الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب العاشر
في مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر
(1)
وهي أربع مراتب:
المرتبة الأولى: علم الربِّ سبحانه بالأشياء قبل كونها.
المرتبة الثانية: كتابته لها قبل كونها.
المرتبة الثالثة: مشيئته لها.
الرابعة: خلقه لها.
فأما المرتبة الأولى وهي العلم السابق، فقد اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليه جميع الصحابة، ومَن تبعهم من الأمة، وخالفهم في ذلك مجوس الأمة.
وكتابته السابقة تدلّ على علمه بها قبل كونها، وقد قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
قال مجاهد: "عَلِم من إبليس المعصية، وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة، وخلقه لها"
(2)
.
(1)
من قوله: "التي من لم يؤمن" إلى هنا ليس في "د".
(2)
أسنده الطبري (1/ 509)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1393)، وشطره الأول في التفسير المنسوب إلى مجاهد (199)، وهو عند سعيد بن منصور في "التفسير"(184).
وقال قتادة: "كان في علمه أنه سيكون من تلك الخليفة
(1)
أنبياء ورسل، وقوم صالحون، وساكنو الجنة"
(2)
.
وقال ابن مسعود: "أعلم ما لا تعلمون من شأن إبليس"
(3)
.
وقال مجاهد أيضًا: "علم من إبليس أنه لا يسجد لآدم"
(4)
.
وقال تعالى: {اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ وَيُنزِلُ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34].
وفي "المسند"
(5)
من حديث لقيط بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا
(1)
هكذا وقعت في الأصول موافقة لمصدر القول الآتي.
(2)
أسنده الطبري (1/ 510)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(335).
(3)
أسنده الطبري (1/ 507).
(4)
أسنده الطبري (1/ 508).
(5)
برقم (16206) من زوائد عبد الله، وأخرجه في "السنة"(1120)، وابن أبي عاصم في "السنة"(636)، وابن أبي خيثمة في "التاريخ الكبير"(2165)، وغيرهم في سياق طويل، وصححه الحاكم في "المستدرك"(8683)، والمؤلف في عدة مواضع من كتبه، ومنه قوله في "الصواعق" ـ المختصر ـ (461):"هذا حديث كبير مشهور، جلالة النبوة بادية على صفحاته، تنادي عليه بالصدق"، ثم نقل تصحيحه عن بعض الحفاظ، وفي تصحيحه بهذا السياق نظر، فقد تفرد به سلسلة من أشباه المجاهيل ممن لا يحتمل تفردهم بما هو دون هذا المتن، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (7/ 339):"هذا حديث غريب جدًّا، وألفاظه في بعضها نكارة".
رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ فقال:"ضَنَّ ربك بمفاتيح خمسٍ من الغيب لا يعلمها إلا الله"، وأشار بيده، فقلتُ: ما هُنّ؟ قال: "عِلْمُ المَنِيّة، قد عَلِم متى مَنِيّة أحدكم ولا تعلمونه، وعِلْمُ المَنِيِّ حين يكون في الرحم، قد علمه ولا تعلمونه، وعِلْمُ ما في غد، قد علم ما أنت طاعم ولا تعلمه، وعِلْمُ يومِ الغيث، يشرف عليكم آزِلِين
(1)
مشفقين، فيظل يضحك، قد علم أن غَوْثكم إلى قريب ــ قال لقيط: لن نَعدم من ربٍّ يضحك خيرًا ــ، وعِلْمُ يومِ الساعة".
وقد تقدم حديث علي المتفق على صحته: "ما منكم من نفس منفوسة، إلا وقد عُلِم مكانُها من الجنة والنار"
(2)
.
وقال البزار: حدثنا محمد بن عمر بن هياج الكوفي، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا فضل
(3)
بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه قال: "يُؤتى بالهالك في الفترة، والمعتوه، والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتابٌ ولا رسولٌ. ويقول المعتوه: أي ربِّ، لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًّا. ويقول المولود: ربِّ، لم أدرك العمل. قال: فتُرفعُ لهم نار، فيُقالُ لهم: رِدُوها، أو قال: ادخلوها. فَيَرِدُها من كان في علم الله سعيدًا أن لو أدرك العمل، قال: ويُمسك عنها من كان في علم الله شقيًّا أن
(1)
من الأزل: الشدة والضيق، "النهاية في الغريب"(أزل)(1/ 46).
(2)
تقدم تخريجه بسياق مشابه في (26)، ولفظ المؤلف هنا في "الإبانة الكبرى"(1413) وغيرها.
(3)
كذا في "د""م": "فضل"، صوابه:"فضيل" كما في مصادر التخريج، وانظر حاشية تحقيق "الجرح والتعديل"(3/ 5).
لو أدرك العمل، فيقول تبارك وتعالى: إياي عصيتم، فكيف برسلي بالغيب"
(1)
.
وفي "الصحيحين"
(2)
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمةُ جَمْعاء، هل تحسون فيها من جَدْعاء؟
(3)
حتى تكونوا أنتم تجدعونها"، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت مَن يموت منهم وهو صغير؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
ومعنى الحديث: الله أعلم بما كانوا عاملين لو عاشوا.
وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، قال ابن عباس:"عَلِم ما يكون قبل أن يخلقه"
(4)
.
وقال أيضًا: "على علم قد سبق عنده"
(5)
.
(1)
أخرجه البزار كما في "كشف الأستار"(2176)، وابن الجعد (2038) ـ ومن طريقه اللالكائي في "شرح الأصول"(1076) ـ، وفي إسناده عطية العوفي ضعيف.
وفي الباب عن أبي هريرة وأنس ومعاذ والأسود بن سريع ـ وهو أمثلها ـ تشد أصل الحديث، ورد ابن عبد البر طرق الباب كلها رواية ودراية في "التمهيد"(18/ 130)، وانظر:"القضاء والقدر" للبيهقي (361 - 362)، "السلسلة الصحيحة"(2468).
(2)
البخاري (6599)، ومسلم (2658) مع اختلاف يسير.
(3)
البهيمة الجمعاء هي التي لم يذهب من بدنها شيء، والجدعاء المقطوعة الأذن، انظر:"فتح الباري"(3/ 250).
(4)
حكاه الواحدي في "البسيط"(20/ 148).
(5)
أخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1622).
وقال أيضًا: "يريد الأمر الذي سبق له في أم الكتاب"
(1)
.
وقال سعيد بن جبير ومقاتل: "على علمه فيه"
(2)
.
وقال أبو إسحاق: "أي على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه"
(3)
.
وهذا الذي ذكره جمهور المفسرين.
قال الثعلبي: "على علم منه بعاقبة أمره"
(4)
.
قال: "وقيل: على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه"
(5)
.
وكذلك ذكر البغوي
(6)
، وأبو الفرج بن الجوزي قال:"على علمه السابق منه أنه لا يهتدي"
(7)
.
وذكر طائفة منهم المهدوي وغيره قولين في الآية، هذا أحدهما.
قال المهدوي: "فأضلّه الله على عِلْم علمه منه.
وقيل: المعنى: أضلّه عن الثواب على عِلْم منه بأنه لا يستحقه.
(1)
حكاه الواحدي في "البسيط"(20/ 149).
(2)
حكاه عنهما الواحدي في "البسيط"(20/ 148)، وانظر:"تفسير مقاتل"(3/ 839).
(3)
"معاني القرآن وإعرابه"(4/ 433).
(4)
"الكشف والبيان"(8/ 363).
(5)
لم أجده في "الكشف والبيان"، وقد تقدمت قريبًا من قول الزجاج، وإليه نسبها الواحدي في "الوسيط"(4/ 99).
(6)
"معالم التنزيل"(7/ 245).
(7)
"زاد المسير"(7/ 362)، وفيه:"علمه السابق فيه".
قال: وقيل: على عِلْم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر"
(1)
.
وعلى الأول يكون {عَلَى عِلْمٍ} حال من الفاعل، المعنى: أضله الله عالمًا بأنه من أهل الضلال في سابق علمه.
وعلى الثاني: حال من المفعول، أي أضله الله في حال عِلْم الكافر بأنه ضال.
قلت: وعلى الوجه الأول فالمعنى: أضله الله عالمًا به، وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره، قبل خلقه وبعده، وأنه أهل للضلال، وليس أهلًا أن يُهدى، وأنه لو هُديَ لكان قد وضعَ الهدى في غير محلّه، وعند مَن لا يستحقه، والربُّ تعالى حكيم، إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها.
فانتظمت الآية على هذا القول: إثباتَ القدر والحكمة التي لأجلها قُدّر عليه الضلال، وذِكْرَ العلم؛ إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور، ووضعِ الشيء في موضعه، وإعطاءِ الخير من يستحقه، ومنعِهِ من لا يستحقه؛ فإن هذا لا يحصل بدون العلم، فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه.
وهو سبحانه كثيرًا ما يذكر ذلك مع إخباره بأنه الذي أضل الكافر، كما قال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ
(1)
"التحصيل لفوائد كتاب التفصيل"(6/ 113).
مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ} [البقرة: 26 - 27]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف: 7]، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} [الصف: 5]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 34]، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 59].
وقد أخبر سبحانه أنه يفعل ذلك عقوبة لأرباب هذه الجرائم، وهذا إضلال ثانٍ بعد الإضلال الأول، كما قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ
(1)
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88]، وقال تعالى:{وَمَا يُشْعِرُكُمْ إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109 - 110]، وقال تعالى:{(4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} [الصف: 5]، وقال تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال:{(23) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ} [الأنفال: 24]، أي إن تركتم الاستجابة لله ورسوله عاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم، فلا
(1)
"د""م": {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وكأنه خلط بين آية البقرة والنساء.
تقدرون على الاستجابة بعد ذلك.
ويشبه هذا ــ إن لم يكن هو بعينه ــ قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا جَّاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا
(1)
} [يونس: 13]، وفي موضع آخر: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَد جَّاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ
(2)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101].
وفي هذه الآية ثلاثة أقوال، هذا أحدها، قال أبو إسحاق: هذا إخبار عن قوم لا يؤمنون، كما قال عن قوم
(3)
نوح: {نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ} [هود: 36]، واحتج على هذا بقوله:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]. قال: وهذا يدل على أنه قد طبع على قلوبهم
(4)
.
وقال ابن عباس: "فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا يوم أخذ ميثاقهم، حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كُرْهًا، وأقرّوا باللسان، وأضمروا التكذيب"
(5)
.
وقال مجاهد: "فما كانوا ــ لو أحييناهم بعد هلاكهم ــ ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم"
(6)
.
(1)
"د""م": {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} ، كأنه انتقال نظر للآية الآتية.
(2)
في "د""م": {بما كذبوا به من قبل} بزيادة "به" سهوًا.
(3)
"قوم" ساقطة من "م"، والجملة مسوقة بتصرف من المصدر.
(4)
"معاني القرآن وإعرابه"(2/ 361).
(5)
حكاه الثعلبي في "الكشف والبيان"(4/ 265)، وانظر:"معالم التنزيل"(3/ 261).
(6)
أورده في "الكشف والبيان"(4/ 266)، والتعليق الذي يليه من كلام مجاهد في تفسيره، انظر: التفسير المنسوب إلى مجاهد (340)، "جامع البيان"(10/ 338).
قلت: وهو نظير قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وقال آخرون: لما جاءتهم رسلهم بالآيات التي اقترحوها وطلبوها، ما كانوا ليؤمنوا بعد رؤيتها ومعاينتها بما كذبوا به من قبل رؤيتها، فمنعهم تكذيبهم السابق بالحق لما عرفوه من الإيمان به بعد ذلك، وهذه عقوبة مَن ردَّ الحق إذا عُرِض عليه
(1)
فلم يقبله، فإنه يُصْرَف عنه، ويُحال بينه وبينه، ويُقْلب قلبه عنه، فهذا إضلال العقوبة، وهو من عدل الربِّ تعالى في عبده.
وأما الإضلال السابق الذي ضلّ به عن قبوله أوّلًا والاهتداء به: فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به، وأن محله غير قابل له، فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه، كما هو أعلم حيث يجعل رسالاته، فهو أعلم حيث يجعلها أصلًا وميراثًا.
وكما أنه ليس كل محل أهلًا لتحمل الرسالة عنه، وأدائها إلى الخلق؛ فليس كل محل أهلًا لقبولها والتصديق بها، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، أي: ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض، فابتلى الرؤساء والسادة بالأتباع والموالي والضعفاء، فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى المولى والضعيف قد آمن، حمي أنفه، وأنفَ أن يسلم، وقال: أهذا يمُنّ الله عليه بالهدى والسعادة دوني؟! قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ، وهم الذين يعرفون النعمة وقدرها، ويشكرون الله عليها بالاعتراف والذل والخضوع والعبودية، فلو كانت
(1)
تحتمل في "م": "أو اعترض عليه"، والمثبت من "د" أشبه بالسياق.
قلوبكم مثل قلوبهم، تعرفون قدر نعمتي، وتشكروني عليها، وتذكروني بها، وتخضعون لي كخضوعهم، وتحبوني كحبهم= لمننتُ عليكم كما مننتُ عليهم، ولكن لمِنَني ونعمي محالٌّ لا تليق إلا بها، ولا تحسن إلا عندها.
ولهذا يقرن سبحانه كثيرًا أو مطردًا بين التخصيص والعلم، كقوله ههنا:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ، وقوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ
(1)
} [الأنعام: 124]، وقوله تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 68 - 69]، أي: هو سبحانه المنفرد بالخلق والاختيار مما خلق، وهو الاصطفاء والاجتباء، ولهذا كان الوقف التام على قوله:{وَيَخْتَارُ} .
ثم نفى عنهم الاختيار
(2)
الذي اقترحوه بإراداتهم، وأن ذلك ليس إليهم، بل إلى الخلّاق العليم، الذي هو أعلم بمحالّ الاختيار ومواضعه، لا مَن قال:{لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فأخبر سبحانه أنه لا يبعث الرسل باختيارهم، وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله، بل هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخِيَرة، كما ليس لهم الخلق.
(1)
هكذا في "د""م" بالجمع، قرأ بها الجمهور ابن عمرو وغيره كما في "النشر"(5/ 1692)، وانظر:"الحجة"(133).
(2)
من قوله: "ولهذا كان الوقف" إلى هنا ساقط من "م".
ومَن زعم أن "ما" مفعول "يختار" فقد غلط
(1)
؛ إذْ لو كان هذا هو المراد لكانت "الخِيَرة" منصوبة على أنها خبر "كان"، ولا يصح أن يُقال: المعنى "ما كان لهم الخيرة فيه"، وحُذِف العائد؛ فإن العائد ههنا مجرور بحرف لم يُجَرَّ الموصول بمثله، فلو حُذِف مع الحرف لم يكن عليه دليل، فلا يجوز حذفه.
وكذلك لم يفهم معنى الآية مَن قال: إن "الاختيار" ههنا هو الإرادة، كما يقول المتكلمون: إنه سبحانه فاعل بالاختيار؛ فإن هذا اصطلاح حادث منهم، لا يُحْمَل عليه كلام الله، بل لفظ الاختيار في القرآن مطابق لمعناه في اللغة، وهو اختيار الشيء على غيره، وهو يقتضي ترجيح ذلك المختار وتخصيصه وتقديمه على غيره
(2)
، وهذا أمر أخص من مطلق الإرادة والمشيئة.
قال في "الصحاح"
(3)
: "الخِيْرَةُ الاسم من قولك: خَارَ الله لك في هذا الأمر، والخِيَرَةُ أيضًا، تقول: محمدٌ خِيَرَةُ الله من خَلْقه، وخِيْرَةُ الله أيضًا ـ بالتسكين ـ، والاختيَارُ: الاصطفاء، وكذلك التَخَيُّرُ.
والاستخارة: طلب الخِيَرَة، يقال: اسْتَخرِ الله يَخِرْ لك، وخَيّرْتُهُ بين الشيئين: فَوَّضتُ إليه الخِيارَ". انتهى.
فهذا هو الاختيار في اللغة، وهو أخصّ مما اصطلح عليه أهل الكلام.
(1)
اختار هذا القول ابن جرير (18/ 299)، وانظر في المسألة:"معاني القرآن وإعرابه"(4/ 151)، "البحر المحيط"(8/ 320).
(2)
من قوله: "وهو يقتضي ترجيح" إلى هنا ساقط من "م"، انتقال نظر.
(3)
(2/ 652) باختصار يسير.