المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض

- ‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابعفي ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامسفي ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادسفي ذكر التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابعفي أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب

- ‌الباب الثامنفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسعفي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌المخاصمون في القدر نوعان:

- ‌الباب العاشرفي مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌ لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:

- ‌المقدور يكتنفه أمران:

- ‌الباب الحادي عشرفي ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشرفي ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها

- ‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشرفي الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى

- ‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه

- ‌كيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه

- ‌كيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر

- ‌ما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها

- ‌هل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

- ‌ما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه

- ‌هل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي

- ‌ما ذنب من لا يصلح

- ‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته

- ‌ العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار

- ‌الباب السابع عشرفي الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك

- ‌ هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة

- ‌الباب الثامن عشرفي فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال

- ‌ الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل

- ‌الباب التاسع عشرفي ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌ ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته:

الفصل: ‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

‌الباب الرابع عشر

في الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

هذا الباب

(1)

هو قلب أبواب القدر ومسائله؛ فإن أفضل ما يقدِّر الله لعبده وأجلّ ما يقسمه له: الهدى، وأعظم ما يبتليه به، ويقدِّره عليه: الضلال، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال.

وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم، وكتبه المنزّلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده، لا بيد العبد، وأنّ العبد هو الضالّ أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.

ولابدَّ قبل الخوض في تقرير ذلك من ذكر مراتب الهدى والضلال في القرآن.

فأما مراتب الهدى فأربعة:

إحداها: الهدى العام، وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهذا أعم مراتبه.

المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى

(1)

ما عدا "ج": "المذهب".

ص: 217

مصالح العبد في معاده، وهذا خاص بالمكلفين، وهذه المرتبة أخصّ من المرتبة الأولى، وأعم من الثالثة.

المرتبة الثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء، وهي هداية التوفيق ومشيئة الله لعبده الهداية، وخلقه دواعي الهدى وإرادته والقدرة عليه للعبد، وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.

المرتبة الرابعة: الهداية يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار.

فصل

فأما المرتبة الأولى فقد قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3]، فذكر سبحانه أربعة أمور عامة: الخلق والتسوية والتقدير والهداية، وجعل التسوية من تمام الخلق، والهداية من تمام التقدير.

قال عطاء: {خَلَقَ فَسَوَّى} : "أحسن ما خلقه"

(1)

، وشاهده قوله تعالى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [السجدة: 7].

فإحسان خلقه يتضمن تسويته، وتناسب خلقه وأجزائه، بحيث لم يحصل بينها تفاوت يخل بالتناسب والاعتدال، فالخلق: الإيجاد، والتسوية: إتقانه وإحسان خلقه.

وقال الكلبي: "خَلَق كل ذي روح، فجمع خلقه وسواه باليدين

(2)

(1)

نسبه إليه في "البسيط"(23/ 431).

(2)

كذا في الأصول: "باليدين"، وفي مصدر النقل:"اليدين"، وهو الأشبه.

ص: 218

والعينين والرجلين"

(1)

.

وقال مقاتل: "خلق لكل دابة ما يصلح لها من الخلق"

(2)

.

وقال أبو إسحاق: "خلق الإنسان مستويًا"

(3)

، وهذا تمثيل، وإلا فالخلق والتسوية شامل للإنسان وغيره، قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]، وقال:{السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]، فالتسوية شاملةٌ لجميع مخلوقاته:{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، وما يوجد من التفاوت وعدم التسوية فهو راجع إلى عدم إعطاء التسوية للمخلوق؛ فإن التسوية أمرٌ وجودي يتعلق بالتأثير والإبداع، فما عُدِم منها فلعدم إرادة الخالق للتسوية، وذلك أمر عدمي يكفي فيه عدم الإبداع والتأثير.

فتأمل ذلك؛ فإنه يزيل عنك الإشكال في قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} ، فالتفاوت حاصل بسبب عدم مشيئة التسوية، كما أنّ الجهل والصمم والعمى والخرس والبكم يكفي فيها عدم مشيئة خلقها وإيجادها، وتمام هذا يأتي ــ إن شاء الله ــ في باب دخول الشر في القضاء الإلهي عند قول النبي صلى الله عليه وسلم:"والشر ليس إليك"

(4)

.

والمقصود أن كل مخلوق فقد سوّاه خالقه سبحانه في مرتبة خلقه، وإن

(1)

نسبه إليه في "البسيط"(23/ 431)، ومثله في "تفسير البغوي"(8/ 400).

(2)

نسبه إليه في "البسيط"(23/ 431)، ونسبت إلى عطاء في "الكشف والبيان"(10/ 183) وغيره.

(3)

"معاني القرآن وإعرابه"(5/ 315).

(4)

(2/ 81).

ص: 219

فاتته التسوية من وجه آخر لم يُخلق له.

فصل

وأما التقدير والهداية فقال مقاتل: "قَدّر خلق الذكر والأنثى من الدواب، فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها"

(1)

، وقاله ابن عباس والكلبي

(2)

.

وكذلك قال عطاء: "قدر من النسل ما أراد، ثم هدى الذكر للأنثى"

(3)

.

واختار هذا القول صاحب "النظم"

(4)

فقال: "معنى "هدى" هداية الذكر لإتيان الأنثى كيف يأتيها؛ لأن إتيان ذُكران الحيوان لإناثه مختلف لاختلاف الصور والخلق والهيئات، فلولا أنه سبحانه جبل كل ذكر على معرفة كيف يأتي أنثى جنسه لما اهتدى لذلك"

(5)

.

وقال مقاتل أيضًا: "هداه لمعيشته ومرعاه"

(6)

.

وقال السدي: "قَدَّر مدة الجنين في الرحم، ثم هُدِي للخروج"

(7)

.

(1)

"تفسير مقاتل"(4/ 669) بنحوه، وبنصها في "البسيط"(23/ 433).

(2)

أخرج أثر ابن عباس بمعناه الطبري (16/ 79)، وأثر الكلبي بمعناه عبد الرزاق في "التفسير"(1815)، وانظر:"البسيط"(23/ 433).

(3)

نسبه إليه في "البسيط"(23/ 432).

(4)

"نظم القرآن" لأبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني من علماء القرن الرابع، انظر:"تاريخ جرجان"(187).

(5)

انظر: "البسيط"(23/ 433).

(6)

"تفسير مقاتل"(3/ 29).

(7)

نسبه إليه في "البسيط"(23/ 434).

ص: 220

وقال مجاهد: "هدى الإنسان لسبيل الخير والشر، والسعادة والشقاوة"

(1)

.

وقال الفرّاء: "التقدير: فهدى وأضل، فاكتفى من ذكر أحدهما بالآخر"

(2)

.

قلت: الآية أعمّ من هذا كله، وأضعف الأقوال فيها قول الفرّاء؛ إذ المراد ههنا الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه، وليس المراد هداية الإيمان والضلال بمشيئته، وهي نظير قوله:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فإعطاؤه الخلق: إيجاده في الخارج، والهداية: التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه.

وما ذكره مجاهد فهو تمثيل منه، لا تفسير مطابق للآية؛ فإن الآية شاملة لهداية الحيوان كله: ناطقه وبهيمه، طيره ودوابه، فصيحه وأعجمه.

وكذلك قول من قال: "إنه هداية الذكر لإتيان الأنثى"، تمثيل أيضًا، وهو فرد واحد من أفراد الهداية التي لا يحصيها إلا الله.

وكذلك قول من قال: "هداه للمرعى"، فإن ذلك من الهداية، فأين الهداية إلى التِقام الثدي عند خروجه من بطن أمه؟ والهداية إلى معرفته أمه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت؟ والهداية إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضره منه، وهداية الطير والوحش والدواب إلى الأفعال العجيبة التي

(1)

بنحوه في التفسير المنسوب إليه (722)، وأسنده الطبري (24/ 311)، وانظر:"البسيط"(23/ 433).

(2)

"معاني القرآن"(3/ 256).

ص: 221

يعجز عنها الإنسان، كهداية النحل إلى سلوك السُّبُل التي فيها مراعيها على تباينها

(1)

، ثم عودها إلى بيوتها من الشجر والجبال وما يعرش بنو آدم.

وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب، وذلك أن لها أميرًا ومدبّرًا وهو اليَعْسوب، وهو أكبر جسمًا من جميع النحل، وأحسن لونًا وشكلًا.

وإناث النحل تلد في إقبال الربيع، وأكثر أولادها يكنّ إناثًا، وإذا وقع فيها ذكرٌ لم تدعه بينها

(2)

، بل إما أن تطرده، وإما أن تقتله، إلا طائفة يسيرة منها تكون حول الملك، وذلك أن الذكر منها لا يعمل شيئًا ولا يكسب.

ثم تجتمع الأمهات وفراخها عند الملك، فيخرج بها إلى المرعى من المروج والرياض والبساتين والمرابع في أقصد الطرق وأقربها، فتجتني منها كفايتها، فيرجع بها الملك، فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف على بابها، ولم يدع ذكرًا ولا نحلة غريبة تدخلها.

فإذا تكامل دخولها دخل بعدها، وقد أخذت النحل مقاعدها وأماكنها، فيبتدئ الملك بالعمل كأنه يعلّمها إيّاه، فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه، ويترك الملكُ العملَ ويجلس ناحية بحيث يشاهد النحل، فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق والأنوار.

ثم تقتسم النحل فرقًا، فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه ولا تعمل ولا تكسب، وهم حاشية الملك من الذكورة.

(1)

"ج": "بابها"، وفي "د" دون إعجام، وطمست في "م"، والمثبت أشبه.

(2)

"م": "لم تدعه يدخل بيتها".

ص: 222

ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصفّيه، والشمع هو ثُفْل العسل

(1)

، وفيه حلاوة كحلاوة التين، وللنحل به عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل، فينظفه النحل ويصفّيه ويخلّصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها.

وفرقة تبني البيوت، وفرقة تسقي الماء، وتحمله على متونها، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل.

وإذا رأت بينها نحلة مَهِينة بطّالة قطعتها وقتلتها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال، وتعديهن ببطالتها ومهانتها.

وأول ما تبني في الخلية مقعد الملك وبيته، فتبني له بيتًا مربّعًا يشبه السرير والتخت، فيجلس عليه ويستدير حوله طائفة من النحل شبه الأمراء والخدم والخواص لا يفارقنه، ويجعل النحل بين يديه شيئًا يشبه الحوض، يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه، ويملأ منه الحوض، يكون ذلك طعامًا للملك وخواصه.

ثم يأخذن في بناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سِكَك ومَحَال، وتبني بيوتها مسدّسة الأشكال، متساوية الأضلاع، كأنها قرأت كتاب إقليدس، حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها؛ لأن المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسَّعة، والشكل المسدّس ــ دون سائر الأشكال ــ إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صارت شكلًا مستديرًا كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشدّ بعضه بعضًا، حتى يصير طبقًا واحدًا محكمًا، لا

(1)

ما استقر أسفل العسل من بقايا وكدر ونحوها، انظر:"تاج العروس"(ثفل)(28/ 154).

ص: 223

يدخل بين بيوته رؤوس الإبر.

فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم، الذي يعجز البشر عن صنع مثله، فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين:

إحداهما

(1)

: أن لا تكون زواياها ضيقة، حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلًا.

الثاني

(2)

: أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض امتلأت العَرْصة

(3)

منها، ولا يبقى شيء منها ضائعًا.

ثم إنها علمت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدّس فقط؛ فإن المثلثات والمربعات وإن أمكن امتلاء العَرْصة منها إلا أن زواياها ضيقة، وأما سائر الأشكال وإن كانت زواياها واسعة إلا أنها لا تمتلئ العَرْصة منها، بل يبقى فيما بينها فروج خالية ضائعة، وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين.

فهداها سبحانه إلى

(4)

بناء بيوتها على هذا الشكل، من غير تسطير ولا آلة ولا مثال يُحْتَذى عليه، وأصنعُ بني آدم لا يقدر على بناء البيت المسدّس إلا بالآلات الكثيرة.

(1)

"د": "أحدها".

(2)

كذا في الأصول: "الثاني"، والوجه:"الثانية".

(3)

البقعة الواسعة بين الدور الخالية من البناء، انظر:"الصحاح"(عرص)(3/ 1044).

(4)

في الأصول: "على" خطأ.

ص: 224

فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها

(1)

، وتأتيها ذللًا لا تستعصي عليها ولا تضل عنها، وأن تجتني أطيب ما في المرعى وألطفه، وأن تعود إلى بيوتها الخالية فتصب فيها شرابًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء للناس، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69].

فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خِمَاصًا تسيح سهلًا وجبلًا، فأكلت من الحلاوات المرتفعة على رؤوس الأزهار، وورق الأشجار، فترجع بِطَانًا، وجعل سبحانه في أفواهها حرارة منضجة تنضج ما جَنَتْه، فتفيده حلاوة ونضجًا، ثم تمجّه في البيوت، حتى إذا امتلأت ختمتها وسدت رؤوسها بالشمع المصفّى، فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر ــ إن صادفته ــ فاتخذت فيه بيوتًا، وفعلت كما فعلت في البيوت الأولى.

فإذا برد الهواء، وأخلف المرعى

(2)

، وحيل بينها وبين الكسب، لزمت بيوتها، واغتذت بما ادخرته من العسل.

وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة، وتسيح في المراتع، وتشتغل كل فرقة منها بما يخصّها من العمل، فإذا أمست رجعت إلى بيوتها.

وإذا كان وقت رجوعها وقف على باب الخلية بوّاب منها ومعه أعوان له، فكل نحلة تريد الدخول يشمها البوّاب ويتفقدها؛ فإن وجد منها رائحة منكرة، أو رأى بها لطخة من قذر منعها من الدخول، وعزلها ناحية إلى أن

(1)

"قوتها" من "ج"، ومثلها في "د" مهملة، وفي "م":"قربها"، وفي المعنى شيء.

(2)

أخلف النبات: أخرج الخلفة، وهو الذي يخرج بعد الورق الأول في الصيف، انظر:"تاج العروس"(خلف)(23/ 272)، وفي "م":"واختلف".

ص: 225

يدخل الجميع، فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول فيتفقدهنّ، ويكشف أحوالهنّ مرة ثانية، فمن وجده قد وقع على شيء مُنْتِن أو نجس قَدَّه نصفين، ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية، هذا دأب البوّاب كل عشية.

وأما الملك فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادرًا، إذا اشتهى التنزّه فيخرج ومعه أمراء النحل والخدم، فيطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار، ثم يعود إلى مكانه.

ومن عجيب أمره أنه ربما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه، فيغضب ويخرج من الخلية، ويتباعد عنها، ويتبعه جميع النحل، وتبقى الخلية خالية، فإذا رأى صاحبها ذلك، وخاف أن يأخذ النحل ويذهب بها إلى مكان آخر احتال لاسترجاعه وطلب رضاه، فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل، فيعرفه باجتماع النحل إليه، فإنها لا تفارقه، وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقودًا، وهو إذا خرج غضبان جلس على مكان مرتفع من الشجرة، وطافت به النحل، وانضمت إليه، حتى تصير كالكرة، فيأخذ صاحب النحل رمحًا أو قصبة طويلة، ويشدّ على رأسها حزمةً من النبات الطيب الرائحة العَطِر النظيف، ويدنيه إلى محل الملك، ويكون معه إما مِزْهَر

(1)

أو يَراع أو شيء من آلات الطرب، فيحركه وقد أدنى إليه ذلك الحشيش، فلا يزال كذلك إلى أن يرضى الملك، فإذا رضي وزال غضبه طَفَر

(1)

المِزْهَر: العود الموسيقية التي يضرب بها، ينظر:"تاج العروس"(زهر)(11/ 480)، "تكملة المعاجم"(7/ 339).

ص: 226

ووقع على ذلك الضِّغْث

(1)

، وتبعه خدمه وسائر النحل، فيحمله صاحبه إلى الخلية، فينزل ويدخلها هو وجنوده.

ولا يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام.

ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة، ولا تدين بطاعتها.

والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العَسّالة، وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع، وإخراجها ونفيها عن الخلايا، وإذا فعلت ذلك جاد العسل، وتجتهد أن تقتل ما تريد قتله خارج الخلية؛ صيانة للخلية عن جيفته.

ومنها صنف قليلة النفع كبيرة الجسم، وبينها وبين العَسّالة حرب، فهي تقصدها وتغتالها، وتفتح عليها بيوتها، وتقصد هلاكها، والعَسَّالة شديدة التيقظ والتحفظ منها، فإذا هجمت عليها بيوتها صاولتها

(2)

وألجأتها إلى أبواب البيوت، فتتلطّخ بالعسل، فلا تقدر على الطيران، ولا يفلت منها إلا كل طويل العمر، فإذا انقضت الحرب، وبرد القتال عادت إلى القتلى فحملتها، وألقتها خارج الخلية.

وقد ذكرنا أن الملك لا يخرج إلا في الأحايين، وإذا خرج خرج في جموع من الفراخ والشباب، وإذا عزم على الخروج ظلّ قبل ذلك بيوم أو يومين يعلّم الفراخ، وينزلها منازلها ويرتبها، فيخرج ويخرجن معه على ترتيب ونظام قد دبّره معهن، لا يخرجن عنه.

(1)

طَفَر: وثَب، والضِّغْث: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، ينظر:"الصحاح"(ضغث)(1/ 258)(طفر)(2/ 726).

(2)

تحرفت في الأصول إلى: "حاولتها".

ص: 227

وإذا تولدت عنده ذكران عرف أنهن يطلبن الملك، فيجعل كل واحد منهم على طائفة من الفراخ، ولا يقتل ملكٌ منها ملكًا آخر؛ لما في ذلك من فساد الرعية وهلاكها وتفرقها.

وإذا رأى صاحب الخلية الملوك قد كثرت في الخلية، وخاف من تفرق النحل بسببهم؛ احتال عليهم وأخذ الملوك كلها إلا واحدًا، ويحبس الباقي عنده في إناء، ويدع عندهم من العسل ما يكفيهم، حتى إذا حدث بالملك المنصوب حدث من مرض أو موت أو كان مفسدًا فقتلته النحل؛ أخذ من هؤلاء المحبوسين واحدًا، وجعله مكانه؛ لئلا يبقى النحل بلا ملك فيتشتّت أمرها.

ومن عجيب أمرها أن الملك إذا خرج متنزِّهًا ومعه الأمراء والجنود ربما لحقه إعياء فتحمله الفراخ.

وفي النحل كرام عمّال لها سعي وهمة واجتهاد، وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة، فالكرام دائمًا تطردها وتنفيها عن الخلية، ولا تساكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها.

والنحل من أنظف الحيوان وأنقاه، ولذلك لا تلقي زِبْلها إلا وهي تطير، وتكره النتن والروائح الخبيثة.

وأبكارها وفراخها أحرص وأشد اجتهادًا من الكبار، وأقل لسعًا وأجود عسلًا، ولسعها إذا لسعت أقل ضررًا من لسع الكبار.

ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه ـ وقد خُصَّت من وحي الربِّ تعالى وهدايته بما لم يشركها فيه غيرها ـ وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام= كانت

ص: 228

أكثر الحيوان أعداء، وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه، وهو العزيز الحكيم.

فصل

(1)

وهذه النمل من أهدى الحيوانات، وهدايتها من أعجب شيء؛ فإنَّ النملة الصغيرة تخرجُ من بيتها وتطلب قوتَها وإن بَعُدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق مُعْوَجّة بعيدة، ذات صعود وهبوط، في غاية من التوعّر حتى تصل إلى بيوتها، فتخزّن فيها أقواتها في وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فَلْقه باثنتين فلقته بأربعة، فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يومًا ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها، ولا تتغذى منها نملة على ما جمعه غيرها.

ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: {يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما بيَّنه من اسم الجنس إرادة للعموم، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول، وهو خشية أن يصيبهم مَعَرّة الجيش

(2)

، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي

(1)

سيقتبس المؤلف في هذا الفصل كثيرًا من "الحيوان" للجاحظ (4/ 5 - 36).

(2)

المعرّة: الأمر القبيح المكروه والأذى، "النهاية في الغريب"(عرر)(3/ 205).

ص: 229

الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك، وهذا من أعجب الهداية.

وتأمل كيف عظَّم الله سبحانه شأن النمل بقوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]، ثم قال:{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} ، فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي، ودلَّ على أن ذلك الوادي كان معروفًا بالنمل، كوادي السِّباع ونحوه، ثم أخبر عمَّا دل على شدة فطنة هذه النملة، ودقة معرفتها، حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم، فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكنًا لا يدخل عليهم فيه سواهم، ثم قالت: لا يحطمنكم سليمان، فجمعت بين اسمه وعينه، وعرَّفته بهما، وعرفت جنوده وقائدها، ثم قالت: وهم لا يشعرون، فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مَعَرَّة الجيش بكونهم لا يشعرون، وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا حِذْرهم، ويدخلوا مساكنهم، ولذلك تبسّم نبي الله سليمان ضاحكًا من قولها، وإنه لموضع تعجّب وتبسّم.

وقد روى الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله نهى عن قتل أربع: النملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد

(1)

.

وفي "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة، فأمر بجهازه فأخرج، وأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبّح؟!

(1)

أخرجه عبد الرزاق (8415)، ومن طريقه أحمد (3066)، وأبو داود (5267)، وابن ماجه (3224)، وصححه ابن حبان (5646).

والصُّرَد طائر أكبر من العصفور ضخم الرأس والمنقار يصيد صغار الحشرات وربما صاد العصفور، وكانوا يتشاءمون به، انظر:"المعجم الوسيط"(1/ 512).

ص: 230

فهلّا نملة واحدة! "

(1)

.

وذكر هشام بن حسان أن أهل الأحنف بن قيس لقوا من النمل شدّة، فأمر الأحنف بكرسي فوضع عند بيوتهن فجلس عليه، ثم تشهّد، ثم قال: لتنتهنّ أو لنحرقنّ عليكن ونفعل ونفعل، قال: فذهبن

(2)

.

وروى عوف بن أبي جميلة، عن قَسَامَة بن زهير، قال: قال أبو موسى الأشعري: إن لكل شيء سادة، حتى إن للنمل سادة

(3)

.

ومن عجيب هدايتها، أنها تعرف ربّها بأنه فوق سماواته على عرشه، كما رواه الإمام أحمد في "كتاب الزهد"

(4)

من حديث أبي هريرة يرفعه قال: "خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة رافعة قوائمها إلى السماء تدعو، مستلقية على ظهرها، فقال: ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم".

ولهذا الأثر عدَّة طُرق، ورواه الطحاوي في "التهذيب"

(5)

وغيره.

وقال الإمام أحمد: حدثنا [وكيع، حدثنا مسعر، عن زيد العَمِّي، عن أبي

(1)

أخرجه البخاري (3319)، ومسلم (2241).

(2)

أورده الجاحظ في "الحيوان"(4/ 18)، وأسنده من أوجه أخرى أحمد في "مسائل عبد الله"(1620)، و"الزهد"(1296).

(3)

"الحيوان"(4/ 19)، وأسنده الحارث كما في "بغية الباحث"(799).

(4)

لم أقف عليه في مطبوعته، وأخرجه الدارقطني في "السنن"(1797)، وأبو الشيخ في "العظمة"(5/ 1753)، من طرق لينة تشد بعضها بعضًا، وصححه الحاكم (1215).

(5)

لعله يقصد "كشف مشكل الآثار"(875)، فإني لم أقف عليه في "شرح المعاني" له.

ص: 231

الصدّيق الناجي]

(1)

قال: "خرج سليمان بن داود يستسقي، فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنّا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك، فإمّا أن تسقينا وترزقنا، وإما أن تهلكنا، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم"

(2)

.

وقد حدثني مَن أثق به أن نملة خرجت من بيتها، فصادفت شِقّ جرادة، فحاولت أن تحمله فلم تطق، فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها، قال: فرفعْتُ ذلك من الأرض، فطافت في مكانه فلم تجده، فانصرفوا وتركوها، قال: فوضعْتُه، فعادت تحاول حمله فلم تقدر، فذهبت وجاءت بهم، فرفعْتُه، فطافت فلم تجده، فانصرفوا، قال: فعلتُ ذلك مرارًا، فلما كان في المرة الأخيرة استدار النمل حلقة، ووضعوها في وسطها، وقطعوها عضوًا عضوًا.

قال شيخنا ــ وقد حكيت له هذه الحكاية ــ: "هذه النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب وعقوبة الكذاب"

(3)

.

والنمل من أحرص الحيوان، ويُضرب بحرصه المثل.

ويُذكر أن سليمان بن داود ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ لما رأى حرص النملة، وشدَّة ادخارها للغذاء؛ استحضر نملة وسألها: كم تأكل النملة من

(1)

زيادة من مصدر الخبر، موضعه بياض في الأصول.

(2)

"الزهد"(449)، وأخرجه ابن أبي شيبة (30101)، والجاحظ في "الحيوان"(4/ 19) واللفظ له.

(3)

انظر: "مفتاح دار السعادة"(2/ 690).

ص: 232

الطعام كل سنة؟ قالت: ثلاث حبّات من الحنطة. فأمر بإلقائها في قارورة، وسَدَّ فم القارورة، وجعل معها ثلاث حبّات حنطة، وتركها سنة بعد ما قالت

(1)

، ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة، فوجد فيها حبَّة ونصف حبة، فقال: أنتِ زعمتِ أن قُوتك كل سنة ثلاث حبات! فقالت: نعم، ولقد صدقتك، ولكن لما رأيتك مشغولًا بمصالح أبناء جنسك، حَسَبْتُ الذي معي فوجدته أكثر من المدة المضروبة، فاقتصرت على نصف القوت، واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي.

فعجب سليمان من شدة حرصها، وهذا من أعجب الهداية والفطنة.

ومن حرصها أنها تكدّ طوال الصيف، وتجمع للشتاء، علمًا منها بإعواز الطلب في الشتاء، وتعذر الكسب فيه.

وهي على ضعفها شديدة القوى؛ فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها، وتجره إلى بيتها.

ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت عضو جرادة يابسًا فأدنيته إلى أنفك لم تشم له رائحة، فإذا وضعته على الأرض أقبلت النملة من مكان بعيد إليه فاحتملته، فإن عجزت عن حمله ذهبت وأتت معها بصف

(2)

من النمل يحملونه، فكيف وجدت رائحة ذلك من جوف بيتها حتى أقبلت بسرعة إليه!

فهي تدرك بالشم من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو بالسمع، فتأتي من مكان بعيد إلى موضعٍ أَكَلَ فيه الإنسان، وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره،

(1)

"بعد ما قالت" زيادة من "د".

(2)

"م": "بصنف".

ص: 233

فتحمله وتذهب به، وإن كان أكبر منها، فإن عجزت عن حمله، ذهبت إلى جحرها وجاءت معها بطائفة من أصحابها، فجاؤوا كخيط أسود يتبع بعضهم بعضًا، حتى يتساعدوا على حمله ونقله.

وهي تأتي إلى السنبلة فتشمها، فإن وجدتها حنطة قطعتها وفرّقتها وحملتها، وإن وجدتها شعيرًا تركتها.

فلها أولًا صدق الشم، وبُعْد الهمة، وشدة الحرص، والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها

(1)

.

وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل، إلا أن لها رائدًا يطلب الرزق، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات.

وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها، غير مختلسة من الحَبّ شيئًا لنفسها دون صواحباتها.

ومن عجيب أمرها أنّ الرجل إذا أراد أن يحترز من الذّر لا يسقط في عسل أو نحوه، فإنه يحفر حُفَيرة ويجعل حولها ماء، أو يتخذ إناء كبيرًا ويملؤه ماء، ثم يضع فيه ذلك الشيء، فيأتي الذّر يطيف به فلا يقدر عليه، فيتسلق في الحائط، ويمشي على السقف، إلى أن يحاذي ذلك الشيء، فتلقي نفسها عليه، وجربنا نحن ذلك.

وأحمى صانعٌ مرَّة طوقًا بالنار، ورماه على الأرض ليبرد، واتفق أن أسفل الطوق نمل، فتوجه في الجهات ليخرج فلحقه وهج النار، فلزم المركز

(1)

انظر: "الحيوان"(4/ 6 - 7).

ص: 234

ووسط الطوق وكان فيه، وكان

(1)

ذلك مركزًا له، وهو أبعد مكان من المحيط.

فصل

وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض حيث لا يراه غيره.

ومن هدايته ما حكاه الله سبحانه عنه في كتابه أنه قال لنبي الله سليمان، وقد فقَدَهُ وتواعده

(2)

، فلمَّا جاءه بَدَرَه بالعُذر قبل أن يبْدره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطابًا هيّجه به على الإصغاء إليه، والقبول منه، فقال:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]، وفي ضمن هذا: أنّي أتيتك بأمر قد عرفتُه حق المعرفة بحيث أحطتُ به، وهو خبر عظيم له شأن، فلذلك قال:{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأَ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]، والنبأ هو الخبر الذي له شأن، والنفوس متطلّعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ، استفرغتْ قلب المخبر لتلقّي الخبر وقبوله، وأوجبت له التشوّف التام إلى سماعه ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج.

ثم كشف له عن حقيقة الخبر كشفًا مؤكدًا بأداة

(3)

التأكيد، فقال:{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 23].

(1)

"وكان" زيادة من "م"، وفي السياق شيء.

(2)

كذا في الأصول: "تواعده"، والأشبه بسياق القصة:"توعّده"؛ وقد سلف التنبيه عليه.

(3)

"د": "بأدلة" تحريف.

ص: 235

ثم أخبر عن شأن تلك الملكة، وأنها من أجلّ الملوك، بحيث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك، ثم زاد في تعظيم شأنها بذكر عرشها التي تجلس عليه، وأنه عرش عظيم.

ثم أخبره بما يدعوه إلى قصدهم وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله، فقال:{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 24]، وحذف أداة العطف من هذه الجملة، وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها؛ إيذانًا بأنها هي المقصودة وما قبلها توطئة لها، ثم أخبر عن المُغوي لهم، الحامل لهم على ذلك، وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدّهم عن السبيل المستقيم، وهو السجود لله وحده، ثم أخبر أن ذلك الصدّ حال بينهم وبين الهداية للسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له.

ثم ذكر من أفعاله سبحانه إخراج الخَبْء في السماوات والأرض، وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن، وأنواع ما ينزل من السماء، وما يخرج من الأرض.

وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصَّه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض.

قال صاحب "الكشاف": "وفي إخراج الخَبْء أمارة على أنه من كلام الهدهد؛ لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يُخرج الخَبْء في السماوات والأرض، جلّت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة الناظر بنور الله مخايل كل مختص بصناعة أو فن من العلم في رُوَائه

(1)

(1)

الرُّوَاء: حسن المنظر، "الصحاح"(رأى)(6/ 2347).

ص: 236

ومنطقه وشمائله، فما عمل آدمي عملًا إلا ألقى الله عليه رداء عمله"

(1)

.

فصل

(2)

وهذا الحمام من أعجب الحيوان هداية، حتى قال الشافعي:"أعقل الطير الحمام"

(3)

.

وبُرُد الحمام ـ وهي التي تحمل الرسائل والكتب ـ ربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد؛ فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره؛ لأنه يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها، وينهي

(4)

الأخبار والأغراض والمقاصد التي تتعلق بها مهمات الممالك والدول.

والقيِّمون بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيمًا، فيفرّقون بين ذكورها وإناثها وقت السِّفاد، وتنقل الذكور عن إناثها إلى غيرها، والإناث عن ذكورها، ويخافون عليها من فساد أنسابها وحملها من غيرها، ويتعرفون صحة طرقها ومحلها؛ لأنهم لا يأمنون أن يَسْفِد

(5)

الأنثى ذكرٌ

(6)

من عرض الحمام فتعتريها الهُجْنة.

(1)

"الكشاف"(3/ 362).

(2)

انظر: "الحيوان"(3/ 144 - 298)، وجل مادة هذا الفصل مقتبسة منه.

(3)

بنحوه في "الأم"(3/ 507)، وبنصه أورده ابن العربي في "أحكام القرآن"(3/ 472).

(4)

"م": "ويرى".

(5)

"د""م": "يفسد"، والمثبت من "ج"، والسياق يعضده.

(6)

في الأصول: "ذكرًا" خطأ مفسد للمعنى، والفقرة بقريب منها في "الحيوان"(3/ 213).

ص: 237

والقيّمون بأمرها لا يحفظون أرحام نسائهم ويحتاطون لها كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون لها.

والقيّمون بأمرها لهم في ذلك قواعد وطرق يعتنون بها غاية الاعتناء، بحيث إذا رأوا حمامًا ساقطًا لم يَخْفَ عليهم حسبُها ونسبُها وبلدُها.

ويعظّمون صاحب التجربة والمعرفة، وتسمح أنفسهم بالجُعْل الوافر له.

ويختارون لحمل الكتب والرسائل الذكور منها، ويقولون: هو أحنُّ إلى بيته لمكان أنثاه، وهو أشدّ متنًا، وأقوى بدنًا، وأحسن اهتداءً.

وطائفة منهم يختار لذلك الإناث، ويقولون: الذكر إذا سافر وبعد عهده حَنَّ إلى الإناث، وتاقت نفسه إليهن، فربما رأى أنثى في طريقه ومجيئه فلا يصبر عنها، فتَرَكَ المسير، ومال إلى قضاء وطره منها.

وهداية الحمام على قدر التعليم والتوطين.

والحمام موصوف باليُمن والإلف والتأنّس، ويحب الناس ويحبونه، ويألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه وإن أساء إليه، ويعود إليه من مسافات شاسعة، وربما صُدّ واختُزِل

(1)

عن وطنه عشر حجج

(2)

، وهو ثابت على الوفاء، حتى إذا وجد فرصة واستطاعة عاد إليه.

والحمام إذا أراد السِّفاد تلطّف للأنثى غاية التلطّف، فيبدأ بنشر ذنبه

(1)

من الاختزال وهو الانقطاع والانفراد، كما في "تاج العروس"(خزل)(28/ 406)، وفي "د":"وافترك" دون إعجام، وفي "ج":"فترك"، والمثبت من "م".

(2)

"ج": "سنين".

ص: 238

وإرخاء جناحيه، ثم يدنو من الأنثى، فيهْدِر لها ويقبّلها ويزُقُّها

(1)

وينتفش ويرفع صدره، ثم يعتريه ضرب من الحكّة والتفَلّي، والأنثى في ذلك مرسلة جناحها وكتفها

(2)

على الأرض، فإذا قضى حاجته منها، ركبته الأنثى! وليس ذلك في شيء من الحيوان سواه.

وإذا علم الذكر أنه أودع رحم الأنثى ما يكون منه الولد، تقدّم هو والأنثى بطلب القصب والحشيش وصغار العيدان، فيعملان منه أُفْحُوصة

(3)

، وينسجاها

(4)

نسجًا متداخلًا في الموضع الذي يكون بقدر جثمان الحمامة، ويجعلان حروفها شاخصة مرتفعة؛ لئلا يتدحرج عنها البيض، ويكون حصنًا للحاضن، ثم يتعاودان ذلك المكان، ويتعاقبان الأُفْحُوص يسخِّنانه ويطيّبانه، وينفيان طباعه الأُوَل ويحدثان فيه طبعًا آخر، مشتقًا ومستخرجًا من طباع أبدانهما ورائحتهما؛ لكي تقع البيضة إذا وقعت في مكان هو أشبه المواضع بأرحام الحمام، ويكون على مقدار من الحر والبرد والرخاوة والصلابة.

ثم إذا ضربها المخاض بادرت إلى ذلك المكان ووضعت فيه البيض. فإن أفزعها رعد قاصف رمت بالبيضة دون ذلك المكان الذي هيّأته، كالمرأة التي تُسْقِط من الفزع.

(1)

من الزَّقّ وهو إطعام الطائر فراخه بفيه، "الصحاح"(زقق)(4/ 1492).

(2)

"الحيوان"(3/ 158): "وكفيها".

(3)

الأفحوصة: الموضع الذي تضع فيه الحمام بيضها؛ لأنها تفحص الموضع، ثم تبيض فيه، ينظر:"تاج العروس"(فحص)(18/ 63).

(4)

"ج": "ينسجانها"، والمثبت من "د""م" موافق لما في "الحيوان"(3/ 149).

ص: 239

فإذا وضعت البيض في ذلك المكان لم يزالا يتعاقبان الحَضْن، حتى إذا بلغ الحَضْن

(1)

مداه وانتهت أيّامه، انصدع عن الفرخ فأعاناه على خروجه، فيبدآن أولًا بنفخ الريح في حلقه حتى تتسع حوصلته، علمًا منهما بأن الحوصلة تضيق عن الغذاء، فتتسع الحوصلة بعد التحامها، وتنفتق بعد ارتتاقها. ثم يعلمان أن الحوصلة وإن كانت قد اتسعت شيئًا فإنها في أول الأمر لا تحتمل الغذاء، فيزُقّانه بلعابهما المختلط بالغذاء وفيه قُوى الطعم، ثم يعلمان أن طبع الحوصلة تضعف عن استمرار الغذاء، وأنها تحتاج إلى دفع وتقوية لتكون لها بعض المتانة، فيلقطان من أصول الحيطان الحب اللين الرخو ويزُقّانه الفرخ، ثم يزُقّانه بعد ذلك الحب الذي هو أقوى وأشدّ، ولا يزالان يزُقّانه بالحب والماء على تدريج بحسب قوة الفرخ، وهو يطلب ذلك منهما، حتى إذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ليحتاج إلى اللقط ويعتاده.

وإذا علما أن أدواته قد قويت وتمّت، وأنهما إن فطماه فطمًا تامًا قوي على اللقط وتبلَّغ لنفسه؛ ضرباه إذا سألهما الزّقّ ومنعاه، ثم تُنزع تلك الرحمة العجيبة منهما، وينسيان ذلك التعطّف المتمكّن حين يعلمان أنه قد أطاق القيام بنفسه والتكسب، ثم يبتدئان العمل ابتداء على ذلك النظام.

والحمام مُشاكِل للناس في أكثر طباعه ومذاهبه؛ فإن في إناثه أنثى لا تريد إلا زوجها، وفيه أخرى لا تردّ يد لامس، وأخرى لا تُنال إلا بعد الطلب الحثيث، وأخرى تُركَب من أول وهلة وأول طلب

(2)

، وأخرى لها ذكر

(1)

"الحيوان"(3/ 151): "حتى إذا بلغ ذلك البيض مداه".

(2)

من قوله: "وأخرى لا تنال" إلى هنا ساقط من "م".

ص: 240

معروف بها، وهي تمكّن ذكرًا آخر منها عند غيبة ذكرها لا تعدوه، قد اتخذته خِدْنًا، وأخرى مسافحة إذا غاب زوجها لم تمتنع ممن ركبها، وأخرى تمكّن من نفسها غير زوجها وهو يراهما ويشاهدهما ولا تبالي بحضوره، وأخرى تقْمُط

(1)

الذكر وتدعوه إلى نفسها، وأنثى تركب أنثى وتساحقها، وذكر يركب ذكرًا ويعشقه، وكل حالة توجد في الناس ذكورهم وإناثهم توجد في الحمام.

وفيها من لا تبيض، وإن باضت أفسدت البيضة، كالمرأة التي لا تريد الولد، كيلا يشغلها عن شأنها.

وفي إناث الحمام من إذا عرض لها ذكر ــ أي ذكر كان ــ أسرعت هاربة ولا تواتي غير زوجها البتّة، بمنزلة المرأة الحرة، ومنها ما يأخذ أنثى يتمتع بها مدة ثم ينتقل عنها إلى غيرها، وكذلك الأنثى توافق ذكرًا آخر غير زوجها وتنتقل عنه، وإن كانوا جميعًا في بُرج واحد، ومنها ما يتصالح على الأنثى منها ذكران أو أكثر فتعاشرهم كلهم، حتى إذا غلب واحد منهم لرفيقه وقهره مالت إليه، وأعرضت عن المغلوب.

وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى حمامة

(2)

تتبع حمامة فقال: "شيطان يتبع شيطانة"

(3)

.

(1)

في الأصول: "تعمط" تحريف والمعنى لا يساعده، ففي "القاموس" (679):"عمط عرضه: عابه، وثلبه"، وأما القَمْط فهو سفاد الطائر كما في "مقاييس اللغة"(5/ 27)، وكذلك هي في مصدر المؤلف:"الحيوان"(3/ 165).

(2)

كذا في الأصول: "حمامة" سبق قلم، وضبب عليها في "م" وكتب في الحاشية:"رجلًا" وهو الصواب كما في مصادر التخريج.

(3)

أخرجه أحمد (8543)، وأبو داود (4940)، وابن ماجه (3765) من حديث أبي هريرة، وصححه ابن حبان (5874)، وقد اختلف في إسناده، وصوّب الدارقطني المرسل في "العلل"(3648).

ص: 241

ومنها ما يزُقّ فراخه خاصّة، ومنها ما فيه شفقة ورحمة بالغة يزُقّ فراخه وغيرها.

ومن عجيب هدايتها أنها إذا حملت الرسائل سلكت الطرق البعيدة عن القرى ومواضع الناس؛ لئلا يعرض لها من يصدّها، ولا تَرِد مياههم، بل تَرِد المياه التي لا يَرِدها الناس.

ومن هدايته أيضًا أنه إذا رأى البازي في الهواء فيعرف

(1)

أي البزاة هو، وأي نوع من الأنواع صيده

(2)

؛ فيخالف فعله ليسلم منه.

ومن كيسه أنه في أول نهوضه يعقل ويميّز بين النسر والعقاب، وبين الرَّخَم والبازي، وبين الغراب والصقر، فيعرف من يقصده ومن لا يقصده، وإن رأى الشاهين فكأنه رأى السم الناقع، ويأخذه تحيّر كما يأخذ الشاةَ عند رؤية الذئب، والحمارَ عند مشاهدة الأسد.

ومن هداية الحمام أن الذكر والأنثى يتقاسمان أمر الفراخ، فتكون الحضانة والتربية والكفالة على الأنثى، وجلب القوت والزّقّ على الذكر، فإن الأب هو صاحب العيال والكاسب لهم، والأمّ هي التي تحبل وتلد وترضع.

(1)

"د": "فعرف" والمثبت من "م"، والأقرب حذف الفاء.

(2)

"د": "صده" مهملة، وطمست في "م"، والمثبت من "ج" موافقة للـ "الحيوان" (3/ 187) وعبارته:"الحمام لا يخفى عليه في أوّل ما يرى البازي في الهواء أيّ البزاة هو، وأيّ نوع صيده، فيخالف ذلك".

ص: 242

ومن عجيب أمرها ما ذكره الجاحظ: أن رجلًا كان له زوج حمام مقصوص، وزوج حمام طيّار، وللطيار فرخان، قال: ففتحتُ لهما في أعلى الغرفة كَوَّة للدخول والخروج وزقّ فراخهما.

قال: فحبسني السلطان فجأة، فاهتممت بشأن المقصوص غاية الاهتمام، ولم أشك في موتهما؛ لأنهما لا يقدران على الخروج من الكَوَّة، وليس عندهما ما يأكلان ويشربان.

قال: فلما خُلّي سبيلي لم يكن لي هَمّ غيرهما، ففتحت البيت فوجدت الفرخين قد كبرا، ووجدت المقصوصين على أحسن حال، فتعجبت، فلم ألبث أن جاء الزوج الطيار، فدنا الزوج المقصوص إلى أفواههما يستطعمانهما كما يستطعم الفرخ، فزقّاهما

(1)

.

فانظر إلى هذه الهداية، فإن المقصوصين لما شاهدا تلطف الفراخ للأبوين وكيف يستطعمانهما، واشتد بهما الجوع والعطش، فعلا كفعل الفرخين فأدركتهما رحمة الطياريْن، فزقّاهما كما يزقّان فرخيهما.

ونظير ذلك ما ذكره الجاحظ وغيره ـ قال الجاحظ: وهو أمر مشهور عندنا بالبصرة ــ: أنه لما وقع الطاعون الجارف أتى على أهل دار، فلم يشك أهل تلك المحلّة أنه لم يُبْقِ منهم أحدًا، فعمدوا إلى باب الدار فسدوه، وكان قد بقي صبي صغير يرضع ولم يفطنوا له.

فلما كان بعد ذلك بمدة تحول إليها بعض ورثة القوم، ففتح الباب، فلما

(1)

"الحيوان"(2/ 156 - 157).

ص: 243

أفضى إلى عَرْصة الدار إذا هو بصبي يلعب مع جِراء كلبة قد كانت لأهل الدار، فراعه ذلك، فلم يلبث أن أقبلت كلبة قد كانت لأهل الدار، فلما رآها الصبي حبا إليها فأمكنته من أَطْبائها فمصّها.

وذلك أن الصبي لما اشتدّ جوعه، ورأى جِراء الكلبة يرتضعون من أَطْبائها حبا إليها، فعطفت عليه، فلما سقته مرّة أدامت له ذلك، وأدام هو الطلب.

ولا يُستبعد هذا وما هو أعجب منه؛ فإن الذي هدى المولود إلى مص إبهامه ساعة يولد، ثم هداه إلى التقام حلمة ثدي لم يتقدم له به عادة، كأنه قد قيل له: هذه خزانة طعامك وشرابك التي كأنك لم تزل بها عارفًا= في هدايته للحيوان إلى مصالحه ما هو أعجب من ذلك

(1)

.

ومن ذلك أن الديك الشاب إذا أُلْقِي له حَبٌّ لم يأكله حتى يفرقه، فإذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق، كما قال المدائني

(2)

: إن إياس بن معاوية مَرَّ بديك ينقر حبًّا ولا يفرقه، فقال: ينبغي أن يكون هَرِمًا؛ فإن الديك الشاب يفرق الحبَّ لتجتمع الدجاج حوله فيصبن منه، والهَرِم قد فنيت رغبته فيهن، فليس له همة إلا نفسه. قال إياس: والديك الشاب يأخذ الحبة فيؤثر بها الدجاجة حتى يلقيها من فِيه، والهرم يبتلعها ولا يلقيها للدجاجة

(3)

.

(1)

"الحيوان"(2/ 150، 152).

(2)

علي بن محمد أبو الحسن البصري المدائني الأخباري (225 هـ)، "تاريخ الإسلام"(5/ 638).

(3)

"الحيوان"(2/ 155 - 156).

ص: 244

وذكر ابن الأعرابي قال: أكلت حيّةٌ بيض مُكَّاء

(1)

، فجعل المُكَّاء يشوّش

(2)

ويطير على رأسها ويدنو منه، حتى إذا فتحت فاها وهمّت به ألقى فيه حَسَكة، فأخذت بحلقها حتى ماتت.

وأنشد أبو عمرو الشيباني في ذلك قول الأسدي:

إن كنت أبصرتني عَيلًا ومصطلمًا

فربما قتل المكَّاءُ ثعبانًا

(3)

وهداية الحيوانات إلى مصالح معاشها كالبحر، حدِّث عنه ولا حرج.

ومن عجيب هدايتها أن الثعلب إذا امتلأ من البراغيث أخذ صوفة بفمه، ثم عمد إلى ماء رقيق، فنزل فيه قليلًا قليلًا، حتى ترتفع البراغيث إلى الصوفة، فيلقيها في الماء ويخرج

(4)

.

ومن عجيب أمره أن ذئبًا أكل أولاده، وكان للذئب أولاد، وهناك زُبْيَة

(5)

، فعمد الثعلب وألقى نفسه فيها، وحفر فيها سردابًا يخرج منه، ثم عمد إلى أولاد الذئب فقتلهم، وجلس ناحية ينتظر الذئب، فلما أقبل وعرف أنها فِعْلَته هرب قدّامه وهو يتبعه، فألقى نفسه في الزُبْيَة، ثم خرج من

(1)

طائر له صفير حسن، وتصعيد في الجو وهبوط، من فصيلة القنابر، ينظر:"معجم الحيوان" لمعلوف (146).

(2)

من التشويش وهو الخلط واللبس، وفي "الحيوان" (7/ 23):"يشرشر"، والشرشرة كالرفرفة بالجناح، انظر:"التقفية"(432).

(3)

الحكاية والشاهد في "الحيوان"(7/ 23)، وفيه:"أبصرتني فذًّا" أي: فردًا، وقوله:"مصطلمًا" يعني مقطوعًا وحيدًا.

(4)

"الحيوان"(6/ 306).

(5)

الزبية: حفرة لاصطياد السبع تحفر في موضع عال، "الصحاح"(زبى)(6/ 2366).

ص: 245

السَّرَب

(1)

، فألقى الذئب نفسه وراءه فلم يجده، ولم يطق الخروج، فقتله أهل الناحية.

ومن عجيب أمره أن رجلًا كان معه دجاجتان، فاختفى له

(2)

وخطف إحداهما وفَرَّ، ثم أعمل فكره في أخذ الأخرى، فتراءى لصاحبها من بعيد، وفي فمه شبيه بالطائر، وأطمعه في استنقاذها بأن تركه وفرّ، فظن الرجل أنها الدجاجة فأسرع نحوها، ويخالفه الثعلب

(3)

إلى أختها، فأخذها وذهب

(4)

.

ومن عجيب أمره أنه أتى إلى جزيرة فيها طير، فأعمل الحيلة كيف يأخذ منها شيئًا، فلم يطق، فذهب وجاء بضِغْث من حشيش وألقاه في مجرى الماء الذي نحو الطير، ففزع الطير منه، فلما عرفت أنه حشيش رجعت إلى أماكنها، فعاد لذلك مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، حتى توطنت الطير على ذلك وألفته، فعمد إلى جُرْزَة

(5)

أكبر من ذلك فدخل فيها وعبر إلى الطير، فلم يشك الطير أنه من جنس ما قبله فلم تنفر منه، فوثب على طائر منها وعدا به.

ومن عجيب أمر الذئب أنه عرض لإنسان يريد قتله، فرأى معه قوسًا

(1)

"السرب": الطريق والقناة والجُحْر، "تاج العروس"(سرب)(3/ 49 - 50).

(2)

كذا في الأصول: "فاختفى له"، والأشبه بالسياق:"فاختبأ له".

(3)

"ج": "وأسرع يخالفه الثعلب".

(4)

جرت للإمام الشافعي حكاية مماثلة أوردها ياقوت في "معجم الأدباء"(6/ 2407) من طريق الآبري عن المزني بها، وليست في القدر المطبوع من "مناقب الشافعي" للآبري.

(5)

الجرزة: الحزمة من الحشيش ونحوها، "المخصص"(3/ 35)، والضِّغْث: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس.

ص: 246

وسهامًا، فذهب وجاء بعظم رأس جمل في فيه، وأقبل نحو الرجل، فجعل الرجل كلما رماه بسهم اتقاه بذلك العظم، حتى أعجزه وعاين نفاذ سهامه، فصادف من استعان به على طرد الذئب.

ومن عجيب أمر القرد ما ذكره البخاري في "صحيحه"

(1)

عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "رأيت في الجاهلية قردًا وقردة زنيا، فاجتمع عليهما القرود فرجموهما حتى ماتا"، فهؤلاء القرود أقاموا حدَّ الله حين عطَّله بنو آدم.

وهذه البقر يُضرب ببلادتها المثل، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا بَيْنا هو يسوق بقرة إذ ركبها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، فقال الناس: سبحان الله، بقرة تتكلم! فقال:"فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر" وما هُما ثَمَّ، قال: وبينا رجل يرعى غنمًا له، إذ عدا الذئب على شاة منها فاستنقذها منه، فقال الذئب: يا هذا، استنقذتها مني! فمن لها يوم السَّبُعِ، يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّي أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر" وما هما ثَمَّ

(2)

.

ومن هداية الحمار ــ الذي هو من أبلد الحيوان ــ أن الرجل يسير به، ويأتي به إلى منزله من البُعْد في ليلة مظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلّي جاء إليه، ويفرق بين الصوت الذي يُستوقَف به، والصوت الذي يُحث به على السير.

(1)

برقم (3849) بنحوه.

(2)

أخرجه البخاري (3471)، ومسلم (2388) من حديث أبي هريرة.

ص: 247

ومن عجيب أمر الفأر أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرّة فنقص، وعَزَّ عليها الوصول إليه؛ ذهبت وحملت في أفواهها ماء، وصبته في الجرّة حتى يرتفع الزيت فتشربه.

والأطباء تزعم أن الحُقْنة أُخِذت من طائر طويل المنقار، إذا تعسّر عليه الذَّرَق جاء إلى البحر المالح وأخذ بمنقاره منه، واحتقن به، فيخرج الذَّرَق بسرعة

(1)

.

وهذا الثعلب إذا اشتدَّ به الجوع انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء كأنه جيفة، فتدنو منه الطير، فلا يُظهر حركة ولا نفَسًا، فلا تشك أنه ميت، حتى إذا نقرته بمنقارها وثب عليها، فضمّها ضمة الموت

(2)

.

وهذا ابن عِرْس والقنفذ إذا أكلا الأفاعي والحيّات عمدا إلى الصَّعْتَر البرّي، فأكلاه كالترياق لذلك

(3)

.

ومن عجيب أمر الثعلب أنه إذا أصاب القنفذ قَلَبَه لظهره لأجل شوكه، فيجتمع القنفذ حتى يصير كُبّة شوك، فيبول الثعلب على بطنه، ما بين مَغْرِز عَجْبه إلى فكّيه، فإذا أصابه بوله اعتراه الأُسْر

(4)

فانبسط، فيسلخه الثعلب من

(1)

انظر: "الحيوان"(7/ 32)، والذرق خرء الطائر، "الصحاح"(ذرق)(4/ 1478).

(2)

انظر: "الحيوان"(2/ 290).

(3)

انظر: "الحيوان"(7/ 33).

(4)

الأسر: احتباس البول، وفي "الحيوان":"الأسن"، يقال: أسن الرجل إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة فغشي عليه، أو دار رأسه، وهذا المعنى أليق بالسياق، ينظر:"الصحاح"(2/ 578)(5/ 2070).

ص: 248

بطنه، ويأكل مسلوخه

(1)

.

فصل

وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوان البهيم أمورًا تنفعه في معاشه وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره.

وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس، قال تعالى:{أَمْ تَحْسِبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]، قال أبو جعفر الباقر:"والله ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام حتى جعلهم أضلّ سبيلًا منها"

(2)

.

فمَن هدى الأنثى من السباع إذا وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أيامًا، تهرب به من الذرِّ والنمل؛ لأنها تضعه كفِدْرَة

(3)

من لحم، فهي تخاف عليه الذرَّ والنمل، فلا تزال ترفعه وتضعه، وتحوّله من مكان إلى مكان حتى يشتد؟

(4)

.

وقال ابن الأعرابي: قيل لشيخ من قريش: من علمك هذا كله، وإنما يعرف مثله أصحاب التجارب والتكسب؟

قال: علمني الله ما علّم الحمامة تقليب بيضها حتى تعطي الوجهين

(1)

انظر: "الحيوان"(7/ 33).

(2)

لم أقف عليه.

(3)

الفدرة: القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة، "الصحاح"(2/ 779).

(4)

انظر: "الحيوان"(7/ 36)، وفيه: "ومن علّم الدب

".

ص: 249

جميعًا نصيبهما من حضانتها، ولِخَوف

(1)

طباع الأرض على البيض إذا استمر على جانب واحد

(2)

.

وقيل لآخر: ما علّمك اللَّجَاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى تظفر بها؟

قال: من علّم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط، ثم تصعد، ثم تسقط مرارًا عديدة، حتى تستمر صاعدة

(3)

.

وقيل لآخر: من علّمك البكور في حوائجك أول النهار لا تُخلّ به؟

قال: مَن علّم الطير تغدو خِماصًا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها، لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض.

وقيل لآخر: مَن علّمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك، فإذا ظفرت به، وثبت وثوب الأسد على فريسته؟

فقال: الذي علم السِّنَّوْر أن ترصد جُحر الفأرة، فلا تتحرك ولا تمور

(4)

ولا تختلج، كأنها ميتة، حتى إذا برزت لها الفأرة وثبت عليها كالأسد.

وقيل لآخر: من علّمك الصبر والجلد والاحتمال وعدم الشكوى؟

قال: مَن علَّم أبا أيوب

(5)

صبره على الأثقال والأحمال الثقيلة، والمشي

(1)

"د""م": "وتخوف"، والمثبت من "ج" موافق لما في "الحيوان".

(2)

انظر: "الحيوان"(7/ 35).

(3)

ينظر في لجاج الخنفساء: "الحيوان"(3/ 340).

(4)

"ولا تمور" من "م"، وفي "د" "ج":"ننوى" مهملة، ولعلها:"ولا تموء".

(5)

هي كنية الجمل، ويكنى أيضًا أبا صفوان، كما في "ثمار القلوب"(251).

ص: 250

بها على ظهره من بلد إلى بلد، مادًّا عنقه مستسلمًا، صابرًا على الجوع والعطش والتعب، وغِلْظة الجمَّال وضربه، فالثقل والكَلّ على ظهره، ومرارة الجوع والعطش في كبده، وجهد التعب والمشقة ملء جوارحه، ولا مُعوَّل له غير الصبر.

وقيل لآخر: مَن علَّمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل؟

قال: مَن علَّم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو محتاج إليها فلا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلبًا حثيثًا، حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها، وهو مسرور بذلك طيب النفس به، وإذا وُضِع له الحبّ الكثير فرَّقه ههنا وههنا وإن لم يكن هناك دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود، فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام.

وقيل لآخر: مَن علّمك هذا التحيّل في طلب الرزق، ووجوه تحصيله؟

قال: مَن علّم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها، وهي أكثر من أن تذكر؟

ومَن علّم الأسد إذا مشى وخاف أن يُقتص أثره ويُطلب، عفا

(1)

على أثر مشيته بذنبه، ومَن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه فينفخ في منخريه فيتحرك؛ لأن اللبوة تضعه خَوِرًا كالميت، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك، ومن ألهَم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع؟

ومَن علَّم الأسد أن يخضع للبَبْر، ويذلّ له إذا اجتمعا حتى ينجو منه،

(1)

كذا في الأصول: "عفا"، والأقرب:"أن يعفو".

ص: 251

ومن عجيب أمره أنه إذا استعصى

(1)

عليه شيء من السّباع دعا الأسد فأجابه إجابة المملوك لمالكه، ثم أمره فربض بين يديه فيبول في أذنه، فإذا رأت السباع ذلك أذعنت للبَبْر بالطاعة والخضوع؟

ومن علَّم الثعلب إذا اشتد به الجوع أن يستلقي على ظهره، ويختلس

(2)

نفسه إلى داخل بدنه حتى ينتفخ، فيظن الطير

(3)

أنه ميتة، فيقع عليه، فيثب على من انقضى عمره منها؟

ومن علَّمه إذا أصابه صدع أو جرح أن يأتي إلى صبغ معروف، فيأخذ منه ويضعه على جرحه كالمرهم؟

ومن علَّم الدب إذا أصابه كَلْم أن يأتي إلى نبت قد عرفه، وجهله صاحب الحشائش، فيتداوى به فيبرأ؟

ومن علّم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادها أن تأتي إلى الماء فتلده فيه؛ لأنها ــ دون سائر الحيوانات ــ لا تلد إلا قائمة؛ لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان

(4)

، وهي عالية، فتخاف أن تُسْقِطه على الأرض فيتصدّع أو ينشق، فتأتي إلى ماء وسط تضعه فيه، يكون كالفراش الليّن، والوِطَاء الناعم؟

ومن علَّم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر؟

(1)

في الأصول: "عصى"، تحريف، والصواب المثبت.

(2)

هكذا رسمت في "د""م": "ويختلس" مهملة، والاختلاس استلاب الشيء.

(3)

"د": "الظان".

(4)

في "حياة الحيوان" للدميري (2/ 309): "ولا فواصل لقوائمها".

ص: 252

ومن علّم الكلب إذا عاين الظِّباء أن يعرف المُعْتلّ من غيره، والذكر من الأنثى؛ فيقصد الذكر مع علمه بأن عَدْوَه أشدّ وأبعد وثبة، ويدع الأنثى على نقصان عَدْوها؛ لأنه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطًا أو شوطين حَقِب ببوله

(1)

، وكلّ حيوان إذا اشتدّ فزعه فإنه يدركه الحَقَب، وإذا حَقِب الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو، فيقل عدوه فيدركه الكلب، وأما الأنثى فإنها تحذف بولها لِسَعَة القبل، وسهولة المخرج، فيدوم عَدْوها

(2)

؟

ومن علّمه أنه إذا كسا الثلجُ الأرضَ أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد انخسف، فيعلم أن تحته جُحْر الأرنب، فينبشه ويصطادها، علمًا منه بأن حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق

(3)

؟

ومن علَّم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نُوَبًا بين عينيه، فينام بإحداهما حتى إذا تعبت الأخرى نام بها وفتح النائمة، حتى قال فيه بعض العرب:

ينام بإحدى مُقْلَتيه ويتقي

بأخرى المنايا فهو يقظان هاجعُ

(4)

ومن علّم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث، فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء، فيطيرون حول الفرخ ويحركونه بأفعالهم، ويحدثون له قوة وهمَّة وحركة حتى يطير معهم؟

قال بعض الصيادين: ربما رأيت العصفور على الحائط فأومئ بيدي

(1)

الحقب احتباس البول، ينظر:"الصحاح"(1/ 114).

(2)

انظر: "الحيوان"(2/ 117 - 118).

(3)

انظر: "الحيوان"(2/ 118 - 119).

(4)

البيت لحميد بن ثور الهلالي، وهو في "ديوانه"(105)، وانظر:"الحيوان"(6/ 467).

ص: 253

كأنني أرميه فلا يطير، وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئًا فلا يتحرك، فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي

(1)

.

ومن علّم الحمامة إذا حملت أن تأخذ هي والأب في بناء العش، وأن يقيما له حروفًا تشبه الحائط، ثم يسخناه ويحدثا فيه طبيعة أخرى، ثم يقلبان البيض في الأيام؟

ومن قسم بينهما الحضانة والكد؟ فأكثر ساعات الحضانة على الأنثى، وأكثر ساعات جلب القوت على الأب.

وإذا خرج الفرخ علما ضيق حوصلته عن الطعام فنفخا في فيه نفخًا متداركًا حتى تتسع حوصلته، ثم يزُقّانه اللعاب أول شيء قبل الطعام، وهو كاللِّبَأ للطفل، ثم يعلمان احتياج الحوصلة إلى دباغ، فيزُقّانه من أصل الحيطان من شيء بين الملح والتراب، تندبغ به الحوصلة، فإذا اندبغت زقَّاه الحبَّ، فإذا علما أنه أطاق اللقط منعاه الزقّ على التدريج، فإذا تكاملت قوته وسألهما الكفالة ضرباه.

ومن علّمهما إذا أرادا السِّفاد أن يبتدئ الذكر بالدعاء، فتتطارد له الأنثى قليلًا لتذيقه حلاوة المواصلة، ثم تطمعه في نفسها، ثم تمتنع بعض التمنّع ليشتد طلبه وحبه، ثم تتهادى وتتكسل، وتريه معاطفها، وتعرض محاسنها، ثم يحدث بينهما من التغزّل والعشق والتقبيل والترشّف ما هو مشاهد بالعيان؟

(1)

انظر: "الحيوان"(2/ 329).

ص: 254

ومن علّم المُرْسَلة منها إذا سافرت ليلًا أن تستدل ببطون الأودية، ومجاري المياه والجبال، ومهاب الرياح ومطلع الشمس ومغربها، فتستدل بذلك وبغيره إذا ضلّت، فإذا عرفت الطريق مرّت مرَّ الريح؟

ومن علّم الليث ــ وهو صنف من العناكب ــ أن يلطأ بالأرض ويجمع نفسه، فيُرِي الذبابة أنه لاهٍ عنها، ثم يثب عليها وثوب الفهد؟

ومن علّم العنكبوت نَسْج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة، ويجعل في أعلاها خيطًا، ثم يتعلق به، فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة نزل إليها فاصطادها؟

ومن علّم الظبي أنه لا يدخل كِنَاسه إلا مستدبرًا؛ ليستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وخُشْفه؟

(1)

.

ومن علَّم السِّنّور إذا رأت فأرة في السقف أن ترفع يديها كالمشيرة إليها بالعود، ثم تشير إليها بالرجوع، وإنما تريد أن ترهبها فتزلق فتسقط؟

(2)

.

ومن علّم اليَرْبوع أن يحفر بيته في سفح الوادي، حيث يرتفع عن مجرى السيل؛ ليسلم من مِدَقّ الحافر، ومجرى الماء، ويعمّقه، ثم يتخذ في زواياه أبوابًا عديدة، ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزًا رقيقًا، فإذا أحسَّ بالشرِّ فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه؟

(1)

الخشف ـ مثلثة الخاء ـ: ولد الظبي أول ما يولد، انظر:"تاج العروس"(23/ 209)، والفقرة في "الحيوان"(6/ 44).

(2)

سياقه في "الحيوان"(5/ 252): "فيقول السّنّور بيده كالمشير بيساره: ارجع. فإذا رجعت أشار بيمينه: أن عد فيعود. وإنما يطلب أن تعيا أو تزلق أو يُدار بها".

ص: 255

ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند أكمة أو صخرة أو شجرة، علامة له على البيت إذا ضلّ عنه.

ومن علّم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه، حتى يذهب ذلك السمن، ثم يظهر؟

ومن علّم الإيَّل إذا سقط قرنه أن يتوارى؛ لأن سلاحه قد ذهب فيسمن لذلك، فإذا كمل نبات قرنه تعرّض للشمس والريح، وأكثر الحركة؛ ليشتد لحمه، ويزول السمن المانع له من العدو؟

(1)

وهذا باب واسع جدًّا، ويكفي فيه قوله سبحانه:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 38 - 39].

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها"

(2)

، وهذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون إخبارًا عن أمر غير ممكن فعله، وهو أن الكلاب أمة لا يمكن إفناؤها لكثرتها في الأرض، فلو أمكن إعدامها من الأرض لأمَرْتُ بقتلها.

(1)

انظر: "الحيوان"(7/ 42).

(2)

أخرجه أحمد (16788)، وأبو داود (2845)، والترمذي (1486)، والنسائي (4280)، وابن ماجه (3205) من حديث عبد الله بن مغفل، وقال الترمذي:"حسن صحيح".

ص: 256

والثاني: أن يكون مثل قوله: "أمن أجل أن قرصتك نملةٌ أحرقت أمة من الأمم تسبّح"

(1)

، فهي أمة مخلوقة لحكمة ومصلحة، فإعدامها وإفناؤها يناقض ما خُلِقت له، والله أعلم بما أراد رسوله.

قال ابن عباس في رواية عطاء {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} : يريد يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني، مثل قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، ومثل قوله تعالى:{(40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، فعلى هذا جُعِلت أممًا أمثالنا في التوحيد والمعرفة بربها وتسبيحه

(2)

.

ويدل على هذا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ} [الحج: 18]، وقوله:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ} [النحل: 49]، ويدل عليه قوله تعالى:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]، ويدل عليه قوله:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، وقوله:{قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ} [النمل: 18]، وقول سليمان عليه السلام:{عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16].

وقال مجاهد: " {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أصناف مصنفة تعرف بأسمائها"

(3)

.

وقال الزجاج: " {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} في أنها تبعث"

(4)

.

(1)

تقدم تخريجه في (231).

(2)

الفقرة مقتبسة من "البسيط"(8/ 112 - 113).

(3)

أسنده الطبري (9/ 233).

(4)

بمعناه في "معاني القرآن وإعرابه"(2/ 245).

ص: 257

وقال ابن قتيبة: "أمم أمثالنا في طلب الغذاء، وابتغاء الرزق، وتوقّي المهالك"

(1)

.

وقال سفيان بن عيينة: "ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوّس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام الطيب عافته، فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه، فكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل تروّاه وحفظه"

(2)

.

قال الخطابي: "ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية، واستنبط منها هذه الحكمة، وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعًا لظاهره، وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله تعالى عن وجود المماثلة بيننا وبين كل طائر ودابة، وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة، وعدم من جهة المنطق والمعرفة، فوجب أن يكون منصرفًا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق، وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم والسباع، فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك"

(3)

، انتهى كلامه.

والله سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوبًا محتالًا، وبعضها متوكّلًا غير محتال، وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته، وبعضها يتكل على الثقة

(1)

بنحوه في "تأويل مشكل القرآن"(445).

(2)

رواه الخطابي في "العزلة"(55)، ومن طريقه الواحدي في "البسيط"(8/ 117).

(3)

"العزلة"(55).

ص: 258

بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقًا مضمونًا، وأمرًا مقطوعًا، وبعضها يدخر، وبعضها يُكتسب له

(1)

، وبعض الذكورة يعول ولده، وبعضها لا يعرف ولده البتة، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه، وبعضها تضيّع ولدها وتكفل ولد غيرها، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه.

وجعل بعض الحيوانات يُتْمها من قبل أمهاتها، وبعضها يُتْمها من قبل آبائها، وبعضها لا يلتمس الولد، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه.

وبعضها يعرف الإحسان ويشكره، وبعضها لا يؤَثّر ذلك عنده شيئًا، وبعضها يؤْثِر على نفسه، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمّة من جنسه لم يدع أحدًا يدنو منه.

وبعضها يحب السِّفاد ويكثر منه، وبعضها لا يفعله في السنة إلا مرة، وبعضها يقتصر على أنثاه، وبعضها لا يعفّ عن أنثى، ولو كانت أمه أو أخته، وبعضها لا تمكّن غير زوجها من نفسها، وبعضها لا تردّ يد لامس.

وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم، وبعضها يستوحش منهم، وينفر غاية النفار.

وبعضها لا يأكل إلا الطيب، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث، وبعضها يجمع بين الأمرين.

وبعضها لا يؤذي من بالغ في أذاها، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها، وبعضها حقود لا ينسى الإساءة، وبعضها لا يذكرها البتَّة، وبعضها لا

(1)

في "الحيوان"(2/ 114):"وبعضه يتكسّب".

ص: 259

يغضب، وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يُسترضى حتى يرضى.

وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة، وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه، وبعضها الحسن والقبيح عنده سواء، وبعضها يقبل التعليم بسرعة، وبعضها مع الطول، وبعضها لا يقبل ذلك بحال.

وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها سبحانه، وعلى إتقان صنعه، وعجيب تدبيره، ولطيف حكمته، فإن فيما أودعها من غرائب المعارف، وغوامض الحيل وحسن التدبير والتأتّي لما تريده= ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يُخلق عبثًا، ولا يُترك

(1)

سُدى، وأن لله سبحانه في كل مخلوق حكمًا باهرة، وآيات ظاهرة، وبرهانًا قاطعًا، يدل على أنه ربّ كلّ شيء ومليكه، وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم

(2)

.

فصل

فلنرجع إلى ما ساقنا إلى هذا الموضع، وهو الكلام على الهداية العامة، التي هي قرينة الخلق في الدلالة على الرب تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته وتوحيده.

قال تعالى إخبارًا عن فرعون أنه قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي

(1)

عدا "م": "ولم يترك".

(2)

إزاءه بحاشية "م" دون لحق: "وله في كل شيء آية تدل على أنه واحد".

ص: 260

أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 - 50]، قال مجاهد:"أعطى كل شيء خَلْقه، لم يعط الإنسان خَلْق البهائم، ولا البهائم خَلْق الإنسان"

(1)

.

وأقوال أكثر المفسرين تدور على هذا المعنى.

قال عطية ومقاتل: "أعطى كل شيء صورته"

(2)

.

وقال الحسن وقتادة: "أعطى كل شيء صلاحه"

(3)

.

ومعنى هذا: أعطاه من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خُلِق له، ثم هداه لما خُلِق له، وهداه لما يصلحه من معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه وتقلبه وتصرفه.

هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين، فيكون نظير قوله:{قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3].

وقال الكلبي والسدّي: "أعطى الرجلَ المرأة، والبعيرَ الناقة، والذكرَ الأنثى من جنسه"

(4)

، ولفظ السدي:"أعطى الذكرَ الأنثى مثل خَلْقه، ثم هدى إلى الجماع".

(1)

أسنده بنحوه الطبري (16/ 81).

(2)

انظر: "تفسير مقاتل"(3/ 29)، "البسيط"(14/ 414).

(3)

رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 17) عن الحسن، ورواه في "جامع البيان"(16/ 81) عن قتادة.

(4)

رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 17) عن الكلبي، ورواه في "جامع البيان"(16/ 80) عن السدي، وانظر:"البسيط"(14/ 415).

ص: 261

وهذا القول اختيار ابن قتيبة

(1)

والفرّاء، قال الفرّاء:"أعطى الذكرَ من الناس امرأة مثله، والشاةَ شاة، والثورَ بقرة، ثم ألهم الذكر كيف يأتيها"

(2)

.

قال أبو إسحاق: "وهذا التفسير جائز؛ لأنا نرى الذكر من الحيوان يأتي الأنثى ولم يَرَ ذكرًا قد أتى أنثى قبله، فألهمه الله ذلك وهداه إليه، قال: والقول الأول ينتظم هذا المعنى؛ لأنه إذا هداه لمصلحته فهذا داخل في المصلحة"

(3)

.

قلت: أرباب هذا القول هضموا الآية معناها؛ فإن معناها أجل وأعظم مما ذكروه، وقوله:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ} يأبى هذا التفسير؛ فإن حَمْل كل شيء على ذكور الحيوان وإناثه خاصّة ممتنع لا وجه له، وكيف يخرج من هذا اللفظ الملائكة والجن، ومَن لم يتزوج من بني آدم، ومن لم يسافد من الحيوان؟ وكيف يُسمى الحيوان الذي يأتيه الذكر خلقًا له؟ وأين نظير هذا في القرآن؟

وهو سبحانه لما أراد التعبير عن هذا المعنى الذي ذكروه ذكره بأدلّ عبارة عليه وأوضحها، فقال:{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم: 45]، وقال:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3]، وقال:{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 39]، فحمْلُ قوله:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} على هذا المعنى غير صحيح، فتأمله.

(1)

"تأويل مشكل القرآن"(444).

(2)

"معاني القرآن"(2/ 181).

(3)

"معاني القرآن وإعرابه"(3/ 359).

ص: 262

وفي الآية قول آخر قاله الضحاك، قال:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} قال

(1)

: "أعطى اليد البطش، والرجل المشي، واللسان النطق، والعين البصر، والأذن السمع"

(2)

. ومعنى هذا القول: أعطى كلّ عضو من الأعضاء ما خُلِق له، والخَلْق على هذا بمعنى المفعول، أي: أعطى كل عضو مخلوقه الذي خلقه له؛ فإن هذه المعاني كلها مخلوقة لله تعالى، أودعها الأعضاء.

وهذا المعنى وإن كان صحيحًا في نفسه، لكن معنى الآية أعم، والقول هو الأول، وأنه سبحانه أعطى كل شيء خَلْقه المختص به، ثم هداه لما خُلِق له، ولا خالق سواه سبحانه ولا هادي غيره، فهذا الخلق وهذه الهداية من آيات ربوبيته ووحدانيته، فهذا وجه الاستدلال على عدو الله فرعون.

ولهذا لما علم فرعون أن هذه حجة قاطعة لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، عدل إلى سؤال فاسد غير وارد فقال:{فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51]، أي: فما للقرون الأولى لم تُقرّ بهذا الربّ ولم تعبده، بل عبدت دونه الأوثان، والمعنى: لو كان ما تقوله حقًّا لم يخفَ على القرون الأولى، ولم يهملوه، فاحتج عليه موسى عليه السلام بما يشاهده هو وغيره من آثار ربوبية رب العالمين، فعارضه عدو الله بكفر الكافرين به وشرك المشركين، وهذا شأن كل مبطل

(3)

.

ولهذا صار هذا ميراثًا في ورثته، يعارضون نصوص الأنبياء بأقوال

(1)

كذا في الأصول بإعادة "قال".

(2)

نسبه إليه في "البسيط"(14/ 415)، والفقرة وما يليها مقتبسة منه.

(3)

"ج": "معطل".

ص: 263

الزنادقة والملاحدة، وأفراخ الفلاسفة والصابئة والسحرة، ومبتدعة الأمة، وأهل الضلال منهم.

فأجابه موسى عن معارضته بأحسن جواب فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [طه: 52]، أي: أعمال تلك القرون وكفرهم وشركهم معلوم لربي قد أحصاه وحفظه وأودعه في كتاب، فيجازيهم عليه يوم القيامة، ولم يودعه في الكتاب خشية النسيان والضلال؛ فإنه سبحانه لا يضلّ ولا ينسى، وعلى هذا فالكتاب ههنا كتاب الأعمال.

وقال الكلبي: "يعني به اللوح المحفوظ"

(1)

، وعلى هذا فهو كتاب القدر السابق، والمعنى على هذا: أنه سبحانه قد علم أعمالهم وكتبها عنده قبل أن يعملوها، فيكون هذا من تمام قوله:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فتأمله.

فصل

وهو سبحانه في القرآن كثيرًا ما يجمع بين الخلق والهداية، كقوله في أول سورة أنزلها على رسوله:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، وقوله:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]، وقوله:{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]، وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ

(1)

نسبه إليه في "البسيط"(14/ 417).

ص: 264

السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2 - 3]، وقوله:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} الآيات [النمل: 60]، ثم قال:{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63]، فالخلق إعطاء الوجود العيني الخارجي، والهدى إعطاء الوجود العلمي الذهني، فهذا خلقه، وهذا هداه وتعليمه.

فصل

المرتبة الثانية من مراتب الهداية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين، وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتباع الحق، وإن كانت شرطًا فيه أو جزء سبب، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبَّب، بل قد يتخلف عنه المقتضي إما لعدم كمال السبب، أو لوجود مانع، ولهذا قال تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فهداهم هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا، فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولًا بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهموه.

وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها، فإنه يسلبه إياها بعد أن كانت نصيبه وحظه، كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]، وقال تعالى عن قوم فرعون:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، أي: جحدوا بآياتنا بعد أن تيقنوا صحتها، وقال: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ

ص: 265

إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86].

وهذه الهداية هي التي أثبتها لرسوله، حيث قال:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، ونفى عنه ملك الهداية الموجِبة، وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"بُعثت داعيًا ومبلّغًا، وليس إليّ من الهداية شيء، وبُعث إبليس مزيّنًا ومغويًا، وليس إليه من الضلالة شيء"

(1)

.

قال تعالى: {(24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ إِلَى إِلَى صِرَاطٍ} [يونس: 25]، فجمع سبحانه بين الهدايتين: العامة والخاصة، فعمّ بالدعوة حجة منه وعدلًا، وخَصّ بالهداية نعمة منه وفضلًا.

وهذه المرتبة أخص من المرتبة التي قبلها، فإنها هداية تختص المكلفين، وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدًا إلا بعد إقامتها عليه، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 56 - 57]، وقال:

(1)

أخرجه الدولابي في "الأسماء والكنى"(2017)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1283) من حديث عمر بن الخطاب، وهو حديث باطل لا أصل له، في إسناده خالد بن عبد الرحمن أبو الهيثم، قال العقيلي في "الضعفاء" (1/ 570):"ليس بمعروف بالنقل، وحديثه غير محفوظ، ولا يعرف له أصل"، وانظر:"الموضوعات"(529).

ص: 266

{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَد جَّاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 - 9].

فإن قيل: فكيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه؟

قيل: حُجَّته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الطريق المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانًا، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرًا وباطنًا، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله= فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه.

نعم، قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه، فهذا غير مقدور لهم، وهو الذي مُنِعوه، وحيل بينهم وبينه، فتأمل هذا الموضع، واعرف قدره، والله المستعان.

فصل

المرتبة الثالثة من مراتب الهداية: هداية التوفيق والإلهام، وخلق المشيئة المستلزمة للفعل.

وهذه المرتبة أخصُّ من التي قبلها، وهي التي ضلّ جهال القدرية بإنكارها، وصاح عليهم سلف الأمة وأهل السنة منهم من نواحي الأرض عصرًا بعد عصر إلى وقتنا هذا، ولكن الجبرية ظلمتهم ولم تنصفهم، كما

ص: 267

ظلموا أنفسهم بإنكار الأسباب والقُوَى، وإنكار فعل العبد وقدرته، وأن يكون له تأثير في الفعل البتة، فلم تهتد القدرية بقول

(1)

هؤلاء، بل زادهم ضلالًا على ضلالهم، وتمسّكًا بما هم عليه.

وهذا شأن المبطل إذا دعا مبطلًا آخر إلى أن يترك مذهبه لقوله ومذهبه الباطل، كالنصراني إذا دعا اليهودي إلى التثليث وعبادة الصليب وأن المسيح إله تام غير مخلوق، إلى أمثال ذلك من الباطل الذي هو عليه.

وهذه المرتبة تستلزم أمرين:

أحدهما: فعل الرب تعالى وهو الهدى.

والثاني: فعل العبد وهو الاهتداء، وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي، قال تعالى:{مَن يَهْدِ اِللَّهُ فَهْوَ اَلْمُهْتَدِ} [الكهف: 17]، ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثّره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد.

ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهْدَى مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس إليه صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضل عبدًا لم يكن لأحد سبيلٌ إلى هدايته، كما قال تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]، وقال تعالى:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، وقال تعالى: {(7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ

(1)

"د": "فلم يهتدوا بقول".

ص: 268

يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وقال تعالى:{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29]، وقال:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، وقال:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقال:{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، وقال:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا

لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، ولم يريدوا أن بعض أنواع الهدى منه وبعضها منهم، بل الهدى كلّه منه، ولولا هدايته لهم لما اهتدوا.

وقال تعالى: {(35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي} [الزمر: 36 - 37]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]، وقال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36]، وقال تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:

ص: 269

27]، وقال تعالى:{بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} [المدثر: 31]، وقال:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا} [البقرة: 26]، وقال:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].

وأمر سبحانه عباده كلهم أن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم كل يوم وليلة في الصلوات الخمس، وذلك يتضمن الهداية إلى الصراط، والهداية فيه، كما أن الضلال نوعان: ضلال عن الصراط، فلا يهتدي إليه، وضلال فيه، فالأول ضلال عن معرفته، والثاني ضلال عن تفاصيله أو بعضها.

قال شيخنا: "ولما كان العبد في كل حال مفتقرًا إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو محتاج إلى التوبة منها، وأمور هُدِي إلى أصلها دون تفصيلها، أو هُدِي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها، ليزداد هدى، وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها، فهو محتاج إلى الهداية فيها، وأمور لم يفعلها فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية، إلى غير ذلك من أنواع الهدايات= فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله وهي الصلاة، مرات متعددة في اليوم والليلة"

(1)

، انتهى كلامه.

ولا يتم المقصود إلا بالهداية إلى الطريق والهداية فيها؛ فإن العبد قد

(1)

"بيان الدليل على بطلان التحليل"(15).

ص: 270

يهتدي إلى طريق قَصَده، وتتميز له عن غيرها، ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها، وأوقات السير من غيره، وزاد المسير، وآفات الطريق.

ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، قال:"سبيلًا وسُنة"

(1)

، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير، فالسبيل الطريق وهي المنهاج، والسنة الشِّرْعة وهي تفاصيل الطريق وحَزُوناته وكيفية السير فيه وأوقات السير، وعلى هذا فقوله: سبيلًا وسنة، تكون السبيل: المنهاج، والسنة: الشِّرْعة، فالمقدَّم في الآية للمؤخَّر في التفسير، وفي لفظ آخر:"سنة وسبيلًا"

(2)

، فيكون المقدَّم للمقدَّم والمؤخَّر للثاني.

فصل

ومن هذا إخباره سبحانه بأنه طَبَع على قلوب الكافرين وخَتَم عليها، وأنه أصمها عن الحق، وأعمى أبصارها عنه، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 6 - 7]، والوقف تام هنا، ثم قال:{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]، كقوله:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]، وقال تعالى:{وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "التفسير"(1/ 192).

(2)

أخرجه الطبري (8/ 496).

ص: 271

اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]، {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس: 74]، {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].

وأخبر سبحانه أن على بعض القلوب أقفالًا تمنعها من أن تنفتح لدخول الهدى إليها، وقال:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَهْوَ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]، فهذا الوقر والعمى حال بينهم وبين أن يكون لهم هدى وشفاء.

وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: 57]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر: 37]، قرأها الكوفيون "وَصُدَّ" بضم الصاد حملًا على "زُيِّن".

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، وقال:{وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، ومعلوم أنه لم ينفِ هدى البيان والدلالة الذي تقوم به الحجة، فإنه حجته على عباده.

والقدرية تردّ هذا كله إلى المتشابه، وتجعله من متشابه القرآن، وتتأوله على غير تأويله، بل تتأوله بما يقطع ببطلانه وعدم إرادة المتكلم له، كقول بعضهم: المراد من ذلك تسمية الله تعالى العبد مهتديًا وضالًا، فجعلوا هداه وإضلاله مجرد تسمية العبد بذلك.

وهذا مما يُعلم قطعًا أنه لا يصح حمل هذه الآيات عليه، وأنت إذا تأملتها وجدتها لا تحتمل ما ذكروه البتة، وليس في لغة أمة من الأمم، فضلًا عن أفصح اللغات وأكملها؛ هداه بمعنى: سَمَّاه مهتديًا، وأضلّه: سَمَّاه ضالًا، وهل يصح أن يقال: علّمه إذا سمّاه عالمًا، وفهّمه إذا سمّاه فَهِمًا؟

ص: 272

وكيف يصح هذا في مثل قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]؟ فهل فهم أحدٌ غير القدرية المحرِّفة للقرآن من هذا: ليس عليك تسميتهم مهتدين، ولكن الله يسمّي من يشاء مهتديًا؟!

وهل فهم أحد قط من قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] لا تسميه مهتديًا، ولكن الله يسميه بهذا الاسم؟!

(1)

.

وهل فهم أحد من قول الداعي: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وقوله:"اللهم اهدني من عندك"

(2)

، ونحوه: اللهم سمنّي مهتديًا؟!

وهذا من جناية القدرية على القرآن ومعناه، نظير جناية إخوانهم من الجهمية على نصوص الصفات، وتحريفها عن مواضعها، وفتحوا للزنادقة والملاحدة جنايتهم على نصوص المعاد وتأويلها بتأويلات إن لم تكن أقوى من تأويلاتهم لم تكن دونها، وفتحوا للقرامطة والباطنية تأويل نصوص الأمر والنهي بنحو تأويلاتهم.

فتأويل التحريف الذي سلكته

(3)

هذه الطوائف أصل فساد الدنيا والدين، وخراب العالم، وسنفرد إن شاء الله كتابًا نذكر فيه جناية المتأولين على الدنيا والدين

(4)

.

(1)

من قوله: "وهل فهم أحد قط" إلى هنا ساقط من "م".

(2)

هو جزء من حديث أخرجه الطبراني في "الكبير"(940)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(133) من حديث أنس بن مالك، وإسناده تالف، فيه نافع السلمي متروك الحديث كما في "الميزان"(1/ 501).

(3)

"د": "سلسلته".

(4)

كأنه يشير إلى ما ضمّنه كتابه "الصواعق المرسلة" من مباحث في الموضوع، كما سلف الكلام عليه في مقدمة التحقيق.

ص: 273

وأنت إذا وازنت بين تأويلات القدرية والجهمية والرافضة لم تجد بينها وبين تأويلات الملاحدة والزنادقة من القرامطة والباطنية وأمثالهم كبير فرق.

والتأويل الباطل يتضمن تعطيل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والكذب على المتكلم أنه أراد ذلك المعنى، فيتضمن إبطال الحق وتحقيق الباطل، ونسبة المتكلم إلى ما لا يليق به من التلبيس والإلغاز، مع القول عليه بلا علم أنه أراد هذا المعنى.

فالمتأول عليه أن يبين صلاحية اللفظ للمعنى الذي ذكره أولًا، واستعمال المتكلم به في ذلك المعنى في أكثر المواضع، حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حُمِل على ما عُهِد منه استعماله فيه، وعليه أن يقيم دليلًا سالمًا عن المعارض على الموجِب لصرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته، وإلا كان ذلك مجرد دعوى منه فلا تقبل.

وتأوّلَ بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها هداية البيان والتعريف لا خلْق الهدى في القلب، فإن الله سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة.

وهذا التأويل من أبطل الباطل، فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم هدايته للعبد قسمين: قسمًا لا يقدر عليه غيره، وقسمًا مقدورًا للعباد، فقال في القسم المقدور للبشر:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال في غير المقدور للبشر:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وقال:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186].

ص: 274

ومعلوم قطعًا أن البيان والدلالة قد تحصل له ولا تنفى عنه، وكذلك قوله:{فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهْدَى مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، لا يصح حمله على هداية الدعوة والبيان، فإن هذا يُهدى ــ وإن أضله الله ــ بالدعوة والبيان.

وكذا قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]، هل يجوز حمله على معنى: فمن يدعوه إلى الهدى، ويبين له

(1)

ما تقوم به حجة الله عليه، وكيف يصنع هؤلاء بالنصوص التي فيها أنه سبحانه هو الذي أضلهم، أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضلال؟!

فإن قالوا: ليس ذلك معناها، وإنما معناها ألفاهم ووجدهم كذلك، أو أعلم ملائكته ورسله بضلالهم، أو جعل على قلوبهم علامة تعرف الملائكة بها أنهم ضُلّال.

قيل: هذا

(2)

من جنس قولكم: إن هُداه سبحانه وإضلالهم بتسميتهم مهتدين وضالين.

فهذه أربع تحريفات لكم، وهي: أنه سمّاهم بذلك، وعلَّمهم بعلامة تعرفهم بها الملائكة، وأخبر عنهم بذلك، ووجدهم كذلك.

فالإخبار من جنس التسمية، وقد بينا أن اللغة لا تحتمل ذلك، وأن النصوص إذا تأملها المتأمل وجدها أبعد شيء عن هذا المعنى.

(1)

من هنا يبدأ خرم لوح كامل في "م"، وستأتي نهايته.

(2)

"هذا" سقطت من "د""ج"، واستدركت من "ت".

ص: 275

وأما العلامة فيا عجبًا لفرقة التحريف، وما جنت على القرآن والإيمان، ففي أي لغة وأي لسان يدل على أن معنى

(1)

قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، أي: إنك لا تعلمه بعلامة، ولكن الله هو الذي يعلمه بها؟!

وقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]، مَن يعلمه الله بعلامة الضلال لم يعلمه غيره بعلامة الهدى.

وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] لعلمناها بعلامة الهدى الذي خلقته هي لنفسها وأعطته نفسها.

ومن

(2)

أي لغة يفهم من قول الداعي {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، علِّمنَا بعلامة تعرف الملائكة بها أننا مهتدون؟

وقولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] لا تعلِّمنَا بعلامة أهل الزيغ.

وقوله: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، "يا مصرف القلوب، صرف قلبي على طاعتك"

(3)

وأمثال ذلك من النصوص، ففي أي لغة، وأي لسان يفهم من هذا علِّمنا بعلامة الثبات والتصريف على طاعتك؟

وفي أي لغة يكون معنى قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، علَّمناها بعلامة القسوة أو وجدناها كذلك؟

(1)

"على أن معنى" ساقطة من "د""ج"، واستدركت من "ت".

(2)

"ج": "قيل: أي".

(3)

تقدم تخريجهما في (155).

ص: 276

نعم، لو نزل القرآن بلغة القدرية والجهمية وأهل البدع لأمكن حمله على ذلك، وكان الحق تبعًا لأهوائهم، وكانت نصوصه تبعًا لبدع المبتدعين، وآراء المتحيرين.

وأنت تجد جميع هذه الطوائف تنزل القرآن على مذاهبها وبدعها وآرائها، فالقرآن عند الجهمية جهمي، وعند المعتزلة معتزلي، وعند القدرية قدري، وعند الرافضة رافضي، وكذلك هو عند جميع أهل الباطل، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].

وأما تحريفهم هذه النصوص وأمثالها بأن المعنى: ألفاهم ووجدهم كذلك؛ ففي أي لسان، وأي لغة وجدتم: هديت الرجل إذا وجدته مهتديًا؟ وختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة وجده كذلك؟ وهل هذا إلا افتراء محض على القرآن واللغة؟!

فإن قالوا: نحن لم نقل هذا في نحو ذلك، وإنما قلنا في نحو:{أَضَلَّهُ اللَّهُ} [الجاثية: 23] أي: وجده ضالًا، كما يقال: أحمدت الرجل وأبخلته وأجبنته، إذا وجدته كذلك، أو نسبته إليه.

فيقال لفرقة التحريف: هذا إنما ورد في ألفاظ معدودة نادرة، وإلا فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به، ولاسيما إذا كانت الهمزة للتعدية من الثلاثي كقام وأقمته، وقعد وأقعدته، وذهب وأذهبته، وسمع وأسمعته، ونام وأنمته، وكذا ضلّ وأضله الله، وأسعده وأشقاه، وأعطاه وأخزاه، وأماته وأحياه، وأزاغ قلبه، وأقامه إلى طاعته، وأيقظه من غفلته، وأراه آياته، وأنزله منزلًا مباركًا، وأسكنه جنته، إلى أضعاف ذلك، هل تجد فيها لفظًا واحدًا

ص: 277

معناه أنه وجده كذلك، تعالى الله عما يقول المحرفون.

ثم انظر في كتاب "فعل وأفعل" هل تظفر فيه بـ "أفعلتُه" بمعنى وجدته ــ مع سعة الباب ــ إلّا في الحرفين أو الثلاثة نقلًا عن أهل اللغة؟

ثم انظر هل قال أحد من الأولين والآخرين من أهل اللغة: إن العرب وضعت أضلّه الله وهداه، وختم على سمعه وقلبه، وأزاغ قلبه وصرفه على طاعته ونحو ذلك، بمعنى وجده كذلك؟

ولما أراد سبحانه الإبانة عن هذا المعنى قال: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، ولم يقل: وأضلك، وقال في حق من خالف الرسول وكفر بما جاء به:{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} ، ولم يقل: ووجده الله ضالًّا.

ثم أي توحيد وتمدُّح وتعريف للعباد أن الأمر كله لله وبيده، وأنه ليس لأحد من أمره شيء في مجرد التسمية والعلامة ومصادفة الربّ تعالى عباده كذلك، ووجوده

(1)

لهم على هذه الصفات من غير أن يكون له فيها صنع، أو خلق، أو مشيئة؟ وهل يعجز البشر عن التسمية والمصادفة والوجود كذلك؟ فأي مدحة وأي ثناء يحسن على الرب تعالى بمجرد ذلك؟

فأنتم وإخوانكم من الجبرية لم تمدحوا الرب بما يستحق أن يُمْدح به، ولم تثنوا عليه بأوصاف كماله، ولم تقدروه حق قدره، وأتباع الرسول وحزبه وخاصته بريئون منكم ومنهم في باطلكم وباطلهم، وهم معكم ومعهم فيما عندكم من الحق، لا يتحيّزون إلى فئة غير الرسول وما جاء به، ولا

(1)

من هذا الموضع ينتهي الخرم في "م".

ص: 278

ينحرفون عنه نصرة لآراء الرجال المختلفة وأهوائهم المتشتتة

(1)

، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

قال ابن مسعود: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة والتشهد في الحاجة: "إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، ويقرأ ثلاث آيات:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية [آل عمران: 102]، {اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} الآية [الأحزاب: 70]، قال الترمذي:"هذا حديث صحيح"

(2)

.

وقال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن عبد الأعلى، عن عبد الله بن الحارث، قال: خطب عمر بن الخطاب بالجابية، فحمد الله وأثنى عليه، وعنده جاثَلِيق

(3)

يُتَرْجَم له ما يقول، فقال: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. فنفض جبينه كالمنكر لما يقول، قال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، يزعم أن الله لا يضل أحدًا. قال عمر: كذبت أي عدو الله، بل الله خلقك وقد أضلك، ثم يدخلك النار، أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك، إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما

(1)

"م": "المتشبثة"، "د" لم ينقط سوى الشين، والمثبت من "ج" أشبه بالمعنى.

(2)

أخرجه أحمد (3721)، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (3277)، وابن ماجه (1892).

(3)

هو مقدم الأساقفة عند بعض طوائف المسيحية الشرقية، "المعجم الوسيط"(1/ 107).

ص: 279

هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون، فقال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه. قال: فتفرق الناس وما يختلفون في القدر

(1)

.

فصل

المرتبة الرابعة من مراتب الهداية: الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة، قال تعالى:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4 - 5]، فهذه هداية بعد قتلهم.

فقيل: المعنى: سيهديهم إلى طريق الجنة، ويصلح حالهم في الآخرة بإرضاء خصومهم، وقبول أعمالهم.

وقال ابن عباس: "سيهديهم إلى أرشد الأمور، ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا"

(2)

، واستُشْكِل هذا القول؛ لأنه أخبر عن المقتولين في سبيله بأنه سيهديهم، واختاره الزجاج، وقال: يصلح بالهم في المعاش، وأحكام الدنيا، قال: وأراد أنه يجمع لهم خير الدنيا والآخرة

(3)

، وعلى هذا القول فلابد من حمل قوله:{قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على معنى يصح معه إثبات الهداية وإصلاح البال.

* * * *

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب "القدر" كما في "تهذيب الكمال"(16/ 358)، والفريابي في "القدر"(54)، وبإسناد أبي داود مختصرًا الدارمي في "الرد على الجهمية"(257).

(2)

نسبه إليه في "البسيط"(20/ 223).

(3)

بمعناه في "معاني القرآن"(5/ 7)، وانظر:"البسيط"(20/ 223).

ص: 280