الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه"
(1)
، فأضاف فعله إلى الله سبحانه لا إليه، فلم يكن له فعل في الأكل والشرب، فلم يفطر به.
قال السني: هذا موضع تفصيل لا يليق به الإجمال، فنقول:
ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته:
فتارة يكون مُلجَأ إلى الفعل لا إرادة له فيه بوجه ما، كمن أَمْسَكْتَ يده وضرب بها غيره، أو أَمْسَكْتَ أصبعه وقلع بها عين غيره، فهذا فعله بمنزلة حركات الأشجار بالريح، ولهذا لا يترتب عليه حكم البتّة، ولا يُمدح عليه ولا يُذم، ولا يُثاب ولا يُعاقَب، وهذا لا يُسَمّى فاعلًا عقلًا ولا شرعًا ولا عرفًا.
وتارة يكون مُكْرَهًا على أن يفعل، فهذا فعله يضاف إليه، وليس كالمُلجَأ الذي لا فعل له.
واختلف الناس هل يقال: إنه فعل باختياره، وإنه مختار في فعله، أو لا يطلق عليه ذلك؟ على قولين، والتحقيق: أن النزاع لفظي؛ فإنه فعل بإرادة هو محمول عليها، مُكرَه عليها، فهو مُكرَه مختار: مُكرَه على أن يفعل بإرادته، مريد لفعل ما أُكرِه عليه، فإن أريد بالمختار من يختار من نفسه أن يفعل من غير أن يحمله غيره على الإرادة فليس المُكرَه بمختار، وإن أريد بالمختار من يفعل بإرادته وإن كان كارهًا للفعل فالمُكرَه مختار، وأيضًا فهو مختار لفعل ما أُكرِه عليه لتخلّصه به مما هو أَكرَهُ إليه من الفعل، فلما عرض له مكروهان: أحدهما أَكرَهُ إليه من الآخر اختار أيسرهما؛ دفعًا لأشقّهما، ولهذا يُقتَل
(1)
أخرجه أحمد (10369)، والبخاري (1933)، ومسلم (1155) من حديث أبي هريرة.
قصاصًا إذا قَتَل عند الجمهور، والمُلجَأ لا يُقتَل باتفاق الناس.
ومما يوضح هذا أن المُكرَه على التكلم لا يتأتّى منه التكلم إلا باختياره وإرادته، ولهذا أوقع طلاقه وعتاقه بعض العلماء، والجمهور قالوا: لا يقع؛ لأن الله سبحانه جعل كلام المُكرَه على كلمة الكفر لغوًا لا يترتب عليه أثره؛ لأنه وإن قصد التكلم باللفظ دفعًا عن نفسه فلم يقصد معناه وموجَبه، حتى قال بعض الفقهاء لو قصد الطلاق بقلبه مع الإكراه لم يقع طلاقه؛ لأن قوله هدر ولغو عند الشارع، فوجوده كعدمه في حكمه، فبقي مجرد القصد، وهو غير موجِب للطلاق، وهذا ضعيف؛ فإن الشارع إنما ألغى قول المُكرَه إذا تجرّد عن القصد، وكان قلبه مطمئنًّا بضده، فأما إذا قارن اللفظَ القصدُ، واطمأنّ القلبُ بموجَبه؛ فإنه لا يُعذَر.
فإن قيل: فما تقولون فيمن ظن أن الإكراه لا يمنع وقوع الطلاق، فقَصَده جاهلًا بأن الإكراه مانع من وقوعه؟
قيل: هذا لا يقع طلاقه؛ لأن اللفظ موجِب لوقوعه؛ لأنه لما ظن أن الإكراه على الطلاق يوجب وقوعه إذا تكلم به؛ كان حكمُ قَصْده حكمَ لفظه، فإنه إنما قصده دفعًا عن نفسه لمّا علم أنه لا يتخلّص إلا به، ولم يظن أن الكلمة بدون القصد لغو، أو دهش عن ذلك، ولا وَطَر له في الطلاق، فهذا لا يقع، بخلاف الأول؛ فإنه لمّا أُكرِه على الطلاق نشأ له قَصْد طلاقها؛ إذ لا غرض له أن يقيم مع امرأة أُكرِه على طلاقها، وإن كان لو لم يُكرَه لم يبتدئ طلاقها.
والمقصود أن المُكرَه مريد لفعله غير مُلجَأ إليه.
فصل
(1)
وأما أفعال النائم فلا ريب في وقوع الفعل القليل منه، والكلام المفيد، واختلف الناس هل تلك الأفعال مقدورة له أو مكتسبة أو ضرورية، بعد اتفاقهم على أنها غير داخلة تحت التكليف.
فقالت المعتزلة وبعض الأشعرية: هي مقدورة له، والنوم لا يضاد القدرة، وإن كان يضاد العلم وغيره من الإدراكات.
وذهب أبو إسحاق وغيره إلى أن ذلك الفعل غير مقدور له، وأن النوم يضاد القدرة، كما يضاد العلم.
وذهب القاضي أبو بكر وكثير من الأشعرية إلى أن فعل النائم لا يُقطع بكونه مكتسَبًا ولا بكونه ضروريًا، وكلّ من الأمرين ممكن.
قال أصحاب القدرة: كان النائم قادرًا في يقظته، وقدرته باقية، والنوم لا ينافيها؛ فوجب استصحاب حكمها.
قالوا: وأيضًا فالنائم إذا انتبه فهو على ما كان عليه في نومه، ولم يتجدد أمر وراء زوال النوم، وهو قادر بعد الانتباه، وزوال النوم غير موجِب للاقتدار، ولا وجوده نافيًا للقدرة.
قالوا: وأيضًا قد يوجد من النائم ما لو وُجِد منه في حال اليقظة لكان واقعًا على حسب الداعي والاختيار، والنوم وإن نافى القصد فلا ينافي القدرة.
قال النافون للقدرة: قولكم: "النوم لا ينافي القدرة" دعوى كاذبة؛ فإن
(1)
انظر: "غاية المرام"(221)، "شرح المواقف"(2/ 144 - 148).
النائم مُنفعِل محض، متأثّر غير مؤثِّر، ولهذا لا يمتنع ممن يؤثِّر فيه، وقولكم:"لم يتجدد له أمر غير زوال النوم" فالمتجدّد زوال النوم المانع من القدرة، فعاد إلى ما كان عليه، كمن أوثق غيره رباطًا ومنعه من الحركة، فإذا حلّ رباطه تجدد زوال المانع.
قالوا: نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وبين حركة المُرْتَعِش والمَفْلُوج، وما ذاك إلا لأن حركته مقدورة له، وحركة المُرْتَعِش غير مقدورة له.
والتحقيق أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسَبة، وكما فرقنا في حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه؛ كذلك نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ.
فصل
وأما زائل العقل بجنون أو سكر فليست أفعاله اضطرارية كأفعال المُلْجَأ، ولا اختيارية بمنزلة أفعال العاقل العالم بما يفعله، بل هي قسم آخر بين الاضطرارية والاختيارية، وهي جارية مجرى أفعال الحيوان، وفعل الصبي الذي لا تمييز له، بل لكل واحد من هؤلاء داعيةٌ إلى الفعل يتصورها، وله إرادة يقصد بها، وقدرة ينفذ بها، وإن كان داعيه نوع آخر غير داع العاقل
(1)
العالم بما يفعله، فلابدّ أن يَتصوّر ما في الفعل من الغرض، ثم يريده ويفعله، فهذه أفعال طبيعية واقعة بالداعي والإرادة والقدرة، والدواعي والإرادات تختلف، ولهذا لا يُكلَّف أحد هؤلاء بالفعل، فأفعاله لا تدخل
(1)
"م": "داعية العاقل".
تحت التكليف، وليست كأفعال المُلجَأ ولا المُكرَه، وهي مضافة إليهم مباشرة، وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم خَلْقًا، فهي مفعولة له وأفعال لهم.
فصل
وأما الغافل والساهي الذي يفعل الفعل مع غفلته وذهوله فهو إنما يفعله بقدرته؛ إذ لو كان عاجزًا لما تأتّى منه الفعل، وله إرادة لكنه غافل عنها. فالإرادة شيء والشعور بها شيء آخر. فالعبد قد تكون له إرادة وهو ذاهل عن شعوره بها؛ لاشتغال محل التصوّر منه بأمر آخر منعه من الشعور بالإرادة، فعملتْ عملها وهي غير مشعور بها، وإن كان لابد من الشعور بأصلها، فلا يلزم من صحة وقوع الفعل استمرار ذلك الشعور عند كل جزء من أجزائه. وبالله التوفيق.
وبالجملة: فالفعل الاختياري يستلزم الشعور بالفعل في الجملة، وأما الشعور به على التفصيل من كل وجه فلا يستلزمه.
فصل
قال الجبري: ضلال الكافر وجهله عند القدري مخلوق له، موجود بإيجاده اختيارًا، وهذا ممتنع؛ فإنه لو كان كذلك لكان قاصدًا له، إذ القصد من لوازم الفعل اختيارًا، واللازم ممتنع؛ فإن عاقلًا لا يريد لنفسه الضلال والجهل، فلا يكون فاعلًا له اختيارًا.
قال السني: عجبًا لك أيها الجبري، تُنزّه العبد أن يكون فاعلًا للكفر والجهل والظلم، ثم تجعل ذلك كله فعل الله سبحانه، ومن العجب قولك:"إن العاقل لا يقصد لنفسه الكفر والجهل" وأنت ترى كثيرًا من الناس يقصد
لنفسه ذلك عنادًا وبغيًا وحسدًا، مع علمه بأن الرشد والحق في خلافه، فيطيع داعي هواه وغيّه وجهله، ويخالف داعي رشده وهداه، ويسلك طريق الضلال، ويتنكّب عن طريق الهدى، وهو يراهما جميعًا.
قال أصدق القائلين: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]، وقال تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال تعالى عن قوم فرعون:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 13 - 14]، وقال تعالى:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102]، وقال:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزِلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: 90]، وقال تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 70 - 71]. وقال: {الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا} [آل عمران: 99].
وهذا في القرآن كثير، يبين سبحانه فيه اختيارهم الضلال والكفر عمدًا على علم.
هذا، وكم من قاصد أمرًا يظن أنه رشد، وهو ضلال وغيّ.
فصل
قال الجبري: لو جاز تأثير قدرة العبد في الفعل بالإيجاد لجاز تأثيرها في إيجاد كل موجود؛ لأن الوجود قضية واحدة مشتركة بين الموجودات الممكنة، وإن اختلفت محالّه وجهاته، ويلزم من صحة تأثير القدرة في بعضه صحة تأثيرها في جميعه؛ لاتحاد المتعلَّق، وأن ما ثبت لأحد المثلين يثبت للآخر، وأيضًا فالمصحِّح للتأثير هو الإمكان، ويلزم من الاشتراك في المصحِّح للتأثير الاشتراك في الصحة، ومعلوم قطعًا أن قدرة العبد لا تتعلق بإيجاد الأجسام وأكثر الأعراض، وإنما تتعلق ببعض الأعراض القائمة بمحل قدرته.
قال السني: لقد كشف الله عوار مذهب يكون إثباته مُسْتنِدًا
(1)
إلى مثل هذه الخرافات التي حاصلها: أنه يلزم من صحة قدرة العبد على قلع حصاة من الأرض صحة قدرته على قلع الجبل! ومن إمكان حمله لرطل إمكان حمله لمائة ألف رطل! ومن إيجاده للفعل القائم به من الأكل والشرب والصلاة وغيرها صحة إيجاده لخلق السماوات والأرض وما بينهما! فهل سُمِع في الهذيان بأسمج من هذا، وأغث منه؟!
(2)
.
واشتراك الموجودات في مسمى الوجود الكلي العام لا يلزم منه أن ما جاز على موجود ما
(3)
جاز على كل موجود، وهذا أسمج من الأول وأبين
(1)
"د": "يكون استناده".
(2)
"د""م": "وأغرّ"، والمثبت من "ج" ألصق بالسياق، وسيأتي ما يعضده.
(3)
"م": "موجود منا".
فسادًا، ولا يلزم من ذلك تماثل البعوضة والفيل، وتماثل الأجسام والأعراض، ومن يجعل من الجبرية للقدرة الحادثة تعلّقًا ما بفعل العبد يعترف بالفرق ويقول: قدرته تتعلق ببعض الأعراض ولا تتعلق بالأجسام، ولا بكل الأعراض، فإن احتج على إبطال التأثير بهذه الشبهة الغثّة أُلْزِم بها بعينها في عموم تعلق قدرته بكل موجود.
فصل
قال الجبري: دليل التوحيد ينفي كون العبد فاعلًا، وأن يكون لقدرته تأثير في فعله، وتقريره بدليل التمانع.
قال السني: دليل التوحيد إنما ينفي وجود ربّ ثان، ويدل على أنه لا ربّ إلا هو سبحانه، ولا يدل على امتناع وجود مخلوق له قدرة وإرادة مخلوقة يُحدِث بها، وهو وقدرته وإرادته وفعله مخلوق لله. فهو بعد طول مقدماته، واعتراف فضلائكم بالعجز عن تقريره، وذِكْر ما في مقدماته من منع ومعارضة= إنما ينفي وجود قادرَيْن متكافئيْن، قدرة كل واحد منهما من لوازم ذاته، ليست مستفادة من الآخر، وهو دليل صحيح في نفسه، وإن عجزتم عن تقريره، ولكن ليس فيه ما ينفي أن تكون قدرة العبد وإرادته سببًا لوجود مقدوره، وتأثيرها فيه تأثير الأسباب في مسبباتها، فلا للتوحيد قررتم بدليل التمانع، ولا للجبر، وقد كفانا أفضل متأخريكم بيان ما في هذا الدليل من المُنُوع
(1)
والمعارضات.
(1)
"د": "الممنوع"، و"المُنُوع" جمع دارج في كتب الكلام لـ "مَنْع"، انظر على سبيل المثال:"تنبيه الرجل العاقل"(1/ 31، 244)، "المواقف"(2/ 672).
قال الجبري: دعنا من هذا كله، أليس في القول بتأثير قدرة العبد في مقدوره مع الاعتراف بأن الله سبحانه قادر على مقدور العبد= إلزام وقوع المقدور الواحد بين القادرَيْن، والدليل ينفيه.
قال السني: ما تعني بقولك: "يلزم وقوع مقدور بين قادرَيْن"؟
أتعني به قادرَيْن مستقلَّيْن متكافئيْن؟ أم تعني به قادرَيْن تكون قدرة أحدهما مستفادة من الآخر؟ فإن عنيتَ الأول مُنِعت الملازمةُ، وإن عنيتَ الثاني مُنِع انتفاءُ اللازم.
ومثبتو الكَسْب يجيبون عن هذا بأنه لا يمتنع وقوع مقدور بين قادرَيْن لقدرة أحدهما تأثير في إيجاده، ولقدرة الآخر تأثير في صفته، كما يقوله القاضي أبو بكر ومن تبعه، والأشعري يجيب عنه على أصله، بأن الفعل وقع بين قادرَيْن لا تأثير لقدرة أحدهما في المقدور، بل تَعلُّق قدرته بمقدورها كتَعلُّق العلم بمعلومه، وإنما الممتنع عنده وقوع مقدور بين قادرَيْن مؤثِّرَيْن، وهذا الاعتذار لا يُخرِج عن الجَبْر، وإن زُخْرِفت له العبارات.
وأجاب عنه الحسينية
(1)
بما حكيناه: أنه لا يمتنع مقدور بين قادرَيْن على سبيل البدل، ويمتنع على سبيل الجمع، وقد تقدم فساده.
وأجاب عنه المشايخية: بأنه مقدور للعبد، وليس مقدورًا للربِّ. وهذا أبطل الأجوبة وأفسدها، والقائلون به يقولون: إن الله ــ سبحانه عن أقاويلهم ــ يريد الشيء فلا يكون، ويكون الشيء بغير إرادته ومشيئته، فيريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد، وكفى بهذا بطلانًا وفسادًا.
(1)
في حاشية "م" بقلم الناسخ: "يعني به أبو [كذا] الحسين وأصحابه".
قال الجبري: الفعل عند المرجِّح التام واجب، والمرجِّح ليس من العبد، وإلا لزم التسلسل، فهو من الربّ تعالى، فإذا وجب الفعل عنده فهو الجَبْر بعينه.
قال السني: قد تقدم هذا الدليل وبيان ما فيه، وحيث أعدتموه بهذه العبارة الوجيزة المختصرة، فنحن نذكر الأجوبة عنه كذلك.
قولكم: "لابد من مرجِّح للفعل على الترك، أو بالعكس" مسلَّم، قولكم:"المرجِّح إن كان من العبد لزم التسلسل، وإن كان من الرب لزم الجَبْر" جوابه: ما المانع أن يكون من فعل العبد ولا يلزم التسلسل، بأن يكون مِن فعله على وجه لا يكون الترك ممكنًا له حينئذ، ولا يلزم من سَلْب الاختيار عنه في فعل
(1)
المرجِّح سَلْبه عنه مطلقًا.
ثم ما المانع أن يكون المرجِّح مِن فعل الله ولا يلزم الجَبْر، فإنكم إن عنيتم بالجبر أنه غير مختار للفعل، ولا مريد له؛ لم يلزم الجَبْر بهذا الاعتبار؛ لأن الرب تعالى جعل المرجِّح اختيار العبد ومشيئته، فانتفى الجَبْر، وإن عنيتم بالجبر أنه وُجِد لا بإيجاد العبد؛ لم يلزم الجَبْر أيضًا بهذا الاعتبار
(2)
، وإن عنيتم أنه يجب عند وجود المرجِّح، وأنه لابدّ منه؛ فنحن لا ننفي الجَبْر بهذا الاعتبار، وتسمية ذلك "جبرًا" اصطلاح محض، وهو اصطلاح فاسد؛ فإن فعل الربّ سبحانه يجب عند وجود مرجِّحه التام، ولا يكون ذلك جبرًا بالنسبة إليه سبحانه.
(1)
"م": "من فعل"، "ج":"وفعل".
(2)
من قوله: "وإن عنيتم بالجبر" إلى هنا ساقط من "د".
ثم هذا لازم على من أثبت الكَسْب منكم، فنقول له في الكَسْب ما قاله في أصل الفعل سواء، ومن لم يثبت الكَسْب لزمه ذلك في فعل الربّ كما تقدم.
فإن قلتم: الفرق أن صدور الفعل عن القادر موقوف عن الإرادة، وإرادة العبد مُحْدَثة، فافتقرت إلى مُحْدِث، فإن كان ذلك المُحْدِث هو العبد لزم التسلسل، فوجب انتهاء جميع الإرادات إلى إرادة ضرورية يخلقها الله في القلب ابتداء، ويلزم منه الجَبْر، بخلاف إرادة الرب تعالى؛ فإنها قديمة مستغنية عن إرادة أخرى، فلا تسلسل.
قيل لكم: لا يجدي هذا عليكم في دفع الإلزام؛ فإن الإرادة القديمة إما أن يصح معها الفعل بدلًا عن الترك، وبالعكس، أو لا، فإن كان الأول فلابد لأحد الطرفين من مرجِّح، والكلام في ذلك المرجِّح كالكلام في الأول، ويلزم التسلسل، وإن كان الثاني لزم الجَبْر.
قال الجبري: معتمدي في الجَبْر على حرف لا خلاص لكم منه إلا بالتزام الجَبْر، وهو أن العبد لو كان فاعلًا لفعله لكان مُحْدِثًا له، ولو كان مُحْدِثًا له لكان خالقًا له، والشرع والعقل ينفيه، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].
قال السني: قد دلّ العقل والشرع والحسّ على أن العبد فاعل لفعله، وأنه يستحق عليه الذم واللعن، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى حمارًا قد وُسِم في وجهه: فقال: "ألم أنْهَ عن هذا؟! لعن الله من فعل هذا"
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (20288) ـ واللفظ له ـ، ومسلم (2117) من حديث جابر.
وقال تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74]، وقال:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]، وقال:{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر: 70].
وهذا في القرآن أكثر من أن يُذْكر، والحسُّ شاهد به، فلا تُقبل شبهة تقام على خلافه، ويكون حكم تلك الشبهة حكم القدح في الضروريات، فلا يُلتفت إليه، ولا يجب على العالِم حلّ كلّ شبهة تعرض لكل أحد؛ فإن هذا لا آخر له.
فقولكم: "لو كان فاعلًا لفِعْله لكان مُحْدِثًا له"، إن أردتم بكونه مُحْدِثًا صدور الفعل منه، اتحد اللازم والملزوم، وصار حقيقة قولكم: لو كان فاعلًا لكان فاعلًا. وإن أردتم بكونه مُحْدِثًا كونه خالقًا سألناكم: ما تعنون بكونه خالقًا؟ هل تعنون به كونه فاعلًا، أو تعنون به أمرًا آخر، فإن أردتم الأول كان اللازم فيه عين الملزوم، وإن أردتم أمرًا آخر غير كونه فاعلًا فبيّنوه.
فإن قلتم: نعني به كونه موجِدًا للفعل من العدم إلى الوجود.
قيل: هذا معنى كونه فاعلًا، فما الدليل على إحالة هذا المعنى، فسمّوه ما شئتم: إحداثًا أو إيجادًا أو خلقًا، فليس الشأن في التسميات، وليس الممتنع إلا أن يكون مستقلًّا بالإيجاد، وهذا غير لازم لكونه فاعلًا؛ فإنا قد بيّنا أن غاية قدرة العبد وإرادته وداعيه وحركته أن تكون جزء سبب، وما يتوقف عليه الفعل من الأسباب التي لا تدخل تحت قدرته وكسبه أكثر من الجزء الذي إليه بأضعاف مضاعفة، والفعل لا يتم إلا بها.
فإن قيل: فهذا الجَبْر بعينه.
قيل: ذاك السبب الذي أعني به من القدرة والإرادة، هو الذي أخرجه من الجَبْر، وأدخله في الاختيار، وكون ذلك السبب من خالقه وفاطره ومنشئه هو الذي أخرجه من الشرك والتعطيل، وأدخله في باب التوحيد، فالأول أدخله في باب العدل، والثاني أدخله في باب التوحيد، ولم يكن ممن نقض التوحيد بالعدل، ولا ممن نقض العدل بالتوحيد، فهؤلاء جنوا على التوحيد، وهؤلاء جنوا على العدل، وهدى الله أهل السنة للتوحيد والعدل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * * *