الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَرَاهِيَةِ عَزْلِ الْمَاءِ عَنْ مَحَلِّهِ قَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَرَاهَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَ يَكْرَهُهَا: عَزْلُ الْمَاءِ عَنْ مَحَلِّهِ ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا
تَقَدَّمَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَزْلِ: " هُوَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ " ، وَكَانَ وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا ، وَاللهُ أَعْلَمُ ، قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ عَلَى التَّصْدِيقِ مِنْهُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِمَّا يُوَافِقُ ذَلِكَ ، حَتَّى أَعْلَمَهُ اللهُ عز وجل بِكَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ لِمَنْ خَاطَبَهُ بِهِ:" كَذَبَتْ يَهُودُ " ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا ، وقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ نَفْسَ النُّطْفَةِ مِنَ الرَّجُلِ فِيهَا رُوحٌ ، وَكَانَ مَنْعُهَا مِنَ الرَّحِمِ وَصَرْفُهَا إِلَى غَيْرِهِ إِتْلَافًا لِذَلِكَ الرُّوحِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْ كَانَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه:" إِنَّ فِي كِتَابِ اللهِ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] ، إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] ، فَعَجِبَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَجَزَى عَلِيًّا عليه السلام عَنْهُ خَيْرًا ".
وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَيْضًا مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ تَأَمَّلْنَا نَحْنُ ذَلِكَ ، فَوَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل مَا ظَاهِرُهُ يَدْفَعُ ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 8] ، فَأَعْلَمَنَا عز وجل أَنَّ نَفْخَهُ فِيهِ الرُّوحَ ، إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ أَنْ يُسَوِّيَهُ ، وَإِنَّمَا تَسْوِيَتُهُ يَكُونُ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ.
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ الصَّائِغُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] قَالَ: " خَلَقْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ "
وَكَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ ،
⦗ص: 320⦘
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] قَالَ: " خُلِقُوا فِي ظَهْرِ آدَمَ ، ثُمَّ صُوِّرُوا فِي الْأَرْحَامِ " فَعَقَلْنَا بِذَلِكَ أَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّصْوِيرِ ، وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي النُّطْفَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، مِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا ، فِيمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ ، وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، ذَكَرَ نَفْخَ الرُّوحِ بَعْدَ التَّصْوِيرِ لِلنُّطْفَةِ ، وَبَعْدَمَا يَكُونَ عَلَقَةً ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً. فَقَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَزْلِ؟ .
3700 -
فَذَكَرَ مَا قَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ الْجُمَحِيُّ ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا فَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ ، فَكَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَوَإِنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ لَا عَلَيْكُمُ أَنْ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكُمْ ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللهُ عَزَّ
⦗ص: 321⦘
وَجَلَّ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا وَهِيَ خَارِجَةٌ "
3701 -
وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ ، أَنَّ ابْنَ مُحَيْرِيزٍ ، حَدَّثَهُ ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَلَّمُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ الْعَزْلِ ، وَذَلِكَ لِشَأْنِ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، فَأَصَابُوا سَبَايَا وَكَرِهُوا أَنْ يَلِدْنَ مِنْهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْزِلُوا ، فَإِنَّ اللهَ عز وجل قَدَّرَ مَا هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ "
3702 -
وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَنَّ مَالِكًا ، حَدَّثَهُ ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ
⦗ص: 322⦘
3703 -
وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْخَصِيبُ بْنُ نَاصِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ ، ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ
3704 -
وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُطَرِّفٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ أَصَبْنَا سَبْيًا ، فَكُنَّا نَعْزِلُ عَنْهُنَّ ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: أَتَفْعَلُونَ هَذَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنْبِكُمْ لَا تَسْأَلُونَهُ؟ ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:" لَيْسَ مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ ، إِنَّ اللهَ عز وجل إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ ، فَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْزِلُوا "
3705 -
وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ ،
⦗ص: 323⦘
عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْوَدَّاكِ ، يُحَدِّثُ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أَصَبْنَا سَبْيَ خَيْبَرَ سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَزْلِ ، فَقَالَ:" لَيْسَ مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ " فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ ، فَإِذَا كَانَ الْعَزْلُ مُبَاحًا ، فَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْآثَارِ:" إِنَّ اللهَ عز وجل إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ " ، وَالْخَلْقُ فَإِنَّمَا يَكُونُ مِنَ النُّطْفَةِ الَّتِي تَصِيرُ إِلَى الرَّحِمِ ، فَإِذَا لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ كَانَ مُحَالًا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَدَرٌ يَمْنَعُ مِنْ وَلَدٍ. فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عز وجل وَعَوْنِهِ: أَنَّ اللهَ عز وجل مَعَ لَطِيفِ قُدْرَتِهِ قَدْ يَجُوزُ إِذَا كَانَ قَدْ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نُطْفَةٍ وَلَدٌ ، أَنْ يُوصِلَ إِلَى الرَّحِمِ مِنْهَا مَا شَاءَ أَنْ يُوصِلَهَ إِلَيْهِ مِنْهَا مَعَ الْعَزْلِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ صَاحِبِهَا لَهَا ، فَيَكُونُ مِمَّا يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ الْوَلَدُ الَّذِي قَدْ قَدَّرَ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْهَا ، وَقَدْ تُوصَلُ بِكَمَالِهَا إِلَى الرَّحِمِ ، وَقَدْ سَبَقَ مِنْ تَقْدِيرِهِ عز وجل أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهَا وَلَدٌ ، فَلَا يَكُونُ مِنْهَا وَلَدٌ ، فَكَانَ الْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّا قَدْ قَدَّرَ عز وجل أَنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ ، كَانَ مَعَهُ عَزْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَكَانَ
⦗ص: 324⦘
الْعَزْلُ قَدْ يَكُونُ ، فَيَكُونُ مِنَ اللهِ عز وجل مِنْ لَطِيفِ قُدْرَتِهِ مَا يُوصِلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ الْمَعْزُولِ إِلَى الرَّحِمِ مَا يَكُونُ تَخَلَّقُ الْوَلَدِ مِنْهُ ، فَصَارَ بِذَلِكَ كُلُّ مَخْلُوقٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيرِ اللهِ عز وجل أَنَّهُ يَكُونُ ، لَا بِنَفْسِ النُّطْفَةِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ وَلَا يَكُونُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنَ اللهِ عز وجل أَنَّهُ يَكُونُ مِنْهَا وَلَدٌ ، فَلَمْ يَجْعَلْ صلى الله عليه وسلم لِلْعَزْلِ مَعْنًى لِذَلِكَ ، وَأَبَاحَهُ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ غَيْرُ أَنَّهُ أَعْلَمَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَدَرًا مِنَ اللهِ عز وجل إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ فِيهِ ، وَاللهَ عز وجل نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ.