المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض

- ‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابعفي ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامسفي ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادسفي ذكر التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابعفي أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب

- ‌الباب الثامنفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسعفي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌المخاصمون في القدر نوعان:

- ‌الباب العاشرفي مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌ لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:

- ‌المقدور يكتنفه أمران:

- ‌الباب الحادي عشرفي ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشرفي ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها

- ‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشرفي الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى

- ‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه

- ‌كيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه

- ‌كيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر

- ‌ما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها

- ‌هل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

- ‌ما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه

- ‌هل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي

- ‌ما ذنب من لا يصلح

- ‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته

- ‌ العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار

- ‌الباب السابع عشرفي الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك

- ‌ هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة

- ‌الباب الثامن عشرفي فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال

- ‌ الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل

- ‌الباب التاسع عشرفي ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌ ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته:

الفصل: ‌هل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

فصل

وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته، فكما قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]، وقال:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده، كما أن مشيئته له تستلزم وجوده، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده.

وقد أخبر الله سبحانه أن العباد لا يشاؤون إلا بعد مشيئته، ولا يفعلون إلا بعد مشيئته، فقال:{وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وقال:{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56].

فإن قيل: ف‌

‌هل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

؟

قيل: إن أريد بكونه مقدورًا: سلامة آلة العبد التي يتمكّن بها من الفعل، وصحة أعضائه، ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتعريفه طريق فعله، وفتح الطريق له= فنعم، هو مقدور بهذا الاعتبار.

وإن أريد بكونه مقدورًا: القدرة المقارِنة للفعل، وهي الموجِبة له، التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل؛ فليس بمقدور بهذا الاعتبار.

وتقرير ذلك أن القدرة نوعان:

قدرة مُصَحِّحة، وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة، وهي

ص: 342

مناط التكليف، وهذه متقدمة على الفعل غير موجِبة له.

وقدرة مقارِنة للفعل مستلزِمة له، لا يتخلف الفعل عنها، وهذه ليست شرطًا في التكليف، فلا تتوقّف صحته وحسنه عليها، فإيمان من لم يشأ الله إيمانه، وطاعة من لم يشأ طاعته مقدور بالاعتبار الأول، غير مقدور بالاعتبار الثاني.

وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يُطاق، كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

فإذا قيل: هل خَلَق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان، أم لم يخلق له قدرة؟

قيل: خَلَق له قدرة مُصَحِّحة متقدِّمة على الفعل، هي مناط الأمر والنهي، ولم يخلق له قدرة موجِبة للفعل مستلزِمة له، لا يتخلّف عنها، فهذه فضله يؤتيه من يشاء، وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده.

فإن قيل: فهل يمكنه الفعل ولم تُخْلَق له هذه القدرة؟

قيل: هذا هو السؤال السابق بعينه، وقد عرفت جوابه، وبالله التوفيق.

فصل

وأما إماتة قلوبهم، ففي قوله:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، وقوله:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقوله:{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70]، وقوله:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، فوصف

ص: 343

الكافر بأنه ميت، وأنه بمنزلة أصحاب القبور، وذلك أن القلب الحيّ هو الذي يعرف الحق ويقبله ويحبه ويؤثره على غيره، فإذا مات القلب لم يبق فيه إحساس ولا تمييز بين الحق والباطل، ولا إرادة

(1)

للحق وكراهة للباطل، بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحسّ بلذة الطعام والشراب وألم فقدهما.

ولذلك

(2)

وصف سبحانه كتابه ووحيه بأنه روح؛ لحصول حياة القلب به، فيكون القلب حيًّا، ويزداد حياة بروح الوحي، فيحصل له حياة على حياة، ونور على نور، نور الوحي على نور الفطرة، قال تعالى:{الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ} [غافر: 15]، وقال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فجعله روحًا لما يحصل به من الحياة، ونورًا لما يحصل به من الهدى والإضاءة، وذلك نور وحياة زائد على نور الفطرة وحياتها، فهو نور على نور، وحياة على حياة.

ولهذا يضرب سبحانه لمن عدم ذلك مثلًا بمستوقد النار التي ذهب عنه ضوؤها، وبصاحب الصَّيِّب الذي كان حظّه منه الصواعق والظلمات والرعد والبرق، فلا استنار بما أوقد من النار، ولا حيي بما في الصَّيِّب من الماء.

وكذلك ضرب هذين المثلين في "سورة الرعد" لمن استجاب له، فحصل على الحياة والنور، ولمن لم يستجب له وكان حظه الموت

(1)

"د": "لذاذة".

(2)

عدا "م": "وكذلك".

ص: 344

والظُّلمة، وأخبر عمن أمسك عنه نوره بأنه في الظلمة ليس له من نفسه نور، فقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دِرِّيءٌ تَوَقَّدَ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

(1)

} [النور: 35].

ثم ذكر من أمسك عنه هذا النور، ولم يجعله له، فقال:{(38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ يَحْسِبُهُ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ} [النور: 39 - 40].

وفي "المسند" من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل"، فلذلك أقول: جفّ القلم على علم الله

(2)

.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]. وهذه الظلمات ضدّ الأنوار التي يتقلب فيها المؤمن، فإن نور الإيمان في قلبه، ومدخله نور، ومخرجه نور، وعمله نور، ومشيه في الناس بالنور، وكلامه نور، ومصيره إلى النور. والكافر بالضدّ.

ص: 345

ولما كان النور من أسمائه سبحانه وصفاته كان دينه نورًا، ورسوله نورًا، وكلامه نورًا، وداره نورًا تتلألأ، والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين، ويجري على ألسنتهم، ويظهر على وجوههم.

وكذلك لما كان الإيمان صفته، واسمه المؤمن؛ لم يعطه إلا أحبّ خلقه إليه. وكذلك الإحسان صفته وهو المحسن، ويحب المحسنين، وهو صابر يحب الصابرين، شاكر يحب الشاكرين، عفو يحب أهل العفو، حيِيّ يحب أهل الحياء، سِتّير يحب أهل الستر، قوي يحب أهل القوة من المؤمنين، عليم يحب أهل العلم من عباده، جواد يحب أهل الجود، جميل يحب المتجمّلين، بَرّ يحب الأبرار، رحيم يحب الرحماء، عدل يحب أهل العدل، رشيد يحب أهل الرشد، وهو الذي جعل من يحبّه من خلقه كذلك، وأعطاه من هذه الصفات ما شاء، وأمسكها عمن يبغضه، وجعله على أضدادها، فهذا عدله، وذلك فضله، والله ذو الفضل العظيم.

فصل

وأما جعله القلب قاسيًا، فقال تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]، والقسوة: الشدّة والصلابة في كل شيء، يقال: حجر قاس، وأرض قاسية لا تنبت شيئًا.

قال ابن عباس: "قاسية عن الإيمان".

وقال الحسن: "طبع عليها"

(1)

.

(1)

نسبه إليهما في "البسيط"(7/ 303).

ص: 346

والقلوب ثلاثة: قلب قاس، وهو اليابس الصلب الذي لا يقبل صورة الحق، ولا تنطبع فيه ليبسه. وضده القلب الليّن المتماسك، وهو السليم من المرض، الذي يقبل صورة الحق بلينه، ويحفظها بتماسكه، بخلاف المريض الذي لا يحفظ ما ينطبع فيه؛ لميعانه ورخاوته، كالمائع الذي إذا طَبعتَ فيه الشيء قَبِل صورته بما فيه من اللِّيْن، ولكن رخاوته تمنعه من حفظها، فخير القلوب الصلب الصافي الليْن، فهو يرى الحق بصفائه، ويقبله بلينه، ويحفظه بصلابته.

وفي "المسند"

(1)

وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أصلبها وأرقّها وأصفاها".

وقد ذكر سبحانه أنواع القلوب في قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53 - 54]، فذكر القلب المريض وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق، والقلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه، فهذان القلبان شقيّان معذّبان.

(1)

لم أقف عليه في "المسند".

وقد روي هذا الأثر مرفوعًا وموقوفًا ومقطوعًا: فأخرجه مرفوعًا الطبراني في "مسند الشاميين"(840) من حديث أبي عِنَبة الخولاني بإسناد جيد، وله شاهد في "الزهد"(830) عن أبي أمامة، وهو في "جزء الدراج"(99) موقوفًا على أبي عنبة، ومقطوعًا على خالد بن معدان في "الزهد"(2264)، انظر:"فيض القدير"(2/ 496)، "الصحيحة"(1691).

ص: 347

ثم ذكر القلب المُخْبِت المطمئن إليه، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به.

قال الكلبي: " {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} فترق للقرآن قلوبهم"

(1)

.

وقد بيّن سبحانه حقيقة الإخبات ووصف المُخْبِتين في قوله: {الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 34 - 35].

فذكر للمُخْبِتين أربع علامات: وَجَل قلوبهم عند ذكره ـ والوَجَل: خوفٌ مقرون بهيبة ومحبّة ـ، وصبرهم على أقداره، وإتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرًا وباطنًا، وإحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم، وهذا إنما يتأتّى للقلب المُخْبِت.

قال ابن عباس: "المُخْبِتين: المتواضعين"

(2)

.

وقال مجاهد: "المطمئنّين إلى الله"

(3)

.

وقال الأخفش: "الخاشعين"

(4)

.

(1)

حكاه عنه في "البسيط"(15/ 472).

(2)

نسبه إليه الثعلبي في "الكشف والبيان"(7/ 22)، وعلّقه البخاري في "الصحيح"(6/ 97) عن سفيان بن عيينة، وأسنده عبد الرزاق في "التفسير"(2/ 38) عن قتادة ومجاهد.

(3)

أسنده في "جامع البيان"(16/ 551)، وهو في "تفسير مجاهد"(481).

(4)

حكاه عنه في "الكشف والبيان"(7/ 22).

ص: 348

وقال ابن جرير: "الخاضعين"

(1)

.

قال الزَّجّاج: "اشتقاقه من الخَبْت وهو المنخفض من الأرض، فكل مُخْبِت متواضع، فالإخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله تعالى"

(2)

.

فإن قيل: فإذا كان معناه التواضع والخشوع، فكيف عُدّي بـ "إلى" في قوله:{وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23]؟

قيل: ضُمِّن معنى: أنابوا واطمأنوا وتابوا، وهذه عبارات السلف في هذا الموضع.

والمقصود: أن القلب المُخْبِت ضدّ القاسي والمريض، وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مُخْبِتًا إليه، وبعضها مريضًا، وبعضها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا.

فمن آثار القسوة: تحريف الكلم عن مواضعه، وذلك من سوء الفهم وسوء القصد، وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب، ومنها نسيان ما ذُكّر به، وهو تَرْك ما أُمرَ به علمًا وعملًا، ومن آثار الإخبات وجَل القلوب لذكره سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه.

فصل

وأما تضييق الصدر وجعله حرجًا لا يقبل الإيمان، فقال تعالى: {فَمَنْ

(1)

"جامع البيان"(16/ 550).

(2)

"معاني القرآن وإعرابه"(3/ 427).

ص: 349

يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، والحرج: هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم، يقال: رجلٌ حَرِجٌ وحَرَجٌ، أي: ضَيِّقُ الصدر، قال الشاعر:

لا حَرِج الصدرِ ولا عنيفُ

(1)

قال عبيد بن عمير: قرأ ابن عباس هذه الآية فقال: هل ههنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم. قال: ما الحَرَجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه. فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر

(2)

.

وقرأ عمر بن الخطاب الآية فقال: ابغوني رجلًا من كنانة، واجعلوه راعيًا. فأتوه به، فقال له عمر: يا فتى، ما الحَرَجة فيكم؟ فقال: الشجرة تحدق بها الأشجار فلا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر: كذلك قلب الكافر، لا يصل إليه شيء من الخير

(3)

.

قال ابن عباس: " {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، إذا سمع ذكر الله اشْمَأزَّ قلبه ونفسه، وإذا ذُكِر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك"

(4)

.

(1)

هو دون نسبة في "العين"(3/ 76)، و"تهذيب اللغة"(4/ 137).

(2)

أورده بهذا اللفظ الثعلبي في "الكشف والبيان"(4/ 188)، والواحدي في "البسيط"(8/ 423)، وأسنده السرقسطي في "الدلائل في غريب الحديث"(3/ 1034) من طريق عبيد بن عمير بنحوه، ومن وجه آخر الطبري في "جامع البيان"(16/ 641).

(3)

أسنده الطبري (9/ 545).

(4)

نسبه إليه في "البسيط"(8/ 425).

ص: 350

ولما كان القلب محلًّا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها، فإذا أراد الله هداية عبده وسّع صدره وشرحه، فدخلت فيه وسكنته، وإذا أراد ضلاله ضيّق صدره وأحرجه، فلم يجد محلًّا يدخل فيه، فيعدل عنه ولا يساكنه، وكل إناء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق، إلا القلب الليّن

(1)

، فكلما أُفْرِغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح، وهذا من آيات

(2)

قدرة الرب تعالى.

وفي "الترمذي" وغيره

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل النورُ القلبَ انفسح وانشرح"، قالوا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله".

فَشَرْح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وتضييقه من أسباب الضلال، كما أن شَرْحَه من أَجَلِّ النعم، وتضييقه من أعظم النقم، فالمؤمن مشروح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها، وإذا قوي الإيمان وخالط بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدرًا منه على شهواتها

(1)

"اللين" من "ج".

(2)

"د": "باب" معجمة.

(3)

لم أقف عليه عند الترمذي ولم يعزه إليه أحد، وهو في "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي كما في "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 201).

والحديث أخرجه وكيع في "الزهد"(15)، وسعيد بن منصور في "التفسير"(918)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(35455)، من طرق عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر عبد الله بن مسور المدائني ـ وهو وضّاع ـ مرسلًا، قال ابن رجب:"هذا هو أصل الحديث، ثم وصله قوم، وجعلوا له إسنادًا موصولًا مع اختلافهم فيه"، انظر:"علل الدارقطني"(5/ 189)، "شرح العلل" لابن رجب (2/ 772).

ص: 351