الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن عشر
في فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال
ينبغي الاعتناء بكشف هذا الباب، وتحقيق معناه، فبذلك ينحل عن العبد أنواع من ضلالات القدرية والجبرية، حيث لم يعطوا هذا الباب حقه من العرفان.
اعلم أن
الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل
، وهو في فاعليّته مُنْفعِل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه.
فالجبرية شهدت كونه مُنْفعِلًا يجري عليه الحكم بمنزلة الآلة والمحل، وجعلوا حركته بمنزلة حركات الأشجار، ولم يجعلوه فاعلًا إلا على سبيل المجاز، فقام، وقعد، وأكل، وشرب، وصلى، وصام، عندهم بمنزلة: مرض، وأَلِمَ، ومات، ونحو ذلك مما هو فيه مُنْفعِل محض.
والقدرية شهدت كونه فاعلًا محضًا غير مُنْفعِل في فعله.
وكلٌّ من الطائفتين نظر بعين عوراء، وأهل العلم والاعتدال أعطوا كلا المقامين حقه، ولم يبطلوا أحد الأمرين
(1)
بالآخر، فاستقام لهم نظرهم ومناظرتهم، واستقر عندهم الشرع والقدر في نصابه، وشهدوا وقوع الثواب والعقاب على من هو أولى به.
(1)
"م": "المقامين".
فأثْبَتوا نطق العبد حقيقة، وإنطاق الله له حقيقة، قال تعالى:{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ} [فصلت: 21]، فالإنطاق فعل الله الذي لا يجوز تعطيله، والنطق فعل العبد الذي لا يمكن إنكاره.
كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، فعُلِم أن كونهم ينطقون هو أمر حقيقي، حتى
(1)
شَبَّه به في تحقيق كونه ما أَخبر به، وأن هذا حقيقة لا مجاز.
ومن جعل إضافة نطق العبد إليه مجازًا لم يكن ناطقًا عنده حقيقة
(2)
، فلا يكون التشبيه بنطقه محقِّقًا لما أخبر به، فتأمله.
ونظير هذا قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، فهو المضحك المبكي حقيقة، والعبد الضاحك الباكي حقيقة، كما قال تعالى:{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82]، وقال:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} [النجم: 59 - 60]، فلولا المُنطِق الذي أنطق، والمُضحِك والمُبكِي الذي أضحك وأبكى؛ لم يوجد ناطق ولا ضاحك ولا باك.
فإذا أحَبّ عبده أنطقه بما يحب فأثابه عليه، وإذا أبغضه أنطقه بما يكرهه فعاقبه عليه، وهو الذي أنطق هذا وهذا، وأجرى ما يحب على لسان هذا، وما يكره على لسان هذا، كما أنه أجرى على قلب هذا ما أضحكه، وعلى قلب
(1)
"ج": "حين".
(2)
من قوله: "لا مجاز" إلى هنا ساقط من "د".
هذا ما أبكاه.
وكذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]، وقوله:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 11]، فالتسيير فعله حقيقة، والسير فعل العبد حقيقة، فالتسيير فعل محض، والسير فعل وانفعال.
ومن هذا قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، فهو سبحانه المزوِّج ورسوله المتزوِّج.
وكذلك قوله: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54]، فهو المزوِّج وهم المتزوجون.
وقد جمع سبحانه بين الأمرين في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، فالإزاغة فعله، والزيغ فعلهم.
فإن قيل: أنتم قررتم أنه لم يقع منهم الفعل إلا بعد فعله، وأنه لولا إنطاقه لهم وإضحاكه وإبكاؤه لما نطقوا وما ضحكوا ولا بكوا، وقد دلت هذه الآية على أن فعله بعد فعلهم، وأنه أزاغ قلوبهم بعد أن زاغوا، وهذا يدل على أن إزاغة قلوبهم هو حكمه عليها بالزيغ، لا جعْلها زائغة، وكذلك قوله:{أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت: 21]، المراد به: جعل لنا آلة النطق، وأضحك وأبكى: جعل لهم آلة الضحك والبكاء.
قيل: أما الإزاغة المترتبة على زيغهم فهي إزاغة أخرى غير الإزاغة التي زاغوا بها أولًا؛ عقوبة لهم على زيغهم، والربّ تعالى يعاقب على السيئة بمثلها، كما يثيب على الحسنة بمثلها، فَحَدَثَ لهم منها زيغ آخر غير الزيغ الأول، فهم زاغوا أولًا فجازاهم الله بإزاغة فوق زيغهم، فأحْدَثَتْ لهم تلك
الإزاغة زيغًا فوق زيغهم.
فإن قيل: فالزيغ الأول من فعلهم، وهو مخلوق لله فيهم على غير وجه الجزاء، وإلا تسلسل الأمر.
قيل: بل الزيغ الأول وقع جزاءً لهم وعقوبة
(1)
على تركهم الإيمان والتصديق لمّا جاءهم الهدى
(2)
، وهذا الترك أمر عدمي لا يستدعي فاعلًا؛ فإن تأثير الفاعل إنما هو في الوجود لا في العدم.
فإن قيل: فهذا الترك العدمي له سبب، أو لا سبب له؟
قيل: سببه عدم سبب ضده، فبقي على العدم الأصلي.
ويشبه هذا قوله سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، عاقبهم على نسيانهم له بأن أنساهم أنفسهم، فنسوا مصالحها أن يفعلوها، وعيوبها أن يصلحوها، وحظوظها أن يتناولوها، ومن أعظم مصالحها وأنفع حظوظها ذِكْرها لربّها وفاطرها، ومَن لا نعيم لها ولا سرور ولا فلاح ولا صلاح إلا بذكره وحبه وطاعته، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، فأنساهم ذلك لمّا نسوه، وأحدث لهم هذا النسيان نسيانًا آخر.
وهذا ضد حال الذين ذكروه ولم ينسوه، فذكّرهم مصالح نفوسهم ففعلوها، ووقفهم على عيوبها فأصلحوها، وعَرّفهم حظوظها العالية فبادروا إليها.
(1)
"د": "عقوبة لهم".
(2)
"ج": "لمَا جاءهم من الهدى".
فجازى أولئك على نسيانهم بأن أنساهم الإيمان به ومحبته وذكره وشكره، فلما خلت قلوبهم من ذلك لم تجد عن ضدّه محيصًا.
وهذا يبيّن لك كمال عدله سبحانه في تقدير الكفر والذنوب عليها.
وإذا كان قضاؤه عليها بالكفر والذنوب عدلًا منه فيها؛ فقضاؤه عليها بالعقوبة أعدل وأعدل، فهو سبحانه ماضٍ في عبده حكمُه، عَدْلٌ فيه قضاؤُه، وله فيها قضاءان: قضاء السبب، وقضاء المُسبَّب، وكلاهما عدل فيه؛ فإنه لما ترك ذكره، وترك فعل ما يحبه؛ عاقبه بنسيان نفسه، فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه ويسخطه بقضائه الذي هو عدل، فترتب له على هذا الفعل والترك عقوبات وآلام لم يكن له منها بُدّ، بل هي مترتبة عليه ترتب المُسبَّبات على أسبابها، فهي عدل محض من الربّ تعالى، فعَدَل في العبد أولًا وآخرًا.
وهو محسن في عدله، محبوبٌ عليه، محمود فيه، يحمده من عدل فيه طوعًا وكرهًا.
قال الحسن: "لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم، ما وجدوا عليه سبيلًا"
(1)
.
وسنزيد هذا الموضع بسطًا وبيانًا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي، إن شاء الله
(2)
.
إذ المقصود ههنا بيان كون العبد فاعلًا مُنفعِلًا، والفرق في هذا الباب
(1)
لم أقف عليه، وسيورده المؤلف لاحقًا، وقد أورده في غير واحد من مصنفاته، انظر:"حادي الأرواح"(2/ 790)، "الفوائد"(237)، "روضة المحبين"(101).
(2)
(2/ 81).
بين فَعَلَ وأفْعَلَ، وأن الله سبحانه أفْعَلَ، والعبد فَعَلَ، فهو الذي أقام العبد وأضله وأماته، والعبد هو الذي قام وضَلّ ومات.
وأما قولكم: إن معنى أنطقه وأضحكه وأبكاه: جَعَل له آلة ينطق بها ويضحك ويبكي؛ فإعطاؤه الآلة وحدها لا يكفي في صدق الفعل بأنه أنطقه وأضحكه، فلو أن رجلًا صمت يومًا كاملًا، فحلف حالف أن الله أنطقه؛ لكان كاذبًا حانثًا، ولو دعوت كافرَيْن إلى الإسلام، فنطق أحدهما بكلمة الشهادة، وسكت الآخر؛ لم يقل أحد قطّ: إن الله قد أنطق الساكت كما أنطق المتكلم، وكلاهما قد أُعْطِي آلة النطق، ومتعلَّق الأمر والنهي والثواب والعقاب: الفعل لا الإفعال.
فإن قيل: هل تطردون هذا في جميع أفعال العبد من كفره وزناه وسرقته، فتقولون: إن الله أفعله، وهو الذي فعل، أم تخصون ذلك ببعض الأفعال، فيظهر تناقضكم؟
قيل: ههنا أمران: أمر لغوي، وأمر معنوي، فأما اللغوي: فإن ذلك لا يطّرد في لغة العرب، لا يقولون: أزنى الله الرجل، وأسرقه وأشربه وأقتله؛ إذا جعله يزني ويسرق ويشرب ويقتل، وإن كان في لغتها: أقامه وأقعده وأنطقه وأضحكه وأبكاه وأضله، وقد يأتي هذا مضاعَفًا كفهَّمه وعلَّمه وسيَّره.
قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]، فالتفهيم منه سبحانه، والفهم من نبيه سليمان، وكذلك قوله:{وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، فالتعليم منه سبحانه، وكذلك التسيير، والسير والتعلّم من العبد.
فهذا المعنى ثابت في جميع الأفعال، فهو سبحانه هو الذي جعل
العبد فاعلًا، كما قال:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]، فهو الذي جعل أئمة الهدى يهدون بأمره، وجعل أئمة الضلال والبدع يدعون إلى النار، فامتناع إطلاق: أكلَمه فتكلّم؛ لا يمنع من إطلاق: أنطَقه فنطَق، وكذلك امتناع إطلاق: أهداه بأمره، وأدعاه إلى النار؛ لا يمنع من إطلاق: جعله يهدي بأمره، ويدعو إلى النار.
فإن قيل: ومع ذلك كله هل تقولون: إن الله سبحانه هو الذي جعل الزانيين يزنيان، وهو الذي جمع بينهما على الفعل، وساق أحدهما إلى صاحبه؟
قيل: أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل، فيطلقها من يريد حقّها، فينكرها عليه من يريد باطلها
(1)
، فيرد عليه من يريد حقّها.
وهذا باب إذا تأمّله الذكي الفطن رأى منه عجائب، وخلّصه من ورطات تورّط فيها أكثر الطوائف.
فالجَعْل المضاف إلى الله سبحانه يراد به: الجَعْل الذي يحبّه ويرضاه، والجَعْل الذي قدّره وقضاه، قال الله:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، فهذا نفي لجَعْله الشرعي الديني، أي: ما شَرَع ذلك ولا أَمَر به، ولا أحبّه ورضيه.
(1)
بعدها في "د": "وينكرها من يريد باطلها" تكرار.
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]، فهذا جَعْل كوني قدري، أي: قدّرنا ذلك وقضيناه، وجَعْل العبدِ إمامًا يدعو إلى النار أبلغ من جَعْله يزني ويسرق ويقتل.
وجَعْله أيضًا كذلك لفظ مجمل يراد به: أنه جبره على ذلك، وأكرهه عليه، واضطره إليه، وهذا محال في حق الربّ تعالى، وكمالُهُ المقدّس يأبى ذلك، وصفاتُ كماله تمنع منه كما تقدم. ويراد به: أنه مكّنه من ذلك، وأقدره عليه من غير أن يضطره إليه، ولا أكرهه، ولا أجبره؛ فهذا حق.
فإن قيل: هذا كله عدول عن المقصود، فمَن أحدث معصيته
(1)
، وأوجدها وأبرزها من العدم إلى الوجود؟
قيل: الفاعل لها هو الذي أوجدها وأحدثها، وأبرزها من العدم إلى الوجود بإقدار الله له على ذلك، وتمكينه منه من غير إلجاء له، ولا اضطرار منه له إلى فعلها.
فإن قيل: فمن الذي خلقها إذًا؟
قيل لكم: ومن الذي فعلها؟
فإن قلتم: الربّ تعالى هو الفاعل للفسوق والعصيان؛ أكذبكم العقل والفطرة، وكُتُب الله المنزّلة، وإجماع رسله، وإثبات حمده، وصفات كماله؛ فإنّ فعْله سبحانه كله خير، وتعالى أن يفعل شرًّا بوجه من الوجوه، فالشر ليس إليه
(2)
، والخير هو الذي إليه، فلا يفعل إلا خيرًا، ولا يريد إلا خيرًا، ولا
(1)
"د": "مصيبة" دون إعجام.
(2)
"د": "قال: وليس" تحريف.
يشاء إلا خيرًا، ولو شاء لفعل غير ذلك، ولكنه تعالى منزّه عن فعل ما لا ينبغي وإرادته ومشيئته، كما هو منزّه عن الوصف به، والتسمية باسمه
(1)
.
وإن قلتم: العبد هو الذي فعلها بما خلق فيه من الإرادة والمشيئة
(2)
.
قيل: فالله سبحانه خالق أفعال العباد كلها بهذا الاعتبار.
ولو سلك الجبري مع القدري هذا المسلك لاستراح معه وأراحه، وكذلك القدري معه، ولكن انحرف الفريقان عن سواء السبيل.
سارت مُشرِّقة وسرتُ مغرّبًا
…
شتّان بين مُشرِّق ومُغرِّب
(3)
فإن قيل: فهل يمكنه الامتناع منها، وقد خُلِقت فيه نفسُها أو أسبابُها الموجِبة لها، وخَلْق السبب الموجِب خَلْق لمُسبَّبه وموجَبه؟
قيل: هذا السؤال يورد على وجهين:
أحدهما: أن يراد به أنه يصير مضطرًّا إليها، مُلْجَأً إلى فعلها بخَلْقها أو خَلْق أسبابها فيه، بحيث لا يبقى له اختيار في نفسه ولا إرادة، وتبقى حركته
(1)
"ج": "والتسمية به".
(2)
جملة: "وإن قلتم" إلى هنا ساقط من "د".
(3)
البيت ثاني ثلاثة دون نسبة في "البصائر والذخائر"(8/ 178)، وصدره:"بكرَتْ مشرّقة ورحتُ مغرّبًا"، واستشهد بعجزه في "الصحاح"(4/ 1501)، وقد كان أبو إسحاق الشيرازي (476 هـ) يتمثّل به إذا ناظر فذُكِر له سؤال لا يتعلّق بدليله، كما رواه عبد الخالق بن أسد في "المعجم"(342)، ومثله في "فتاوى ابن الصلاح"(125).
ووقع في "م" و"ج": "وسار مغرّبًا".
قسرية لا إرادية.
والثاني: أنه هل لاختياره وإرادته وقدرته تأثير فيها، أو التأثير لقدرة الربِّ ومشيئته فقط، وذلك هو السبب الموجِب للفعل؟
فإن أوردتموه على الوجه الأول فجوابه: أنه يمكنه أن يفعل، وأن لا يفعل، ولا يصير مضطرًّا مُلْجَأً بخَلْقها فيه، ولا بخَلْق أسبابها ودواعيها؛ فإنها إنما خُلِقت فيه على وجه يمكنه فعلها وتركها، فلو لم يمكنه الترك لزم اجتماع النقيضين، وأن يكون مريدًا غير مريد، فاعلًا غير فاعل، مُلْجَأً غير مُلْجَأ.
وإن أوردتموه على الوجه الثاني فجوابه: أن لإرادته واختياره وقدرته أثرًا فيها، وهي السبب الذي خلقها الله به في العبد، فقولكم:"إنه لا يمكنه الترك" مع الاعتراف بكونه متمكّنًا من الفعل= جمع بين النقيضين؛ فإنه إذا تمكّن من الفعل كان الفعل اختياريًّا: إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله، فكيف يصح أن يقال: لا يمكنه ترك الفعل الاختياري الممكِن، هذا خُلْف من القول، وحقيقة الأمر أنه يمكنه الترك لو أراده، لكنه لا يريده، فصار لازمًا بالإرادة الجازمة.
فإن قيل: فهذا يكفي في كونه مجبورًا عليه.
قيل: بل هذا من أدلّ شيء على بطلان الجَبْر؛ فإنه إنما لزم بإرادته المنافية للجبر، ولو كان وجوب الفعل بالإرادة يقتضي الجَبْر لكان الربُّ تعالى وتقدّس مجبورًا على أفعاله؛ لوجوبها بإرادته ومشيئته، وذلك محال.
فإن قيل: الفرق أن إرادة الربّ تعالى من نفسه، لم يَجْعلْهُ غيرُهُ مريدًا،
والعبد إرادته من ربّه، إذ هي مخلوقة له، فإنه هو الذي جعله مريدًا.
قيل: هذا موضع اضطرب فيه الناس، فسلكت فيه القدرية واديًا، وسلكت الجبرية واديًا.
فقالت القدرية: العبد هو الذي يُحدِث إرادته، وليست مخلوقة لله، والله مكّنه من إحداث إرادته بأن خلقه كذلك.
وقالت الجبرية: بل الله تعالى هو الذي يُحدِث إرادات العبد شيئًا بعد شيء، وإحداث الإرادات فيه كإحداث لونه وطوله وقصره وسواده وبياضه، مما لا صنع له فيه البتّة، فلو أراد أن لا يريد لمَا أمكنه ذلك، وكان كما لو أراد أن يكون طوله وقصره ولونه على غير ما هو عليه، فهو مضطر إلى الإرادة، وكل إرادة من إراداته فهي متوقفة على مشيئة الربّ تعالى لها بخصوصها، فهي مرادة له سبحانه، كما هي معلومة مقدورة، فلزمهم القول بالجبر من هذه الجهة، ومن جهة نفيهم
(1)
أن يكون لإرادة العبد وقدرته أثر في الفعل.
فإن قيل: فأي وادٍ تسلكونه غير هذين الواديين، وأي طريق تمرون فيها
(2)
سوى هذين الطريقين؟
قيل: نعم، ههنا طريق ثالثة لم يسلكها الفريقان، ولم تهتدِ إليها الطائفتان، ولو حكّمتْ كل طائفة ما معها من الحق، والتزمت لوازمه وطردته؛ لساقها إلى هذه الطريق، ولأوقعها على المحجّة المستقيمة.
فنقول وبالله التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة
(1)
"د": "منعهم"، ويشبه أن تكون في "م":"قضيتهم"! والمثبت من "ج".
(2)
"م": "تسلكونها سوى هاتين".
إلا بالله:
العبد بجملته مخلوق لله جسمه وروحه وصفاته وأفعاله وأحواله، فهو مخلوق من جميع الوجوه، وخُلِق على نشأة وصفة يتمكّن بها من إحداث إراداته وأفعاله، وتلك النشأة بمشيئة الله وقدرته وتكوينه، فهو الذي خلقه وكوّنه كذلك، وهو لم يجعل نفسه كذلك، بل خالقه وبارئه جعله مُحدِثًا لإراداته وأفعاله، وبذلك أمره ونهاه، وأقام عليه حجته، وعرَّضه للثواب والعقاب، فأمَرَه بما هو متمكّن من إحداثه، ونهاه عما هو متمكّن من تركه، ورتّب ثوابه وعقابه على هذه الأفعال والتروك التي مكّنه منها، وأقدره عليها، وناطها به، وفطر خلقه على مدحه وذمّه عليها، مؤمنهم وكافرهم، المقرّ بالشرائع منهم والجاحد بها، فكان مريدًا شائيًا بمشيئة الله له، ولولا مشيئة الله أن يكون شائيًا لكان أعجز وأضعف من أن يجعل نفسه شائيًا
(1)
.
فالربُّ تعالى أعطاه مشيئة وقدرة وإرادة، وعَرَّفه ما ينفعه وما يضره، وأمره أن يجري مشيئته وإرادته وقدرته في الطريق التي يصل بها إلى غاية صلاحه، فأجراها في طريق هلاكه، بمنزلة من أعطى عبده فرسًا يركبها، وأوقفه على طريقي نجاة وهلكة، وقال: أَجْرِها في هذه الطريق. فعدل بها إلى الطريق الأخرى، وأجراها فيها، فغلبته بقوة رأسها، وشدة سيرها، وعزّ عليه ردّها عن جهة جريها، وحيل بينه وبين إدارتها إلى ورائها، مع اختيارها وإرادتها.
فلو قلت: كان ردّها عن طريقها ممكنًا له مقدورًا؛ أصبت.
(1)
من قوله: "بمشيئة الله له" إلى هنا ساقط من "م".
وإن قلت: لم يبقَ في هذه الحال بيده من أمرها شيء، ولا هو متمكن منه؛ أصبت، بل قد حال بينه وبين ردها مَنْ يحول بين المرء وقلبه، ومن يقلب أفئدة المعاندين وأبصارهم.
وإذا أردت فهم هذا على الحقيقة فتأمل حال من عرضت له صورة بارعة الجمال، فدعاه حسنُها إلى محبتها، فنهاه عقله، وذكّره ما في ذلك من التلف والعطب، وأراه مصارع العشاق عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، فعاد يعاود النظر مرة بعد مرة، ويحث نفسه على التعلق وقوة الإرادة، ويحرض على أسباب المحبة، ويدني الوقود من النار، حتى إذا اشتعلت، وشبّ ضرامها، ورمت بشررها، وقد أحاطت به= طلب الخلاص، قال له القلب: هيهات لات حين مناص، وأنشده:
تولَّعَ بالعشق حتى عشقْ
…
فلما استقلّ به لم يطِقْ
رأى لجّةً، ظنَّها موجة
…
فلما تمكّن منها غرِقْ
(1)
فكان الترك أولًا مقدورًا له، لمّا لم يوجد السبب التام والإرادة الجازمة الموجِبة للفعل، فلمّا تمكّن الداعي، واستحكمت الإرادة، قال المحب لعاذله:
يا عاذلي والأمر في يده
…
هلّا عذلتَ وفي يدي الأمر
(2)
فكان أول الأمر إرادة واختيارًا ومحبّة، ووسطه اضطرارًا، وآخره عقوبة
(1)
سلف توثيق البيتين في (295).
(2)
هو في "ديوان الصبابة"(34) دون نسبة، واستشهد به المصنف في "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان"(40)، وفي "روضة المحبين"(223).
وبلاء.
ومُثِّلَ هذا برجل ركب فرسًا لا يملكه راكبه، ولا يتمكّن من رده، وأجراه في طريق ينتهي به إلى موضع هلاك، فكان الأمر إليه قبل ركوبها، فلما توسطت به الميدان خرج الأمر عن يده، فلما وصلت به إلى الغاية حصل على الهلاك.
ويشبه هذا حال السكران الذي قد زال عقله إذا جَنَى في حال سكره؛ لم يكن معذورًا؛ لتعاطيه السبب اختيارًا، فلم يكن معذورًا بما ترتب عليه اضطرارًا.
وهذا مأخذ من أوقع طلاقه من الأئمة، ولهذا قالوا: إذا زال عقله بسبب يعذر فيه لم يقع طلاقه، فجعلوا وقوع الطلاق عليه من تمام عقوبته.
والذين لم يوقعوا الطلاق قولهم أفقه، كما أفتى به عثمان بن عفان
(1)
، ولم يعلم له في الصحابة مخالف.
ورجع إليه الإمام أحمد، واستقر عليه قوله
(2)
.
فإن الطلاق ما كان عن وَطَر، والسكران لا وَطَر له في الطلاق.
وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بعدم وقوع الطلاق في حال الغَلْق
(3)
، والسُّكْر من
(1)
أخرجه عبد الرزاق (12308)، وابن أبي شيبة (18275)، وقد ناقش ابن عبد البر في "الاستذكار"(18/ 163) دعوى عدم وجود مخالف من الصحابة لعثمان.
(2)
انظر: "مسائل أحمد وإسحاق"(9/ 4647)، "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان"(26 - 27)، "الإنصاف"(8/ 433).
(3)
الغَلْق اسم الإغلاق، وهو الإكراه، كأنه إذا ضُيّق على الزوج فاضطر إلى تطليق امرأته فقد أُغلق عليه باب المخرج، فوضع الإغلاق موضع الإكراه. يُنظر:"الصحاح"(4/ 1538)، "الزاهر"(149).
والحديث أخرجه أحمد (26360)، وأبو داود (2193)، وابن ماجه (2046)، من طرق عن عائشة ترفعه:"لا طلاق، ولا عتاق في إغلاق"، وفي إسناده محمد بن عبيد بن أبي صالح، ضعفه أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل"(8/ 10)، وانظر:"البدر المنير"(8/ 84 - 86).
الغَلْق كما أن الإكراه والجنون من الغَلْق.
بل قد نصَّ الإمام أحمد
(1)
وأبو عبيد
(2)
وأبو داود
(3)
على أن الغضب إغلاق، وفسَّرَ به الإمام أحمد الحديث في رواية أبي طالب
(4)
، وهذا يدل على أن مذهبه أن طلاق الغضبان لا يقع.
وهذا هو الصحيح الذي يُفْتَى به إذا كان الغضب شديدًا، قد أَغْلَق عليه قصده، فإنه يصير بمنزلة السكران والمكره، بل قد يكونان أحسن حالًا منه؛ فإن العبد في حال شدة غضبه يصدر منه ما لا يصدر من السكران من الأقوال والأفعال، وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يجيب دعاءه على نفسه وولده في هذه الحال، ولو أجابه لقضي إليه أجله.
وقد عذر سبحانه من اشتد به الفرح بوجود راحلته في الأرض المهلكة
(1)
نقله المصنف وغيره من رواية حنبل عنه، كما في "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان"(6)، و"زاد المعاد"(5/ 195)، و"الفروع"(9/ 11).
(2)
وكذلك نسبه إليه في "الصواعق"(2/ 563)، وفي "المغني"(10/ 351)، و"زاد المعاد"(5/ 195) تنصيص أبي عبيد على أن الإغلاق هو الإكراه.
(3)
عقب تخريجه الحديث (2193)، بقوله:"أظنه الغضب".
(4)
المشهور الذي حكاه المصنف في كتبه الأخرى وحكاه غيره أنها من رواية حنبل.
بعدما يئس منها، فقال من شدة الفرح:"اللهم أنت عبدي وأنا ربك"
(1)
، ولم يجعله بذلك كافرًا؛ لأنه أخطأ بهذا القول من شدة الفرح.
فكمال رحمته وإحسانه وجوده يقتضي أن لا يؤاخذ من اشتد غضبه بدعائه على نفسه وأهله وولده، ولا بطلاقه لزوجته.
وأما إذا زال عقله بالغضب فلم يعقل ما يقول؛ فإن الأمة متفقة على أنه لا يقع طلاقه ولا عتقه، ولا يكفر بما يجري على لسانه من كلمة الكفر.
* * * *
(1)
تقدم تخريجه في (380).