الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان ابن سيد الناس يقول: سمعت شيخنا تقي الدين بن دقيق العيد يقول، قل لهؤلاء علماء المعاني والبيان والبديع أتحسنون أن تقولوا مثل أزورهم، البيت، فإذا قالوا: لا، قل لهم: فأي فائدة فيما تصنعونه، أو كما قال، يريد بهذا أنّ العمل غير العِلم، والمباشرة دون الوصف، والطعن في الهيجاء غير الطعن في الميدان.
حُكي أن بعض الوعاظ كان على منبره يتكلم في المحبة وأمور العشق وأحواله، ومدّ أطناب الإطناب في ذلك، فقام إليه بعض الجماعة، وقال (1):(من الوافر)
بهيشِِكَ هَل ضَمَمتَ إِلَيكَ لَيلى
…
قُبَيلَ الفجرِ أَو قَبَّلتَ فاها
وَهَل رَفَّت عَلَيكَ قُرونُ لَيلى
…
رَفيفَ الأُقحُوانَةِ في نَداها
فقال الواعظ: لا والله، فقال له: فافشر [ما شئت](2).
قال عبد الله بن أَسباط الكاتب القيرواني (3): (من مجزوء البسيط)
قال الخلي الهوى محالٌ
…
فقلت لو ذقته عرفته
فقال هل /غير شغل سرٍّ
…
إن أنت لم ترضه صرفته *
وهل سوى زفرةٍ دمعٍ
…
إن لم ترد جريه كففته
فقلت من بعد كل وصفٍ
…
لم تعرف الحب إذ وصفته
طردتُ سرحَ الكرى عن وِرْدِ مُقْلتِه
…
والليلُ أغرَى سوامَ النومِ بالمُقَلِ
اللغة: الطرد: الإبعاد، السرح: المال السائم، تقول: سرحت السائمة، وسرَّحتها، وسرحت هي نفسها، وسرَّحت فلانا إلى مكان كذا، أي أرسلته، الكرى: النعاس، قال الشاعر (4):(من البسيط)
فَلا يَمِيلُ وَلَا يَكرَى مجالسُهَا
…
وَلَا يَمَلُّ مِنَ النَّجوَى مُنَاجِيهَا
والوِرْد: خلاف الصدر، والمقلة: شحمة العين التي تجمع البياض والسواد /* وتجمع على مقل، والحدقة: السواد الأعظم، والناظر: هو الأسود والأصفر، والإنسان يكون في الناظر كالمرآة إذا استقبلتها رأيت شخصك فيها، قال أبو الطيب (5):(من المنسرح)
جاريةٌ طالَما خَلَوتُ بِها
…
تُبصِرُ في ناظِري مُحَيّاها
(1) لمجنون ليلى، ديوانه / (م)
(2)
الذي جاء في المخطوط: فانشد، وما أثبتناه من الغيث المسجم 1/ 284، والفشر الكذب.
(3)
الأبيات في ديوان الصبابة، ص 58 / (م)، وفي الغيث المسجم 1/ 284
* لقد فقدت الورقتان 29، 30 من المخطوطة أ، فأتممنا التحقيق من النمخطوطة ب، وهذا الذي ابتدأنا به بعد الشرطة (/) في الورقة [22 ب]، من المخطوطة ب.
(4)
لابن الدمينة، ديوانه / (م).
* من هنا تبدأ الصفحة [23 أ] في المخطوطة ب.
(5)
ديوانه 2/ 303، وفيه: شآميّة طالما
…
يصف شدة قربها منه، وذبابة العين: مؤخّرها، واللحظ: طرف العين مما يلي الصدغ، والموق: طرفها مما يلي الأنف، والحملاق: باطن جفن العين، والإغراء: ضد التحذير، والسوام: هو المال الراعي، يقال: سامته الماشية، وهي سائمة وسوام، والنوم: معروف، وهو ضد اليقظة.
الإعراب: طرد: فعل وفاعل، سرح: مفعول به، والكرى: مجرور بالإضافة، عن ورد: جار ومجرور، ومضاف إليه، وهو في موضع نصب؛ لأنه مفعول ثان لطردت، وعن هنا للتجاوز، والليل: الواو واو الحال، والليل مرفوع على أنه مبتدأ، أغرى: فعل ماض سدّ مسد الخبر للمبتدأ، إذ الفاعل فيه ضمير مستتر يرجع إلى الليل، والخبر إذا كان فعلاً وجب تأخيره؛ لأنه لو تقدّم خرج عن باب المبتدأ والخبر إلى باب الفعل والفاعل، سوام: منصوب على أنه مفعول به، والنوم: مضاف إليه، بالمقل: جار ومجرور موضعه النصب، متعلق بأغرى، والباء هنا للتعدية، وقوله: والليل أغرى سوام النوم بالمقل في موضع النصب على الحال؛ كأنه قال: طردت الكرى عنه في حالة أغرى الليل سوام النوم بالمقل.
المعنى: إني منعته النوم بالمحادثة، ونحن في ليل قد أقبل بالنوم على العيون، وحببه إلى المقل، واستعار الطرد للمنع، كما استعار الكرى سرحا، إذ هو من متعلق السرح، ولذلك أكّده بالاستعارة الثانية؛ لأنه أبدل السرح للنوم بالسوام، وهما من باب واحد، وحسن الاستعارة هنا أنّ السرح السائم إذا ورد الماء كان كأنه يذهبه بالشرب، وإذا سام في النبات رعاه، فأذهب ما فيه من العشب، وقد يكون فيه زهر يشبه العيون اليقظى، فإذا ذهب بالرعي أشبه العين التي زال رونقها، وغاب بياضها وسوادها بالنوم/* (1) وكذلك الماء المورود للسرح يشبه العين اليقظى، فإذا ذهب أشبه تغميضها.
قال الشارح: وقد ناكد الطغرائي الرفيق، ومنعه نومه، فكان كما يُقال لا ينام، ولا يدع الناس ينامون، ولو كفاه شرّه لسرّه، فإنّ الخليّ لا يلزم بحال الشجيّ، والوزير المغربي (2) كان أشد الناس إنصافا منه حيث قال:(من الكامل)
لي كلما ابتسم النهارُ تعلةٌ
…
بمحدثٍ ما شان قلبي شانه
فإذا الدجى وافى واقبل جنحه
…
فهناك يدري الهم أين مكانه
(1) * من هنا بدأت الصفحة [23 ب] في المخطوطة ب.
(2)
الوزير المغربي: 370 - 418 هـ / 980 - 1027 م
الحسين بن علي بن الحسين، أبو القاسم المغربي. وزير، من الدهاة، العلماء الأدباء، يقال إنه من أبناء الأكاسرة، ولد بمصر، وتقلبت به الأحوال إلى أن استوزره مشرف الدولة البويهي ببغداد، عشرة أشهر وأياماً، واضطرب أمره وأقام بميافارقين إلى أن توفي، وحمل إلى الكوفة بوصية منه فدفن فيها. له كتب منها (السياسة- ط) رسالة، و (اختيار شعر أبي تمام)، و (اختيار شعر البحتري)، و (اختيار شعر المتنبي والطعن عليه)، و (مختصر إصلاح المنطق) في اللغة، و (أدب الخواص)، و (المأثور في ملح الخدور)، و (الإيناس)، و (ديوان شعر ونثر) وهو الذي وجه إليه أبو العلاء المعري (رسالة المنيح). ديوانه / (م).
وهو مأخوذ من قول مجنون بني عامر (1): (من الطويل)
أُقَضّي نَهاري بِالحَديثِ وَبِالمُنى
…
وَيَجمَعُني وَالهَمَّ بِاللَيلِ جامِعُ
نَهاري نَهارُ الناسِ حَتّى إِذا بَدا
…
لِيَ اللَيلُ هَزَّتني إِلَيكِ المَضاجِعُ
ولمح المعنى منه محمد بن يحيى بن حزم، فقال:(من الطويل)
إذا طلعت شمس عليك بسلوةٍ
…
أثار الهوى بين الضلوع غروبها (2)
وقل المجنون (3): (من الكامل)
وَشَغِلتُ عَن فَهمِ الحَديثِ سِوى
…
ما كانَ مِنكَ وَحُبُّكُم شُغلي
وَأُديمَ نَحوَ مُحَدِّثي نظري كأنيَ
…
قَد فَهِمتُ وَعِندَكُم عَقلي
ومن هنا أخذ أمين الدين جوبان (4) قوله: دوبيت
لا أسمعُ الحديثَ عن غيرِكم من لذّةِ فكري واشتغالي بكم
ألوي نظري كأنني أفهمُهُ من قائله وخاطري عندكم
ولعمري إنّ هذه الاستعارات التي في كلام الطغرائي واقعة مواقعها، وهي في غاية الحسن، والاستعارة عند أرباب البيان، هي ادّعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه، مع طرح ذكر المشبه من البين لفظا أو تقديرا، ألا ترى أنه شبّه الليل وإرادة النوم على المقل بالراعي الذي يسوق الماشية إلى المرعى، وشبّه منعه النوم صاحبه، وشغله عنه بالطرد كالذي يطرد السرح عن ورود الماء، ولا شكّ أنّ الاستعارة أبلغ من التشبيه، وأوقع في النفس، وانظر إلى قوله تعالى:[وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا](5) وإلى ما فيه من الطلاوة، بخلاف ما إذا قيل: وشيب الرأس كالنار يشتعل، فهو أدعى أن حقيقة الاشتعال في الشيب دون النار، ووجه المناسبة التي حسّنت هذه الدعوى، [أن الشيب](6) لمّا كان بياضا يأخذ في /* (7) الشعر الأسود شيئا فشيئا إلى أن يقوى ذلك ويشتد حتى يأتي على السواد جميعه، فيذهبه حُسن إدعاء الحقيقة، كما أن النار تأخذ في الفحم شيئا فشيئا، وتدب دبيب الشيب في الشَّعَر حتى تأتي على الفحم، ومن هنا عيب على القائل (8) قوله:(من الكامل)
(1) ديوانه، (م)
(2)
البيت في الغيث المسجم 1/ 293
(3)
ديوانه، (م)
(4)
جوبان، أمين الدين القواس: جوبان بن مسعود بن سعد الله، أمين الدُّنيسري القواس التوزي الشاعر. كان من أذكياء بني آدم وله النظم الجيد. كتب عبد الرحمن السّبتي وغيره. وقال شمس الدين الجزري: اسمه رمضان، وقال: لم لم يكن يعرف الخط ولا النحو. قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله قال شيخنا شهاب الدين محمود: ابن جوبان كان يدّعي الأميّة وكان بخلاف ذلك، قرأ وكتب وحفظ المفصّل، وتوفي في حدود الثمانين وستمئة. الوافي بالوفيات، ص 8799 ـ 8800، والبيتان في الغيث المسجم 1/ 293
(5)
مريم 4
(6)
زيادة من الغيث المسجم 1/ 293، ويقتضيها السياق ليتضح المقصود.
(7)
* من هنا تبدأ الصفحة [24 أ] في المخطوطة ب.
(8)
للفرزدق، ديوانه، ص 323