المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السابع عشرفي الكسب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا، وإطلاقهما نفيا وإثباتا، وما دل عليه السمع والعقل من ذلك - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض

- ‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابعفي ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامسفي ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادسفي ذكر التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابعفي أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب

- ‌الباب الثامنفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسعفي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌المخاصمون في القدر نوعان:

- ‌الباب العاشرفي مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌ لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:

- ‌المقدور يكتنفه أمران:

- ‌الباب الحادي عشرفي ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشرفي ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها

- ‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشرفي الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى

- ‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه

- ‌كيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه

- ‌كيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر

- ‌ما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها

- ‌هل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

- ‌ما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه

- ‌هل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي

- ‌ما ذنب من لا يصلح

- ‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته

- ‌ العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار

- ‌الباب السابع عشرفي الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك

- ‌ هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة

- ‌الباب الثامن عشرفي فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال

- ‌ الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل

- ‌الباب التاسع عشرفي ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌ ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته:

الفصل: ‌الباب السابع عشرفي الكسب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا، وإطلاقهما نفيا وإثباتا، وما دل عليه السمع والعقل من ذلك

‌الباب السابع عشر

في الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك

أما الكَسْب فأصله في اللغة: الجَمْع، قاله الجوهري، قال:"وهو طلب الرزق، يقال: كسبتُ شيئًا واكتسبتُه بمعنى، وكسبتُ أهلي خيرًا، وكسبتُ الرجلَ مالًا فكَسَبَه، وهذا مما جاء على فَعَلْتُه فَفَعَل، والكواسب: الجوارح، وتكسَّب: تكلَّفَ الكَسْب"

(1)

، انتهى.

والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه:

أحدها: عقد القلب وعزمه، كقوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، أي: بما عزمتُم عليه وقصدتموه، وقال الزَّجّاج:"أي: يؤاخذكم بعزمكم على أن لا تبروا، وأن لا تتقوا، وأن تعتلّوا في ذلك بأنكم حلفتم"

(2)

، وكأنه التفت إلى لفظ المؤاخذة، وأنها تقتضي تعذيبًا، فجعل كسب قلوبهم عزمهم على ترك البرّ والتقوى لمكان اليمين

(3)

.

والقول الأول أصح، وهو قول جمهور أهل التفسير؛ فإنه قابل به لغو اليمين، وهو أن لا يقصد اليمين، فكَسْب القلب المقابل للغو اليمين هو

(1)

"الصحاح"(1/ 212).

(2)

"معاني القرآن وإعرابه"(1/ 299).

(3)

"د": "النهي".

ص: 391

عقده وعزمه، كما قال في الآية الأخرى:{أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، فتعقيد الأيمان هو كسب القلب.

الوجه الثاني من الكَسْب: كسب المال من التجارة، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، فالأول للتجار، والثاني للزُرّاع.

والوجه الثالث من الكَسْب: السعي والعمل، كقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39]، وقوله:{وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70]، وقوله:{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، فهذا كله للعمل.

واختلف الناس في الكَسْب والاكتساب: هل هما بمعنى واحد، أم بينهما فرق؟

فقالت طائفة: معناهما واحد، قال أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي:"وهو الصحيح عند أهل اللغة، ولا فرق بينهما"

(1)

.

قال ذو الرُّمّة:

ألفى أباه بذاك الكَسْب يكتسب

(2)

(1)

"البسيط"(4/ 533).

(2)

"الديوان" بشرح الباهلي (1/ 99)، وصدر البيت:

ومُطْعَم الصيد هبّالٌ لبغيته

ص: 392

وقال آخرون: الاكتساب أخص من الكَسْب؛ لأن الكَسْب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره، ولا يقال: يكتسب أهله.

قال الحُطَيئة:

ألقيتَ كاسبهم في قعرِ مُظْلِمَةٍ

فاغفر هداك مليك الناس يا عمر

(1)

قلت: والاكتساب افتعال، وهو يستدعي اهتمامًا وتعمّلًا واجتهادًا، وأما الكَسْب فتصح نسبته بأدنى شيء، ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أدنى سعي، وفي جانب العدل لم يجعل عليها إلا ما لها فيه اجتهاد واهتمام.

وأما الجَبْر فيرجع في اللغة إلى ثلاثة أصول:

أحدها: أن تُغني الرجلَ من فقر، أو تجبر عظمه من كسر، وهذا من الإصلاح

(2)

، وهذا الأصل يستعمل لازمًا ومتعدّيًا، تقول: جَبَرْتُ العَظْمَ، وجَبَرَ العظمُ، وقد جمع العَجّاج بينهما في قوله:

قد جَبَرَ الدّينَ الإلهُ فَجَبَرْ

(3)

الأصل الثاني: الإكراه والقهر، وأكثر ما يستعمل هذا على أفعَلَ، يقال: أجبرته على كذا، إذا أكرهته عليه، ولا يكاد يجيء: جبرته عليه؛ إلا قليلًا.

(1)

"ديوان الحطيئة" برواية ابن السكيت وشرحه (192)، وفيه:

غيّبت كاسبهم .............

فاغفر عليك سلام الله يا عمر

واللفظ الذي ساقه المؤلف في "البسيط" للواحدي (4/ 534).

(2)

"د": "الاصطلاح".

(3)

"الديوان"(201)، من رجز في مدح عمر بن عبيد الله، وانظر:"الصحاح"(2/ 607).

ص: 393

والأصل الثالث: من العزّ والامتناع، ومنه نخلة جَبّارة، قال الجوهري:"والجَبَّار من النخل: ما طال وفات اليد"

(1)

.

قال الأعشى:

طَريقٌ وجَبَّارٌ رِواءٌ أصولهُ

عليه أبابيلٌ من الطير تَنْعَبُ

(2)

وقال الأخفش في قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22]، قال:"أراد الطول والقوة والعِظَم"

(3)

، ذهب في هذا إلى الجَبّار من النخل، وهو الطويل الذي فات الأيدي. ويقال: رجل جَبّار: إذا كان طويلًا عظيمًا قويًا، تشبيهًا بالجَبّار من النخل.

قال قتادة: "كانت لهم أجسام وخِلَق عجيبة ليست لغيرهم"

(4)

.

وقيل: الجَبّار ههنا من جَبَره على الأمر، إذا أكرهه عليه، قال الأزهري:"وهي لغة معروفة، وكثير من الحجازيين يقولونها. وكان الشافعي يقول: جَبَره السلطان"

(5)

.

ويجوز أن يكون الجَبّار من أجبره على الأمر، إذا أكرهه.

قال الفراء: "لم أسمع فعَّالا من أفعَلَ إلا في حرفين، وهما: جَبَّار؛ من

(1)

"الصحاح"(2/ 608).

(2)

"الديوان"(201)، من قصيدة في رثاء الحارث بن وَعْلة.

(3)

نسبه إليه في "البسيط"(7/ 324)، وحكاه في "تهذيب اللغة"(11/ 57) عن أبي الحسن اللحياني.

(4)

أسنده الطبري (8/ 291).

(5)

"تهذيب اللغة"(11/ 60).

ص: 394

أجْبَرَ، ودَرَّاك؛ من أدرك"

(1)

.

وهذا اختيار الزَّجّاج، قال:"الجَبّار من الناس: العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد"

(2)

.

وأما الجَبّار في أسماء الرب تعالى فقد فُسِّر بأنه الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير، والربّ تبارك وتعالى كذلك، ولكن ليس هذا معنى اسمه الجَبّار، ولهذا قرنه باسمه المتكبِّر، وإنما هو من الجبروت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"سبحان ذي الجَبَروت والمَلَكوت والكبرياء والعظمة"

(3)

.

فالجبّار اسم من أسماء التعظيم، كالمتكبِّر والملك والعظيم والقهّار، قال ابن عباس في قوله تعالى:{الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]: "هو العظيم، وجَبَروت الله عظمته"

(4)

.

والجبّار من أسماء الملوك، والجَبْر المَلِك، والجبابرة الملوك، قال الشاعر:

وانْعَمْ صباحًا أيها الجَبْرُ

(5)

(1)

بمعناه في "معاني القرآن"(3/ 81)، وانظر:"البسيط"(21/ 397).

(2)

"معاني القرآن وإعرابه"(2/ 163).

(3)

جزء من حديث أخرجه أحمد (23980)، وأبو داود (873)، والنسائي (1049) من حديث عوف بن مالك، وصححه النووي في "الخلاصة"(1254).

(4)

أورده الثعلبي في "الكشف والبيان"(9/ 287).

(5)

عجز بيت لعمرو بن أحمر الباهلي في "ديوانه" جمع عطوان (94)، وصدره:

واسلم براوُوقٍ حُبِيتَ به

وهو في "جمهرة اللغة"(1/ 265) وغيرها.

ص: 395

أي: أيها الملك.

وقال السُّدِّي: "هو الذي يجبر الناس، ويقهرهم على ما يريد"

(1)

، وعلى هذا فالجبار معناه القهار.

قال محمد بن كعب: "إنما سمّي الجبّار لأنه جبر الخلق على ما أراد، والخلق أدق شأنًا من أن يعصوا ربَّهم طرفة عين إلا بمشيئته"

(2)

.

قال الزَّجّاج: "الجبّار الذي جبر الخلق على ما أراد"

(3)

.

وقال ابن الأنباري: "الجبّار في صفة الرب سبحانه الذي لا يُنال، ومنه قولهم: نخلة جَبّارة إذا فاتت يد المتناول"

(4)

.

فالجبَّار في صفة الربِّ سبحانه وتعالى ترجع إلى ثلاثة معان: المُلْك والقهر والعلو، فإن النخلة إذا طالت وارتفعت وفاتت الأيدي سمّيت جبّارة، ولهذا جعل سبحانه اسمه الجبّار مقرونًا بالعزيز والمتكبر، وكل واحد من هذه الأسماء الثلاثة يتضمن الاسمين الآخرين، وهذه الأسماء الثلاثة نظير الأسماء الثلاثة، وهي: الخالق البارئ المصور، فالجبار المتكبر يجريان مجرى التفصيل لمعنى اسم العزيز، كما أن البارئ المصور تفصيل لمعنى

(1)

أورده الثعلبي في "الكشف والبيان"(9/ 287).

(2)

أسند الجزء الأول منه سعيد بن منصور كما في "الدر المنثور"(14/ 401) ـ ومن طريقه البيهقي في "الأسماء والصفات"(48) ـ، وهو بتمامه في "الكشف والبيان"(9/ 288).

(3)

"معاني القرآن وإعرابه"(5/ 151).

(4)

حكاه عنه في "تهذيب اللغة"(11/ 58).

ص: 396

اسم الخالق، فالجبّار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والمُلْك، ولهذا كان من أسمائه الحسنى.

وأما المخلوق فاتصافه بالجبّار ذمٌّ له ونقص، قال تعالى:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].

وقال لرسوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، أي: مُسلَّط

(1)

تقهرهم وتكرههم على الإيمان.

وفي الترمذي وغيره

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يُحشر الجبّارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذرّ يطؤهم الناس".

فصل

(3)

إذا عُرِف هذا فلفظ الكَسْب تطلقه القدرية على معنى، والجبرية على معنى، وأهل السنة والحديث على معنى.

فكَسْب القدرية هو وقوع الفعل عندهم بإيجاد العبد وإحداثه ومشيئته، من غير أن يكون الله شاءه أو أوجده.

وكَسْب الجبرية لفظ لا معنى له، ولا حاصل تحته، وقد اختلفت

(1)

"م": "مغلظ".

(2)

الترمذي (2492)، وأحمد (6677)، والنسائي في "الكبرى" (11827) من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ:"يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر" الحديث، وحسّن إسناده الترمذي، ولفظ المؤلف أخرجه ابن أبي الدنيا في "التواضع والخمول"(224) من حديث أبي هريرة، وحسّن إسناده العراقي في "تخريج الإحياء"(1251).

(3)

انظر: "شرح الإرشاد" نسخة أيا صوفيا (ق 161 - 163)، والمؤلف صادر عنه.

ص: 397

عباراتهم فيه، وضربوا له الأمثال، وأطالوا فيه المقال.

فقال القاضي: "الكَسْب ما وُجِد وعليه قدرة مُحْدَثة"

(1)

.

وقيل: إنه المتعلِّق بالقادر على غير جهة الحدوث.

وقيل: إنه المقدور بالقدرة الحادثة

(2)

.

قالوا: ولسنا نريد بقولنا: "ما وُجِد وعليه قدرة مُحْدَثة" أنها قدرة على وجوده؛ فإن القادر على وجوده هو الله وحده، وإنما نعني بذلك أن للكسب تعلّقًا بالقدرة الحادثة، لا من باب الحدوث والوجود.

وقال الإسفراييني: "حقيقة الخلق من الخالق وقوعه بقدرته من حيث صحَّ انفراده به، وحقيقة الفعل وقوعه بقدرته، وحقيقة الكَسْب من المُكتسِب وقوعه بقدرته مع انفراده به

(3)

، ويختص القديم تعالى بالخلق، ويشترك القديم والمُحدَث في الفعل، ويختص المُحدَث بالكسب"

(4)

.

قلت: مراده أن إطلاق لفظ الخلق لا يجوز إلا على الله وحده، وإطلاق لفظ الكَسْب يختص بالمُحدَث، وإطلاق لفظ الفعل يصحّ على الربّ والعبد.

(1)

نقله في "شرح الإرشاد"(ق 161/أ)، وفيه:"قدرة حادثة"، والقاضي هو ابن الباقلاني، وانظر:"المعتمد في أصول الدين"(128).

(2)

انظر: "شرح الإرشاد"(ق 161/أ)، "نهاية الإقدام"(71).

(3)

كذا في الأصول الخطية ومصدر المؤلف: "مع انفراده به"، وفي "نهاية الإقدام" (72):"مع تعذّر انفراده به"، وهو الصواب.

(4)

حكاه في "شرح الإرشاد"(ق 161/أ)، و"نهاية الإقدام"(72).

ص: 398

وقال أيضًا: "كل فعل يقع على التعاون كان كسبًا من المستعين"

(1)

.

قلت: يريد أن الخالق يستقل بالخلق والإيجاد، والكاسب إنما يقع منه الفعل على جهة المعاونة والمشاركة منه ومن غيره، لا يمكنه أن يستقل بإيجاد شيء البتّة.

وقال آخرون: قدرة المُكتسِب تتعلق بمقدوره على وجه ما، وقدرة الخالق تتعلق به من جميع الوجوه.

قالوا: وليس كون الفعل كسبًا من حقائقه التي تختصه، بل هو معنى طرأ عليه، كما يقول منازعونا من المعتزلة: إن هذه الحركة لُطْف، وهذا الفعل لُطْف، وصيغة "افعل" تصير أمرًا بالإرادة، لا أنها حدثت بالإرادة، واعتقاد الشيء على ما هو به يصير علمًا بسكون النفس إليه، لا أنه يحدث كذلك به، والأشياء قد تقترن في الوجود فتتغير أوصافها وأحكامها.

قالوا: فالحركة إذا صادفت المتحرِّك بها على وجه مخصوص تسمّى سباحة مثلًا، ولَطمًا، ومشيًا، ورقصًا.

وقال الأشعري وابن الباقلاني: الواقع بالقدرة الحادثة هو كون الفعل كسبًا، دون كونه موجودًا، أو مُحْدَثًا، فكونه كسبًا وصف للوجود بمثابة كونه معلومًا

(2)

.

ولخّص بعضُ متأخريهم هذه العبارات بأن قال: الكَسْب عبارة عن

(1)

نقله في "شرح الإرشاد"(ق 161/أ)، و"نهاية الإقدام"(72).

(2)

بتصرف من "شرح الإرشاد"(ق 161/أ)، وانظر:"مقالات الإسلاميين"(542)، "التمهيد"(286)، "الإنصاف"(43)، "المطالب العالية"(9/ 9 - 10).

ص: 399

الاقتران العادي بين القدرة المُحْدَثة والفعل، فإن الله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بهما، فهذا الاقتران هو الكَسْب.

ولهذا قال كثير من العقلاء: إن هذا من محالات الكلام، وإنه شقيق أحوال أبي هاشم، وطفرة النظّام، والمعنى القائم بالنفس الذي يسميه القائلون به كلامًا، وشيء من ذلك غير معقول ولا متصوَّر.

والذي استقر عليه قول الأشعري: أن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها، ولم يقع المقدور ولا صفة من صفاته بها، بل المقدور بجميع صفاته واقع بالقدرة القديمة، ولا تأثير للقدرة الحادثة فيه. وتابعه على ذلك عامة أصحابه.

والقاضي أبو بكر يوافقه مرَّة، ومرَّة يقول: القدرة الحادثة لا تؤثر في إثبات الذات وإحداثها، ولكنها تقتضي صفة للمقدور زائدة على ذاته تكون حالًا له.

ثم تارة يقول: تلك الصفة التي من أثر القدرة الحادثة مقدورة لله تعالى.

ولم يمنع من إثبات هذا المقدور بين قادرين على هذا الوجه.

وقد اضطربت آراء أتباع الأشعري في الكَسْب اضطرابًا عظيمًا، واختلفت عباراتهم فيه اختلافًا كثيرًا، وقد ذكره

(1)

كله أبو القاسم سلمان بن ناصر

(2)

(1)

في جميع النسخ: "ذكر".

(2)

تحرّف اسمه في "د" و"م" إلى: "سليمان بن ماجه"، ووافقتهما "ج" في الأول منهما، والمثبت هو الصواب المشهور، وقد نصّ ابن الصلاح على فتح السين في "سلمان"، انظر:"المنتخب من السياق"(268)، "طبقات الشافعية" لابن الصلاح (1/ 477).

ص: 400

الأنصاري في "شرح الإرشاد"، وذكر اختلاف طرائقهم واضطرابهم فيه، ثم قال

(1)

: وقد قال الأستاذ

(2)

في "المختصر": قول أهل الحق في الكَسْب لا يرجع إلى إثبات قدرة للعبد عليه

(3)

، كما يقال: إنه معلوم له. إلا أن الإمام ادعى على الأستاذ أنه أثبت للقدرة الحادثة أثرًا في الحدوث، فإنه لما نفى الأحوال وأثبت للقدرة الحادثة أثرًا فلا يعقل الجمع بينهما إلا أن يكون الأثر في الحدوث.

ثم ذكر لنفسه مذهبًا ذكره في الكتاب المترجم بـ "النظامية"

(4)

، وانفرد به عن الأصحاب، وهو قريب من مذهب المعتزلة. والخلاف بينه وبينهم فيه في الاسم.

قال: وهذه العقدة التي تورط الأصحاب فيها في الكَسْب شبيهة بالعقدة التي وقعت للأئمة في القراءة والمقروء.

قال: وما ذكره الإمام في "النظامية" له وجه، غير أنه مما انفرد بإطلاقه، ولكل ناظر نظره، والله يرحمنا وإيّاه.

قلت: الذي قاله الإمام في "النظامية" أقرب إلى الحق مما قاله الأشعري وابن الباقلاني ومن تابعهما، ونحن نذكر كلامه بلفظه.

قال: "وقد تقرر عند كل حاظٍ بعقله، مترقٍّ عن مراتب التقليد في قواعد

(1)

"شرح الإرشاد" نسخة أيا صوفيا (ق 163/ب).

(2)

هو إبراهيم بن محمد أبو إسحاق الإسفراييني (418 هـ).

(3)

الجملة مثبتة في "شرح الإرشاد": "قول أهل الحق في الكَسْب يرجع الخ".

(4)

"النظامية"(45) وما بعدها.

ص: 401

التوحيد: أن الربّ سبحانه مُطَالِب عباده بأعمالهم في حياتهم، وداعيهم إليها، ومثيبهم ومعاقبهم عليها في مآلهم، وتبيّن بالنصوص التي لا تتعرض للتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما طالبهم به، ومكّنهم من التوصل إلى امتثال الأمر، والانكفاف عن مواقع الزَّجْر، ولو ذهبت أتلو الآي المتضمنة لهذه المعاني لطال المرام، ولا حاجة إلى ذلك مع قطع اللبيب المنصف به.

ومن نظر في كليات الشرائع وما فيها من الاستحثاث على المكرمات، والزواجر عن الفواحش الموبقات، وما نيط ببعضها من الحدود والعقوبات، ثم تلفّت على الوعد والوعيد، وما يجب عقده من تصديق المرسلين في الإنباء عما يتوجه على المَردَة العُتاة من الحساب والعقاب، وسوء المنقلب والمآب، وقول الله لهم: لم تعدّيتم وعصيتم وأبيتم؟ وقد أرخيت لكم الطِّوَل، وفسحت لكم المُهَل، وأرسلت الرسل، وأوضحت المَحَجّة {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء: 165]، وأحاط بذلك كله

(1)

، ثم استراب في أن أفعال العباد واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم= فهو مصابٌ في عقله، أو مُسْتقِرٌّ على تقليده، مصمّم على جهله، ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قَطْع طلبات الشرائع، والتكذيب بما جاء به المرسلون.

فإنْ زعم مَنْ لم يوفّق لمنهج الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره

(1)

جملة: "وأحاط

" معطوفة على "ومن نظر في كليات الشريعة"، وفي مطبوعة "النظامية": "فمن أحاط".

ص: 402

أصلًا، وإذا طولب بمتعلَّق طلب الله بفعل العبد

(1)

تحريمًا وفرضًا؛ ذهب في الجواب طولًا وعرضًا، وقال: لله أن يفعل ما يشاء، ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

قيل له: ليس لما جئت به حاصل، كلمة حق أريد بها باطل، نعم، يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولكن يتقدّس عن الخُلْف ونقيض الصدق.

وقد فهمنا بضرورات العقول، من الشرع المنقول: أنه ــ عزَّت قدرته ــ طالب عباده بما أخبر أنهم مُمَكّنون من الوفاء به، فلم يكلفهم إلا على مبلغ الطاقة والوسع في موارد الشرع، ومن زعم أنه لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها، كما لا أثر للعلم في معلومه، فوجه مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانًا وإدراكات، وهذا خروج عن حدّ الاعتدال، إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع، وردّ ما جاء به النبيون عليهم الصلاة والسلام.

فإذا لزم المصير بأن القدرة الحادثة تؤثِّر في مقدورها، واستحال إطلاق القول بأن العبد خالق أعماله؛ فإنّ فيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة، واقتحام ورطات الضلال.

ولا سبيل إلى المصير إلى وقوع فعل العبد بقدرته الحادثة والقدرة القديمة؛ فإن الفعل الواحد يستحيل حدوثه بقادرين؛ إذ الواحد لا ينقسم، فإن وقع بقدرة الله استقل بها، ويسقط أثر القدرة الحادثة، ويستحيل أن يقع بعضه بقدرة الله تعالى؛ فإن الفعل الواحد لا بعض له.

(1)

"د": "لفعل العبد".

ص: 403

وهذه مهواة لا يسلم من غوائلها إلا مُرشَد موفَّق، إذ المرء بين أن يدّعي الاستبداد بالخلق

(1)

، وبين أن يُخْرِج نفسه عن كونه مطالبًا بالشرائع، وفيه إبطال دعوة المرسلين، وبين أن يثبت نفسه شريكًا لله تعالى في إيجاد الفعل الواحد، وهذه الأقسام بجملتها باطلة، ولا ينجي من هذا [البحر]

(2)

المُلتَطِم ذِكْرُ اسمٍ مختص ولقب مجرد من غير تحصيل معنى.

وذلك أن قائلًا لو قال: العبد مُكْتَسِب، وأثر قدرته الاكتساب، والربّ تعالى مخترع خالق لما العبد مُكْتَسِب له.

قيل له: فما الكَسْب، وما معناه؟ وأديرت الأقسام المتقدمة على هذا القائل، فلا يجد عنه مهربًا"

(3)

.

ثم قال: "فنقول: قدرة العبد مخلوقة لله تعالى باتفاق القائلين بالصانع، والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعًا، ولكنه مضاف إلى الله سبحانه تقديرًا وخلقًا، فإنه وقع بفعل الله وهو القدرة، [وليست القدرة]

(4)

فعلًا للعبد، وإنما هي صفته

(5)

، وهي مُلْك لله وخَلْق له

(6)

، فإذا كان مُوقِع الفعل خَلْقًا لله؛ فالواقع به مضاف خلقًا إلى الله تعالى وتقديرًا. وقد مَلَّك الله تعالى العبد اختيارًا يُصَرِّف به القدرة، فإذا أوقع بالقدرة شيئًا آل الواقع إلى

(1)

"د": "بالحق".

(2)

زيادة من مصدر النقل ساقطة من الأصول.

(3)

"النظامية"(42 - 45).

(4)

زيادة لازمة من "النظامية"(47) ساقطة من الأصول.

(5)

"د": "صنعته" دون إعجام، والمثبت من "ج" موافق للسياق ومصدر النقل.

(6)

"د": "لله".

ص: 404

حكم الله من حيث إنه وقع بفعل الله.

ولو اهتدت إلى هذا الفرقة الضالة لم يكن بيننا وبينهم خلاف، ولكنهم ادعوا استبدادًا بالاختراع، وانفرادًا بالخلق والابتداع، فضلوا وأضلوا.

ونبيّن تميّزنا عنهم بتفريع المذهبين: فإنا لما أضفنا فعل العبد إلى تقدير الإله قلنا: أحدث الله تعالى القدرة في العبد على أقدار أحاط بها علمه، وهيَّأ أسباب الفعل، وسلب العبد العلم بالتفاصيل، وأراد من العبد أن يفعل، فأحدث فيه دواعٍ مُستحِثّة وخِيْرَة وإرادة، وعلم أنَّ الأفعال ستقع على قدر معلوم، فوقعت بالقدرة التي اخترعها للعبد على ما علم وأراد، [وللعباد] اختيارهم

(1)

واتصافهم بالاقتدار، والقدرة خلق الله ابتداء، ومقدورها مضاف إليه مشيئة وعلمًا وقضاءً وخلقًا وفعلًا

(2)

من حيث إنه نتيجة ما انفرد بخلقه وهو القدرة، ولو لم يرد وقوع مقدورها لما أقدره عليه، ولَمَا هيَّأ أسباب وقوعه، ومن هُدي لهذا استمرّ له الحق المبين.

فالعبد فاعل مختار مُطَالَب، مأمور منهي، وفعله تقدير لله، مراد له، خَلْق مَقْضِي.

ونحن نضرب في ذلك مثلًا شرعيًا يستروح إليه الناظر في ذلك فنقول: العبد لا يملك أن يتصرف في مال سيده، ولو استبدّ بالتصرف فيه لم ينفذ تصرفه، فإذا أذن له في بيع ماله فباعه نفذ، والبيع في التحقيق معزوٌّ إلى السيد

(1)

في الأصول الخطية: "وأراد، فاختيارهم

"، والمثبت من مصدر النقل، وبه يستقيم السياق.

(2)

بدله في "النظامية": "وبقاء".

ص: 405

من حيث إن سببه إذنه، ولولا إذنه لم ينفذ التصرف، ولكن العبد يؤمر بالتصرف ويُنهى ويوبَّخ على المخالفة ويعاقَب، فهذا والله الحق الذي لا غطاء دونه، ولا مراء فيه لمن وعاه حقّ وعيه.

وأما الفرقة الضالة فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق، ثم صاروا إلى أنه إذا عصى فقد انفرد بخلق فعله، والربُّ كاره له، فكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحمًا لربِّه في التدبير، موقِعًا ما أراد إيقاعه شاء الربُّ أو كره.

فإن قيل: على ماذا تحملون آيات الطبع والختم والإضلال في القرآن، وهي متضمنة اضطرارَ الربّ تعالى الأشقياءَ إلى ضلالتهم؟

قلنا: إذا أتاح الله حلّ هذا الإشكال، والجواب عن هذا السؤال، لم يبق على ذوي البصائر بعده غموض.

فنقول أولًا: مَنْ أنبأ الله سبحانه عن الطبع على قلوبهم كانوا مخاطبين بالإيمان، مطالبين بالإسلام، والتزام الأحكام؛ مطالبة تكليف ودعاء، مع وصفهم بالتمكّن والاقتدار والإيثار، كما سبق تقريره.

ومن اعتقد أنهم كانوا ممنوعين مأمورين، مصدودين قهرًا مدعوّين؛ فالتكليف عنده إذًا بمثابة ما لو شُدَّ من الرجل يداه ورجلاه رباطًا، وأُلقِي في البحر، ثم قيل له: لا تبتل!

وهذا أمر

(1)

لا يحمل شرائعَ الرسل عليه إلا عابثٌ بنفسه، مجترئ على ربِّه، ولا فرق عند هذا القائل بين أمر التسخير والتكوين في قوله: {كُونُوا

(1)

موضعه في "النظامية": "منتهى".

ص: 406

قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، وقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وبين أمر التكليف.

فإذا بطل ذلك فالوجه في الكلام على هذه الآي ــ وقد غوى في معانيها أكثر الفرق ــ أن نقول: إذا أراد الله بعبده خيرًا أكمل عقله، وأتم بصيرته، ثم صرف عنه العوائق والدوافع، وأزاح عنه الموانع، ووفّق له قرناء الخير، وسهّل له سبله، وقطع عنه الملهيات وأسباب الغفلات والذهول، وقيّض له ما يقربه إلى القربات، فيوافيها ثم يعتادها، ويتمرّن عليها.

وإذا أراد بعبده شرًّا قدّر له ما يبعده عن الخير ويُقْصِيه، وهيّأ له أسباب تماديه في الغي، وحبّب إليه التشوّف إلى الشهوات، وعرّضه للآفات، وكلما غلبت عليه دواعي النفس

(1)

خنست دواعي الخير، ثم يستمر على الشرور على مر الدهور، هاويًا في مهاويها، وتتعاون عليه الوساوس ونزغات الشيطان، ونَزَقات النفس الأمّارة بالسوء، فتنسج الغفلة على قلبه غشاوة بقضاء الله وقدره، فذلكم الطبع والختم والأكنّة.

وأنا أضرب في ذلك مثلًا فأقول: لو فرضنا شابًّا حديث العهد بحلمه، لم تهذّبه المذاهب، ولم تحنّكه التجارب، وهو على نهايته في غِلْمَته وشهوته، وقد استمكن من بُلْغَة من الحُطام، وخُصّ بمسحة من الجمال، ولم يقم عليه قوّام يزعه عن ورطات الردى، ويمنعه عن الارتباك في شبكات الهوى

(2)

،

(1)

في "النظامية": "دواعي الشر"، وهو الأليق بالسياق.

(2)

في "الصحاح"(4/ 1586): "ارتبك الرجل في الأمر، أي نشب فيه، ولم يكد يتخلص منه".

ص: 407

ووافاه أخدان الفساد، وهو في غُلَوَاء شبابه، يحدث نفسه بالبقاء أمدًا بعيدًا، فما أقرب مَن هذا وصفه مِن خَلْع العِذَار، والبدار إلى شيم الأشرار، وهو مع ذلك كلّه مُؤْثِر مختار، ليس مجبرًا على المعاصي والزلات، ولا مصدودًا عن الطاعات، ومعه من العقل ما يستوجب به اللائمة إذا عصى، فمن هذا سبيله لا يستحيل في العقل تكليفه؛ فإنه ليس ممنوعًا، ولكن إن سبق له من الله سوء القضاء فهو صائر إلى حكم الله الجزم وقضائه الفصل، محجوجًا بحجة الله، إلا أن يتغمده الله برحمته، وهو أرحم الراحمين.

وهذا الذي ذكرته بيّنٌ في معاني الآيات، لا يتمارى فيه موفَّق، قال الله تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74]، أراد أنهم استمروا على المخالفات، وأصروا بانتهاك الحرمات، فقست قلوبهم.

وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28].

فقد جَمَعْتَ بين تفويض الأمور كلّها ــ نفعها وضرها، خيرها وشرّها ــ إلى الإله جلّت قدرته، وبين إثبات حقائق التكليف، وتقرير قواعد الشرع على الوجه المعقول، ألست في هذا أهدى سبيلًا، وأقوم قيلًا ممن يُقدّر الطبْع منعًا، والختم صدًّا ودفعًا، ثم ينفي التكاليف بزعمه.

وقد افترق الخلق في هذا المقام فرقًا، فذهب ذاهبون إلى أن المخذولين ممنوعون مدفوعون، لا اقتدار لهم على إجابة دعاة الحق، وهم مع ذلك ملزمون. وهذا خطب جسيم، وأمر عظيم، وهو طعن في الشرائع، وإبطال للدعوات، وقد قال تعالى:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} [الكهف: 55]، وقال لإبليس:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75].

ص: 408

نعوذ بالله من سوء النظر، في مواقع الخطر.

وذهبت طوائف من الضُلّال إلى أن العبد يعصي، والربّ لِمَا يأتي به كاره، فهذا خَبْط في الأحكام الإلهية، ومزاحمة في الربوبية، ولو لم يرد الربُّ من الفجّار ما علمه منهم في أزله لما فطرهم مع علمه بهم، كيف وقد أكمل قواهم، وأمدّهم بالعَدد والعُدد والعتاد، وسَهَّل لهم طريق الحَيْد عن السداد.

فإن قيل: فَعَل ذلك بهم ليطيعوه؟

قلنا: أنّى يستقيم ذلك وقد علم أنهم يعصونه، ويهلكون أنفسهم، ويهلكون أولياءه وأنبياءه، ويشقون شقاوة لا يسعدون بعدها أبدًا، ولو علم سيّدٌ عن وحي أو إخبار نبي أنه لو أمدّ عبدَه بالمال لطغى وأبق وقطع الطريق؛ فأمده بالمال زاعمًا أنه يريد منه ابتناء القناطر والمساجد، وهو مع ذلك يقول: أعلم أنه لا يفعل ذلك قطعًا= فهذا السيد مفسدٌ عبده، وليس مصلحًا له باتفاق من أرباب الألباب.

فقد زاغت الفئتان، وضلت الفرقتان، واعترضت إحداهما على القواعد الشرعية، وزاحمت الأخرى أحكام الربوبية، واقتصد الموفقون، فقالوا: مراد الله من عباده ما علم أنهم إليه يصيرون، ولكنه لم يسلبهم قُدَرَهم، ولم يمنعهم مراشدهم، فَقَرَّت الشريعةُ في نصابها، وجرت العقيدة في الأحكام الإلهية على صوابها.

فإن قيل: كيف يريد الحكيم السَّفَه؟

فقد أوضحنا أن الأفعال متساوية في حق من لا ينتفع ولا يتضرر، ولكن إذا أخبر أنه مكلِّفٌ مُطالِبٌ عبادهَ، مُزِيحٌ عللَهم؛ فقوله الحق، وكلامه الصدق.

ص: 409

وأقرب أمر يعارضون به أن الحكيم منَّا إذا رأى جواريه وعبيده يمرجُ بعضهم في بعض، وهم على محارمهم بمرأى منه ومسمع، فلا يحسن تركهم على ما هم عليه، والربُّ تعالى يطلع على سوء أفعال العباد، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون.

ثم قال: قد أطلت أنفاسي قليلًا، ولكن لو وجدت في اقتباس هذا العلم من يسرد لي هذا الفصل لكان ــ وحق القائم على كل نفس بما كسبت ــ أحبّ إليّ من مُلك الدنيا بحذافيرها طول أمدها"

(1)

انتهى كلامه بلفظه.

وهذا توسط حسن بين الفريقين، وقد أنكره عليه عامة أصحابه، منهم الأنصاري شارح "الإرشاد" وغيره، وقالوا: هو قريب من مذهب المعتزلة، ولا يرجع الخلاف بينه وبينهم إلا إلى الاسم فقط، وإن هذا مما انفرد به.

ولكن بقي عليه فيه أمور:

منها: أنه نفى كراهة الله لما قدره من المعاصي بناء على أصله أن كل مراد له فهو محبوب له، وأنه إذا كان قد قدّر الكفر والفسوق والعصيان فهو يريده ويحبّه ولا يكرهه، وإن كانت قدرة العبد واختياره مؤثّرة في إيجاد الفعل عنده بإقدار الرب تعالى.

وقد أصاب في هذا وأجاد، لكن القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يكرهه إذا كان واقعًا= قول في غاية البطلان، وهو مخالف لصريح العقل والنقل.

(1)

"النظامية"(46 - 54).

ص: 410

والذي قاده إلى ذلك قوله: إن المحبّة هي الإرادة والمشيئة، وإن كل ما شاءه الله فقد أراده وأحبّه. ومن لم يفرق بين المشيئة والمحبّة لزمه أحد أمرين باطلين لابدّ له من التزامه: إما القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان، أو القول بأنه ما شاء ذلك ولا قدره ولا قضاه، وقد قال بكل من المتلازمين طائفة، قالت طائفة: لا يحبها ولا يرضاها، فما شاءها ولا قضاها. وقالت طائفة: هي واقعة بمشيئته وإرادته، فهو يحبّها ويرضاها. فاشترك الطائفتان في هذا الأصل، وتباينا في لازمه.

وقد أنكر الله سبحانه على من احتج على محبته بمشيئته في ثلاثة مواضع من كتابه: في سورة الأنعام والنحل والزخرف، فقال تعالى:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، وكذلك حكى عنهم في النحل، ثم قال:{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]، وقال في الزخرف:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]، فاحتجوا على محبته لشركهم ورضاه به بكونه أقرّهم عليه، وأنه لولا محبته له ورضاه به لما شاءه منهم، وعارضوا بذلك أمره ونهيه ودعوة الرسل، وقالوا: كيف يأمرنا بشيء قد شاء منا خلافه؟ وكيف يكره منا ما قد شاء وقوعه؟ فلو كرهه لم يُمَكِّنّا منه، ولحال بيننا وبينه، فكذّبهم سبحانه في ذلك، وأخبر أن هذا تكذيب منهم لرسله، وأن رسله متفقون على أنه سبحانه يكره شركهم، ويبغضه ويمقته، وأنه لولا بغضه وكراهته له لما أذاق المشركين بأسه؛ فإنه لا يعذب عبده على ما يحبه.

ص: 411

ثم طالبهم بالعلم على صحة مذهبهم بأن الله أذن فيه، وأنه يحبه ويرضاه، ومجرد إقراره لهم قدرًا لا يدل على ذلك عند أحد من العقلاء، وإلا كان الظلم والفواحش والسعي في الأرض بالفساد والبغي محبوبًا له مرضيًا.

ثم أخبر سبحانه أن مستندهم في ذلك إنما هو الظن، وهو أكذب الحديث، وأنهم لذلك كانوا أهل الخرص والكذب.

ثم أخبر سبحانه أن له الحجة عليهم من جهتين:

إحداهما: ما ركّبه فيهم من العقول التي يفرقون بها بين الحسن والقبيح، والحق والباطل، والأسماع والأبصار التي هي آلة إدراك الحق، والتي يُفرَّق بها بينه وبين الباطل.

والثانية: إرسال رسله، وإنزال كتبه، وتمكينهم من الإيمان والإسلام.

ولم يؤاخذهم بأحد الأمرين، بل بمجموعهما؛ لكمال عدله، وقطعًا لعذرهم من جميع الوجوه، ولذلك سمّى حجته عليهم بالغة، أي: قد بلغت غاية البيان وأقصاه، بحيث لم يبقَ معها مقال لقائل، ولا عذر لمعتذر، ومن اعتذر إليه سبحانه بعذر صحيح قَبِلَه.

ثم ختم الآية بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته، وهذا من تمام حجته البالغة؛ فإنه إذا امتنع الشيء لعدم مشيئته، ولزم وجوده عند مشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ كان هذا من أعظم أدلة التوحيد، ومن أبين أدلة بطلان ما أنتم عليه من الشرك

ص: 412

واتخاذ الأنداد من دونه، فما

(1)

احتجيتم به من المشيئة على ما أنتم عليه من الشرك هو من أظهر الأدلة على بطلانه وفساده.

فلو أنهم ذكروا القدر والمشيئة توحيدًا له، وافتقارًا والتجاءً إليه، وبراءة من الحول والقوة إلا به، ورغبة إليه أن يقيلهم مما لو شاء أن لا يقع منهم لما وقع= لنفعهم ذلك، ولفتح لهم باب الهداية، ولكن ذكروه معارضين به أمره، ومبطلين به دعوة الرسل، فما ازدادوا به إلا ضلالًا.

والمقصود أنه سبحانه قد فرّق بين محبته ومشيئته، وقد حكى أبو الحسن الأشعري في "مقالاته"

(2)

اتفاق أهل السنة والحديث على ذلك، والذي حكى عنه ابن فُوْرَك في كتاب "تجريده لمقالاته" أنه كان لا يفرق بين ذلك، قال: "وكان لا يفرق بين الودّ والحبّ والإرادة والمشيئة والرضا، وكان لا يقول: إن شيئًا منها يخص بعض المرادات دون بعض، بل كان يقول: إن كل واحد منها بمعنى صاحبه على جهة التقييد الذي يزول معه الإيهام

(3)

، وهو أن المؤمن محبوب لله أن يكون مؤمنًا من أهل الخير كما علمه، والكافر أيضًا مراد أن يكون كافرًا كما علمه من أهل الشر، ومحب أن يكون ذلك كذلك كما علم.

وكذلك كان يقول في الرضا والاصطفاء والاختيار، ويقيد اللفظ بذلك حتى لا يتوهم فيه الخطأ"

(4)

انتهى.

(1)

"م": "مما"، وهي محتملة في "د".

(2)

"مقالات الإسلاميين"(294).

(3)

"م": "الإبهام"، وأهملت في "د"، والمثبت من مصدر القول، وسيأتي ما يعززه.

(4)

"مجرد مقالات الأشعري"(52).

ص: 413

والذي عليه أهل الحديث والسنة قاطبة، والفقهاء كلهم، وجمهور المتكلمين والصوفية: أنه سبحانه يكره بعض الأعيان والأفعال والصفات، وإن كانت واقعة بمشيئته، فهو يبغضها ويمقتها، كما يبغض ذات إبليس وذوات جنوده، ويبغض أعمالهم، ولا يحب ذلك، وإن وُجِد بمشيئته، قال الله تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقال:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، وقال:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وقال:{لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} [المائدة: 87]، وقال:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، فهذا إخبار عن عدم محبَّته لهذه الأمور ورضاه بها بعد وقوعها.

فهذا صريح في إبطال قول من تأوّل هذه النصوص على أنه لا يحبها ممن لم تقع منه، ويحبها إذا وقعت، فهو يحبها ممن وقعت منه، ولا يحبها ممن لم تقع منه.

وهذا من أعظم الباطل والكذب على الله، بل هو سبحانه يكرهها ويبغضها قبل وقوعها، وحال وقوعها، وبعد وقوعها؛ فإنها قبائح وخبائث، والله منزّه عن محبة القبيح والخبيث، بل هو أكره شيء إليه، قال تعالى:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38].

وقد أخبر سبحانه أنه يكره طاعات المنافقين، ولأجل ذلك ثبّطهم عنها، فكيف يحبّ نفاقهم ويرضاه، ويكون أهله محبوبين له، مصطفين عنده مرضيين.

ص: 414

ومن هذا الأصل الباطل نشأ قولهم باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه، وأنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح، فلا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر والكفر.

وكذلك قالوا: لا يجب شكره على نعمه عقلًا.

فعن هذا الأصل قالوا: إن مشيئته هي عين محبته

(1)

، وإن كل ما شاءه فهو محبوب له، ومرضي له، ومصطفى ومختار، فلم يمكنهم بعد تأصيل هذا الأصل أن يقولوا: إنه يبغض بعض الأعيان والأفعال التي خلقها، ويحب بعضها، بل كل ما فعله وخلقه فهو محبوب له، والمكروه المبغوض ما لم يشأه، ولم يخلقه.

وإنما أصّلوا هذا الأصل محافظة منهم على القدر، فجنوا به على الشرع والقدر، والتزموا لأجله لوازم شوّشوا بها على القدر والحكمة، وكابروا لأجلها صريح العقل، وسوّوا بين أقبح القبائح وأحسن الحسنات في نفس الأمر، وقالوا: هما سواء، لا فرق بينهما إلا بمجرد الأمر والنهي. فالكذب ــ عندهم ــ والظلم والبغي والعدوان مساوٍ للصدق والعدل والإحسان في نفس الأمر، ليس في هذا ما يقتضي حُسْنه، ولا في هذا ما يقتضي قُبْحه.

وجعلوا هذا المذهب شعارًا لأهل السنة، والقول بخلافه قول أهل البدع من المعتزلة وغيرهم، ولعمر الله؛ إنه لمن أبطل الأقوال، وأشدها منافاة للعقل والشرع، ولفطرة الله التي فطر عليها خلقه، وقد بيّنا بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا في كتاب "المفتاح"

(2)

.

(1)

"م": "عين مشيئته" سبق قلم.

(2)

"مفتاح دار السعادة"(2/ 1017 - 1135)، وعدّتها: واحد وستون وجهًا.

ص: 415

والمقصود: أنه لما انضم القول به إلى القول بأنه سبحانه لا يحب شيئًا ويبغض شيئًا، بل كل موجود فهو محبوب له، وكل معدوم فهو مكروه له، وانضم إلى هذين الأمرين إنكار الحِكَم والغايات المطلوبة في أفعاله سبحانه، وأنه لا يفعل شيئًا لشيء البتَّة، وانضم إلى ذلك إنكار الأسباب، وأنه لا يفعل شيئًا بشيء، وإنكار القوى والطبائع والغرائز، وأن تكون أسبابًا أو يكون لها أثر= انسدَّ عليهم باب الصواب في مسائل القدر، والتزموا لهذه الأصول الباطلة لوازم هي أظهر بطلانًا وفسادًا، وهي من أدلّ شيء على فساد هذه الأصول وبطلانها؛ فإن فساد اللازم من فساد ملزومه.

فإن قيل: الكراهة والمحبّة ترجع إلى المنافرة والملاءمة للطبع، وذلك محال في حقّ من لا يوصف بطبع ولا ملاءمة ولا منافرة!

قيل: قد دلّت النصوص التي لا تُدفع على وصفه تعالى بالمحبة والكراهة، فنفيُكم حقائق ما دلت عليه بالتعبير عنها بملاءمة الطبع ومنافرته باطل.

وهو كنفي كل مبطل حقائقَ أسمائه وصفاته بالتعبير عنها بعبارات اصطلاحية، توصّل بها إلى نفي ما وصف به نفسه، كتسمية الجهمية المعطلة صفاته تعالى: أعراضًا، ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها.

وسمّوا أفعاله القائمة به: حوادث، ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها، وقالوا: لا تحله الحوادث، كما قالت المعطلة: لا تقوم به الأعراض.

وسمّوا علوّه على خلقه واستواءه على عرشه، وكونه قاهرًا فوق عباده: تحيُّزًا وتجسيمًا، ثم توصلوا بنفي ذلك إلى نفي علوه على خلقه، واستوائه على عرشه.

ص: 416

وسمّوا ما أخبر به عن نفسه من الوجهِ واليدينِ والأصبعِ: جوارحَ وأعضاءَ، ثم نفوا ما أثبته لنفسه بتسميتهم له بغير تلك الأسماء، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].

فتوصلوا بالتجسيم والتشبيه والتركيب والحوادث والأعراض والتحيُّز إلى تعطيل صفات كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، وأخلوا تلك الأسماء من معانيها، وعطلوها من حقائقها.

فيقال لمن نفى محبته وكراهته لاستلزامهما ميل الطبع ونفرته: ما الفرق بينك وبين من نفى كونه مريدًا لاستلزام الإرادة حركةَ النفس إلى جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها؟ ونفى سمعه وبصره لاستلزام ذلك تأثّرَ السمع والبصر

(1)

بالمسموع والمُبْصَر، وانطباعَ صورة المرئي في الرائي، وحمْلَ الهواء الصوتَ المسموعَ إلى أذن السامع؟ ومن نفى علمه لاستلزامه انطباعَ صورة المعلوم في النفس الناطقة؟ ونفى غضبه ورضاه لاستلزام ذلك حركة القلب وانفعاله بما يَرِد عليه من المؤلم والسارّ؟ ونفى كلامه لاستلزام الكلام محلًّا يقوم به، ويظهر منه: من شفة ولسان ولَهَوات؟

ولمّا لم يمكن

(2)

أحدًا أقرّ بوجود رب العالمين طَرْدُ ذلك وقع في التناقض ولابدّ؛ فإنه أي شيء أثبتَه لزمه فيه ما التزمه، كمن

(3)

أثبت ما نفاه هو من غير فرق البتّة.

(1)

"م": "السميع البصير".

(2)

"م": "يكن".

(3)

"م": "لمن".

ص: 417

ولهذا لمّا تفطّن بعض المعطلة لذلك طَرَدَ هذا الأصل، وقال: لا أثبت شيئًا البتّة.

ولهذا قال الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة: لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنّعين

(1)

.

والمقصود أنا لا نجحد محبته سبحانه لما يحبه

(2)

، وكراهته لما يكرهه لتسمية النفاة لذلك ملاءمة ومنافرة.

وينبغي التفطن لهذا الموضع؛ فإنه من أعظم أصول الضلال، فلا نسمي العرش حيِّزًا، ولا نسمي الاستواء تحيُّزًا، ولا نسمي الصفات أعراضًا، ولا الأفعال حوادث، ولا الوجه واليدين والأصابع جوارح وأعضاء، ولا إثبات صفات كماله التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسله: تجسيمًا وتشبيهًا، فنجني جنايتين عظيمتين: جنايةً على اللفظ، وجنايةً على المعنى، فنبدل الاسم، ونعطل معناه. ونظير هذا تسمية خَلْقه سبحانه لأفعال عباده وقضائه السابق: جَبْرًا.

ولذلك أنكر أئمة السنة كالأوزاعي، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد وغيرهم هذا اللفظ

(3)

.

(1)

أسنده غلام الخلال في "السنة ــ زاد المسافر"(1/ 303)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى"(7/ 326)، وانظر:"إبطال التأويلات"(297).

(2)

"م": "محبته سبحانه طاعتَه".

(3)

ينظر: "مجموع الفتاوى"(3/ 322 - 326)(8/ 133 - 134).

ص: 418

قال الأوزاعي، والزُّبَيدي

(1)

: ليس في الكتاب والسنة لفظ "جَبْر"، وإنما جاءت السنة بلفظ "الجَبْل"

(2)

. كما في الصحيح

(3)

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: "إن فيك خُلُقين يحبهما الله: الحلم والأناة"، فقال: أخُلُقَين تخلّقت بهما، أم جُبِلت عليهما؟ فقال:"بل جُبِلتَ عليهما"، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب.

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جبَلَه على الحلم والأناة وهما من الأفعال الاختيارية، وإن كانا خُلُقين قائمين بالعبد

(4)

، فإن من الأخلاق ما هو كَسْبي، ومنها ما لا يدخل تحت الكَسْب، والنوعان قد جَبَل الله العبد عليهما، وهو سبحانه يحبّ ما جَبَل عبده عليه من محاسن الأخلاق، ويكره ما جَبَله عليه من مساوئها، فكلاهما بجَبْله، وهذا محبوب له، وهذا مكروه، كما أن جبريل صلوات الله وسلامه عليه مخلوق له، وإبليس عليه لعائن الله مخلوق له، وجبريل محبوب له مصطفى عنده، وإبليس أبغض خلقه إليه.

ومما يوضح ذلك أن لفظ الجَبْر لفظ مجمل، فإنه يقال: أجْبَر الأبُ

(5)

(1)

محمد بن الوليد أبو الهذيل الحمصي صاحب الزهري (148 هـ)، "تاريخ الإسلام"(3/ 975).

(2)

أسنده الخلال في "السنة"(3/ 555)، ونص عبارة الزبيدي:"أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحبه"، وانظر:"درء التعارض"(1/ 66).

(3)

"صحيح مسلم"(18) من حديث أبي سعيد الخدري وليس فيه موضع الشاهد، وهو عند أبي داود (5225) من حديث زارع، وله عدة شواهد.

(4)

"م": "قائمين فإنهن بالعبد" دون إعجام.

(5)

"م": "جبر الأب"، وجَبَر لغة فصيحة في أجبر، كما في "الأفعال" لابن القطاع (1/ 257).

ص: 419

ابنتَه على النكاح، وجَبَر الحاكمُ الرجلَ على البيع، ومعنى هذا الجَبْر: أكرهه عليه، ليس معناه أنه جعله محبًّا لذلك، راضيًا به، مختارًا له، والله تعالى إذا خلق فعل العبد جعله محبًّا له، مختارًا لإيقاعه، راضيًا به، كارهًا لعدمه، فإطلاق لفظ "الجَبْر" على ذلك فاسد لفظًا ومعنى؛ فإن الله سبحانه أجلّ وأعدل

(1)

من أن يجبر عبده بذلك المعنى، وإنما يجبر العاجزُ عن أن يجعل غيره فاعلًا بإرادته ومحبته ورضاه. وأما مَن جَعَل العبدَ

(2)

مريدًا محبًّا مؤثرًا لما يفعله، فكيف يقال: إنه جَبَره عليه؟!

فهو سبحانه أجلّ وأعظم وأقدر من أن يجبر عبده، ويكرهه على فعل ما يشاؤه منه، بل إذا شاء من عبده أن يفعل فعلًا جعله قادرًا عليه، مريدًا له، محبًا مختارًا لإيقاعه، وهو أيضًا قادر على أن يجعله فاعلًا له باختياره مع كراهته له، وبغضه ونفرته عنه.

فكل ما يقع من العباد بإراداتهم ومشيئاتهم فهو سبحانه الذي جعلهم فاعلين له، سواء أحبوه، أو أبغضوه وكرهوه، وهو سبحانه لم يجبرهم في النوعين، كما يجبر غيرُه مَنْ لا يقدر على جعله فاعلًا بإرادته ومشيئته.

نعم، نحن لا ننكر استعمال لفظ "الجَبْر" فيما هو أعمّ من ذلك، بحيث يتناول مَن قَهَر غيرَه، وقدر على جعله فاعلًا لما يشاء فعله، وتاركًا لما لا يشاء فعله؛ فإنه سبحانه المحدث لإرادته له، وقدرته عليه، كما قال محمد بن كعب القرظي في اسم "الجبّار" سبحانه: "هو الذي جَبَرَ العباد على

(1)

"د": "وأعز".

(2)

"د": "فعل العبد".

ص: 420

ما أراد"

(1)

.

وفي الدعاء المعروف عن علي رضي الله عنه: "اللهم داحِيَ المَدْحُوّات، وبارئ المَسْموكات، جبّار القلوب على فطراتها شقيّها وسعيدها"

(2)

.

فالجبر بهذا الاعتبار معناه القهر والقدرة، وأنه سبحانه قادر على أن يفعل بعبده ما شاء، وإذا شاء منه شيئًا وقع ولا بدّ، وإن لم يشأه لم يكن، ليس كالعاجز الذي يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، والفرق بين هذا الجَبْر وجَبْر المخلوق لغيره من وجوه:

أحدها: أن المخلوق لا قدرة له على جَعْل الغير مريدًا للفعل، محبًّا له، والربّ تعالى قادر على جَعْل عبده كذلك.

الثاني: أن المخلوق قد يجبر غيرَه إجبارًا يكون به ظالمًا له، معتديًا عليه، والربّ تعالى أعدل من ذلك؛ فإنه لا يظلم أحدًا من خلقه، بل مشيئته نافذة فيهم بالعدل والإحسان، بل عدله فيهم من إحسانه إليهم، كما سنبينه إن شاء الله.

الثالث: أن المخلوق يكون في جبره لغيره سفيهًا أو عابثًا أو جاهلًا، والربّ تعالى إذا جَبَل عبدَه على أمر من الأمور كان له في ذلك من الحكمة والعدل والإحسان والرحمة ما هو محمود عليه بجميع وجوه الحمد.

الرابع: أن المخلوق يجبر غيرَه لحاجته إلى ما جبره عليه، ولانتفاعه

(1)

تقدم توثيقه (1/ 396).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (30134)، وابن أبي عاصم في "الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم "(23).

ص: 421

بذلك، وهذا لأنه فقير بالذات، وأما الربّ تعالى فهو الغني بذاته، الذي كل ما سواه محتاج إليه، وليس به حاجة إلى أحد.

الخامس: أن المخلوق يجبر غيرَه لنقصه، فيجبره ليحصل له الكمال بما أجبره عليه، والربُّ تعالى له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وكماله من لوازم ذاته لم يستفده من خلقه، بل هو الذي أعطاهم من الكمال ما يليق بهم، فالمخلوق يجبر غيره ليتكمّل نقصه به، والربُّ تعالى منزّه عن كل نقص وعيب، فكماله المقدّس ينفي الجَبْر.

السادس: أن المخلوق يجبر غيرَه على فعلٍ يعينه به على غرضه؛ لعجزه عن التوصّل إليه إلا بمعاونته له، فصار الفعل من هذا، والإكراه والقهر من هذا؛ محصّلًا لغرض المُكْرِه، كما أن المعين

(1)

لغيره باختياره شريك له في الفعل، والربُّ تعالى غني عما سواه بكل وجه، فيستحيل في حقه الجَبْر.

السابع: أن المجبور على فعل ما لا يريد فعله يجد من نفسه فرقًا ضروريًا بينه وبين ما يريد فعله باختياره ومحبته، فالتسوية بين الأمرين تسوية بين ما عُلِم بالحسِّ والاضطرار الفرقُ بينهما، وهو كالتسوية بين حركة المُرْتعِش وحركة الكاتب، وهذا من أبطل الباطل.

الثامن: أن الله سبحانه قد فطر العباد على أن المجبور المُكْرَه على الفعل معذور لا يستحق الذم والعقوبة، ويقولون: قد أُكْرِه على كذا، وجَبَره عليه السلطان. وكما أنهم مفطورون على هذا فهم مفطورون أيضًا على ذم من فعل القبائح باختياره وإرادته، وعَدَمِ عَذْرِه، ولا يقولون: هو معذور، ولا

(1)

"د": "الغني".

ص: 422

فاعل بغير اختياره

(1)

، وشريعته سبحانه موافقة لفطرته في ذلك، فمن سَوّى بين الأمرين فقد خرج عن موجِب الشرع والعقل والفطرة.

التاسع: أنّ مَن أمر غيرَه بمصلحة المأمور وما هو محتاج إليه، ولا سعادة له، ولا فلاح إلا به؛ لا يقال: جبره على ذلك. وإنما يقال: نصحه وأرشده، ونفعه وهداه، ونحو ذلك. وقد لا يختار المأمورُ المنهيُّ ذلك، فيجبره الناصحُ له على ذلك مَن له ولاية الإجبار، وهذا جبر بحق، وهو جائز، بل واقع في شرع الربّ وقدره وحكمته ورحمته وإحسانه، لا نمنع هذا الجَبْر.

العاشر: أن الربّ تعالى ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فجَعْله العبد فاعلًا بقدرته ومشيئته واختياره أمر يختص به تبارك وتعالى، والمخلوق لا يقدر أن يجعل غيره فاعلًا إلا بإكراهه له على ذلك، فإن لم يكرهه لم يقدر على غير الدعاء والأمر بالفعل، وذلك لا يصيّر العبد فاعلًا؛ فالمخلوق هو الذي يجبر غيرَه على الفعل، ويكرهه عليه، فنسبة ذلك إلى الربّ تشبيه له في أفعاله بالمخلوق الذي لا يجعل غيرَه فاعلًا إلا بجبره له وإكراهه، فكمال قدرته تعالى، وكمال علمه، وكمال مشيئته، وكمال عدله وإحسانه، وكمال غناه، وكمال ملكه، وكمال حجته على عبده تنفي الجَبْر.

فصل

فالطوائف كلها متفقة على الكَسْب، ومختلفون في حقيقته.

(1)

من قوله: "وإرادته وعدم" إلى هنا ساقط من "د" انتقال نظر.

ص: 423