إلا عمن عرف منه أنه لا يدلس، ولا يحدث إلا عمن لقيه بما سمع منه، وهذا قريب من قول من قال: إنه لا يقبل العنعنة إلا عمن ثبت أنه لقيه وفيه زيادة أخرى عليه، وهي أنه اشترط أنه يعرف أنه لا يدلس عمن لقيه أيضاً، ولا يحدث إلا بما سمع، وقد فسره أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة باشتراط ثبوت السماع لقبول العنعنة، وأنه إذا علم السماع فهو على السماع حتى يعلم التدليس، وإذا لم يعلم سمع أو لم يسمع وقف فإذا صح السماع فهو عليه حتى يعلم غيره، قال: وهذا الذي قاله صحيح. انتهى.
وهذه المسألة فيها اختلاف معروف بين العلماء.
وقد أطال القول فيها مسلم في مقدمة كتابه، واختار أنه تقبل العنعنة من الثقة غير المدلس عمن عاصره، وأمكن لقيه له، ولا تعتبر المعرفة باجتماعهما والتقائهما.
وذكر عن بعضهم أنه اعتبر المعرفة بلقائهما واجتماعهما وأنه لا تقبل العنعنة من الثقة عمن لم يعرف أنه (لقيه و) اجتمع به ورد هذا القول على
قائله رداً بليغاً، ونسبه إلى مخالفة الإجماع في ذلك. واستدل مسلم على صحة قوله، باتفاق العلماء على قبول الخبر إذا رواه الثقة عن آخر ممن تيقن أنه سمع منه من غير اعتبار أن يقول:(ثنا) أو سمعت، ولو كان الإسناد لا يتصل إلا بالتصريح بالسماع لم يكن فرق بين الرواية عمن ثبت لقيه ومن لم يثبت، فإنا نجد كثيراً ممن روى عن رجل، ثم روى حديثاً عن آخر عنه.
وقد طرد بعض المتأخرين من الظاهرية ونحوهم هذا الأصل، وقال: كل خبر لا يصرح فيه بالسماع فإنه لا يحكم باتصاله مطلقاً، وربما تعلق بعضهم بقول شعبة: كل إسناد ليس فيه (ثنا) أو (أنا) فهو خل وبقل. وروى عن شعبة قال: فلان عن فلان ليس بحديث.
قال وكيع: وقال سفيان هو حديث.
قال ابن عبد البر: رجع شعبة إلى قول سفيان في هذا.
وهذا القول شاذ مطرح.
وقد حكى مسلم وغيره الإجماع على خلافه.
وقال الخطيب: أهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدثين (ثنا) فلان عن فلان صحيح معمول به، إذا كان شيخه الذي ذكره يعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنه ولقيه وسمع منه، ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس. انتهى.
ومما استدل به مسلم على المخالف له: أن من تكلم في صحة الحديث من السلف لم يفتش أحد منهم على موضع السماع، وسمى منهم شعبة والقطان (وابن مهدي، قال) ومن بعدهم من أهل الحديث.
وذكر أن عبد الله بن يزيد روى عن حذيفة وأبي مسعود حديثين ولم يرد
أنه سمع منهما، ولا رآهما قط، ولم يطعن فيهما أحد. وذكر أيضاً رواية أبي عثمان النهدي، وأبي رافع الصائغ عن أبي بن كعب ورواية أبي عمرو الشيباني وأبي معمر عن أبي مسعود، ورواية عبيد بن عمير عن أم سلمة، ورواية ابن أبي ليلى عن أنس، وربعي بن حراش عن عمران بن حصين. ونافع بن جبير عن أبي شريح، والنعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد وعطاء بن يزيد عن تميم الداري، وسليمان بن يسار عن رافع بن خديج، وحميد الحميري عن أبي هريرة وكل هؤلاء لم يحفظ لهم عن هؤلاء الصحابة سماع ولا لقاء، يعني وقد قبل الناس حديثهم (عنهم) .
وقال الحاكم: قرأت بخط محمد بن يحيى: سألت أبا الوليد: أكان شعبة يفرق بين أخبرني وعن؟. فقال: أدركت العلماء وهم لا يفرقون بينهما وحمله البيهقي (على من) لا يعرف بالتدليس، (ويمكن حمله على من ثبت لقيه أيضاً) ، وكثير من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم رحمه الله من أن إمكان اللقى كاف في الاتصال من الثقة غير المدلس، وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره.
(وقد ذكر الترمذي في كتاب العلم أن سماع سعيد بن المسيب من أنس
ممكن لكن لم يحكم لروايته عنه بالاتصال) . وقد حكى بعض أصحابنا عن أحمد مثله، وقال الأثرم: سألت أحمد قلت: محمد بن سوقة سمع من سعيد بن جبير؟ قال: نعم، قد سمع من الأسود غير شيء. كأنه يقول: إن الأسود أقدم، لكن قد يكون مستند أحمد أنه وجد التصريح (لسماعه منه، وما ذكره من قدم الأسود إنما ذكره ليستدل به على صحة قول من ذكر سماعه من سعيد بن جبير فإنه كثيراً ما يرد التصريح بالسماع ويكون خطأ) وقد روى ابن مهدي عن شعبة: سمعت أبا بكر بن محمد بن حزم؛ فأنكره أحمد، وقال: لم يسمع شعبة من أحد من أهل المدينة من القدماء ما يستدل به على أنه سمع من أبي بكر إلا سعيداً المقبري، فإنه روى عنه حديثاً فقيل له: فإن المقبري قديم: فسكت أحمد.
وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله ابن المديني والبخاري وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله.
وحكى عن أبي المظفر السمعاني أنه اعتبر لاتصال الإسناد اللقى
وطول الصحبة، وعن أبي عمرو الداني أن يكون معروفاً بالرواية عنه.
وهذا أشد من شرط البخاري وشيخه، الذي أنكره مسلم.
وما قاله ابن المديني والبخاري هو مقتضى كلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم من أعيان الحفاظ، بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع كما تقدم عن الشافعي ـ رضي الله عن هـ ـ فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة، وقالوا مع ذلك: لم يثبت لهم السماع منهم فرواياتهم عنهم مرسلة، منهم الأعمش ويحيى بن أبي كثير، وأيوب، وابن عون، وقرة بن خالد، رأوا أنساً ولم يسمعوا منه فرواياتهم عنه مرسله، كذا قاله أبو حاتم، وقاله أبو زرعة أيضاً في يحيى بن أبي كثير.
وقال أحمد في يحيى بن أبي كثير: قد رأى أنساً فلا أدري سمع منه أم لا؟ ولم يجعلوا روايته عنه متصلة بمجرد الرؤية، والرؤية أبلغ من إمكان اللقى، وكذلك كثير من صبيان الصحابة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح لهم سماع منه فرواياتهم عنه مرسله كطارق بن شهاب وغيره، وكذلك من علم منه أنه مع اللقاء لم يسمع ممن لقيه إلا شيئاً يسيراً فرواياته عنه زيادة على ذلك مرسلة، كروايات ابن المسيب عن عمر، فإن الأكثرين نفوا سماعه منه، وأثبت أحمد أنه رآه وسمع منه، وقال مع ذلك: إن رواياته عنه مرسلة لأنه إنما سمع منه شيئاً يسيراً، مثل (نعيه) النعمان بن
مقرن على المنبر ونحو ذلك، وكذلك سماع الحسن من عثمان وهو على المنبر يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام، ورواياته عنه غير ذلك مرسلة.
وقال أحمد: ابن جريج لم يسمع من طاوس ولا حرفاً، ويقول: رأيت طاوساً.
وقال أبو حاتم الرازي أيضاً: الزهري لا يصح سماعه من ابن عمر رآه، ولم يسمع منه، ورأى عبد الله بن جعفر، ولم يسمع منه، وأثبت أيضاً دخول مكحول على واثلة بن الأسقع، ورؤيته له ومشافهته، وأنكر سماعه منه، وقال: لم يصح له منه سماع، وجعل رواياته عنه مرسلة.
وقد جاء التصريح بسماع مكحول من واثلة للحديث من وجه فيه نظر، وقد ذكرناه في آخر كتاب الأدب.
وقد ذكر الترمذي دخول مكحول على واثلة في ذكر الرواية بالمعنى.
وقال أحمد: أبان بن عثمان لم يسمع من أبيه، من أين سمع منه؟ ومراده: من أين صحت الرواية بسماعه منه، وإلا فإن إمكان ذلك وإحتماله غير مستبعد.
وقال أبو زرعة في أبي أمامة بن سهل بن حنيف: لم يسمع من عمر، هذا مع أن أبا أمامة رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
فدل كلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري، فإن المحكى عنهما: أنه يعتبر أحد أمرين: أما السماع، وإما اللقاء. وأحمد ومن تبعه عندهم لا بد من ثبوت السماع.
ويدل على أن هذا مرادهم أن أحمد قال: ابن سيرين لم يجيء عنه سماع من ابن عباس. وقال أبو حاتم: الزهري أدرك أبان بن عثمان، ومن هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع (كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع) من عروة، وقد سمع ممن هو أكبر منه، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاقهم على شيء يكون حجة.
واعتبار السماع أيضاً لاتصال الحديث هو الذي ذكره ابن عبد البر، وحكاه عن العلماء، وقوة كلامه تشعر بأنه إجماع منهم، وقد تقدم أنه قول الشافعي أيضاً.
وحكى البرديجي قولين في ثبوت السماع بمجرد اللقاء، فإنه قال قتادة حدث عن الزهري. قال بعض أهل الحديث: لم يسمع منه. وقال بعضهم: سمع منه، لأنهما التقيا عند هشام بن عبد الملك.
ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع الاتصال، أن يروي عن شيخ من غير أهل بلدة، لم يعلم أنه دخل إلى بلده، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه.
نقل مهنا عن أحمد، قال: لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري، تميم بالشام وزرارة بصري.
وقال أبو حاتم في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء لقد أدركه ولا أظنه سمع منه، ذاك بالشام وهذا بالبصرة.
وقال ابن المديني: لم يسمع الحسن من الضحاك بن قيس، كان الضحاك يكون بالبوادي.
وقال الدارقطني: لا يثبت سماع سعيد بن المسيب من أبي الدرداء، لأنهما لم يلتقيا، ومراده: أنه لم يثبت التقاؤهما: لا أنه ثبت انتفاؤه، لأن نفيه لم يرد في رواية قط.
فإن كان الثقة يروي عمن عاصره أحياناً ولم يثبت لقيه له ثم يدخل أحياناً بينه وبينه واسطة فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع منه.
قال أحمد: البهي ما أراه سمع من عائشة إنما يروي عن عروة عن عائشة، قال وفي حديث زائدة عن السدي عن البهي، قال: حدثتني عائشة، قال: وكان ابن مهدي سمعه من زائدة وكان يدع منه "حدثتني عائشة" ينكره.
وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد، ويقول: هو خطأ، يعني ذكر السماع. قال في رواية هدبة، عن حماد، عن قتادة، (ثنا) خلاد الجهني: هو خطأ، خلاد قديم، ما رأى قتادة خلاداً.
وذكروا لأحمد قول من قال: عن عراك بن مالك: سمعت عائشة، فقال: هذا خطأ وأنكره، وقال: عراك من أين سمع من عائشة، إنما يروي عن عروة عن عائشة.
وكذلك ذكر أبو حاتم الرازي أن بقية بن الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمعه، فيظن أصحابه أنه سمعه، فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرحون بسماعه لها، من شيوخه، ولا يضبطون ذلك.
وحينئذ ينبغي التفطن لهذه الأمور ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد، فقد ذكر ابن المديني أن شعبة وجدوا له غير شيء يذكر فيه الإخبار عن شيوخه، ويكون منقطعاً.
وذكر أحمد أن ابن مهدي حدث بحديث عن هشيم (أنا) منصور بن زاذان: قال أحمد: ولم يسمعه هشيم من منصور.
وقال أبو حاتم في يحيى بن أبي كثير: ما أراه سمع من عروة بن الزبير لأنه يدخل بينه وبينه رجلاً، ورجلين، ولا يذكر سماعاً، ولا رؤية، ولا سؤاله عن مسألة.
وقال أحمد في رواية قتادة عن يحيى بن يعمر: لا أدري سمع منه أم لا؟ قد روى عنه. وقد روى عن رجل عنه.
وقال أيضاً: قتادة لم يسمع من سليمان بن يسار، بينهما أبو الخليل، ولم يسمع من مجاهد، بينهما أبو الخليل.
وقال في سماع الزهري من عبد الرحمن بن أزهر: قد رآه ـ يعني ولم يسمع منه ـ قد أدخل بينه وبينه طلحة بن عبد الله بن عوف.
ولم يصحح قول معمر وأسامة عن الزهري: سمعت عبد الرحمن بن أزهر.
وقال أبو حاتم: الزهري لم يثبت له سماع من المسور، يدخل بينه وبينه سليمان بن يسار وعروة بن الزبير.
وكلام أحمد وأبي زرعة، وأبي حاتم، في هذا المعنى كثير جداً، يطول الكتاب بذكره، وكله يدور على أن مجرد ثبوت الرواية لا يكفي في ثبوت السماع، وأن السماع لا يثبت بدون التصريح به. وأن رواية من روى عمن عاصره تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، يدل على أنه لم يسمع منه، إلا أن يثبت له السماع منه من وجه.
وكذلك رواية من هو من بلد عمن هو ببلد آخر، ولم يثبت اجتماعهما ببلد واحد يدل على عدم السماع منه.
وكذلك كلام ابن المديني وأحمد وأبي زرعه وأبي حاتم والبرديجي وغيرهم في سماع الحسن من الصحابة كله يدور على هذا، وأن الحسن لم يصح سماعه من أحد من الصحابة إلا بثبوت الرواية عنه أنه صرح بالسماع منه ونحو ذلك، (وإلا فهو مرسل) .
فإذا كان هذا هو قول هؤلاء الأئمة الأعلام، وهم أعلم أهل زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه (مع) موافقة البخاري وغيره، فكيف يصح لمسلم رحمه الله دعوى الإجماع على خلاف قولهم، بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا يقتضي حكاية إجماع الحفاظ (المعتد بهم) على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يعرف عن أحد من نظرائهم، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم، ويشهد لصحة ذلك حكاية أبي حاتم. كما سبق اتفاق أهل الحديث على أن (حبيب) بن أبي ثابت لم يثبت له السماع من عروة مع إدراكه له، وقد ذكرنا من قبل أن كلام الشافعي إنما يدل على مثل هذا القول، لا على خلافه، وكذلك حكاية ابن عبد البر عن العلماء، فلا يبعد حينئذ أن يقال: هذا هو قول الأئمة من المحدثين والفقهاء.
وأما إنكار مسلم أن يكون هذا قول شعبة، أو من بعده، فليس كذلك،
فقد أنكر شعبة سماع من روى سماعه ولكن لم يثبته كسماع مجاهد من عائشة، وسماع أبي عبد الرحمن السلمي من عثمان وابن مسعود، وقال شعبة: أدرك أبو العالية علياً ولم يسمع منه، ومراده: أنه لم يرد سماعه منه ولم يكتف بإدراكه فإن أبا العالية سمع (ممن هو أقدم موتاً من علي، فإنه قيل انه سمع) من أبي بكر وعمر ـ رضي الله عن هما ـ.
وما ذكره مسلم من رواية عبد الله بن يزيد ومن سماه بعده، فالقول فيها كالقول في غيرها. وقد قال أبو زرعة في روايات أبي أمامة بن سهل عن عمر هي مرسلة، مع أنه له أيضاً رؤية.
فإن قال قائل: هذا يلزم منه طرح أكثر الأحاديث، وترك الاحتجاج بها، قيل من ههنا عظم ذلك على مسلم رحمه الله والصواب أن ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله، ويحتج به مع إمكان اللقى، كما يحتج بمرسل أكابر التابعين، كما نص عليه الإمام أحمد، وقد سبق ذكر ذلك في المرسل.
ويرد على ما ذكره (مسلم) أنه يلزمه أن يحكم باتصال كل حديث رواه من ثبت له رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم بل هذا أولى، لأن هؤلاء، ثبت لهم اللقى، وهو يكتفي بمجرد إمكان السماع.
ويلزمه أيضاً الحكم باتصال حديث كل من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم وأمكن لقيه له إذا روى عنه شيئاً، وإن لم يثبت سماعه منه، ولا يكون حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهذا خلاف إجماع أئمة الحديث، والله أعلم.
(ثم إن بعض ما مثل به مسلم ليس كما ذكره، فقوله: إن عبد الله بن يزيد، وقيس بن أبي حازم رويا عن أبي مسعود، وأن النعمان بن أبي عياش روى عن أبي سعيد ولم يرد التصريح بسماعهم منهما ليس كما قال. فإن مسلماً رحمه الله خرج في صحيحه التصريح بسماع النعمان بن أبي عياش من أبي سعيد في حديثين في صفة الجنة، وفي حديث (أنا فرطكم) على الحوض".