المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض

- ‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابعفي ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامسفي ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادسفي ذكر التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابعفي أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب

- ‌الباب الثامنفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسعفي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌المخاصمون في القدر نوعان:

- ‌الباب العاشرفي مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌ لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:

- ‌المقدور يكتنفه أمران:

- ‌الباب الحادي عشرفي ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشرفي ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها

- ‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشرفي الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى

- ‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه

- ‌كيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه

- ‌كيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر

- ‌ما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها

- ‌هل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

- ‌ما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه

- ‌هل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي

- ‌ما ذنب من لا يصلح

- ‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته

- ‌ العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار

- ‌الباب السابع عشرفي الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك

- ‌ هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة

- ‌الباب الثامن عشرفي فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال

- ‌ الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل

- ‌الباب التاسع عشرفي ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌ ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته:

الفصل: ‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

‌الباب الثالث

في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجّ آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخطّ لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ ".

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فحجّ آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى".

وفي رواية: "كتب لك التوراة بيده".

وفي لفظ آخر: "تحاجَّ آدم وموسى، فحجّ آدمُ موسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس، وأخرجتهم من الجنة. فقال آدم: أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء، واصطفاه على الناس برسالته؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أمرٍ قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق".

وفي لفظ آخر: "احتجّ آدم وموسى عند ربهما، فحجّ آدمُ موسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطتَ الناس بخطيئتك إلى الأرض. قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقرَّبك نَجِيًّا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخلق؟

ص: 43

قال موسى: بأربعين عامًا. قال آدم: هل وجدت فيها: "وعصى آدم ربه فغوى"؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملتُ عملًا كَتَبه الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فحجّ آدمُ موسى".

وفي لفظ آخر: "احتجّ آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرَجَتْنا خطيئَتُك من الجنة" وذكر الحديث، متفق على صحته

(1)

.

وهذا التقدير بعد التقدير الأول السابق لخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

وقد رَدَّ هذا الحديث مَن لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجُبّائي

(2)

، ومَن وافقه على ذلك، وقال: لو صَحَّ لبطلت نبوات الأنبياء؛ فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، فإن العاصي بترك الأمر، أو فعل النهي، إذا صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه.

وهذا من ضلال فريق الاعتزال، وجهلهم بالله ورسوله وسنته؛ فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول مِن عهد نبيها، قرنًا بعد قرن، وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم، وشهدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله، وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة، ومَن عُرف بعداوتها وعداوة حملتها، والشهادة عليهم بأنهم مجسّمة

(1)

أخرجه البخاري (3409، 4736، 4738، 6614، 7515)، ومسلم (2652) والألفاظ المذكورة له.

(2)

انظر: "المنية والأمل"(69)، "مجموع الفتاوى"(8/ 304).

ص: 44

مشبّهة حشوية نوابت= وهذا الشأن!

ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكّلين برد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخالف قواعدهم الباطلة، وعقائدهم الفاسدة، كما ردوا أحاديث الرؤية، وأحاديث علو الله على خلقه، وأحاديث صفاته القائمة به، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث نزوله إلى سمائه، ونزوله إلى الأرض للفصل بين عباده، وأحاديث تكلّمه بالوحي كلامًا يسمعه مَن شاء مِن خلقه حقيقة، إلى أمثال ذلك.

وكما ردَّت الخوارج والمعتزلة أحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها، وكما ردَّت الرافضة أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، وكما ردَّت المعطلة أحاديث الصفات والأفعال الاختيارية، وكما ردَّت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق.

وكل مَن أصّل أصلًا لم يؤصّله الله ورسوله قاده قسرًا إلى ردِّ السنة أو تحريفها عن مواضعها، فلذلك لم يؤصّل حزب الله ورسوله أصلًا غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أصلهم الذي عليه يعوّلون، وآخِيّتهم التي إليها يرجعون.

ثم اختلف الناس في فهم هذا الحديث، ووجه الحجة التي توجّهت لآدم على موسى

(1)

.

(1)

انظر: "أعلام الحديث"(3/ 1555)، "درء التعارض"(8/ 418)، "منهاج السنة"(3/ 79).

ص: 45

فقالت فرقة: إنما حَجَّه لأن

(1)

آدم أبوه، فحجَّه كما يحجُّ الرجلُ ابنَه.

وهذا كلام لا تحصيل فيه البتَّة؛ فإن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو مع الابن أو العبد أو السيد، ولو حجَّ الرجل أباه بحقٍّ وجب المصير إلى الحجة.

وقالت فرقة: إنما حَجَّه لأن

(2)

الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة.

وهذا من جنس ما قبله؛ إذ لا تأثير لهذا في الحجة بوجه، وهذه الأمةُ تلوم الأممَ المخالفة لرسلها المتقدمة عليها، وإن كان لم تجمعهم شريعة واحدة، ويقبل الله شهادتهم عليهم، وإن كانوا من غير أهل شريعتهم.

وقالت فرقة أخرى: إنما حَجَّه لأنه كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لومه.

وهذا وإن كان أقرب مما قبله، فلا يصح لثلاثة أوجه:

أحدها: أنّ آدم لم يذكر ذلك بوجه، ولا جعله حجَّة على موسى، ولم يقل: أتلومني على ذنب قد تبت منه.

الثاني: أنّ موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره الله سبحانه أنه قد تاب على فاعله، واجتباه بعده وهداه؛ فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله، فضلًا عن كليم الرحمن.

الثالث: أنّ هذا يستلزم إلغاء ما عَلَّق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة، واعتبار ما

(1)

"د": "حجته أن".

(2)

"د": "أن".

ص: 46

ألغاه، فلا يُلتفت إليه.

وقالت فرقة أخرى: إنما حَجَّه لأنه لامه في غير دار التكليف، ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه.

وهذا أيضًا فاسد من وجهين:

أحدهما: أنّ آدم لم يقل له: لُمتني في غير دار التكليف، وإنما قال: أتلومني على أمر قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق. فلم يتعرّض للدار، وإنما احتج بالقدر السابق.

الثاني: أنّ الله سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف، فيلومهم بعد الموت، ويلومهم يوم القيامة.

وقالت فرقة أخرى: إنما حَجَّه لأن آدم شهد الحُكْمَ وجريانه على الخليقة، وتفرُّدَ الربّ سبحانه بالربوبية، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه، وأنه لا رادّ لقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

قالوا: ومشاهدةُ العبدِ الحُكْمَ لا يدع له استقباح سيئة؛ لأنه يشهد نفسه عدمًا محضًا، والأحكام جارية عليه، مُصَرِّفة له، وهو مقهور مربوب مُدَبَّر، لا حيلة له، ولا قوة له.

قالوا: ومَن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم.

وهذا المسلك أبطل مسلك سُلِك في هذا الحديث، وهو شرٌّ من مسلك القدرية في رده، وهم إنما ردّوه إبطالًا لهذا القول، وردًّا على قائليه، وأصابوا

(1)

في

(1)

"م": "وأجادوا".

ص: 47

ردهم عليهم وإبطال قولهم، وأخطؤوا في ردّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن هذا المسلك لو صحّ لبطلت الديانات جملة، وكان القدر حجَّة لكل مشرك وكافر وظالم، ولم يبق للحدود معنى، ولا يُلام جانٍ على جنايته، ولا ظالم على ظلمه، ولا يُنْكَر منكرٌ أبدًا.

ولهذا قال شيخ الملحدين ابن سينا في "إشاراته": "العارف لا يُنْكِر منكرًا؛ لاستبصاره بسرِّ الله في القدر"

(1)

.

وهذا كلام منسلخ من الملل، ومتابعة الرسل.

وأعرف خلق الله به رسلُه وأنبياؤه، وهم أعظم الناس إنكارًا للمنكر، وإنما أُرْسِلوا بإنكار

(2)

المنكر، فالعارف أعظم الناس إنكارًا للمنكر؛ لبصيرته بالأمر والقدر، فإن الأمر يوجب عليه الإنكار، والقدر يعينه عليه، ويُنْفِذُه له، فيقوم في مقام:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وفي مقام:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، فيعبده بأمره وقدره، ويتوكلُ عليه في تنفيذ أمره بقدره. فهذا حقيقة المعرفة، وصاحب هذا المقام هو العارف بالله، وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم.

وأما مَن يقول:

أصبحتُ مُنْفَعِلًا لما يختارهُ

منِّي ففعلي كلّه طاعات

(3)

(1)

بمعناه في "الإشارات"(4/ 104)، وحكاها المصنف بمثل ما في المتن دون نسبة في "مدارج السالكين"(4/ 3015)، و"طريق الهجرتين"(1/ 184)(2/ 735).

(2)

"م": "لإنكار".

(3)

تقدمت نسبته في (11).

ص: 48

ويقول: أنا وإنْ عصيتُ أمرَه فقد أطعتُ إرادتَه ومشيئتَه.

ويقول: العارف لا يُنْكِر منكرًا؛ لاستبصاره بسِرِّ الله في القدر.

فخارج عما عليه الرسل قاطبة، وليس هو من أتباعهم.

وإنما حكى الله سبحانه الاحتجاج بالقدر عن المشركين أعداء الرسل، فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ

(1)

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]، وقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47]، وقال تعالى:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20].

فهذه أربع مواضع

(2)

حكى فيها الاحتجاج بالقدر عن أعدائه، وشيخهم وإمامهم في ذلك عدو الله

(3)

الأحقر إبليس، حيث احتجَّ عليه بقضائه فقال:

(1)

"د""م": "فعل"، وصححها في هامش "م".

(2)

كذا في "د""م": "أربع مواضع"، ومثله في "عدة الصابرين"(134)، والوجه:"أربعة مواضع".

(3)

"م": "عدوه".

ص: 49

{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39].

فإن قيل: قد عُلِم بالنصوص والمعقول صحة قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} ، و {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} ، و {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، وقال:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، فكيف أكذبهم ونفى عنهم العلم، وأثبت لهم الخَرْص فيما هم فيه صادقون؟ وأهل السنة جميعًا يقولون: لو شاء الله ما أشرك به مشرك، ولا كفر به كافر، ولا عصاه أحدٌ من خلقه، فكيف يُنْكِر عليهم ما هم فيه صادقون؟

قيل: بل أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين، وأفجر الفاجرين، ولم ينكر عليهم صدقًا ولا حقًّا، بل أنكر عليهم أبطل الباطل؛ فإنهم لم يذكروا ما ذكروه إثباتًا لقدره وربوبيته ووحدانيته، وافتقارًا إليه، وتوكلًا عليه، واستعانة به، ولو قالوه كذلك لكانوا مصيبين، وإنما قالوه معارضين به لشرعه، ودافعين به لأمره، فعارضوا شرعه وأمره، ودفعوه بقضائه وقدره، ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر.

وأيضًا فإنهم احتجوا بمشيئته العامة وقدره على محبته لما شاءه، ورضاه به، وإذنه فيه، فجمعوا بين أنواع من الضلال: معارضة الأمر بالقدر، ودفعه به، والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم ويرضاه حيث شاءه وقضاه، وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر.

وقد ورثهم في هذا الضلال وتبعهم عليه طوائف من الناس ممن يدّعي

ص: 50

التحقيق والمعرفة، أو يُدَّعَى فيه ذلك، وقالوا: العارف إذا شاهد الحُكْم سقط عنه اللوم.

وقد وقع في كلام شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري ما يوهم ذلك ــ وقد أعاذه الله منه ــ، فإنه قال في باب التوبة من "منازل السائرين"

(1)

: "ولطائفُ أسرار التوبة ثلاثةُ أشياء:

أولها: أن تنظر بين الجنايةِ والقَضيَّةِ، فتعرف مُرادَ الله فيها إذ خلَّاك وإتيانَها، فإن الله تعالى إنما يُخلّي العبدَ والذنْبَ لأجل معنيين

(2)

:

أحدهما: أن يعرف عزّته في قضائه، وبرّه في ستره، وحلمه في إمهال راكِبه، وكَرَمَه في قبول العُذر منه، وفضله في مغفرته.

والثاني: ليقيم على العبد حجة عدله، فيعاقبه على ذنبه بحجَّته.

واللطيفة الثانية: أنْ يعلم أنَّ طلب

(3)

البصير الصادق سيّئتَه لم يُبْقِ له حسنة بحال؛ لأنه يسير بين مشاهدة المنّة، وتطلّب عيب النفس والعمل.

واللطيفة الثالثة: أنّ مشاهدةَ العبدِ الحُكْمَ لم تدع له استحسانَ حسنةٍ، ولا استقباحَ سيئةٍ؛ لصُعوده من جميع المعاني إلى معنى الحُكْم".

فهذا الكلام الأخير ظاهره يبطل استحسان الحسن واستقباح القبيح،

(1)

"منازل السائرين"(14)، وانظر:"مدارج السالكين"(1/ 587 - 632).

(2)

في "م" و"المنازل" وبعض نسخ "المدارج"(1/ 587): "لأحد معنيين"، والمبثت من "د" ونسخ "المدارج" الأخرى، وهو الأشبه بالسياق.

(3)

في "مدارج السالكين"(1/ 587): "نظر"، والمثبت من الأصول الخطية، و"المنازل".

ص: 51

والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا، واستقباح هذا، بل مشاهدة الحُكْم تزيد البصير استحسانًا للحسن، واستقباحًا للقبيح، وكلما ازدادت معرفته بالله وأسمائه وصفاته وأمره قوي استحسانه واستقباحه؛ فإنه يوافق في ذلك ربه ورسله، ومقتضى الأسماء الحسنى والصفات العُلى.

وقد كان حال شيخ الإسلام في ذلك موافقًا للأمر، وغضبه لله ولحدوده ومحارمه ومقاماته في ذلك شهيرة عند الخاصة والعامة، وكلامه المتقدم بيِّنٌ في رسوخ قدمه في استقباح ما قبَّحه الله، واستحسان ما حسَّنه، وهو كالمُحْكَم فيه؛ وهذا متشابه، فيُرد إلى مُحْكَم كلامه

(1)

.

والذي يليق به ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي رحمه الله في شرحه، فذكر قاعدة في الفناء والاصطلام، فقال: "الفناء: عبارة عن اصطلام العبد لغلبة وجود الحق، وقوة العلم به في العبد، فيزيد بذلك يقينه به، ومعرفته به، وبصفاته سبحانه، فيذهل بذلك كما يذهل الإنسان في أمر عظيم دهمه، فإنه ربما غاب عن شعوره بما دهمه من الأمور المهمة.

مثاله: رجل وقف بين يدي سلطان عظيم قاهر من ملوك الأرض، فأذهله عظمة ما يلاحظه من هيبته وسلطانه عن كثير مما يشعر به. وهذا تقريب، والأمر فوق ذلك.

فكيف بمن أشهده الله عز وجل فَرْدانيته، حيث كان ولا شيء معه، فرأى الأشياء مواتًا لا قوام لها إلا بقدرته، فشهدها خيالًا كالهباء بالنسبة إلى وجود الحق تعالى.

(1)

انظر: "مدارج السالكين"(1/ 632 - 642)، "مجموع الفتاوى"(8/ 230، 339)(14/ 354)، "جامع الرسائل"(2/ 110).

ص: 52

وذلك في البصائر القلبية بالكشف الصحيح بعد التصفية، والتدرب في القيام بأعباء الشريعة، وحمل أثقالها، والتخلّق بأخلاقها، يصفِّي الله عز وجل عبده من درنه، ويكشف لقلبه، فيرى حقائق الأشياء.

فمتى تجلّت على العبد أنوار المشاهدة الحقيقية الروحية الدالّة على عظمة الفَرْدانية؛ تلاشى الوجود الذي للعبد واضْمَحَلَّ، كما يتلاشى الليل إذا أسفر عليه الصباح، ويكون العبد في ذلك آكلًا شاربًا، فلا يظهر عليه شيءٌ مغاير لما اعتاده، لكن يزداد إيمانه ويقينه، حتى ربما غطى إيمانُه عن قلبه كلَّ شيء في أوقات سكره، ويبقى وجوده كالخيال، قائمًا بالعبودية في حضرة ذي الجلال.

وتعود عليه البصائر الصحيحة في معرفة الأشياء عند صحوه، ثم يزول عنه عدم التمييز، ويقوى على حاله فيتصرف فيه، وذلك هو البقاء، بحيث يتصرف في الأشياء، ولا تحجب

(1)

عنه ما وجده من الإيمان والإيقان في حال البقاء، بل يعود عليه شعوره الأول بوجود آخر يتولّاه الله عز وجل، يُشْهِده فيه

(2)

قيامه عليه بتدبيره، ويصل إلى مقام المراد بعد عبوره على

(3)

مقام المريد، فيصير به يسمع

(4)

، وبه ينطق، كما جاء في الحديث الصحيح

(5)

.

(1)

إعجام تاء المضارعة من "د".

(2)

"م": "شهد فيه"، والمثبت من "د".

(3)

"م": "عثوره"، وأهملها في "د"، والمثبت أليق بالسياق؛ فمقام المريد قنطرة لمقام المراد، ووقع في "م":"إلى" بدل "على".

(4)

"د": "فيصر به ويسمع"، ولعلها:"فيبصر به ويسمع"، والمثبت من "م".

(5)

يشير إلى الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة، وفيه:"وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".

ص: 53

ووجه آخر: وهو أن الفاني في حال فنائه قبل أن يبلغ إلى مقام البقاء والصحو والتمييز يستتر من قلبه محل الزهد والصبر والورع، لا بمعنى أن تلك المقامات

(1)

ذهبت وارتفع عنها العبد، لكن بمعنى أن الشهود

(2)

ستر محلها من القلب، وانطوت واندرجت في ضمن ما وجده اندراج الحال النازل في الحال العالي، فصارت فيما

(3)

وجده الواجد من وجود الحق ضمنًا وتبعًا، وصار القلب مشتغلًا بالحال الأعلى عن الحال الأدنى، بحيث لو فُتش قلبُ العبد لوُجِدَ فيه الزهدُ والورعُ، وحقائقُ الخوف والرجاءِ مستورًا بأمثال الجبال من الأحوال الوجودية التي يضيق القلب عن الاتساع لمجموعها، ثم في حال البقاء والصحو والتمييز تعود عليه تلك المقامات بالله، لا بوجود نفسه.

إذا علمت ذلك انحلَّ إشكال قوله: "إنّ مشاهدةَ العبد الحُكْم

(4)

لم تدع له استحسان حسنة، ولا استقباح سيئة؛ لصعوده إلى معنى الحُكْم"، أي أن صفة حُكْم الله حَشَأت

(5)

بصيرته وملأتها، فشهد قيام الله تعالى على الأشياء

(1)

"د": "العايات" دون إعجام، والمثبت من "م"، وسيأتي ما يؤكده.

(2)

"م": "المشهود"، وما أثبت من "د" هو الأشبه بعبارات القوم.

(3)

"م": "كما" تحريف.

(4)

"الحكم" ساقطة من "م".

(5)

"د": "خَسَأَت" مجوّدة، ورسمها كذلك في "م" مهملة بزيادة سن رابعة، وعلَّق في الحاشية:"حسان"! وجميع ما تقدم يأباه السياق، وكأنها كانت مشكلة في نسخة المصنف فاجتهد في رسمها النساخ، وفي طبعة "النعساني" (17):"حشت" وتابعه عليها من جاء بعده، والمثبت هو الصحيح إنْ شاء الله؛ لاستقامة معناه وقربه من رسم النساخ، يقال:"حشأتُه: إذا أدخلته جوفه، وإذا أصبت حشاه""تاج العروس"(حشأ)(1/ 192).

ص: 54

وتصرفه فيها وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه

(1)

، صادرة عن نفاذ حكمه وتقديره وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ من الجمع عن التمييز والفرق، ويُسمى هذا جمعًا؛ لأن العبد اجتمع نظره إلى مولاه في كل حكم وقع في الكون، وفي ملاحظة هذا الحكم الذي صدرت عنه المتفرقات

(2)

اجتمع قلبه، ولضعف قلبه حين حضر

(3)

هذا الاجتماع

(4)

لم يتسع

(5)

للتمييز الشرعي بين

(6)

الحسن والقبيح، بمعنى أنه انطوى حكم معرفته بالحسن والقبيح في طي هذه المعرفة الساترة له عن التمييز، لا بمعنى أنه ارتفع عن قلبه حكم التحسين والتقبيح، بل اندرج في مشهده وانطوى بحيث لو فُتش لوُجِد حكم التحسين والتقبيح مستورًا في طيّ مشهده ذلك، وبالله التوفيق".

وتلخيص ما ذكره شيخنا رحمه الله أن للفعل وجهين: وجه هو قائم بالربّ تعالى، وهو قضاؤه، وقدره له، وعلمه به، ومشيئته النافذة فيه الموجدة له، ووجه هو قائم بالعبد، وهو كسبه له، وفعله واختياره.

(1)

"م": "مسنه" مهملة، والمبثت من "د".

(2)

"م": "التفرقات" تحريف، وانظر:"مدارج السالكين"(5/ 3930).

(3)

"م": "حبر" تحريف، والمثبت أشبه بالسياق.

(4)

من قوله: "الذي صدرت" إلى هنا ساقط من "د".

(5)

"م":"يقع"، وفي حاشيتها:"ظ: يتسع"، وهو المثبت من "د".

(6)

"د""م": "من"، تحريف ظاهر.

ص: 55

والعبد له ملاحظتان: ملاحظة للوجه الأول، وملاحظة للوجه الثاني، والكمال أن لا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الربّ تعالى وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته ومعصيته. فيشهد الربوبية والعبودية، فيجتمع في قلبه معنى قوله:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، مع قوله:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 - 30]، وقوله تعالى: {إِنَّهُ

(1)

تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 54 - 56].

فمن الناس من يتسع قلبه لهذين الشهودين، ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه، وضعف المحل، فيغيب بشهود العبودية والكسب وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالربّ تعالى من غير إنكار له، فلا يظهر عليه إلا أثر الفعل وحكمه الشرعي، وهذا لا يضره إذا كان الإيمان بالحكم قائمًا في قلبه.

ومنهم من يغيب بشهود الحكم وسبقه وأولية الربّ تعالى وسبقه للأشياء عن جهة عبوديته وكسبه وطاعته ومعصيته، فيغيب بشهود الحكم عن شهود المحكوم به، فضلًا عن صفته، فإذا لم يشهد له فعلًا، فكيف يشهد كونه حسنًا أو قبيحًا؟

وهذا أيضًا لا يضره إذا كان علمه بحسن الفعل وقبحه قائمًا في قلبه، وإنما توارى عنه لاستيلاء شهود الحكم على قلبه، وبالله التوفيق.

(1)

"د""م": "إن هذه".

ص: 56

فأين هذا من احتجاج أعداء الله بمشيئته وقدره على إبطال أمره ونهيه؟

وعُبَّاد هؤلاء الكفرة يشهدون أفعالهم كلها طاعات؛ لموافقتها المشيئة السابقة، ولو أغضبهم غيرُهم وقصَّر في حقوقهم لم يشهدوا فعله طاعة، مع أنه وافق فيه المشيئة، فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي إلا مَن هو مِن أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه.

وتأمّل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه احتجاجَهم بمشيئته وقدره

(1)

على إبطال ما أمرهم به رسوله، وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 49]، فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه، وبيان ما ينفعهم ويضرهم، ويمكّنهم من الإيمان بمعرفة أدلته وبراهينه، وإعطائهم الأسماع والأبصار والعقول، فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك، واضمحلّت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه.

ثم قرر تمام الحجة بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ، فإن هذا يتضمن أنه المنفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه، وأنه لا ربّ غيره، ولا إله سواه، فكيف يعبدون معه إلهًا غيره؟!

فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم، وأن الأمر كله لله، وأن كل شيء ما خلا الله باطل، فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد؛ فَجَعَلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك، فكانت حجة الله هي البالغة، وحجتهم هي الداحضة، وبالله التوفيق.

(1)

"م": "وقدرته".

ص: 57

إذا عُرف هذا، فموسى صلوات الله عليه وسلامه أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله، واجتباه ربّه بعده وهداه واصطفاه، وآدم صلوات الله عليه وسلامه أعرف بربّه من أن يحتج بقضائه وقدره

(1)

على معصيته، بل إنما لام موسى آدمَ على المصيبة التي نالت الذرية بخروجهم من الجنّة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة، بسبب خطيئة أبيهم، فَذَكر الخطيئة تنبيهًا على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له:"أخرجتنا ونفسك من الجنة"، وفي لفظ:"خيبتنا"، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة مقدّرة قبل خلقي. والقدر يُحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قُدّرت عليّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة؟

هذا جواب شيخنا رحمه الله

(2)

.

وقد يتوجه جواب آخر: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع، ويضر في موضع، فينفع إذا احتُجَّ به بعد وقوعه والتوبة منه وتَرْك معاودته، كما فعل آدم عليه السلام، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الربّ وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يَدفع بالقدر أمرًا ونهيًا؛ ولا يُبْطِل به شريعة، بل يُخبر بالحق المحض على وجه التوحيد، والبراءة من الحول والقوة.

(1)

"د": "وقدرته".

(2)

انظر: "درء التعارض"(8/ 418 - 420)، "مجموع الفتاوى"(8/ 303 - 307) وغيرهما.

ص: 58

يوضحه أن آدم عليه السلام قال لموسى: "أتلومني على أن عملتُ عملًا كان مكتوبًا عليَّ قبل أن أُخلق؟ "، فإذا أذنب الرجل ذنبًا ثم تاب منه توبة نصوحًا، وزال أثره وموجبه حتى كأن لم يكن، فأنَّبه مؤنِّب عليه ولامه= حَسُنَ منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق، فإنه لم يَدفع بالقدر حقًّا، ولا ذكره حجة له على الباطل، فلا محذور في الاحتجاج به.

وأما الموضع الذي يضرّ الاحتجاج به ففي الحال أو المستقبل؛ بأن يرتكب فعلًا محرمًا، أو يترك واجبًا فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيُبطل بالاحتجاج به حقًّا، ويرتكب باطلًا، كما احتجَّ به المُصِرّون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]، و {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، فاحتجوا به مُصَوِّبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضدُّ احتجاج مَن تبين له خطأ نفسه، وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.

ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صحَّ الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعًا فالاحتجاج بالقدر باطل.

فإن قيل: فقد احتجَّ عليٌّ بالقدر في ترك قيام الليل، وأقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في "الصحيح"

(1)

عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَرَقه وفاطمة ليلًا، فقال لهم:

(1)

أخرجه البخاري (7347)، ومسلم (775).

ص: 59

"ألا تصلون؟ " قال علي: فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثها بعثها. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع إليّ شيئًا، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه، وهو يقول:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54].

قيل: علي لم يحتج بالقدر على ترك واجب ولا فعل محرم، وإنما قال: إن نفسه ونفس فاطمة بيد الله، فإذا شاء أن يوقظهما ويبعث أنفسهما بعثها.

وهذا موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة باتوا

(1)

في الوادي: "إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء"

(2)

.

وهذا احتجاج صحيح، صاحبه معذور فيه؛ فإن النائم غير مفرّط، واحتجاج غير المفرّط بالقدر صحيح.

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

إلى الاحتجاج بالقدر في الموضع الذي ينفع العبد الاحتجاج به، فروى مسلم في "صحيحه"

(4)

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنِّي فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن

(1)

"م": "ناموا".

(2)

أخرجه البخاري (595) بلفظ: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء"، ومسلم (681) من طرق عن أبي قتادة.

(3)

"م": "أرشد الله النبي صلى الله عليه وسلم " بزيادة لفظ الجلالة، والمعنى لا يساعده.

(4)

برقم (2664).

ص: 60

لو تفتح عمل الشيطان".

فتضمن هذا الحديث الشريف أصولًا عظيمة من أصول الإيمان:

أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب حقيقة.

الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القويُّ ويحب المؤمن القويَّ، وهو وِترٌ يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.

ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل، فيحب بعضهم أكثر من بعض.

ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصًا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإنْ حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه بغير حرص؛ فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.

ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه، أمره أن يستعين بالله؛ ليجتمع له مقام:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإنَّ حرصه على ما ينفعه عبادة لله، ولا تتم إلا بمعونته، فَأَمَره بأن يعبده وأن يستعين به.

ثم قال: "ولا تعجز" فإن العجز ينافي حرصه على ما ينفعه، وينافي استعانته بالله، فالحريص على ما ينفعه، المستعين بالله: ضدُّ العاجز.

ص: 61

فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور

(1)

إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزِمَّة الأمور بيديه، ومصدرها منه، ومردّها إليه.

فإن فاته ما لم يُقدَّر له، فله حالتان: حالة عجز، وهي مفتاح عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى "لو"، ولا فائدة في "لو" ههنا، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان، فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قُدِّر له لم يفته، ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الربّ النافذة التي توجب وجود المقدور

(2)

، وإذا انتفت امتنع وجوده، فلهذا قال:"فإن غلبك أمرٌ، فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل"

(3)

. فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول مطلوبه، وحالة فواته.

فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدًا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار، والقيام بالعبودية ظاهرًا وباطنًا في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق.

* * * *

(1)

"د": "القدر".

(2)

"د": "المعدوم".

(3)

أخرجه بهذا اللفظ أحمد (8791)، وابن ماجه (4168).

ص: 62