الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان يقول في قيامه إلى الصلاة بالليل: "اللهم لك الحمد" الحديث، وفيه:"فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت"
(1)
.
وكان يقول في آخر صلاته قبل التسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت
(2)
، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت"
(3)
.
وفي "الصحيحين"
(4)
عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير".
وحقيقة الأمر أن
العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار
، فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له، وإحسانه إليه، وقيامه بمصالحه، وتدبيره له. وفقير إليه من جهة إلهيته، وكونه معبوده وإلهه، ومحبوبه الأعظم الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحبّ شيء إليه، فيكون أحبّ إليه من نفسه وأهله وماله وولده ووالده، ومن الخلق كلهم. وفقير إليه من جهة معافاته له من أنواع البلاء؛ فإنه إن لم يعافه منها هلك ببعضها. وفقير إليه من جهة عفوه عنه، ومغفرته له؛ فإن لم يعف عن العبد، ويغفر له، فلا سبيل له إلى النجاة، فما نجا أحد إلا بعفو الله، ولا دخل الجنة إلا برحمة الله.
(1)
أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769) من حديث عبد الله بن عباس.
(2)
من قوله: "وكان يقول في آخر صلاته" إلى هنا ساقط من "د".
(3)
أخرجه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب.
(4)
البخاري (6398)، ومسلم (2719).
وكثير من الناس ينظر إلى نفس ما يُتاب منه فيراه نقصًا، ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة، وأن العبد بعد التوبة النصوح خير منه قبل الذنب. ولا ينظر إلى كمال الربوبية وتفرّد الربّ بالكمال وحده، وأنّ لوازم البشرية لا ينفك منها البشر، وأنّ التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله، كما كانت هي غايته وكماله، فليس للعبد كمال بدون التوبة البتّة، كما أنه ليس له انفكاك عن سببها.
فالله سبحانه هو المنفرد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار، والعبد هو الفقير المحتاج إليه، المضطر إليه بكل وجه وبكل اعتبار، فرحمته للعبد خير له من عمله؛ فإنّ عمله لا يستقل بنجاته ولا بسعادته، ولو وُكِل إلى عمله لم ينج به البتّة.
فهذا بعض ما يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم"
(1)
.
ومما يوضحه أنّ شكره سبحانه مُستحَقّ عليهم بجهة ربوبيته لهم، وكونهم عبيده ومماليكه، وذلك يوجب عليهم أن يعرفوه ويعظموه ويوحدوه، ويتقربوا إليه تقرب العبد المحب لسيده، الذي يتقلب في نعمه، ولا غناء به عنه طرفة عين، فهو يدأب في التقرب إليه بجهده، ويستفرغ في ذلك وسعه وطاقته، ولا يعدل به سواه في شيء من الأشياء، ويؤثر رضا سيده على إرادته وهواه، بل لا هوى له ولا إرادة إلا فيما يريده سيده ويحبه، وهذا يستلزم علومًا وأعمالًا وإرادات وعزائم لا يعارضها غيرها، ولا يبقى له معها
(1)
تقدم تخريجه في (196).
التفات إلى غيره بوجه، ومعلوم أن ما طُبِع عليه البشر لا يفي بذلك، وما يستحقه الرب جل جلاله لذاته، وأنه أهل أن يُعبد؛ أعظم مما يستحقه لإحسانه، فهو المستحِقّ لنهاية العبادة والمحبّة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه.
وفي بعض الآثار: "لو لم أخلق جنةً ولا نارًا، أما كنتُ أهلًا أن أُعْبَد؟ "
(1)
.
ولهذا يقول أَعْبد خلقه له يوم القيامة ــ وهم الملائكة ــ: "سبحانك ما عبدناك حق عبادتك"
(2)
.
فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يُعبد به ويستحقه لذاته وإحسانه، فلا نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه، فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه، وهو سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم، فلو عذّبهم لعذّبهم بما يعلمه منهم وإن لم يحيطوا به علمًا، ولو عذّبهم قبل إرسال رسله إليهم على أعمالهم لم يكن ظالمًا لهم، كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله على كفرهم وشركهم وقبائحهم، فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا
(1)
أورده في "قوت القلوب"(2/ 92) منسوبًا إلى وهب بن منبه يحكيه عن "الزبور".
(2)
روي هذا في غير ما حديث عن نفر من الصحابة مرفوعًا وموقوفًا، أمثلها ما أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(1357)، ويحيى بن سلام في "التفسير"(1/ 318) من حديث سلمان موقوفًا عليه، وروي مرفوعًا أيضًا، وصحح الوقف ابن رجب في "جامع العلوم"(2/ 18).
يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته.
وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه، ولا يقوم بذلك أحد؛ كان حقّه سبحانه على كل أحد، وله المطالبة به، فإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذّبه، فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه، فإن لم يحفظهم هلكوا، وإن لم يرزقهم هلكوا، وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا.
ولهذا قال أبوهم آدم عليه السلام وأمهم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَّنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وهذا شأن ولده من بعده.
وقد قال موسى كليمه سبحانه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقال:{قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ} [الأعراف: 143]، وقال:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151]، وقال:{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].
وقال خليله إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [40 - 41]، وقال:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهْوَ يَهْدِينِ (78)} إلى قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78 - 82].
وقال أول رسله إلى أهل الأرض: {رَبِّ إِنِّيَ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].
وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَاَسْتَغْفِر لِّذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وقال:{أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 105 - 106]، وقال:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 1 - 2].
وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه صلى الله عليه وسلم: "رب أعنّي ولا تعن عليَّ" وفيه: "ربِّ تقبل توبتي، واغسل حَوْبتي" الحديث
(1)
.
وقد أخبر سبحانه عن أعبد البشر داود أنه استغفر ربه، وخرّ راكعًا وأناب، قال تعالى:{ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ} [ص: 25].
وقال عن نبيه سليمان: {(33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ بَعْدِيَ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهَّابُ} [ص: 34 - 35].
وقال عن نبيه يونس أنه ناداه في الظلمات: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
وقال له صدّيق الأمة وخيرها وأبرها وأتقاها لله بعد رسوله: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. فقال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك
(1)
تقدم تخريجه في (191).
أنت الغفور الرحيم"
(1)
، فاستفتح الخبر عن نفسه بأداة التوكيد التي تقتضي تقرير ما بعدها، ثم ثنّى بالإخبار عن ظلمه لنفسه، ثم وصف ذلك الظلم بأنه ظلم كثير، ثم طلب من ربه أن يغفر له مغفرة من عنده، أي لا يبلغها عمله ولا سعيه، بل هي محض منّته وإحسانه، وأكبر من عمله، فإذا كان هذا شأن مَنْ وُزِن بالأمة فرجح بهم؛ فكيف بمن دونه؟!
وأيضًا فإنّ حق الله على عبده أن يطيعه ولا يعصيه، ويذكره ولا ينساه، ويشكره ولا يكفره، فتكون هذه حاله دائمًا لا يفتر عنها، ولا يفارقها طرفة عين، ولا نفَسًا واحدًا، ومعلوم أن الغفلة والذهول والاشتغال أحيانًا بغير ذلك واقع ولا بدّ، وهو سبب التعذيب الذي هو الألم، وليس في الحديث أنه لو عذبهم في النار سرمدًا أبدًا لكان غير ظالم لهم، والأعمّ لا يستلزم الأخص، بل لو آلم من غفل عن ذكره وشكره وعبادته، وأوصل إليه عذابًا بحسبه لكان غير ظالم له.
وعلى كل حال فكمال حقوقه على أهل السماوات والأرض يستلزم وجوب كمال عبوديته التي تقتضيها عظمة المنعم وكثرة نعمه ودوامها، وذلك غير مقدور، والمقدور منه لابد أن يعرض فيه من النقص ما يناسب نقص المخلوق، فلا يسعه إلا المغفرة والرحمة.
* * * *
(1)
أخرجه البخاري (834)، ومسلم (2705) من حديث أبي بكر الصديق.