المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب التاسع عشرفي ذكر مناظرة جرت بين جبري وسني جمعهما مجلس مذاكرة - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض

- ‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابعفي ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامسفي ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادسفي ذكر التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابعفي أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب

- ‌الباب الثامنفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسعفي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌المخاصمون في القدر نوعان:

- ‌الباب العاشرفي مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌ لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:

- ‌المقدور يكتنفه أمران:

- ‌الباب الحادي عشرفي ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشرفي ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها

- ‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشرفي الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى

- ‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه

- ‌كيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه

- ‌كيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر

- ‌ما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها

- ‌هل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

- ‌ما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه

- ‌هل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي

- ‌ما ذنب من لا يصلح

- ‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته

- ‌ العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار

- ‌الباب السابع عشرفي الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك

- ‌ هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة

- ‌الباب الثامن عشرفي فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال

- ‌ الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل

- ‌الباب التاسع عشرفي ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌ ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته:

الفصل: ‌الباب التاسع عشرفي ذكر مناظرة جرت بين جبري وسني جمعهما مجلس مذاكرة

‌الباب التاسع عشر

في ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة

قال الجبري: القول بالجبر لازم لصحة التوحيد، ولا يستقيم التوحيد إلا به؛ لأنا إن لم نقل بالجبر أثبتنا فاعلًا للحوادث مع الله، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وهذا شرك ظاهر لا يُخلّص منه إلا القول بالجبر.

قال السني: بل القول بالجبر منافٍ للتوحيد، ومع منافاته للتوحيد فهو مناف للشرائع، ودعوة الرسل، والثواب والعقاب، فلو صحّ الجَبْر لبطلت الشرائع، وبطل الأمر والنهي، ويلزم من بطلان ذلك بطلان الثواب والعقاب.

قال الجبري: ليس العجب دعواك منافاة الجَبْر للأمر والنهي، والثواب والعقاب؛ فإن هذا لم يزل يُقال، وإنما العجب دعواك منافاته للتوحيد، وهو من أقوى أدلة التوحيد، فكيف يكون المُقرِّر للشيء، المُقوّي له منافيًا له؟!

قال السني: منافاته للتوحيد من أظهر الأمور، ولعلها أظهر من منافاته للأمر والنهي، وبيان ذلك أن أصل عقد التوحيد وأساسه هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والجبر ينافي الكلمتين؛ فإن الإله هو المستحق لصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، وهو الذي تألهه القلوب، وتصمد إليه بالحب والخوف والرجاء، فالتوحيد الذي جاءت به الرسل هو إفراد الربّ بالتألّه، الذي هو كمال الذلّ والخضوع والانقياد له، مع كمال المحبة والإنابة، وبذل الجهد في طاعته ومرضاته، وإيثار محابّه ومراده الديني على محبة العبد ومراده، فهذا أصل دعوة الرسل، وإليه دعوا

ص: 454

الأمم، وهو التوحيد الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو الذي أمر به رسله، وأنزل به كتبه، ودعا إليه عباده، ووضع لهم دار الثواب والعقاب لأجله، وشرع الشرائع لتكميله وتحصيله.

وكان من قولك أيها الجبري: إن العبد لا قدرة له على هذا البتّة، ولا أثر له فيه، ولا هو فعله، وأمْره بهذا أمْر له بما لا يطيق، بل أمْر له بإيجاد فعل الربِّ، وأن الربّ تعالى أَمَرَه بذلك، وأجبره على ضده، وحال بينه وبين ما أَمَرَه به، ومنعه منه، وصدّه عنه، ولم يجعل له إليه سبيلًا بوجه من الوجوه.

مع قولك: إنه لا يُحِبّ، ولا يُحَبّ، فلا تتألّهه القلوب بالمحبّة والودّ والشوق والطلب وإرادة وجهه، والتوحيد معنى ينتظم من إثبات الإلهية وإثبات العبودية، فرفَعْتَ معنى الإلهية بإنكار كونه محبوبًا مودودًا، تتنافس القلوب في محبته وإرادة وجهه، والشوق إلى لقائه، ورفَعْتَ حقيقة العبودية بإنكارك كون العبد فاعلًا وعابدًا ومحِبًّا، فإن هذا كله مجاز لا حقيقة له عندك.

فضاع التوحيد بين الجَبْر وإنكار محبته وإرادة وجهه، لاسيما والوصف الذي وصفتَه به منفّرٌ للقلوب عنه، حائل بينها وبين محبته؛ فإنك وصفته بأنه يأمر عبده بما لا قدرة له على فعله، وينهاه عما لا يقدر على تركه، بل يأمره بفعله هو سبحانه، وينهاه عن فعله هو، ثم يعاقبه أشد العقوبة على ما لم يفعله البتّة، بل يعاقبه على أفعاله هو سبحانه.

وصرّحتَ بأن عقوبته على ترك ما أمره، وفعل ما نهاه بمنزلة عقوبته له على ترك طيرانه إلى السماء، وترك تحويله الجبال عن أماكنها، ونقله مياه البحار عن مواضعها، وبمنزلة عقوبته له على ما لا صنع له فيه من لونه

ص: 455

وطوله وقصره.

وصرّحتَ بأنه يجوز عليه أن يعذب أشدّ العذاب من

(1)

لم يعصه طرفة عين، وأن حكمته ورحمته لا تمنع ذلك، بل هو جائز عليه، ولولا خبره عن نفسه بأنه لا يفعل ذلك لم تنزّهه عنه.

وقلتَ: إنّ تكليفه عبادَه بما كلفهم به بمنزلة تكليف الأعمى للكتابة، والزَّمِن للطيران!

فبغّضتَ الربَّ إلى من دعوته إلى هذا الاعتقاد، ونفّرتَه عنه، وزعمتَ أنك تقرر بذلك توحيده، وقد قلعتَ شجرة التوحيد من أصلها.

وأما منافاة الجَبْر للشرائع فأمر ظاهر لا خفاء به؛ فإنّ مبنى الشرائع على الأمر والنهي، وأمر الآمر لغيره بفعل نفسه لا بفعل المأمور، ونهيه عن فعله لا فعل المنهي= عبثٌ ظاهر؛ فإن متعلّق الأمر والنهي فعل العبد وطاعته ومعصيته، فمن لا فعل له كيف يتصور أن يوصف بطاعة أو معصية؟!

وإذا ارتفعت حقيقة الطاعة والمعصية ارتفعت حقيقة الثواب والعقاب، وكان ما يفعله الله بعباده يوم القيامة من النعيم والعذاب أحكامًا جارية عليهم بمحض المشيئة والقدرة، لا أنها بأسباب طاعاتهم ومعاصيهم.

بل ههنا أمر آخر، وهو أن الجَبْر منافٍ للخَلْق كما هو مناف للأمر؛ فإن الله سبحانه له الخَلْق والأمر، وما قامت السماوات والأرض إلا بعدله، فالخَلْق قام بعدله، وبعدله ظهر، كما أن الأمر بعدله، وبعدله وُجِد، فالعدل سبب وجود الخَلْق، والأمر غايته، فهو علّته الفاعلية والغائية، والجبر لا

(1)

في الأصول: "لمن"، والصواب المثبت.

ص: 456

يجامع العدل كما لا يجامع الشرع والتوحيد.

قال الجبري: لقد نطقتَ أيها السني بعظيم، وفهْتَ بكبير، وناقضتَ بين متوافقَيْن، وخالفتَ بين متلازمَيْن؛ فإن أدلة العقول، والشرع المنقول، قائمة على الجَبْر، وما دلّ عليه العقل والنقل كيف ينافي موجب الشرع والعقل؟!

فاسمع الآن الدليل الباهر، والبرهان القاهر على الجَبْر، ثم نتبعه بأمثاله

(1)

، فنقول:

صدور الفعل عند حصول القدرة والداعي: إما أن يكون واجبًا أو لا يكون واجبًا، فإن كان واجبًا كان فعل العبد اضطراريًا، وذلك عين الجَبْر؛ لأن حصول القدرة والداعي ليس للعبد

(2)

، وإلا لزم التسلسل، وهو ظاهر. وإذا كان كذلك فعند حصولهما يكون الفعل واجبًا، وعند عدم حصولهما يكون الفعل ممتنعًا، فكان

(3)

الجَبْر لازمًا لا محالة.

وأما إن لم يكن حصول الفعل عند حصول القدرة والداعي واجبًا: فإما أن يتوقف رجحان الفعل على رجحان الترك على مرجِّح، أو لا يتوقف، فإن توقف كان حصول ذلك الفعل عند حصول المرجِّح واجبًا، وإلا عاد الكلام، ولزم التسلسل، وإذا كان واجبًا كان اضطراريًا، وهو عين الجَبْر، وإن لم يتوقف على مرجِّح كان جائز الوقوع وجائز العدم، فوقوعه بغير مرجِّح يستلزم حصول الأثر بلا مؤثِّر، وذلك محال.

(1)

"د""ج": "بأمثال"، والمثبت من "م".

(2)

"د""ج": "بالعبد"، والمثبت من "م".

(3)

"د""م": "وكان"، والمثبت من "ج".

ص: 457

فإن قلتَ: المرجِّح هو إرادة العبد.

قلتُ لك: إرادة العبد حادثة، والكلام في حدوثها كالكلام في حدوث المراد بها، ويلزم التسلسل.

قال السني: هذا أحدّ سهم في كنانتك، وهو بحمد الله سهم لا ريش له ولا نصل مع عوجه، وعدم استقامته، وأنا أستفسرك عما في هذه الحجة من الألفاظ المجملة المشتملة على حق وباطل، وأبين لك فسادها.

فما تعني بقولك: إن كان الفعل عند القدرة والداعي واجبًا كان فعل العبد اضطراريًا، وهو عين الجَبْر؟

أتعني به: أنه يكون مع القدرة والداعي بمنزلة حركة المرتعش، وحركة من نفضته الحمّى، وحركة من رُمِي به من مكان عالٍ، فهو يتحرك في نزوله اضطرارًا منه؟ أم تعني به: أن الفعل عند اجتماع القدرة والداعي يكون لازم الوقوع بالقدرة والداعي؟

فإن أردتَ بكونه اضطراريًا المعنى الأول: كذبتك العقول والفطر والحسّ والعيان؛ فإن الله فطر عباده على التفريق بين حركة مَن رُمِي به من شاهق، فهو يتحرك إلى أسفل، وبين حركة مَن يرقى في الجبل إلى علوه، وبين حركة المرتعش، وحركة المصفّق، وبين حركة الزاني والسارق والمجاهد والمصلي، وحركة المكتوف الذي قد أوثق رباطًا وجُرّ على الأرض. فمن سوَّى بين الحركتين فقد خلع ربقة العقل والفطرة والشِّرْعة من عنقه.

وإن أردتَ المعنى الثاني، وهو كون الفعل لازم الوجود عند وجود

ص: 458

القدرة والداعي: فهذا المعنى حق، ويكون حقيقة قولك: إن كان لازم الوجود عند القدرة والداعي كان لازم الوجود، وهذا لا فائدة فيه، وكونه لازمًا وواجبًا بهذا المعنى لا ينافي كونه مختارًا للعبد، مرادًا له، مقدورًا له، غير مُكْرَه عليه ولا مجبور، فهذا الوجوب واللزوم لا ينافي الاختيار.

ثم نقول: لو صحَّت هذه الحجة لزم أن يكون الربّ سبحانه مضطرًا على أفعاله، مجبورًا عليها بعين ما ذكرتَ من مقدماتها؛ فإنه سبحانه يفعل بقدرته ومشيئته، وما ذكرتَ من وجوب الفعل عند القدرة والداعي، وامتناعه عند عدمهما؛ ثابت في حقه سبحانه.

وقد اعترف أصحابك بهذا الإلزام، وأجابوا عنه بما لا يجدي شيئًا.

قال ابن الخطيب

(1)

عقيب ذكر هذه الشبهة: فإن قلتَ: هذا ينفي كونه فاعلًا مختارًا؟

قلتُ: الفرق أن إرادة العبد مُحْدَثة، فافتقرت إلى إرادة يحدثها الله؛ دفعًا للتسلسل، وإرادة البارئ قديمة، فلم تفتقر إلى إرادة أخرى

(2)

.

وردَّ هذا الفرق صاحب "التحصيل"

(3)

، فقال: ولقائل أن يقول: هذا لا

(1)

هو الفخر الرازي، ويقال له أيضًا: ابن خطيب الري، انظر:"تاريخ الإسلام"(13/ 137).

(2)

بنحوه في: "الأربعين"(1/ 323)، "المطالب العالية"(9/ 27).

(3)

هو سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي (682 هـ)، و"التحصيل" مختصر من "المحصول" للرازي، انظر:"طبقات الشافعية الكبرى"(8/ 371)، ولم أقف على موضع هذا الاعتراض من كلام الأرموي، وممن رد التقسيم المذكور القرافي في "نفائس الأصول في شرح المحصول"(1/ 358).

ص: 459

يدفع التقسيم المذكور.

قلت: فإن التقسيم متردّد بين لزوم الفعل عند الداعي وامتناعه عند عدمه، وهذا التقسيم ثابت في حق الغائب والشاهد، وكون إرادة الربِّ تعالى قديمة من لوازم ذاته لا فاعل لها= لا يمنع هذا الترديد والتقسيم؛ فإن عند تعلقها بالمراد يلزم وقوعه، وعند عدم تعلقها به يمتنع وقوعه، وهذا اللزوم والامتناع لا يخرجه سبحانه عن كونه فاعلًا مختارًا

(1)

.

ثم نقول: هذا المعنى لا يسمّى جبرًا ولا اضطرارًا؛ فإن حقيقة الجَبْر ما حصل بإكراه غير الفاعل له على الفعل، وحمله على إيقاعه بغير رضاه واختياره، والربّ تعالى هو الخالق للإرادة والمحبة والرضا في قلب العبد، فلا يسمّى ذلك جبرًا، لا لغة ولا عقلًا ولا شرعًا.

ومن العجب احتجاجك بالقدرة المُحْدَثة والداعي على أن الفعل الواقع بهما اضطراري من العبد، والفعل عندك لم يقع بهما، ولا هو فِعْل للعبد بوجه، وإنما هو عين فعل الله، وذلك لا يتوقف على قدرة من العبد ولا داع منه، ولا هناك ترجيح له عند وجودهما، ولا عدم ترجيح عند عدمهما، بل نسبة الفعل إلى القدرة والداعي كنسبته إلى عدمهما، فالفعل عندك عين

(2)

فعل الله، فلا ترجيح هناك من العبد ولا مرجِّح، ولا تأثير ولا أثر، فالفعل للربِّ حقيقة عندك، فإذا كان واجبًا بقدرته ومشيئته ـ وذلك عين الجَبْر ـ لزمك أن يكون الربّ تعالى مجبورًا على أفعاله، وهذا مما لا محيد

(1)

انظر: "شرح الأصول الخمسة"(415، 422 - 431).

(2)

"د""م""ج": "غير" خطأ مفسد للمعنى، والتصويب من "ت".

ص: 460

لك عنه، ولا مفرّ لك منه.

قال السني: وقد أجابك إخوانك من القدرية عن هذه الحجة بأجوبة أخرى.

فقال أبو هاشم وأصحابه: لا يتوقف فعل القادر على الداعي، بل يكفي في فعله مجرد قدرته.

قالوا: فقولك: عند حصول الداعي: إما أن يجب الفعل أو لا يجب؟ عندنا لا يجب الفعل بالداعي، ولا يتوقف عليه

(1)

.

ولا يمكنك ــ أيها الجبري ــ الرد على هؤلاء؛ فإن الداعي عندك لا تأثير له في الفعل البتّة، ولا هو متوقف عليه، ولا على القدرة؛ فإن القدرة الحادثة عندك لا تؤثر في مقدورها، فكيف يؤثر الداعي في الفعل، فهذه الحجة لا تتوجه على أصولك البتّة، وغايتها إلزام خصومك بها على أصولهم.

وقال أبو الحسين البصري وأصحابه: يتوقف الفعل على الداعي.

ثم قال أبو الحسين: إذا تجرد الداعي وجب وقوع الفعل، ولا يخرج بهذا الوجوب عن كونه اختياريًا.

وقال محمود الخوارزمي صاحبه: لا ينتهي بهذا الداعي إلى حَدِّ الوجوب، بل يكون وجوده أولى

(2)

. ه

(1)

ناقش القاضي هذه المسألة في عدة فصول من الجزء الخاص بالمخلوق في كتابه "المغني في أبواب التوحيد والعدل"(8/ 53، 63)، ونقل عن أبي هاشم جملة نقول.

(2)

حكى هذه الأقوال الرازي في "الأربعين"(319 - 320)، وانظر:"منهاج السنة"(3/ 248 - 251)، "مجموع الفتاوى"(16/ 380).

ص: 461

قالوا: فنجيبك عن هذه الشبهة على الرأيين جميعًا.

أما على رأي أبي هاشم فنقول: صدور إحدى الحركتين عنه دون الأخرى لا يحتاج إلى مرجِّح، بل من شأن القادر أن يوقع الفعل من غير مرجِّح لجانب وجود على عدمه.

قالوا: ولا استبعاد في العقل في وجود مخلوق يتمكن من الفعل بدلًا عن الترك، وبالضدّ من غير مرجِّح، كما أن النائم والساهي يتحركان من غير داع وإرادة.

فإن قلتم: بل هناك داعٍ وإرادة لا يذكرها النائم والناسي؛ كان ذلك مكابرة.

قلت: وأصحاب هذا القول يقولون: إن القادر هو الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل، وأصحاب القول الأول يقولون: بل يفعل مع وجوب أن يفعل، ومحمود الخوارزمي توسط بين المذهبين، وقال: بل يفعل مع أولوية أن يفعل، ولا ينتهي الترجيح إلى حَدّ الوجوب، فالأقوال خمسة:

أحدها: أن الفعل موقوف على الداعي، فإذا انضمت القدرة إليه وجب الفعل بمجموع الأمرين، وهذا قول جمهور العقلاء، ولم يصنع ابن الخطيب شيئًا في نسبته له إلى الفلاسفة وأبي الحسين البصري من المعتزلة

(1)

.

الثاني: أن الفعل يجب بقدرة الله، وقدرة العبد، وهذا قول

(1)

"الأربعين"(319).

ص: 462

من يقول: إن قدرة العبد مؤثرة في مقدوره مع قدرة الله على عين مقدور العبد، وهذا قول أبي إسحاق

(1)

، واختيار الجويني في "النظامية"

(2)

.

الثالث: قول من يقول: يجب بقدرة الله فقط، وهذا قول الأشعري، والقاضي أبي بكر، ثم اختلفا

(3)

.

فقال القاضي: كونه فعلًا واقع بقدرة الله، وكونه صلاة أو حجًا أو زنًا أو سرقة واقع بقدرة العبد، فتأثير قدرة الله في ذات الفعل، وتأثير قدرة العبد في صفة الفعل.

وقال الأشعري: أصل الفعل ووصفه واقعان بقدرة الله، ولا تأثير لقدرة العبد في هذا ولا هذا.

الرابع: قول مَن يقول: لا يجب الفعل من القادر البتّة، بل القادر هو الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل، فلا ينتهي فعل القادر المختار إلى الوجوب أصلًا، وهذا قول أبي هاشم وأصحابه.

الخامس: أنه يكون عند الداعي أولى بالوقوع، ولا ينتهي إلى حدّ الوجوب، وهذا قول الخوارزمي.

وقد سلّم أبو الحسين أن الفعل يجب مع الداعي، وسلّم أن الداعي مخلوق لله، وقال: إن العبد مستقل بإيجاد فعله، قال: والعلم بذلك ضروري.

(1)

هو الإسفراييني، وتحرفت في "د" و"م" إلى:"ابن إسحاق"، وعلى الصواب في "ج"، وانظر:"محصل أفكار المتقدمين"(194).

(2)

"النظامية"(42 - 49).

(3)

انظر: "التمهيد"(286)، "الإنصاف"(43)، "المطالب العالية"(9/ 10)، "الأربعين"(320).

ص: 463

قال ابن الخطيب: "وهذا غلو منه في القدر. وقوله: "إنه يتوقف على الداعي، والداعي خلق لله" غلو في الجَبْر، فجمع بين القدر والجبر مع غلوه فيهما"

(1)

.

ولم ينصفه؛ فليس ما ذهب إليه غلوًا في قدر ولا جبر؛ فإنّ توقف الفعل على الداعي ووجوبه عنده بقدرة العبد ليس جبرًا، فضلًا أن يكون غلوًا فيه، وكون العبد مُحْدِثًا لفعله ضرورة بما خلقه الله فيه من القدرة والاختيار ليس قولًا بمذهب القدرية، فضلًا عن كونه غلوًا فيه.

فصل

قال الجبري: إذا كان الداعي ليس من أفعالنا، وهو عِلْم القادر أن في ذلك الفعل مصلحة له، وذلك أمر مركوز في طبيعته التي خُلِق عليها، وذلك مفعول لله فيه، والفعل واجب عنده= فلا معنى للجبر إلا هذا.

قال له السني: أخوك القدري يجيبك عن هذا: بأن ذلك الداعي قد يكون علمًا، وقد يكون اعتقادًا، وقد يكون ظنًّا، وقد يكون جهلًا وغلطًا، وهذه أمور يحدثها الإنسان في نفسه، فيفعل على حسب ما يَتوهّم أن فيه مصلحته: صادفها أو لم يصادفها، فالداعي لا ينحصر في العلم خاصة.

قال الجبري: لا يساوي هذا الجواب شيئًا؛ فإن العطشان مثلًا يدعوه الداعي إلى شرب الماء لعلمه بنفعه، وشهوته وميله إلى شربه، وذلك العلم وتلك الشهوة والميل إلى الشرب من فعل الله فيه، فيجب على القدري أن يترك مذهبه صاغرًا داخرًا، ويعترف بأن ذلك الفعل مضاف إلى من خَلَق فيه

(1)

"الأربعين"(319 - 320).

ص: 464

الداعي المقتضي.

قال القدري: ذلك الداعي وإن كان من فعل الله تعالى إلا أنه جار مجرى فعل المكلَّف؛ لأنه قادر على أن يبطل أثره بأن يستحضر صارفًا عن الشرب، مثل أن يحجم عن الشرب تجربة هل يقدر على مخالفة الداعي أم لا، فإحجامه لأجل التجربة أثرُ داعٍ ثان هو الصارف

(1)

؛ يعارض الداعي، فالحي قادر على تحصيله، وقادر على إبقاء الداعي الأول بحاله

(2)

، فإبقاؤه الداعي الأول بحاله، وإعراضه عن إحضار المعارض له؛ أمر لولاه ما حصل الشرب، فمن هذا الوجه كان الشرب فعلًا له؛ لأنه قادر على تحصيل الأسباب المختلفة التي تصدر عنها الآثار.

ويصير هذا كمن شاهد إنسانًا في نار متأجّجة، وهو قادر على إطفائها عنه من غير مشقة ولا مانع، فإنه إن لم يطفئها استحق الذم، وإن كان الإحراق من أثر النار.

وقد أجاب ابن أبي الحديد بجواب آخر، فقال: ويمكن أن يقال: إذا تجرد الداعي كما ذكرتم في صورة العطشان، فإن التكليف بالفعل والترك يسقط؛ لأنه يصير أسوأ حالًا من المُلجَأ.

وهذا من أفسد الأجوبة على أصول جميع الفرق؛ فإن مقتضى التكليف قائم، فكيف يسقط مع حضور العقل

(3)

والقدرة؟

(1)

"م": "أثر داع بأن هذا الصارف".

(2)

"د": "مخالفة" دون إعجام.

(3)

"ج": "الفعل".

ص: 465

وهذا قسم رابع من الذين رُفِع عنهم التكليف أثبته هذا القدري زائدًا على الثلاثة الذين رُفِع عنهم القلم، وهذا خرق منه لإجماع الأمة المعلوم بالضرورة، ولو سقط التكليف عند تجرد الداعي لكان كل من تجرد داعيه إلى فعل ما أُمِر به؛ قد سقط عنه التكليف.

وهذا القول أقبح من القول بتكليف ما لا يطاق، ولهذا كان القائلون به

(1)

أكثر من هذا القائل، وقولهم يُحكى، ويناظر عليه.

قال الجبري: إذا كان الداعي من الله، وهو سبب الفعل، والفعل واجب عنده، كان خالق الفعل هو خالق الداعي؛ لأنّ خَلْقَ السبب خَلْقُ المُسَبَّب.

قال السني: هذا حق، فإن الداعي مخلوق لله في العبد، وهو سبب الفعل، فالفعل مضاف إلى الفاعل؛ لأنه صدر منه، ووقع بقدرته ومشيئته واختياره، وذلك لا يمنع إضافته بطريق العموم إلى من هو خالق كل شيء، وهو على كل شيء قدير.

وأيضًا: فالداعي ليس هو المؤثِّر، بل هو شرط في تأثير القادر في مقدوره، وكون الشرط ليس من العبد لا يخرجه عن كونه فاعلًا، وغاية قدرة العبد وإرادته الجازمة أن تكون شرطًا، أو جزء سبب، والفعل موقوف على شروط وأسباب لا صنع للعبد فيها البتّة.

وأسهل الأفعال فتح العين لرؤية الشيء، فهب أن فتح العين فعل العبد إلا أنه لا يستقل بالإدراك، فإن تمام الإدراك موقوف على خلق الدرك، وكونه قابلًا للرؤية، وخلق آلة الإدراك وسلامتها، وصرف الموانع عنها، فما

(1)

يعني: القائلين بتكليف ما لا يطاق.

ص: 466

تتوقف عليه الرؤية من الأسباب والشروط التي لا تدخل تحت مقدور العبد أضعاف أضعاف ما يقدر عليه، من تقليب حدقته نحو المرئي، فكيف يقول عاقل: إن جزء السبب أو الشرط موجِب مستقل لوجود الفعل؟!

وهذا الموضع مما ضَلَّ فيه الفريقان، حيث زعمت القدرية أنه موجِب للفعل، وزعمت الجبرية أنه لا أثر له فيه، فخالفت الطائفتان صريح المعقول والمنقول، وخرجت عن السمع والعقل.

والتحقيق أن قدرة العبد وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء السبب التام الذي يجب به الفعل، فمن زعم أن العبد مستقل بالفعل مع أن أكثر أسبابه ليست إليه فقد خرج عن موجِب العقل والشرع.

فهب أن داعي حركة الضرب منك مستقل بها، فهل سلامة الآلة منك؟ وهل وجود المحل المُنفَعِل، وقبوله منك؟ وهل خَلْق الفضاء بينك وبين المضروب، وخلوه عن المانع منك؟ وهل إمساك قدرته عن مُقارِنك

(1)

، وغَلَبك منك؟ وهل خَلْق الآلة التي بها تضرب منك؟ وهل خَلْق الألم فيه بعد الضرب منك؟ وهل القوة التي في اليد، والرباطات والاتصالات التي بين عظامها، وشدّ أسرها منك؟

ومن زعم أنه لا أثر للعبد بوجه ما في الفعل، وأن وجود قدرته وإرادته وعدمهما بالنسبة إلى الفعل على السواء؛ فقد كابر العقل والحس.

(1)

"ج": "مضاربتك"، والمثبت من "م"، ومثله في "د" دون إعجام، ويكون المُقارِن هنا بنحو الصاحب، ويشبه أن تكون:"مضاربك"، يقال: ضارب الرجل مضاربة، كما في "المخصص"(2/ 52).

ص: 467

قال الجبري: إن انتهت سلسلة المرجِّحات إلى مرجِّح من الله يجب عنده الفعل لزم الجَبْر، وإن انتهت إلى مرجِّح من العبد فذلك المرجِّح ممكن لا محالة، فإن ترجّح بلا مرجِّح انسدّ عليكم باب إثبات الصانع؛ إذ جوّزتم رجحان أحد طرفي الممكن بلا مرجِّح، وإنْ توقف على مرجِّح آخر لزم التسلسل، فلا بدّ من انتهائه إلى مرجِّح من الله لا صنع للعبد فيه.

قال السني: أما إخوانك القدرية فإنهم يقولون: القادر المختار يُحْدِث إرادته وداعيه بلا مرجِّح من غيره.

قالوا: والفطرة شاهدة بذلك؛ فإنا لا نفعل ما لم نرد، ولا نريد ما لم نعلم أن في الفعل منفعة لنا أو دفع مضرة، ولا نجد لهذه الإرادة إرادة أحدثتها، ولا لعِلْمنا بأنّ ذلك نافعٌ علمًا آخر أحدثه، فالمرجِّح هو ما خُلِق عليه العبد، وفُطِر عليه من صفاته القائمة به، فالله سبحانه أنشأ العبد نشأة يتحرك فيها بالطبع، فحركته بالإرادة والمشيئة من لوازم نشأته وكونه حيوانًا، فإراداته وميوله من لوازم كونه حيًّا، فأفعال العبد الخاصة به هي الدواعي والإرادات لا غير، وما يقع بها من الأفعال شبيه بالفعل المتولّد من حيث كان المتولّد مُسَبّبًا، وهذه الأفعال صادرة عن الدواعي التي يُحْدِثها

(1)

العبد ابتداء من غير واسطة، فاشتراكهما في أنّ كل واحد منهما مستند إلى فعل خاص بالعبد، فهما متماثلان من هذه الجهة.

قال السني: وهذا جواب باطل بأبطل منه، ورد فاسد بأفسد منه، ومعاذ

(1)

تحتمل في "م": "عرفها"، والمثبت من "د".

ص: 468

الله، والله أكبر وأجل وأعظم وأعز

(1)

أن يكون في عبده شيء غير مخلوق له، ولا هو داخل تحت قدرته ومشيئته، فما قَدَر الله

(2)

حقّ قَدْره من زعم ذلك، ولا عرفه حقّ معرفته، ولا عظّمه حقّ تعظيمه، بل العبد جسمه وروحه وصفاته وأفعاله ودواعيه وكل ذرة فيه مخلوق لله خلقًا تصرّف به في عبده.

وقد بيّنا أن قدرته وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء سبب الفعل غير مُسْتَقِل بإيجاده، ومع ذلك فهذا الجزء مخلوق لله فيه، فهو عبده مخلوق من كل وجه، وبكل اعتبار، وفقره إلى خالقه وبارئه من لوازم ذاته، وقلبه بيد خالقه، وبين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء، فيجعله مريدًا لما شاء وقوعه منه، كارهًا لما لم يشأ وقوعه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

ونعم والله، سلسلة المرجِّحات تنتهي إلى أمر الله الكوني، ومشيئته النافذة التي لا سبيل لمخلوق إلى الخروج عنها، ولكن "الجَبْر" لفظ مجمل يراد به حق وباطل كما تقدم.

فإن أردتم به أن العبد مضطر في أفعاله، وحركته في الصعود في السلّم كحركته في وقوعه منه؛ فهذا مكابرة للعقول والفطر.

وإن أردتم به أنه لا حول له ولا قوة إلا بربه وفاطره؛ فنعم لا حول ولا قوة إلا بالله، وهي كلمة عامة لا تخصيص فيها بوجه ما، فالقوة القدرة، والحول الفعل، فلا قدرة له ولا فعل إلا بالله، فلا ننكر هذا ولا نجحده لتسمية القدري له "جبرًا"، فليس الشأن في الأسماء، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ

(1)

"وأعز" من "ج".

(2)

"د": "قدره".

ص: 469

سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]، فلا نترك لهذه الأسماء مُقْتَضى العقل والإيمان.

والمحذور كل المحذور أن نقول: إن الله يعذب عبده على ما لا صنع له فيه، ولا قدرة له عليه، ولا تأثير له في فعله بوجه ما، بل يعذبه على فعله هو سبحانه به، وعلى حركته إذا سقط من علو إلى سفل.

نعم لا يمتنع أن يعذبه على ذلك إذا كان قد تعاطى أسبابه بإرادته ومحبته، كما يعاقَب السكران على ما جناه في حال سكره لتفريطه وعدوانه بارتكاب السبب، وكما يعاقَب العاشق الذي غلب على صبره وعقله، وخرج الأمر عن يده لتفريطه السابق بتعاطي أسباب العشق، وكما يعاقَب الذي آل به إعراضه وبغضه للحق إلى أن صار طبعًا وقَفْلًا ورَيْنًا على قلبه، فخرج الأمر عن يده، وحِيل بينه وبين الهدى، فيعاقبه على ما لم يبق له قدرة عليه ولا إرادة، بل هو ممنوع منه، وعقوبته عليه عدلٌ محض، لا ظلم فيه بوجه ما.

فإن قيل: فهل يصير في هذه الحال مكلَّفًا، وقد حِيل بينه وبين ما أُمِر به، وصُدَّ عنه، ومُنِع منه، أم يزول التكليف؟

قيل: ستقف على الجواب الشافي إن شاء الله عن هذا السؤال في باب القول في تكليف ما لا يطاق قريبًا

(1)

، فإنه سؤال جيد، إذ المقصود ههنا الكلام في الجَبْر، وما في لفظه من الإجمال، وما في معناه من الهدى والضلال.

(1)

لم يفرد المؤلف لهذه المسألة بابًا، ولعله يشير إلى ما سيأتي من مباحث قدرة العبد.

ص: 470

فصل

قال الجبري: إذا صدر من العبد حركة معينة: فإما أن تكون مقدورة للرب وحده، أو للعبد وحده، أو للرب وللعبد، أو لا للرب ولا للعبد، وهذا القسم الأخير باطل قطعًا، والأقسام الثلاثة قد قال بكل واحد منها طائفة.

فإن كانت مقدورة للرب وحده فهو الذي نقوله، وذلك عين الجَبْر. وإن كانت مقدورة للعبد وحده فذلك إخراج لبعض الأشياء عن قدرة الرب تعالى، فلا يكون على كل شيء قدير، ويكون العبد المخلوق الضعيف قادرًا على ما لم يقدر عليه خالقه وفاطره، وهذا هو الذي فارقت به القدرية للتوحيد

(1)

، وضاهت به المجوس. وإن كانت مقدورة للربِّ وللعبد لزمت الشركة، ووقوع مفعول بين فاعلَيْن، ومقدور بين قادرَيْن، وأثر بين مؤثِّرَيْن، وذلك محال؛ لأن المؤثِّرَيْن إذا اجتمعا استقلالًا على أثر واحد فهو غني عن كل منهما بكل منهما، فيكون محتاجًا إليهما، مستغنيًا عنهما.

قال السني: قد افترق الناس في هذا المقام فرقًا شتّى.

ففرقة قالت: إنما تقع الحركة بقدرة الله وحده لا بقدرة العبد، وتأثير قدرة العبد في كونها طاعة أو معصية، فقدرة الربّ وحده اقتضت وجودها، وقدرة العبد اقتضت صفتها، وهذا قول القاضي أبي بكر ومن اتبعه.

ولعمر الله؛ إنه لغير شافٍ ولا كافٍ؛ فإن صفة الحركة إن كان أمرًا

(2)

وجوديًا فقد أثرت قدرته في أمر موجود، فلا يمتنع تأثيرها في نفس الحركة،

(1)

كذا في الأصول: "للتوحيد".

(2)

"د": "أثرًا".

ص: 471

وإن كان صفتها أمرًا عدميًا كان متعلق قدرته عدمًا لا وجودًا، وذلك ممتنع؛ إذ أثر القدرة لا يكون عدمًا صِرفًا.

وفرقة أخرى قالت: بل الفعل وصفته واقع بمحض قدرة الله وحده، ولا تأثير لقدرة العبد في هذا ولا في هذا، وهذا قول الأشعري ومن اتبعه.

وفرقة قالت: بل المؤثِّر قدرة العبد وحده دون قدرة الربّ، ثم انقسمت هذه الفرقة إلى فرقتين:

فرقة قالت: إن قدرة العبد هي المؤثِّرة مع كون الربّ تعالى قادرًا على الحركة، وقالت: إن مقدورات العباد مقدورة لله عز وجل، وهذا قول أبي الحسين البصري وأتباعه الحسينية.

وفرقة قالت: إن قدرة العبد هي المؤثرة، والله سبحانه غير قادر على مقدور العبد، وهذا قول المشايخية أتباع أبي علي وأبي هاشم.

وليس عند ابن الخطيب وجمهور المتكلمين غير هذه الأقوال التي لا تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، وليس عند أربابها إلا مناقضة بعضهم بعضًا

(1)

.

وقد أجاب بعض أصحاب أبي الحسين عن هذا السؤال بأن قال: إنه وإن كان يقول بمقدور بين قادرَيْن، فله أن يقول في هذا المقام: إن كان الدليل الذي ذكرته دليلًا صحيحًا على استحالة اجتماعهما على فعل واحد، فإنما يدل على استحالته على فعلهما على سبيل الجمع، ولا يستحيل أن يفعلاه على سبيل البدل، كما يستحيل حصول جوهرين في مكان واحد، ولا يستحيل حصولهما فيه على البدل.

(1)

تقدم عزو هذه الأقوال والمذاهب في (461).

ص: 472

وهذا جواب باطل قطعًا؛ فإن مضمونه أن أحدهما لا يقدر عليه إلا إذا تركه الآخر، فحال تلبس العبد بالفعل بقدرته وإرادته إن كان مقدورًا لله فهو القول بمقدور بين قادرَيْن، وإن لم يكن مقدورًا له سبحانه لزم إخراج بعض الممكنات عن قدرته.

فإن قلت: هو قادر عليه بشرط أن لا يقدر عليه العبد.

قيل لك: فهذا تصريح منك بأنه في حال قدرة العبد عليه لا يقدر عليه الربّ، فلا ينفعك القول بأنه قادر عليه على البدل.

وأيضًا: فإن قدر عليه عندك بشرط أن لا يقدر

(1)

عليه العبد، فإذا قدر العبد عليه انتفت قدرة الرب لانتفاء شرطها.

وهذا مما صاح به عليكم أهل التوحيد من أقطار الأرض، ورموكم به عن قوس واحدة، وإنما صانعتم به أهل السنة مصانعة، وإلا فحقيقة هذا القول أن العبد يقدر على ما لا يقدر عليه الربّ، وحكاية هذا الرأي الباطل كافية في فساده.

فإن قلت: كما لا يمتنع معلوم واحد بين عالمَيْن، ومراد واحد بين مريدَيْن، فلا يمتنع مقدور واحد بين قادرَيْن.

قيل: هذا من أفسد القياس؛ لأن المعلوم

(2)

لا يتأثر بالعالم، والمراد لا يتأثر بالمريد، فيصح الاشتراك في المعلوم والمراد، كما يصح الاشتراك في المرئي والمسموع، وأما المقدور فيجوز اشتراك القادرَيْن فيه بالقدرة

(1)

"د": "مشروطة بأن لا يقدر".

(2)

"د": "العالم".

ص: 473

المصحِّحة، وهي صحة وقوعه من كل واحد منهما، فصحة التأثير من أحدهما لا تنافي صحته من الآخر، وأما اشتراكهما فيه بالقدرة الموجِبة المقارِنة لمقدورها فهو عين المحال، إلا أن يراد الاشتراك على البدل، فيكون ترك تأثير أحدهما فيه شرطًا في تأثير الآخر.

ولما تفطّن أبو الحسين لهذا قال: لست أقول: إن إضافته إلى أحدهما هي إضافته إلى الآخر، كما أن الشيء الواحد يكون معلومًا لعالمَيْن، ويمتنع أن يكون علم أحدهما به هو علم الآخر، فهكذا أقول في المقدور بين قادرَيْن، ليست قدرة أحدهما عليه هي قدرة الآخر، والمفعول بين فاعلَيْن ليس فعل أحدهما فيه هو فعل الآخر، وإنما معنى قولي: إنه فِعْل لهذا وتأثير له، أنه لقدرته وداعيه وُجِد، وليس معنى كونه وُجِد لقدرة هذا وداعيه هو معنى كونه وُجِد لقدرة الآخر وداعيه.

قال: وليس يمتنع في العقل إضافة شيء واحد إلى شيئين، لكنه يمتنع أن يكون إضافته إلى أحدهما هي عين إضافته إلى الآخر.

وهذا لا يجدي عنه شيئًا؛ فإن التقسيم المذكور دائر فيه.

ونحن نقول: قد دلّ الدليل على شمول قدرة الرب تبارك وتعالى لكل ممكن من الذوات والصفات والأفعال، وأنه لا يخرج شيء عن مقدوره البتّة.

ودلّ الدليل أيضًا على أن العبد فاعل لفعله بقدرته وإرادته، وأنه فِعْل له حقيقة يُمدح ويُذم به عقلًا وعرفًا وشرعًا، وفطرة فطر الله عليها العباد حتى الحيوان البهيم.

ص: 474

ودلّ الدليل على استحالة مفعول واحد بالعين بين فاعلَيْن مستقلَّيْن، وأثر واحد بين مؤثِّرَيْن فيه على سبيل الاستقلال.

ودلّ الدليل أيضًا على استحالة وقوع حادث لا مُحدِث له، ورجحان راجح لا مُرجِّح له.

وهذه أمور ركّبها الله سبحانه في العقول، وحجج العقل لا تتناقض ولا تتعارض، ولا يجوز أن يضرب بعضها ببعض، بل يقال بها كلّها، ويُذهب إلى موجَبها؛ فإنها يصدّق بعضها بعضًا، وإنما يعارض بينها

(1)

من ضعفت بصيرته، وإن كثر كلامه، وكثرت شكوكه، فالعلم أمر آخر وراء الشكوك والإشكالات، وإبداء

(2)

تناقض الخصوم، وهذا رأس مال المتكلمين.

والقول الحق لم ينحصر في هذه الأقوال التي حكوها في المسألة.

والصواب أن يقال: تقع الحركة بقدرة العبد وإرادته التي جعلها الله فيه، فالله سبحانه إذا أراد فِعْل العبد خَلَق له القدرة والداعي إلى فعله، فيضاف الفِعْل إلى قدرة العبد إضافة المسبَّب إلى سبَبه

(3)

، ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق، فلا يمتنع وقوع مقدور بين قادرَيْن قدرة أحدهما أثر لقدرة الآخر، وهي جزء سبب، وقدرة القادر الآخر مستقلة بالتأثير.

والتعبير عن هذا المعنى بمقدور بين قادرَيْن تعبير فاسد وتلبيس؛ فإنه

(1)

"م": "بها"، "ج":"بينهما".

(2)

"ج": "ولهذا".

(3)

"ج": "السبب إلى مسبّبه"، وهي مجوّدة بالشكل في "د".

ص: 475

يوهم أنهما متكافئان في القدرة، كما تقول: هذا الثوب بين هذين الرجلين، وهذه الدار بين هذين الشريكين. وإنما المقدور واقع بالقدرة الحادثة وقوع المسبَّب بسببه، والسبب والمسبَّب والفاعل والآلة كله أثر القدرة القديمة، فلا نعطل قدرة الربّ تعالى عن شمولها وكمالها، وتناولها لكل ممكن، ولا نعطل قدرة العبد التي هي سبب عما جعلها الله سببًا له ومؤثّرة فيه.

وليس في الوجود شيء مستقل بالتأثير سوى مشيئة الربّ تعالى وقدرته، وكل ما سواه مخلوق له، وهو أثر قدرته ومشيئته، ومن أنكر ذلك لزمه إثبات خالق سوى الله، أو القول بوجود مخلوق لا خالق له؛ فإن فعل العبد إن لم يكن مخلوقًا لله كان مخلوقًا للعبد: إما استقلالًا، وإما على سبيل الشركة، وإما أن يقع بغير خالق، ولا مخلص عن هذه الأقسام لمنكر دخول الأفعال تحت قدرة الرب تعالى ومشيئته وخلقه.

وإذا عُرِف هذا فنقول: الفعل وقع بقدرة الربّ خلقًا وتكوينًا، كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه، وبقدرة العبد سببًا ومباشرة، فالله خلق الفعل، والعبد فَعَله وباشره، فالقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب ومشيئته.

فصل

قال الجبري: لو كان العبد فاعلًا لأفعاله لكان عالمًا بتفاصيلها؛ لأنه يمكن أن يكون الفعل أزيد مما فعله أو أنقص، فوقوعه على ذلك الوجه مشروط بالعلم بتفصيله، ومعلوم أن النائم والغافل قد يفعل الفعل ولا يشعر بكيفيّته ولا قَدْره، وأيضًا فالمتحرك يقطع المسافة ولا شعور له بتفاصيل الحركة ولا أجزاء المسافة، ومحرّك أصبعه محرّكٌ لأجزائها ولا يشعر بعدد

ص: 476

أجزائها ولا بعدد أحيازها، والمتنفّس يتنفّس باختياره ولا يشعر في الغالب بنَفَسه، فضلًا عن أن يشعر بكمّيته وكيفيته ومبدئه ونهايته.

والعاقل قد يتكلم بالكلمة ويفعل الفعل باختياره، ثم بعد فراغه منه يعلم أنه لم يكن قاصدًا له، فنحن نعلم علمًا ضروريًا من أنفسنا عدم علمنا بوجود أكثر حركاتنا وسكناتنا في حالة المشي والقيام والقعود، ولو أردنا فصل كل جزء من أجزاء حركاتنا في حالة إسراعنا بالمشي والحركة والإحاطة به لم يُمْكنّا ذلك، بل ونعلم ذلك من حال أكمل العقلاء، فما الظن بالحيوانات العجم في مشيها وطيرانها وسباحتها، حتى الذر والبعوض.

وهذا مشاهد في السكران، ومن اشتدّ به الغضب، ولهذا قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فدلَّ على أن السكران يصدر منه أقوال لا يعلم بها، فكيف يكون هو المُحْدِث لتلك الأقوال وهي لا يُشْعَرُ بها، والإرادة فرع الشعور.

ولهذا أفتى الصحابة بأنه لا يقع طلاق السكران، نَزَّلوا حركة لسانه منزلة تحريك غيره له بغير إرادته.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاق"

(1)

؛ لأن الإغلاق يمنع العلم والإرادة، فكيف يكون التطليق فعله وهو غير عالم به، ولا مريد له.

وأيضًا فقد قال جمهور الفقهاء: إن الناسي غير مكلَّف؛ لأن فعله لا يدخل تحت الاختيار، ففعْله غير مضاف إليه مع أنه وقع باختياره، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه في قوله: "من أكل أو شرب ناسيًا فليُتِم

(1)

تقدم تخريجه في (452).

ص: 477