الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الحادي عشر
في ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة
وقد تقدم في أول الكتاب ما دَلَّ على ذلك من نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة، فنذكر هنا بعض ما لم نذكره.
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106]، فالزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء، لا تختص بزبور داود، والذكر أم الكتاب الذي عند الله، والأرض هي الدنيا، وعباده الصالحون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا أصح الأقوال في هذه الآية.
وهي عَلَمٌ من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أخبر بذلك بمكة وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه، والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم وشتتوهم في أطراف الأرض، فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى أنه كتب في الذكر الأول أنهم يرثون الأرض من الكفار، ثم كتب ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله.
والكتاب الأول قد أُطْلِق عليه الذكرُ في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء"
(1)
، فهذا هو الذكر الذي كُتِب فيه أن الدنيا تصير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه البخاري وحده (3191) من حديث عمران بن حصين.
والكتبُ المنزّلة قد أُطْلِق عليها الزُّبُر في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43 - 44]، أي: أرسلناهم بالآيات الواضحات، والكتب التي فيها الهدى والنور، والذكر ههنا: الكتابان اللذان أنزلا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما التوراة والإنجيل.
والذكر في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] هو القرآن، ففي هذه الآية علمه بما كان قبل كونه، وكتابته له بعد علمه.
وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، فجمع بين الكتابين: الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم، والكتاب المقارِن لأعمالهم.
فأخبر سبحانه أنه يحييهم بعد ما أماتهم للبعث، ويجازيهم بأعمالهم، ونبّه بكتابته لها على ذلك.
قال مقاتل: " {نكتب مَا قَدَّمُوا} من خير أو شر فعلوه في حياتهم، {وَآثَارَهُمْ} ما سَنُّوا من سُنّة خير أو شر فاقتُدِي بهم فيها بعد موتهم"
(1)
.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: " {وَآثَارَهُمْ} ما أثروا من خير أو شر"
(2)
. كقوله: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13].
فإن قلت: فقد استفيد هذا من قوله: {مَا قَدَّمُوا} ، فما أفاد قوله:{وَآثَارَهُمْ} على قوله؟
(1)
"تفسير مقاتل"(3/ 574).
(2)
نسبه إليه الواحدي في "البسيط"(18/ 460).
قلت: أفاد فائدة جليلة، وهو أنه سبحانه يكتب ما عملوه، وما تولد من أعمالهم، فيكون المتولد عنها كأنهم عملوه في الخير والشر، وهو أثر أعمالهم
(1)
، فآثارهم هي آثار أعمالهم المتولدة عنها، وهذا القول أعم من قول مقاتل، وكأن مقاتلًا أراد التمثيل والبيان على عادة السلف في تفسير اللفظة العامة بنوع أو فرد من أفراد مدلولها تقريبًا وتمثيلًا، لا حصرًا وإحاطة.
وقال أنس وابن عباس في رواية عكرمة: نزلت هذه الآية في بني سَلِمة، أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، وكانت منازلهم بعيدة، فلما نزلت قالوا: بل نمكث مكاننا
(2)
.
واحتج أرباب هذا القول بما في "صحيح البخاري"
(3)
من حديث أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سَلِمة في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني سَلِمة، ديارَكم تُكتب آثارُكم".
(1)
من قوله: "فيكون المتولد" إلى هنا ساقط من "د" انتقال نظر.
(2)
رواية عكرمة عن ابن عباس أخرجها ابن ماجه (785)، وابن جرير (19/ 410) بإسناد جيد، ولم أقف على قول أنس مسندًا، والفقرة بحروفها في "البسيط"(18/ 460).
وأخرجه عن أنس دون التصريح بسبب النزول البخاري (656).
(3)
كذا عزاه إلى "الصحيح" من حديث أبي سعيد سهوًا، وهو فيه من حديث أنس ــ وسيأتي ــ، وحديث أبي سعيد أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1982)، والترمذي (3226) وقال:" هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري"، وفي إسناده طريف السعدي ضعيف، وقد أخطأ فيه، انظر:"فتح الباري" لابن رجب (6/ 29).
وقد روى مسلم نحوه من حديث جابر وأنس
(1)
.
وفي هذا القول نظر؛ فإن سورة "يس" مكية، وقصة بني سَلِمة بالمدينة، إلا أن يقال: هذه الآية وحدها مدنية.
وأحسن من هذا أن تكون ذُكِرت عند هذه القصة ودلَّت عليها، وذُكِّروا بها عندها، إما من النبي صلى الله عليه وسلم أو من جبريل عليه السلام، فأطلق على ذلك: النزول، ولعل هذا مراد من قال في نظائر ذلك: نزلت مرتين.
والمقصود: أن خُطاهم إلى المساجد من آثارهم التي يكتبها الله لهم.
قال عمر بن عبد العزيز: "لو كان الله سبحانه تاركًا لابن آدم شيئًا لترك له ما عفت عليه الرياح من أثره"
(2)
.
وقال مسروق: "ما خطا رجل خطوة إلا كُتِبت حسنة أو سيئة".
والمقصود أن قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، وهو الذكر الذي كتب فيه كل شيء، يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها، وحفظه لها، والإحاطة بقدرها
(3)
، وإثباتها فيه.
وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا
(1)
أخرجه مسلم (665) من حديث جابر، وحديث أنس انفرد به البخاري (656) وليس فيه التصريح بسبب النزول.
(2)
أخرجه وتاليه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 140).
(3)
"م": "بعددها".
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، وقد اختُلِف في الكتاب ههنا: هل هو القرآن أو اللوح المحفوظ؟ على قولين:
فقالت طائفة: المراد به القرآن، قالوا: وهذا من العام المراد به الخاص، أي: ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره وبيانه، كقوله:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
ويجوز أن يكون من العام المراد عمومه، والمراد أن كل شيء ذُكِر فيه مجملًا ومفصّلًا، كما قال ابن مسعود ــ وقد لعن الواصلة والمستوصلة ــ: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟! فقالت امرأة: لقد قرأت القرآن فما وجدته. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة
(1)
.
وقال الشافعي: "ما تنزل بأحد من المسلمين نازلة إلا وفي كتاب الله سبيل الدلالة عليها"
(2)
.
وقال طائفة: المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء. وهذا إحدى الروايتين عن ابن عباس
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد (3945)، والبخاري (4886)، ومسلم (2125).
وهذه الفقرة وسابقتها مقتبسة من "البسيط"(8/ 118) وسياقه أوضح.
(2)
"الرسالة"(20) بتصرف.
(3)
أخرجه الطبري (11/ 345)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(7259).
وكأن هذا القول أظهر في الآية، والسياق يدل عليه، فإنه قال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ، وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأجل والتقدير الأول، وأنها لم تُخلق سدى، بل هي معبّدة مذلّلة، قد قَدّر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه، ثم ذَكَر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها، فقال:{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} فذكر مبدأها ونهايتها، وأدخل بين هاتين الحالتين قوله:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، أي: كلها قد كُتِبت وقُدِّرت وأُحْصِيت قبل أن توجد، فلا يناسب هذا ذكر كتاب الأمر والنهي، وإنما يناسب ذكر الكتاب الأول.
ولمن نصر القول الأول أن يجيب عن هذا بأن في ذكر القرآن ههنا الإخبار عن تضمنه لذكر ذلك والإخبار به، فلم نفرط فيه من شيء، بل أخبرناكم بكل ما كان، وما هو كائن إجمالًا وتفصيلًا.
ويرجحه أمر آخر، وهو أن هذا ذُكِر عقيب قوله:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]، فنبههم على أعظم الآيات وأدلها على صدق رسوله، وهو الكتاب الذي يتضمن تبيان كل شيء، ولم يفرط فيه من شيء، ثم نبههم بأنهم أمة من جملة الأمم التي في السماوات والأرض، وهذا يتضمن التعريف بوجود الخالق سبحانه، وكمال قدرته وعلمه، وسعة ملكه، وكثرة جنوده، والأمم التي لا يحصيها غيره، وهذا يتضمن أنه لا إله غيره، ولا ربَّ سواه، وأنه ربُّ العالمين، فهذا دليل على وحدانيته وصفات كماله من جهة خلقه وقدره. وإنزال الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء دليل من جهة أمره وكلامه، فهذا
استدلال بأمره وذاك بخلقه، {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
ويشهد لهذا أيضًا قوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50 - 51].
ولمن نصر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أن يقول: لما سألوا الآية أخبرهم سبحانه بأنه لم يترك إنزالها لعدم قدرته على ذلك، فإنه قادر على ذلك، وإنما لم ينزلها لحكمته ورحمته بهم، وإحسانه إليهم؛ إذ لو أنزلها على وفق اقتراحهم لعُوجلوا بالعقوبة إن لم يؤمنوا.
ثم ذكر ما يدل على كمال قدرته بخلق الأمم العظيمة التي لا يحصي عددها إلا هو، فمن قدر على خلق هذه الأمم مع اختلاف أجناسها وأنواعها وصفاتها وهيئاتها؛ كيف يعجز عن إنزال آية؟
ثم أخبر عن كمال قدرته وعلمه بأن هؤلاء الأمم قد أحصاهم، وكَتَبَهم، وقدَّر أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم في كتاب لم يفرط فيه من شيء، ثم يميتهم، ثم يحشرهم إليه.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
(1)
صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 39]، عن النظر والاعتبار الذي يؤديهم إلى معرفة ربوبيته ووحدانيته وصدق رسله.
ثم أخبر أن الآيات لا تستقل بالهدى؛ ولو أنزلها على وفق اقتراح البشر،
(1)
"د""م": "بآياته".
بل الأمر كله له، {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، فهذا أظهر القولين، والله أعلم.
وقال تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1 - 4]، قال ابن عباس:"في اللوح المحفوظ الذي عندنا"
(1)
.
قال مقاتل: "يقول: إن نسخته في أصل الكتاب، وهو اللوح المحفوظ"
(2)
.
وأمّ الكتاب: أصل الكتاب، وأمّ كل شيء: أصله.
والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض، كما قال تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22].
وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب.
وقد دلّ القرآن على أن الربّ تبارك وتعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله، فكتب في اللوح فِعاله وكلامه، فـ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب.
وقوله: {لَدَيْنَا} يجوز فيه أن تكون من صلة {أُمِّ الْكِتَابِ} ، أي: أنه
(1)
أخرجه بنحوه ابن جرير (20/ 547)، وانظر:"الوسيط" للواحدي (4/ 63).
(2)
"تفسير مقاتل"(3/ 789).
في أم الكتاب الذي عندنا، وهذا اختيار ابن عباس
(1)
.
ويجوز أن يكون من صلة الخبر: أنه عليٌّ حكيم عندنا، ليس هو كما عند المكذبين به، أي: وإن كذبتم به وكفرتم فهو عندنا في غاية الارتفاع والشرف والإحكام.
وقال تعالى: {خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ} [الأعراف: 37]، قال سعيد بن جبير ومجاهد وعطية: أي ما سبق لهم في الكتاب من الشقاوة والسعادة، ثم قرأ عطية:{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [هود: 30]
(2)
.
والمعنى أن هؤلاء أدركهم ما كُتِب لهم من الشقاوة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، قال:"يريد ما سبق عليهم في علمي في اللوح المحفوظ"
(3)
.
فالكتاب على هذا القول الكتاب الأول، ونصيبهم ما كُتِب لهم فيه من الشقاوة وأسبابها.
وقال ابن زيد والقرظي والربيع بن أنس: ينالهم ما كُتِب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار، فإذا فني نصيبهم واستكملوه جاءتهم رسلنا يتوفونهم
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
أسندها الطبري (10/ 169 - 170)، وانظر:"البسيط"(9/ 115).
(3)
نسبها إليه في "البسيط"(9/ 115).
(4)
أسندها الطبري (10/ 174 - 175)، وانظر:"البسيط"(9/ 116).
ورجَّح بعضُهم هذا القول؛ لمكان "حتى" التي هي للغاية، يعني: أنهم يستوفون أرزاقهم وأعمارهم إلى الموت.
ولمن نصر القول الأول أن يقول: "حتى" في هذا الموضع هي التي تدخل على الجُمل، وينصرف الكلام فيها إلى الابتداء كـ "أما"، كقوله:
فيا عجبًا حتى كليبٌ تسبّني
(1)
والصحيح أن نصيبهم من الكتاب يتناول الأمرين، فهو نصيبهم من الشقاوة، ونصيبهم من الأعمال التي هي أسبابها، ونصيبهم من الأعمار التي هي مدة اكتسابها، ونصيبهم من الأرزاق التي استعانوا بها على ذلك، فعمَّت الآية هذا النصيب كلّه، وذكر هؤلاء بعضه، وهؤلاء بعضه.
هذا على القول الصحيح، وأن المراد بالكتاب ما سبق لهم في أم الكتاب.
وقالت طائفة: المراد بالكتاب القرآن.
قال الزجاج: "معنى {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ}: ما أخبر الله عز وجل من جزائهم، نحو قوله: {(13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا} [الليل: 14]، وقوله: {نَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17]، ونظائره"
(2)
.
قال أرباب هذا القول: وهذا هو الظاهر؛ لأنه ذَكَر عذابهم في القرآن في مواضع، ثم أخبر أنه ينالهم نصيبُهم منه.
(1)
صدر بيت للفرزدق، انظر:"الديوان" بشرح الفاعور (361).
(2)
"معاني القرآن وإعرابه"(2/ 334).
والصحيح القول الأول، وهو نصيبهم الذي كُتِبَ لهم أن ينالوه قبل أن يُخلقوا، ولهذا القول وجه حسن، وهو أن نصيب المؤمنين منه الرحمة والسعادة، ونصيب هؤلاء منه العذاب والشقاء، فنصيب كل فريق منه ما اختاروه لأنفسهم، وآثروه على غيره. كما أن حظَّ المؤمنين منه كان الهُدى والرحمة، فحظ هؤلاء منه الضلال والخيبة، فكان حظهم من هذه النعمة أن صارت نقمة وحسرة عليهم.
وقريب من هذا قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]، أي: تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيبَ به.
قال الحسن: "تجعلون حظّكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون"، قال:"وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به"
(1)
.
وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52]، قال عطاء ومقاتل:"كل شيء فعلوه مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ"
(2)
.
وروى حماد بن زيد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي:{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} قال: "كُتِب عليهم قبل أن يعملوه"
(3)
.
وقالت طائفة: المعنى أنه مُحصى عليهم في كتب أعمالهم.
وجمع أبو إسحاق بين القولين، فقال: "مكتوب عليهم قبل أن يفعلوه،
(1)
عزاهما إليه في "البسيط"(21/ 256)، وأسند الثاني منهما عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 273)، وابن جرير (22/ 372).
(2)
عزاه إلى عطاء في "البسيط"(21/ 127)، وانظر:"تفسير مقاتل"(4/ 185).
(3)
أورده بهذا السياق ابن عبد البر في "التمهيد"(3/ 139).
ومكتوب لهم وعليهم إذا فعلوه للجزاء"
(1)
، وهذا أصح. وبالله التوفيق.
وفي "الصحيحين"
(2)
من حديث ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللّمَم مما قال أبو هريرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنا، أدرَك ذلك لا محالة: فزنا العينين النَّظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنَّى وتشتهي، والفَرْجُ يصدِّق ذلك أو يكذبه".
وفي "الصحيحين"
(3)
أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُتِبَ على ابن آدم نصيبُه من الزنا، مدركٌ ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النَّظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدّق الفرج ذلك كله ويكذِّبه".
وفي "صحيح البخاري"
(4)
وغيره عن عمران بن حصين قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم فقال:"اقبلوا البشرى يا بني تميم"، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا ـ مرتين ـ. ثم دخل عليه ناس من اليمن، فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ
(5)
لم يقبلها بنو تميم". قالوا: قد قبِلنا يا رسول الله. قالوا: جئنا لنسألك عن هذا الأمر؟ قال: "كان الله
(1)
"معاني القرآن وإعرابه"(5/ 92).
(2)
"البخاري"(6243)، و"مسلم"(2657) واللفظ له.
(3)
"مسلم"(2657)، وعلق إسناده البخاري دون متن عقب الحديث (6612)، وانظر:"تغليق التعليق"(5/ 191).
(4)
تقدم تخريجه في (134).
(5)
بداية نسخة "ج".
ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض". فنادى منادٍ: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت، فإذا هي ينقطع دونها السراب، فو الله لوددت أني كنت تركتها.
فالربّ سبحانه وتعالى كتب ما يقوله وما يفعله، وما يكون بقوله وفعله، وكتب مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها، كما في "الصحيحين"
(1)
من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي".
* * * *
(1)
"البخاري"(3194)، و"مسلم"(2751).