المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثان بعد التقدير الأول - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض

- ‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابعفي ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامسفي ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادسفي ذكر التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابعفي أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب

- ‌الباب الثامنفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسعفي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌المخاصمون في القدر نوعان:

- ‌الباب العاشرفي مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌ لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:

- ‌المقدور يكتنفه أمران:

- ‌الباب الحادي عشرفي ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشرفي ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها

- ‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشرفي الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى

- ‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه

- ‌كيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه

- ‌كيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر

- ‌ما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها

- ‌هل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

- ‌ما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه

- ‌هل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي

- ‌ما ذنب من لا يصلح

- ‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته

- ‌ العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار

- ‌الباب السابع عشرفي الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك

- ‌ هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة

- ‌الباب الثامن عشرفي فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال

- ‌ الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل

- ‌الباب التاسع عشرفي ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌ ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته:

الفصل: ‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثان بعد التقدير الأول

‌الباب الثاني

في تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنّا في جنازة في بَقِيع الغَرْقَد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة

(1)

، فنكَّسَ فجعل يَنْكُتُ بمِخْصَرته، ثم قال:"ما منكم من أحد، ما من نفس مَنْفُوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة". قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا، وندع العمل؟ فقال:"من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ} [الليل:5 - 10].

وفي لفظ: "اعملوا فكل ميسَّر، أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ}

(2)

.

وعن عمران بن حُصين قال: قيل: يا رسول الله، أَعُلِم أهلُ الجنة من

(1)

المِخْصَرة: ما يختصره الإنسان بيده فيمسكه أو يتكئ عليه من عصا أو عكازة ونحوها، "النهاية في الغريب"(خصر)(2/ 36).

(2)

أخرجه البخاري (1362)، ومسلم (2647) واللفظ له.

ص: 26

أهل النار؟ فقال: "نعم"، قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: "كل ميسَّر لما خُلِق له" متفق عليه

(1)

.

وفي بعض طرق البخاري: "كل يعمل لما خُلِق له، أو لما يُسِّر له"

(2)

.

وعن أبي الأسود الدُّؤَلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قُضِي عليهم، ومضى عليهم من قَدَرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قُضِي عليهم، ومضى عليهم. قال: فقال: أفلا يكون ظلمًا؟ قال: ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا، وقلت: كل شيء خَلْقُ الله، ومُلْكُ يده، فلا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. قال: فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إنّ رجلين من مُزَينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قُضِي عليهم، ومضى فيهم من قَدَرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال:"بل شيء قُضِي عليهم، ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] ". رواه مسلم في "صحيحه"

(3)

.

وعن شُفَي الأصبحي، عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال:"أتدرون ما هذان الكتابان؟ " قال: قلنا: لا، إلا أن

(1)

أخرجه البخاري (7551)، ومسلم (2646) واللفظ له.

(2)

برقم (6596).

(3)

برقم (2650).

ص: 27

تخبرنا يا رسول الله. قال للذي في يده اليمنى: "هذا كتابٌ من ربّ العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجْمِل على آخرهم

(1)

، لا يُزاد فيهم، ولا يُنْقص أبدًا"، ثم قال للذي في يساره: "هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجْمِل على آخرهم، لا يُزاد فيهم، ولا يُنْقص منهم أبدًا"، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمرٌ قد فُرِغ منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سدّدوا وقاربوا؛ فإنَّ صاحب الجنة يُخْتم له بعمل الجنة وإنْ عمل أيَّ عمل، وإنَّ صاحب النار يُخْتم له بعمل النار وإنْ عمل أيَّ عمل"، ثم قال بيده فقبضها، ثم قال: "فرغ ربكم عز وجل من العباد"، ثم قال باليمنى فنبذَ بها، فقال: "فريق في الجنة"، ونبذ باليسرى، فقال: "فريق في السعير". رواه الترمذي عن قتيبة، عن ليث، عن أبي قَبِيل، عن شُفَيّ. وعن قتيبة، عن بكر بن نصر

(2)

، عن أبي قَبِيل به، وقال:"حديث حسن صحيح غريب"، ورواه النسائي، والإمام أحمد، وهذا السياق له

(3)

.

(1)

أي أحصوا وجمعوا، من أجملت الحساب إذا جمعت آحاده وكمّلت أفراده، "النهاية في الغريب"(جمل)(1/ 298).

(2)

كذا في "د""م": "ابن نصر"، صوابه:"ابن مُضر"، من رجال الشيخين كما في "تهذيب الكمال"(4/ 227)، وكذلك وقعت محرّفة في الأصول الخطية لـ "مدارج السالكين"(2/ 147) كما أشار إليه المحقق، وكأن هذا التحريف كان واقعًا بنفس الأصل الذي ينقل منه المؤلف.

(3)

الترمذي (2141)، وأحمد (6563)، والنسائي في "الكبرى"(11409)، من طرق عن أبي قَبِيل حُيي بن هانئ به، وأبو قبيل وثقه جماعة وتكلم فيه آخرون، وحسّن إسناده ابن حجر في "الفتح"(1/ 291).

ص: 28

وفي "صحيح الحاكم"

(1)

وغيره من حديث أبي جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ

(2)

} قال: "جَمَعهم له يومئذ جمعًا، ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا، ثم صوّرهم واستنطقهم، فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا يَقُولُوا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا

(3)

فَعَلَ} [الأعراف: 172 - 173]، قال: فإني أُشْهِد عليكم السماوات السبع، والأرضين السبع، وأُشْهِد عليكم أباكم آدم، أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم، أو تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، فلا تشركوا بي شيئًا، فإني أرسل إليكم رسلي، يذكّرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. فقالوا: نشهد أنك ربُّنا وإلهنا، لا ربَّ لنا غيرُك، ورُفِع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير، وحَسَن الصورة وغير ذلك، فقال: ربّ، لو سوَّيتَ بين عبادك؟ فقال: إني أحب أن أُشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السُرُج" وذكر تمام الحديث.

(1)

برقم (3255)، وأخرجه الفريابي في "القدر"(51)، وعبد الله في زوائد "المسند"(21232)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1615).

(2)

"م": "ذريتهم" قرأ به عاصم وغيره، والمثبت من "د"، قراءة نافع وابن عامر وأبي عمرو ـ قراءة الشاميين في عصر المؤلف ـ، وستتكرر هذه القراءة في سائر الكتاب، انظر:"الحجة للقراء السبعة"(4/ 104).

(3)

من أول الآية إلى هنا محله في "د": "إلى قوله".

ص: 29

وفي "صحيحه" و"جامع الترمذي"

(1)

من حديث هشام بن زيد

(2)

، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كلِّ إنسان منهم وَبِيصًا

(3)

من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: من هؤلاء يا ربِّ؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى فيهم رجلًا أعجبه وَبِيص ما بين عينيه، فقال: يا ربِّ مَن هذا؟ قال: ابنك داود، يكون في آخر الأمم. قال: كم جعلت له من العمر؟ قال: ستين سنة. قال: يا ربِّ، زده من عمري أربعين سنة. قال الله: إذن يُكتب ويُختم فلا يُبدّل. فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، قال: أَوَ لَم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال له: أولم تجعلها لابنك داود؟! قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخَطِئ فخَطِئت ذريته"، قال: "هذا على شرط مسلم".

وفي "الموطأ"

(4)

: مالك، عن زيد بن أبي أُنَيْسة، أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره، عن مسلم بن يسار الجهني، أن

(1)

"المستدرك"(3257)، "جامع الترمذي" (3076) وقال:"حسن صحيح".

(2)

كذا في "م": "زيد"، وفي "د":"يزيد" سبق قلم من المؤلف؛ فإنه وقع كذلك في جميع الأصول الخطية لكتاب "الروح"(2/ 455)، صوابه:"سعد" كما في مصادر التخريج.

(3)

الوبيص: البريق، "النهاية في الغريب"(وبص)(5/ 146).

(4)

(2/ 898)، ومن طريقه أبو داود (4703)، والنسائي في "الكبرى"(11126)، والترمذي (3075) وقال:"هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا"، وسيتكلم المؤلف على الحديث وبيان علّته.

ص: 30

عمر بن الخطاب رضي الله عنه سُئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ

(1)

}، فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عنها، فقال:"إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقتُ هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون". فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال:"إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله النار"، قال الحاكم:"هذا الحديث على شرط مسلم"

(2)

.

وليس كما قاله، بل هو حديث منقطع، قال أبو عمر: "هو حديث منقطع؛ فإن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب، بينهما نعيم بن ربيعة، هذا إن صح؛ لأن

(3)

الذي رواه عن زيد بن أبي أُنَيْسة ــ فذكر فيه نعيم بن ربيعة

(4)

ــ ليس هو بأحفظ من مالك، ولا ممن يُحتج به إذا خالفه مالك، ومع ذلك فإن نعيم بن ربيعة ومسلم بن يسار جميعًا مجهولان غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث، وليس هو مسلم بن يسار البصري العابد، وإنما هو رجل مدني

(5)

مجهول".

(1)

"م": "ذريتهم"، وقد تقدم بيانه قريبًا.

(2)

"المستدرك"(1/ 80).

(3)

"د": "أن"، والمثبت من "م" موافق للأصل المنقول منه.

(4)

"م": "بن أبي ربيعة".

(5)

"م": "بدوي" تحريف.

ص: 31

ثم ذكر من "تاريخ ابن أبي خيثمة"

(1)

قال: قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا، فكتب بيده على مسلم بن يسار: لا يُعرف.

قال أبو عمر: "هذا الحديث وإن كان عليل الإسناد فإن معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي من وجوه كثيرة، من حديث عمر بن الخطاب وغيره، وممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه في القدر: علي بن أبي طالب، وأبيُّ بن كعب، وابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وأبو سَرِيحة الغفاري، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وذو اللحية الكلابي، وعمران بن حصين، وعائشة، وأنس بن مالك، وسراقة بن جُعْشُم، وأبو موسى الأشعري، وعبادة بن الصامت"

(2)

.

قلت: وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وحذيفة بن أَسِيد

(3)

، وأبو ذر، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وأبو عبد الله رجل من الصحابة، روى عنه أبو نَضْرة، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبو الدرداء، وعمرو بن العاص، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن الزبير، وأبو أمامة الباهلي، وأبو الطفيل، وعبد الرحمن بن عوف، وبعض أحاديثهم موقوفة، وستمر بك جميعها متفرقة في أبواب الكتاب إن شاء الله عز وجل.

(1)

(3/ 227).

(2)

"الاستذكار"(8/ 260)، وبنحوه في "التمهيد"(6/ 3)، وانظر:"المراسيل"(210) لابن أبي حاتم، "علل الدارقطني"(2/ 221 - 223)، "تفسير ابن كثير"(3/ 503).

(3)

في حاشية "م": "حذيفة بن أسيد هو أبو سريحة الغفاري"، وهو كما قال؛ فلا وجه لاستدراكه على أبي عمر، انظر:"الاستيعاب"(4/ 1667).

ص: 32

وقال إسحاق بن راهويه: أخبرنا بقية بن الوليد، قال: أخبرني الزُّبَيْدي محمد

(1)

بن الوليد، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن أبي قتادة

(2)

، عن أبيه، عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلًا قال: يا رسول الله، أَتُبْتَدأ الأعمال أم قد قُضِي القضاء؟ فقال:"إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره، أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسَّرون لعمل أهل النار"

(3)

.

قال إسحاق: وأخبرنا عبد الصمد، حدثنا حماد، حدثنا الجُرَيري، عن أبي نَضْرة أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: أبو عبد الله، دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قبض قبضة بيمينه، وأخرى بيده الأخرى، قال: هذه لهذه،

(1)

"م": "الزبيدي بن محمد" بإقحام "ابن".

(2)

هكذا في الأصول الخطية، وكذلك هو في "مسند ابن راهويه" كما في الكتب الصادرة عنه، وليس تحريفًا أو خطأ، فقد كان بقية يضطرب في اسمه، نص عليه البخاري في "التاريخ الكبير"(5/ 341)، وابن حبان في "الثقات"(7/ 75)، والوجه فيه:"عبد الرحمن بن قتادة" النصري.

(3)

هو في "مسند إسحاق" ـ كما في "المطالب العالية"(12/ 470) ـ، ومن طريقه البيهقي في "القضاء والقدر"(226)، وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(5/ 342)(8/ 192)، والفريابي في "القدر"(22، 23، 24) من طرق عن راشد بن سعد، واختلفوا عنه إسنادًا ومتنًا، وبالاضطراب أعله ابن السكن كما في "تعجيل المنفعة"(1/ 891)، وابن عبد البر في "الاستيعاب"(2/ 851)، ولأصل الحديث عدة شواهد ستأتي.

ص: 33

وهذه لهذه، ولا أبالي"، فلا أدري في أيّ القبضتين أنا

(1)

.

أخبرنا عمرو بن محمد، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله تعالى خلق آدم من تراب، ثم جعله طينًا، ثم تركه، حتى إذا كان صلصالًا كالفخّار كان إبليس يمر به فيقول: خُلِقت لأمر عظيم! ثم نفخ الله فيه من روحه، قال: يا ربِّ، ما ذريتي؟ قال: اختر يا آدم. قال: أختار يمين ربي ــ وكلتا يدي ربي يمين ــ. فبسط الله كفّه، فإذا كلّ من هو كائن من ذرّيته في كفّ الرحمن"

(2)

.

أخبرنا النضر، أخبرنا أبو معشر، عن سعيد المقبري ونافع مولى الزبير، عن أبي هريرة قال:"لما أراد الله أن يخلق آدم ــ فذكر خلق آدم ــ فقال له: يا آدم، أيُّ يديّ أحب إليك أن أريك ذرّيتك فيها؟ قال: يمين ربِّي -وكلتا يدي ربي يمين-، فبسط يمينه، وإذا فيها ذرّيته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء على هيئاتهم، فقال: ألا أعفيتَهم كلهم؟ فقال: إني أحببتُ أن أشكر" وذكر الحديث

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد (17593) بإسناد صحيح. قال الهيثمي في "المجمع"(7/ 185): "رجاله رجال الصحيح"، وفي الباب عن معاذ وأنس وغيرهما.

(2)

أخرجه من هذا الوجه مبسوطًا أبو يعلى (6580)، وإسماعيل بن رافع ضعيف صاحب مناكير، كما في "المجروحين"(1/ 124)، واختلف فيه أصحاب المقبري واضطربوا في لفظه، قال الترمذي (3368) بعد أن أخرجه من طريق آخر:"هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم "، وانظر:"السنن الكبرى" للنسائي (9/ 90 - 93).

(3)

جزء من حديث طويل أخرجه ابن بشران في "الأمالي"(1/ 287)، وعزاه في "الدر المنثور"(1/ 251) إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.

ص: 34

وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا الليث بن سعد، حدثني ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام قال:"خلق الله آدم، ثم قال بيده فقبضها، فقال: اختر يا آدم. فقال: اخترت يمين ربي ــ وكلتا يديك يمين ــ. فبسطها فإذا فيها ذريته، فقال: مَن هؤلاء يا رب؟ قال: مَن قضيتُ أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة"

(1)

.

قال: وحدثنا إسحاق بن راهويه

(2)

، حدثنا جعفر بن عون، أخبرنا هشام ابن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة

(3)

، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لمّا خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة" وذكر الحديث

(4)

.

وقال إسحاق: حدثنا المُلائي، حدثنا المسعودي، عن علي بن بَذِيمة، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الأعراف: 172] قال: "إن الله أخذ على آدم ميثاقه أنه ربّه، وكتب أجله ورزقه ومصيباته، ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر، فأخذ عليهم

(1)

أخرجه مطوّلًا الفريابي في "القدر"(1)، ومختصرًا ـ دون ذكر موضع الشاهد ـ النسائي في "الكبرى"(9976)، وهو بإسناده ومتنه في "الروح"(2/ 460).

(2)

"بن راهويه" من "د".

(3)

كذا في الأصول: "زيد بن أسلم، عن أبي هريرة"، وكذلك وقع في "الروح"(2/ 460)، وتقدم الإسناد قريبًا بإدخال أبي صالح بينهما؛ فإن زيدًا لم يسمع من أبي هريرة، ذكره ابن معين في "التاريخ" برواية الدوري (3/ 244).

(4)

تقدم تخريجه في (30).

ص: 35

الميثاق أنه ربهم، وكتب أجلهم ورزقهم ومصيباتهم"

(1)

.

قال: وثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس قال:"مسح الله ظهر آدم، فأخرج كل طيب في يمينه، وفي يده الأخرى كل خبيث"

(2)

.

وقال محمد بن نصر: حدثنا الحسن بن محمد الزَّعْفَراني، وحدثنا

(3)

حجاج، عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"إن الله ضرب منكبه الأيمن، فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة. ثم ضرب منكبه الأيسر، فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار. ثم أخذ عهده على الإيمان والمعرفة له والتصديق له وبأمره من بني آدم كلهم، وأشهدهم على أنفسهم، فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقرّوا"

(4)

.

حدثنا إسحاق، حدثنا روح بن عبادة، ثنا محمد بن عبد الملك، عن أبيه، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بهذا الحديث،

(1)

أخرجه الدارمي في "الرد على الجهمية"(256)، والفريابي في "القدر"(57)، والطبري (10/ 550).

(2)

أخرجه الطبري (10/ 549).

(3)

كذا في "د""م": "وحدثنا" خطأ، صوابه:"حدثنا"؛ فإن ابن نصر لم يدرك حجاجًا، وجاء على الوجه عند ابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1340)، وانظر:"الروح"(2/ 461).

(4)

أخرجه الفريابي في "القدر"(58)، والطبري (10/ 556).

ص: 36

وزاد: قال ابن جريج: وبلغني أنه أخرجهم على كفّه أمثال الخردل

(1)

.

قال إسحاق: وأخبرنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} ، قال:"أخذهم كما يؤخذ بالمشط"

(2)

.

وفي "تفسير أسباط": عن السدي، عن أصحابه أبي مالك

(3)

وأبي صالح

(4)

، عن ابن عباس، وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية، قال: "لما أخرج الله آدم من الجنة ــ قبل أن يهبطه من السماء ــ مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، وكهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي. ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي. فذلك حين يقول: {أَصْحَابُ اُلْيَمِينِ} و {أَصْحَابُ اُلشِّمَالِ} . ثم أخذ منهم الميثاق، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.

فأعطاه طائفةٌ طائعين، وطائفةٌ كارهين على وجه التَّقِيّة، فقال هو والملائكة:{شَهِدْنَا أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ} الآية [الأعراف: 172 - 173]، فلذلك ليس أحد من

(1)

أخرجه الطبري (10/ 556)، وابن منده في "الرد على الجهمية"(35).

(2)

أخرجه الطبري (10/ 553)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1613).

(3)

في "م": "أن مالك" تحريف، وهو أبو مالك غزوان الغفاري الكوفي، انظر:"تهذيب الكمال"(23/ 100).

(4)

في "د": "وابن صالح"، وفي "م":"وابن أبي صالح" كلاهما خطأ، وهو أبو صالح باذام مولى أم هانئ، انظر:"تهذيب الكمال"(4/ 6).

ص: 37

ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله، ولا مشرك إلا وهو يقول:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، فذلك قوله عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} ، وذلك حين يقول:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، وذلك حين يقول:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، قال: يعني يوم أخذ الميثاق"

(1)

.

وقال إسحاق: حدثنا وكيع، حدثنا فِطْر، عن ابن سابط، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: "خلق الله الخلق قبضتين، فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام. وقال لمن في يده الأخرى: ادخلوا النار ولا أبالي"

(2)

.

وأخبرنا جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن رجل من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الخلق قبضتين

(3)

بيده، فقال لمن في يمينه: أنتم أصحاب اليمين. وقال لمن في اليد الأخرى: أنتم أصحاب الشمال. فذهبت إلى يوم القيامة"

(4)

.

(1)

أخرجه بهذا السياق ابن عبد البر في "التمهيد"(18/ 85)، ومفرّقًا الطبري (10/ 560 - 562)، وأورده المصنف في "أحكام أهل الذمة"(2/ 996)، وفي "الروح" (2/ 462) مصدّرًا إياه بقوله:"وذكر محمد بن نصر من تفسير السدي"، وطعن شيخ الإسلام في هذا الأثر لجملة:"وطائفة كارهين على وجه التَقِيّة""درء التعارض"(8/ 423)، وسيأتي في الباب الثلاثين الكلام عليه (2/ 427).

(2)

أخرجه معمر في "الجامع"(20094)، والدارمي في "النقض على المريسي"(1/ 268)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1335).

(3)

كذا في الأصول الخطية، والأليق بالسياق بعده:"قبض قبضتين".

(4)

لم أقف عليه.

ص: 38

وقال عبد الله بن وهب في "كتاب القدر"

(1)

: أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة قال:"إن الله عز وجل لما خلق آدم أخرج ذريته، ثم نثرهم في كفه، ثم أفاضهم، فألقى التي في يمينه عن يمينه، والتي في يده الأخرى عن شماله، ثم قال: هؤلاء لهذه ولا أبالي، وهؤلاء لهذه ولا أبالي. وكتب أهل النار وما هم عاملون، وأهل الجنة وما هم عاملون، وطوى الكتاب، ورفع القلم".

وقال أبو داود: ثنا مُسَدَّد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي صالح فذكره

(2)

.

قال ابن وهب: وأخبرني عمرو بن الحارث، وحيوة بن شُرَيح، عن ابن أبي أسيد ــ هكذا قال ــ، عن أبي فراس حدثه، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: "إن الله عز وجل لما خلق آدم نفضه نفض المِزْوَد

(3)

، فأخرج من ظهره ذريته أمثال النَّغَف

(4)

، فقبضهم قبضتين، ثم ألقاهما، ثم قبضهما، فقال:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] "

(5)

.

قال ابن وهب: وأخبرني يونس بن يزيد، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن

(1)

برقم (12)، ومن طريقه ابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1344).

(2)

هو في "مسند مسدد" كما في "المطالب العالية"(12/ 481)، ومن طريق أبي داود أخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1343).

(3)

المِزْوَد: وعاء يجعل فيه الزاد، انظر:"الصحاح"(زود)(2/ 481).

(4)

النغف: دود يكون في أنوف البهائم، انظر:"الصحاح"(نغف)(4/ 1435).

(5)

"القدر"(15)، ومن طريقه الحربي في "غريب الحديث"(3/ 989)، والطبري (20/ 471).

ص: 39

عمرو بن العاص قال: "من كان يزعم أن مع الله قاضيًا أو رازقًا، أو يملك لنفسه ضرًّا أو نفعًا، أو موتًا أو حياة أو نشورًا؛ لقي الله فأدحض حجته، وأحرق

(1)

لسانه، وجعل صلاته وصيامه هباءً

(2)

، وقطع به الأسباب، وأكبّه الله على وجهه في النار".

وقال: "إن الله خلق الخلق، فأخذ منهم الميثاق، وكان عرشه على الماء"

(3)

.

وذكر أبو داود: ثنا يحيى بن حبيب، ثنا معتمر، ثنا أبي، عن أبي العالية في قوله عز وجل:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 106 - 107]، قال: صاروا فريقين، وقال لمن سوَّد وجوههم وعَيَّرهم

(4)

: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، قال: هو الإيمان الذي كان حيث كانوا أمة واحدة مسلمين"

(5)

.

قال أبو داود: وحدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، ثنا أبو نعامة السعدي قال: كنا عند أبي عثمان النهدي، فحمدنا الله عز وجل، فذكرناه

(1)

في بعض المصادر: "وأخرق"، وفي أخرى:"وأخرس".

(2)

بعده في "م": "منثورًا"، وليست في مصدر الرواية الآتي.

(3)

"القدر"(24)، ومن طريقه ابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1642)، ورواه بنحوه (1643) من كلام عبد الله بن عمر.

(4)

هكذا في الأصول وتفسير الطبري: "وعيرهم".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير"(3/ 730)، والطبري (3/ 623)(5/ 665) من وجه آخر عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قوله.

ص: 40

ودعوناه، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحًا مني بآخره. فقال أبو عثمان: ثبَّتك الله، كنا عند سلمان، فحمدنا الله عز وجل وذكرناه ودعوناه، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشدّ فرحًا مني بآخره. فقال سلمان: ثَبَّتَك الله، إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج من ظهره ما هو ذارئ

(1)

إلى يوم القيامة، فخلق الذكر والأنثى، والشّقْوَة والسعادة، والأرزاق والآجال والألوان، ومِنْ عَلَم السعادة فِعْلُ الخير ومجالسُ الخير

(2)

، ومِنْ عَلَم الشقاوة فِعْلُ الشر ومجالسُ الشر

(3)

.

وقال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "مسح ربك تعالى ظهر آدم، فأخرج منه ما هو ذارئ

(4)

إلى يوم القيامة، أخذ

(5)

عهودهم ومواثيقهم".

قال سعيد: فيرون أن القلم جَفَّ يومئذ

(6)

.

(1)

في "م": "كائن"، والمثبت من "د"، موافقة لما في "الإبانة" و"الشريعة"، وذارئ: خالق.

(2)

يعني من علامة السعادة فعل الخير، وضبط "علم" من "د""م".

(3)

أخرجه من طريق أبي داود به ابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1342)، وهو في "القدر" للفريابي (51)، ومن طريقه الآجري في "الشريعة"(430).

(4)

"م": "كائن".

(5)

كذا في الأصول على الاستئناف: "أخذ".

(6)

أخرجه من طريق عطاء بنحوه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 29)، والطبري (10/ 548).

ص: 41

وقال الضحاك: خرجوا كأمثال الذر، ثم أعادهم

(1)

.

فهذه الآثار

(2)

وغيرها تدل على أن الله سبحانه قدَّر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم وشقاوتهم عقيب خلق أبيهم، وأراهم لأبيهم آدم صورهم وأشكالهم وحلاهم، وهذا ــ والله أعلم ــ أمثالهم وصورهم.

وأما تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية به ففيه ما فيه، وحديث عمر ــ لو صح ــ لم يكن تفسيرًا للآية، وبيان أن ذلك هوالمراد بها، فلا يدل الحديث عليه، ولكن الآية دلت على أن هذا الأخذ من بني آدم لا من آدم، وأنه من ظهورهم لا من ظهره، وأنهم ذرياتهم أمة بعد أمة، وأنه إشهاد تقوم به عليهم الحجة له سبحانه، فلا يقول الكافر يوم القيامة: كنت غافلًا عن هذا، ولا يقول الولد المشرك

(3)

: أشرك أبي وتبعته؛ فإن ما فطرهم الله عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وخالقهم وفاطرهم؛ حجة عليهم.

ثم دلّ حديث عمر وغيره على أمر آخر لم تدل عليه الآية، وهو القدر السابق والميثاق الأول، وهو سبحانه لا يحتج عليهم بذلك، وإنما يحتج عليهم برسله، وهو الذي دلت عليه الآية.

فتضمنت الآية والأحاديث إثبات القدر والشرع، وإقامة الحجة، والإيمان بالقدر، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عنها بما يحتاج العبد إلى معرفته والإقرار به معها، وبالله التوفيق.

(1)

أخرجه بنحوه ابن أبي حاتم (5/ 1615).

(2)

"الآثار" ساقطة من "د".

(3)

"المشرك" ساقطة من "د".

ص: 42