الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس عشر
في الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 6 - 7]، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ
(1)
قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]، وقال:{وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100]، وقال:{(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، وقال:{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدٍّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7 - 10].
وقد ضلَّ
(2)
بهذه الآيات ونحوها طائفتا القدرية والجبرية: فحرّفها القدرية بأنواع من التحريف المبطل لمعانيها وما أريد منها. وزعمت الجبرية
(1)
في النسخ الخطية: {وقالوا} .
(2)
"د": "دخل".
أن الله أكرهها على ذلك، وقهرها عليه، وأجبرها من غير فعل منها ولا إرادة ولا اختيار ولا كسب البتّة، بل حال بينها وبين الهدى ابتداء من غير ذنب ولا سبب من العبد يقتضي ذلك، بل أمَرَه وحال ــ مع أمره ــ بينه وبين الهدى، فلم ييسِّر له إليه سبيلًا، ولا أعطاه عليه قدرة، ولا مكّنه منه بوجه، وزاد بعضهم: بل أحب له الضلال والكفر والمعاصي، ورضيه منه.
وهدى الله أهل السنة والحديث وأتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قالت القدرية: لا يجوز حمل هذه الآيات على أنه منعهم من الإيمان، وحال بينهم وبينه، إذ تكون لهم الحجة على الله، ويقولون: كيف تأمرنا بأمر ثم تحول بيننا وبينه، وتعاقبنا عليه وقد منعتنا من فعله؟! وكيف تكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه؟! وهل هذا إلا بمثابة مَنْ أمرَ عبده بالدخول من باب، ثم سَدّ عليه ذلك الباب سدًّا محكمًا لا يمكنه الدخول معه البتّة، ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول؟! وبمنزلة مَنْ أمره بالمشي إلى مكان، ثم قيده بقيد لا يمكنه معه نقل قدمه، ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي؟!
وإذا كان هذا قبيحًا في حق المخلوق الفقير المحتاج، فكيف يُنسب إلى الرب تعالى مع كمال غناه وعلمه وإحسانه ورحمته؟!
قالوا: وقد كذَّب الله سبحانه الذين قالوا: قلوبنا غُلفٌ، وفي أكنة، وإنها قد طُبع عليها، وذمَّهم على هذا القول، فكيف يُنسب إليه تعالى؟!
ولكن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بهداه الذي بعث به رسله حتى صار ذلك الإعراض والنفار كالإلف والطبيعة والسجيّة؛ أشبه حالهم حال من مُنِع عن الشيء وصُدّ عنه، وصار هذا وقرًا في آذانهم، وختمًا على قلوبهم،
وغشاوةً على أعينهم، فلا يخلص إليها الهدى، وإنما أضاف الله تعالى ذلك إليه لأن هذه الصفة قد صارت في تمكنها وقوة ثباتها كالخلقة التي خُلق عليها العبد.
قالوا: ولهذا قال تعالى: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وقال:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال:{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77].
ولعمر الله، إن الذي قاله هؤلاء حقّه أكثر من باطله، وصحيحه أكثر من سقيمه، ولكن لم يوفّوه حقّه، وعظَّموا الله من جهة وأخلّوا بتعظيمه من جهة؛ فعظموه بتنزيهه عن الظلم وخلاف الحكمة، وأخلّوا بتعظيمه من جهة التوحيد وكمال القدرة ونفوذ المشيئة.
والقرآن يدل على صحة ما قالوه في الران والطبع والختم من وجه، وعلى بطلانه من وجه.
فأمَّا صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم، وجزاء على كفرهم وإعراضهم عن الحق بعد أن عرفوه، كما قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} [الصف: 5]، وقال:{كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وقال:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وقال:{ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127].
وقد اعترف بعض القدرية بأن ذلك خلق لله تعالى، ولكنه عقوبة على
كفرهم وإعراضهم السابق، فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده، ويثيب على الهدى بهدى بعده، كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها، ويثيب على الحسنة بحسنة مثلها، قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 70 - 71]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، ومن الفرقان الهدى الذي يُفرَّق به بين الحق والباطل، وقال في ضد ذلك:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، وقال:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال:{ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127].
وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء حق، والقرآن دلَّ عليه، وهو موجب العدل، والله سبحانه ماضٍ في العبد حكمُه، عدلٌ في عبده قضاؤُه، فإنه إذا دعا عبده إلى معرفته ومحبته وذكره وشكره فأبى العبد إلا إعراضًا وكفرًا؛ قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره، وصدَّه عن الإيمان به، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى، وذلك عدلٌ منه فيه، وتكون عقوبته بالختم والطبع والصدّ عن الإيمان كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار، كما قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15 - 16]، فحجابهم عنه إضلال لهم
(1)
، وصدٌّ عن رؤيته وكمال معرفته، كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدِّها عن الإيمان، وكذلك عقوبته لهم بصدهم عن
(1)
"د": "إضلالهم".
السجود له يوم القيامة مع الساجدين هو جزاء امتناعهم من السجود له في الدنيا، وكذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا عنه، ولكن الفرق أن أسباب هذه الجرائم في الدنيا كانت مقدورة لهم
(1)
، واقعة باختيارهم وإرادتهم وفعلهم، فإذا وقعت عقوبات
(2)
لم تكن مقدورة، بل قضاء جارٍ عليهم ماضٍ عدل فيهم. قال تعالى:{(71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ فَهْوَ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ} [الإسراء: 72].
ومن ههنا ينفتح للعبد باب واسع عظيم النفع جدًّا في قضاء الله
(3)
المعصية والكفر والفسوق على العبد، وأن ذلك محض عدله فيه.
وليس المراد بالعدل ما يقوله الجبرية أنه الممكن، وكل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل، والظلم هو الممتنع لذاته، فهؤلاء قد سدّوا على أنفسهم باب الكلام في الأسباب والحِكَم.
ولا المراد به ما تقوله القدرية النفاة أنه إنكار عموم قدرة الله
(4)
على أفعال عباده وهدايتهم وإضلالهم، وعموم مشيئته لذلك، وأن الأمر إليهم لا إليه.
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك"
(5)
، كيف
(1)
"د""م": "له".
(2)
كذا في الأصول: "عقوبات"، ولعل الأقرب للمعنى:"عقوباتها"، والله أعلم.
(3)
"م": "إمضاء الله".
(4)
"م""ج": "قدرة الله ومشيئته" بزيادة "ومشيئته"، والسياق بدونها أكثر اتساقًا.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (29930)، وأحمد (3712)، وأبو يعلى (5297) من طرق عن فضيل بن مرزوق، ثنا أبو سلمة الجهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود به، وأعل باثنتين: الاختلاف في تعيين الجهني، وسماع القاسم من أبيه، وله متابعة وشاهد ضعيف من حديث أبي موسى، وصححه ابن حبان (972)، وقال الحاكم (1877):"هذا حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه"، وتعقبه الذهبي بقوله:"قلت: وأبو سلمة لا يدرى من هو، ولا رواية له في الكتب الستة"، وحسنه بمتابعته وشاهده ابن حجر في "نتائج الأفكار"(4/ 100)، وانظر:"علل الدارقطني"(819)، حاشية محققي "مسند أحمد"(6/ 247).
ذكر العدل في القضاء مع الحكم النافذ، وفي ذلك ردٌّ لقول الطائفتين القدرية والجبرية؛ فإن العدل الذي أثبتته القدرية منافٍ للتوحيد، معطّل لكمال قدرة الربّ، وعموم مشيئته. والعدل الذي أثبتته الجبرية منافٍ للحكمة والرحمة، ولحقيقة العدل.
والعدل الذي هو اسمه وصفته ونعته سبحانه خارج عن هذا وهذا، ولم تعرفه إلا الرسل وأتباعهم، ولهذا قال هود صلى الله عليه وسلم لقومه:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فأخبر عن عموم قدرته، ونفوذ مشيئته، وتصرفه في خلقه كيف شاء، ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم.
قال أبو إسحاق: "أي: هو سبحانه وإن كانت قدرته تنالهم بما شاء، فهو لا يشاء إلا العدل"
(1)
.
وقال ابن الأنباري: "لما قال: {هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} كان في معنى: لا يخرج عن قبضته، وأنه قاهر بعظيم سلطانه لكل دابة، فأتبع قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى
(1)
"معاني القرآن وإعرابه"(3/ 58).
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: على الحق، قال: وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا رجلًا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا: فلان على طريقة حسنة، وليس ثَمَّ طريق.
ثم ذكر وجهًا آخر، فقال: لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل دابة أتبع هذا قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، أي: أنه لا يخفى عليه مشتبه، ولا يعدل عنه هارب، فذكر الصراط المستقيم، وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه، كما قال:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] "
(1)
.
قلت: فعلى القول الأول يكون المراد أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يظلم مثقال ذرة، ولا يعاقب أحدًا بما لم يجنه، ولا يهضمه ثواب ما عمله، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يأخذ أحدًا بجريرة أحد، ولا يكلف نفسًا ما لا تطيقه، فيكون من باب {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1]، ومن باب "ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك"، ومن باب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، أي: كما أنه ربّ العالمين المتصرف فيهم بقدرته ومشيئته فهو المحمود على هذا التصرف، وله الحمد على جميعه.
وعلى القول الثاني فالمراد به التهديد والوعيد، وأن مصير العباد إليه، وطريقهم عليه لا يفوته منهم أحد، كما قال تعالى:{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41]، قال الفرّاء: "يقول: مرجعهم إليَّ فأجازيهم، كقوله:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، قال: وهذا كما تقول في الكلام: طريقك
(1)
نقله الواحدي في "البسيط"(11/ 448)، وعنه المؤلف.
عليّ، وأنا على طريقك، لمن أوعدته"
(1)
، وكذلك قال الكلبي والكسائي
(2)
.
ومثل قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]، على أحد القولين في الآية، قال مجاهد:"الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه"
(3)
، {وَمِنْهَا} أي: ومن السبيل ما هو جائر عن الحق، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ، فأخبر عن عموم مشيئته وقدرته، وأن طريق الحق عليه، موصلة إليه، فمن سلكها فإليه يصل، ومن عدل عنها فإنه يضل عنه.
والمقصود أن هذه الآيات تتضمن عدل الرب تعالى وتوحيده، وأنه يتصرف في خلقه بملكه وحمده وعدله وإحسانه، فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وشرعه وقدره وثوابه وعقابه، يقول الحق، ويفعل العدل، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهْوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
فهذا العدل والتوحيد الذي دلّ عليه القرآن لا يتناقضان، وأما توحيد أهل القدر والجبر وعدلهم، فكل منهما يبطل الآخر ويناقضه.
فصل
ومن سلك من القدرية هذه الطريق فقد توسط بين الطائفتين، لكنه يلزمه الرجوع إلى قول مثبتي القدر قطعًا، وإلا تناقض أبين تناقض، فإنه إذا زعم أن
(1)
"معاني القرآن"(2/ 89).
(2)
انظر: "البسيط"(12/ 607).
(3)
بنحوه في "تفسير مجاهد"(420)، و"جامع البيان"(14/ 178)، وانظر:"البسيط"(13/ 23).
الضلال والطبع والختم والقفل والوقر، وما يحول بين العبد وبين الإيمان مخلوق لله، وهو واقع بقدرته ومشيئته؛ فقد أعطى أن أفعال العبد مخلوقة لله، وأنها واقعة بمشيئته، فلا فرق بين الفعل الابتدائي والفعل الجزائي إن كان هذا مقدورًا لله واقعًا بمشيئته فالآخر كذلك، وإن لم يكن ذاك مقدورًا، ولا يصح دخوله تحت المشيئة فهذا كذلك، والتفريق بين النوعين تناقض محض.
وقد حَكَى هذا التفريق عن بعض القدرية أبو القاسم الأنصاري في "شرح الإرشاد" فقال: "ولقد اعترف طوائف من القدرية بأن الختم والطبع موانع، غير أنها عقوبات من الله تعالى لأصحاب الجرائم، قال: وممن صار إلى هذا المذهب: عبد الواحد بن زيد البصري، وبكر ابن أخته، قال: وسبيل المعاقبين بذلك سبيل المعاقبين بالنار"
(1)
، وهؤلاء بقي عليهم درجة واحدة وقد تحيزوا إلى أهل السنة والحديث.
فصل
وقالت طائفةٌ منهم: الكافر هو الذي طَبَع على قلب نفسه في الحقيقة، وخَتَم على قلبه، والشيطانُ أيضًا فعل ذلك، ولكن لما كان الله سبحانه هو الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك نسب الفعل إليه؛ لإقداره للفاعل على ذلك، لا لأنه هو الذي فعله.
قال أهل السنة والعدل: هذا الكلام فيه حق وباطل، فلا يُقبل مطلقًا ولا يُرد مطلقًا، فقولكم: "إن الله سبحانه أقدر الكافر والشيطان على الطبع
(1)
"شرح الإرشاد" نسخة أيا صوفيا (ق 180/أ) باختصار.
والختم" كلام باطل؛ فإنه لم يقدره إلا على التزيين والوسوسة والدعوة إلى الكفر، ولم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتَّة، وهو أقل من ذلك وأعجز، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "بُعِثت داعيًا ومبلّغًا، وليس إليَّ من الهداية شيء، وخُلِق إبليس مُزيّنًا، وليس إليه من الضلالة شيء"
(1)
، فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل الأسباب التي إذا فعلها ختم الله على قلبه وسمعه وطبع عليه، كما يدعوه إلى الأسباب التي إذا فعلها
(2)
عاقبه الله بالنار، فعقابه بالنار كعقابه بالختم والطبع، وأسباب العقاب فعله، وتزيينها وتحسينها فعل الشيطان، والجميع مخلوق لله.
وأما ما في هذا الكلام من الحق فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع والختم على قلبه، فلولا إقدار الله له على ذلك لم يفعله.
وهذا حق، لكن القدرية لم توفِ هذا الموضع حقه، وقالت: أقدره قدرة تصلح للضدين، فكان فعْل أحدهما باختياره ومشيئته التي لا تدخل تحت مقدور الرب، وإن دخلت قدرته الصالحة لهما تحت مقدوره سبحانه، فمشيئته واختياره وفعله غير واقع تحت مقدور الرب، وهذا من أبطل الباطل، فإن كل ما سواه مخلوق له، داخل تحت قدرته، واقع بمشيئته، فلو لم يشأه لم يكن.
(1)
تقدم تخريجه في (266).
(2)
من قوله: "ختم الله" إلى هنا ساقط من "م" انتقال نظر.
قالت القدرية: لما أعرضوا عن التدبّر، ولم يصغوا إلى التذكّر
(1)
، وكان ذلك مقارنًا لإيراد الله سبحانه حجته عليهم؛ أضيفت أفعالهم إلى الله؛ لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم.
قال أهل السنة: هذا من أمحل المحال أن يضيف الربُّ إلى نفسه أمرًا لا يُضاف إليه البتَّة؛ لمقارنته ما هو من فعله، ومن المعلوم أن الضدّ يقارن الضدّ، فالشر يقارن الخير، والحق يقارن الباطل، والصدق يقارن الكذب، وهل يُقال: إن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبه من الإيمان والطاعة، وإنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملائكة؟!
فإن قيل: قد يُنسب الشيء إلى الشيء لمقارنته له وإن لم يكن له فيه تأثير، كقوله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125]، ومعلوم أن السورة لم تُحْدِث لهم زيادة الرِّجْس، بل قارن زيادة رِجْسهم لنزولها فنُسِب إليها.
قيل: لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما، وهما: إحداث السورة الرِّجْس، والثاني: مقارنته لنزولها، بل ههنا أمر ثالث، وهو أن السورة لما أُنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها، والتصديق والإذعان لأوامرها ونواهيها، والعمل بما فيها، فوطّن المؤمنون أنفسهم على ذلك، فازدادوا إيمانًا بسببها، فنُسِبت زيادة الإيمان إليها؛ إذ هي السبب في زيادته، وكذّب بها الكافرون وجحدوها، وكذبوا من جاء بها، ووطّنوا أنفسهم على مخالفة ما
(1)
"د": "الذكر".
تضمنته وإنكاره، فازدادوا بذلك رِجْسًا، فنُسِب إليها؛ إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك الزيادة.
فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى الله عند دعوتهم إلى الإيمان وتدبر آياته؟!
على أن أفعالهم القبيحة لا تُنْسب إلى الله سبحانه، وإنما هي منسوبة إليهم، والمنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة، المتضمّنة للغايات المحمودة، والحكم المطلوبة، فالختم والطبع والقفل والإضلال أفعال حسنة من الله، وضَعها في أليق المواضع بها، إذ لا يليق بذلك المحل الخبيث غيرها. والشرك والكفر والمعاصي والظلم أفعالهم القبيحة التي لا تُنْسب إلى الله فعلًا، وإن نُسِبت إليه خلقًا، فخَلْقها غيرها، والخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، والقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدور، وستمر بك هذه المسألة مستوفاة ــ إن شاء الله ــ في باب: اجتماع الرضا بالقضاء
(1)
وسخط الكفر والفسوق والعصيان، إن شاء الله
(2)
.
قالت القدرية: لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء، ولم تقتض حكمته تعالى أن يقسرهم على الإيمان؛ لئلا تزول حكمة التكليف= عبّر عن ترك الإلجاء والقسر بالختم والطبع؛ إعلامًا بأنهم انتهوا في الكفر والإعراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر، وتلك الغاية في وصف لجاجهم وتماديهم في الكفر.
(1)
"م": "بالقدر".
(2)
(2/ 370).
قال أهل السنة: هذا كلام باطل؛ فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته، فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء، بل إيمان اختيار وطاعة، كما قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وإيمان القسر والإلجاء لا يسمّى إيمانًا، ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة، ولا يسمّى ذلك إيمانًا؛ لأنه عن إلجاء واضطرار.
وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمّى هدى، وكذلك قوله:{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31].
فقولكم: لم يبق طريق إلى إيمانهم إلا بالقسر: باطل؛ فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يُرِهم الله إياه، وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه، وإمالة قلوبهم إلى الهدى، وإقامتها على الصراط المستقيم، وذلك أمر لا يعجز عنه ربّ كل شيء ومليكه، بل هو القادر عليه كقدرته على خلق ذواتهم وصفاتهم وذرّاتهم، ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم، وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم، كما منع السُّفْل خصائص العلو، ومنع الحار خصائص البارد، ومنع الخبيث خصائص الطيب.
ولا يقال: فلم فعل هذا؟ فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته، ومن مقتضيات أسمائه وصفاته، وهل يليق بحكمته أن يسوّي بين الطيب والخبيث، والحسن والقبيح، والجيد والرديء؟ ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين، وتنويع المخلوقات وأخلاقها.
فقول القائل: لِمَ خَلَق الرديء والخبيث واللئيم؟ سؤال جاهل بأسمائه وصفاته وملكه وربوبيته، وهو سبحانه قد فرّق بين خلقه أعظم تفريق، وذلك من كمال قدرته وربوبيته، فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن، ومنه ما لا يقبل شيئًا منه، وبين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلاق العليم، وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له، والقابل والمقبول والقَبول كله مفعوله ومخلوقه، وأثر فعله وخلقه، وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية ولم يهتدوا إليه، وبالله التوفيق.
قالت القدرية: الختم والطبع هو شهادته سبحانه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى أسماعهم وعلى قلوبهم
(1)
.
قال أهل السنة: هذا هو قولكم بأن الختم والطبع هو الإخبار عنهم بذلك، وقد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية، وأنه لا يقال في لغة من لغات الأمم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه، وأن عليه ختمًا: إنه قد طَبَع على قلبه وخَتَم عليه، بل هذا كذب على اللغات وعلى القرآن.
وكذلك قول من قال: إن ختمه على قلوبهم اطّلاعه على ما فيها من الكفر. وكذلك قول من قال: إنه إحصاؤه عليهم حتى يجازيهم به. وقول من قال: إنه إعلامها بعلامة تعرفها بها الملائكة. وقد بيَّنا بطلان ذلك بما فيه كفاية.
قالت القدرية: لا يلزم من الطبع والختم والقفل أن تكون مانعةً من الإيمان، بل يجوز أن يجعل الله فيهم ذلك من غير أن يكون منعهم من
(1)
هكذا وقعت الجملة في الأصول.
الإيمان، بل يكون ذلك من جنس الغفلة والبلادة والعَشَا في البصر، فيورث ذلك إعراضًا عن الحق وتعاميًا عنه، ولو أنعم النظر، وتفكر وتدبر؛ لما آثر على الإيمان غيره.
وهذا الذي قالوه يجوز أن يكون في أول الأمر، فإذا تمكن واستحكم من القلب ورسخ فيه امتنع معه الإيمان، ومع هذا فهو أثر فعله وإعراضه وغفلته، وإيثار شهوته وكبره على الحق والهدى، فلما تمكّن فيه واستحكم صار صفة راسخة وطبعًا وختمًا وقفلًا ورانًا، فكان مبدؤه غير حائل بينهم وبين الإيمان، والإيمان ممكن معه، لو شاؤوا لآمنوا مع مبادئ تلك الموانع، فلما استحكمت لم يبق إلى الإيمان سبيل.
ونظير هذا أن العبد يستحسن ما يهواه فيميل إليه بعض الميل، ففي هذه الحال يمكن صرف دواعيه وعشقه له، إذ الأسباب لم تستحكم، فإذا استمر على ميله، واستدعى أسبابه، واستحكمت لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى والمحبة، فيطبع على قلبه، ويختم عليه، فلا يبقى فيه محل لغير ما يهواه ويحبه، فكان الانصراف عن السعي مقدورًا له في أول الأمر، فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورًا له، كما قال الشاعر:
تولّع بالعشق حتى عشق
…
فلما استقل به لم يُطِقْ
رأى لُجّةً ظنّها موجةً
…
فلما تمكّن منها غرق
(1)
(1)
من أربعة أبيات لأبي الحسين محمد بن المظفر بن نحرير البغدادي (455 هـ) أسندها ابن الجوزي في "ذم الهوى"(586)، وهي في ترجمته من "تاريخ الإسلام"(10/ 65).
وأوردها المؤلف في "الداء والدواء"(498)، و"روضة المحبين"(225)، و"الكلام على مسألة السماع"(248).
فلو أنهم بادروا في مبدأ الأمر
(1)
إلى مخالفة الأسباب الصادة عن الهدى لسهل عليهم، ولمَا استعصى عليهم، ولقدروا عليه.
ونظير ذلك: المبادرة إلى إزالة العلّة قبل استحكام أسبابها، ولزومها للبدن لزومًا لا ينفك منها، فإذا استحكمت العلة، وصارت كالجزء من البدن عزَّ على الطبيب استنقاذ العليل منها.
ونظير ذلك: المتوحِّل في حَمْأة، فإنه ما لم يدخل لجّتها فهو قادر على التخلص، فإذا توسط معظمها عَزّ عليه وعلى غيره إنقاذه.
فمبادئ الأمور مقدورة للعبد، فإذا استحكمت
(2)
أسبابها منه وتمكنت لم يبق الأمر مقدورًا له، فتأمل هذا الموضع حق التأمل، فإنه من أنفع الأشياء في باب القدر، والله الموفق للصواب.
والله سبحانه جاعل ذلك كله وخالقه فيهم بأسباب منهم، وتلك الأسباب قد تكون أمورًا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها، فلا يشاء سبحانه أن يخلق للعبد أسباب الهدى، فيبقى على العدم الأصلي. وإن أراد من عبده الهداية فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه، فإذا لم يرد سبحانه من نفسه
(3)
ذلك لم تحصل الهداية.
(1)
"م": "أول الأمر".
(2)
"د""م": "تحكمت".
(3)
"د": "عبده".
فصل
ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان، بأن يفك الذي خُتِم على القلب، وطُبِع عليه، وضُرِب عليه القفل ذلك الختم والطابع والقفل، ويهديه بعد ضلالته، ويعلمه بعد جهله، ويرشده بعد غَيِّه، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر، لم يمتنع أن يمحوها، ويكتب عليه السعادة والإيمان.
وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، وعنده شاب فقال: اللهم عليها أقفالها، ومفاتيحها بيدك، لا يفتحها سواك. فعرفها له عمر، وزادته عنده خيرًا
(1)
.
وكان عمر رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم إن كنت كتبتني شقيًا فامحني واكتبني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت"
(2)
.
(1)
لم أقف عليه بهذا السياق.
وأخرج اللالكائي في "أصول الاعتقاد"(972)، والبيهقي في "القضاء والقدر" (386) عن سهل بن سعد قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} ، وغلام جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلى والله يا رسول الله، إن عليها لأقفالها ولا يفتحها إلا الذي أقفلها. فلما ولي عمر طلبه ليستعمله، وقال: لم يقل ذلك إلا من عقل. وفي إسناده المقدام بن داود وذؤيب بن عمامة: ضعيفان كما في "الميزان"(4/ 176)، وله شاهد من مرسل عروة أخرجه إسحاق كما في "إتحاف الخيرة"(5821)، والطبري (21/ 217).
(2)
أخرجه الطبري (13/ 564)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1565)، وأُثِر عن غير واحد من السلف نحوه.
فالرب تعالى فعَّالٌ لما يريد، لا حَجْر عليه.
وقد ضلّ ههنا فريقان:
القدرية: حيث زعمت أن ذلك ليس مقدورًا للربِّ، ولا يدخل تحت فعله؛ إذ لو كان مقدورًا له ومنعه العبد لناقض جودَه ولطفَه.
والجبرية: حيث زعمت أنه سبحانه إذا قدّر قدرًا، أو علم شيئًا فإنه لا يغيره بعد هذا، ولا يتصرف فيه بخلاف ما قدره وعلمه.
والطائفتان حَجَرت على من لا يدخل تحت حَجْر أحد أصلًا، وجميع خلقه تحت حَجْره شرعًا وقدرًا.
وهذه المسألة من أكبر مسائل القدر، وسيمر بك ــ إن شاء الله ــ في باب المحو والإثبات ما يشفيك فيها
(1)
.
والمقصود أنه مع الطبع والختم والقفل لو تعرض العبد لفَكِّ ذلك الختم والطابع، وفَتْح ذلك القفل لفتحه من بيده مفاتيح كل شيء، وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه، وإن كان فكُّ الختم وفَتْحُ القفل غير مقدور له، كما أن شرب الدواء مقدور له، وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور له، فإذا استحكم به المرض، وصار صفة لازمة له لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء، وإن كان غير مقدور له، ولكن لمّا ألف العلة وساكَنها، ولم يحب زوالها، ولا آثر ضدها عليها، مع معرفته بما بينها
(2)
وبين ضدها من التفاوت= فقد سدّ على نفسه باب الشفاء بالكلية.
(1)
لم يفرد المؤلف بابًا لذلك، فلعل قصده مباحث النسخ الآتية في (2/ 120 - 124).
(2)
"م": "وبينه".
والله سبحانه يهدي عبده إذا كان ضالًّا وهو يحسب أنه على هدى، فإذا تبيّن له الهدى لم يعدل عنه لمحبته له، وملاءمته لنفسه. فإذا عرف الهدى فلم يحبه، ولم يرض به، وآثر عليه الضلال، مع تكرر تعريفه منفعة هذا وخيره، ومضرة هذا وشره؛ فقد سدّ على نفسه باب الهدى بالكلية.
فلو أنه في هذه الحال تعرّض وافتقر إلى من بيده هداه، وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه، وأنه إن لم يهده فهو ضالّ، وسأل الله أن يُقْبِل بقلبه، وأن يقيه شر نفسه= لوفّقه وهداه، بل لو علم الله منه كراهيةً لما هو عليه من الضلال، وأنه مرض قاتل له إن لم يشفه منه أهلكه؛ لكانت كراهته له وبغضه إياه مع كونه مبتلى به من أسباب الشفاء والهداية، ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال محبته له، ورضاه به، وكراهته للهدى والحق.
فلو أن المطبوع على قلبه، المختوم عليه، كره ذلك ورغب إلى الله في فكِّ ذلك عنه وفعل مقدوره؛ لكان هداه أقرب شيء إليه، ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك، وسؤال الرب فكّه وفتح قلبه.
فصل
فإن قيل: فإذا جوّزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبة وجزاء على الجرائم والإعراض والكفر السابق؛ فكيف يمكنكم طرد ذلك في الختم والطبع السابق على فعل الجرائم؟
قيل: هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس، ويظنون بالله سبحانه خلاف موجَب أسمائه وصفاته، والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أنّ الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الربّ سبحانه بعبده من أول وهلة حين أمره
بالإيمان وبيَّنه له، وإنما فعله بعد تكرر الدعوة منه سبحانه، والتأكيد في البيان والإرشاد، وتكرر الإعراض منهم، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع على قلوبهم، ويختم عليها، فلا تقبل الهدى بعد ذلك، والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختمٍ وطبعٍ، بل كان اختيارًا، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجيّة.
فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6 - 7]، ومعلوم أن هذا ليس حكمًا يعم جميع الكفار، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسول كان أكثرهم كفارًا قبل ذلك، ولم يختم على قلوبهم وأسماعهم.
فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار، فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم، فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب، كما يعاقب بالطمس على الأعين، وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب به إلى وقت، ثم يعافي عبده ويهديه، كما يعاقب بالعذاب كذلك.
فصل
وههنا عدة أمور عاقب بها الكفار بمنعهم من الإيمان، وهي: الختم، والطبع، والأكنّة، والغطاء، والغلاف، والحجاب، والوَقْر، والغشاوة، والران، والغل، والسد، والقفل، والصمم، والبكم، والعمى، والصدّ، والصرف،
والشد على القلب، والضلال، والإغفال، والمرض، وتقليب الأفئدة، والحَوْل بين المرء وقلبه، وإزاغة القلوب، والخذلان، والإركاس، والتثبيط، والتزيين، وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم، وإماتة
(1)
قلوبهم بعدم خلق الحياة فيها، فتبقى على الموت الأصلي، وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية، وجعل القلب قاسيًا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته، وجعل الصدر ضيّقًا حرجًا لا يقبل الإيمان.
وهذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب، كالختم والطبع والقفل والأكنّة والإغفال والمرض ونحوها، وما يرجع إلى رسوله الموصِل إليه الهدى كالصمم والوَقْر، ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشاء
(2)
، ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبَكَم النطقي، وهو نتيجة البَكَم القلبي، فإذا بَكَم القلب بَكَم اللسان.
ولا تصغ إلى قول من يقول: إن هذه مجازات واستعارات، فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله، وكأن هذا القائل حقيقة القفل عنده أن يكون من حديد، والختم أن يكون بشمع أو طين، والمرض أن يكون حمّى بنافض أو قَوْلَنْجًا
(3)
أو غيرهما من أمراض البدن، والموت هو مفارقة الروح للبدن ليس إلا، والعمى ذهاب ضوء العين الذي تبصر به.
وهذه الفرقة من أغلظ الناس حجابًا؛ فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى
(1)
"م": "وإمالة".
(2)
من قوله: "ومنها ما يرجع" إلى هنا ساقط من "د".
(3)
مرض معوي مؤلم يصعب معه خروج البراز والريح، وسببه التهاب القولون، وفي ضبطه عدة أوجه، انظر:"محيط المحيط"(763)، "المعجم الوسيط"(2/ 767).
محالها كانت بحسب تلك المحال، فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه، وكذلك الختم والطابع الذي عليه هو بالنسبة إليه كالختم والطابع الذي على الباب والصندوق ونحوهما، وكذلك نسبة الصمم والعمى إليه كنسبة الصمم والعمى إلى الأذن والعين، وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته، بل هذه أمور ألزم للقلب منها للبدن.
فلو قيل: إنها حقيقة في ذلك، مجاز في الأجسام
(1)
المحسوسة؛ لكان مثل قول هؤلاء وأقوى منه، وكلاهما باطل، فالعمى في الحقيقة والبكم والموت والقفل للقلب.
ثم قال تعالى: {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]، وهذا النفي يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المعنى: إن أبصارهم لم تعمَ عن رؤية آياتنا، بل رأوها عيانًا، ولكن عميت قلوبهم عنها.
ويدل عليه قوله تعالى: {يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا} [الحج: 46]، ثم قال:{لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ} أي: قد رأوا وأبصروا، ولكن عميت قلوبهم ولم يبصروا.
الوجه الثاني: أن يكون المعنى: أنه ليس العمى في الحقيقة عمى البصر إذا كان القلب مبصرًا، وإنما العمى الحقيقي عمى القلب الذي في الصدر، والمعنى: أنه معظم العمى وأصله.
(1)
"د": "الأقسام".
وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة"
(1)
، وقوله:"إنما الماء من الماء"
(2)
، وقوله:"ليس الغنى عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى النفس"
(3)
، وقوله:"ليس المسكين الطوّاف الذي تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يُفْطَن له فيُتصدّق عليه"
(4)
، وقوله:"ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"
(5)
، ولم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات، إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء وأحق ممن يسمونه بها، فهكذا قوله:{تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} ، وقريب من هذا قوله تعالى:{لَيْسَ اَلْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [البقرة: 177]، وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمى حقيقة، وهكذا جميع ما نُسِب إليه.
ولما كان القلب ملك الأعضاء وهي جنوده، وهو الذي يحركها ويستعملها، والإرادة والقوى والحركة الاختيارية منه تنبعث؛ كانت هذه الأشياء له أصلًا، وللأعضاء
(6)
تبعًا، فلنذكر هذه الأمور مفصلة ومواقعها في
(1)
أخرجه البخاري (2178)، ومسلم (1596) ـ واللفظ له ـ من حديث أسامة بن زيد.
(2)
أخرجه البخاري (180)، ومسلم (343) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي سعيد الخدري.
(3)
أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة.
(4)
أخرجه البخاري (1479)، ومسلم (1039) من حديث أبي هريرة.
(5)
أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة.
(6)
"د" و"م": "والأعضاء".
القرآن.
فقد تقدم الختم، قال الأزهري:"وأصله التغطية، وخَتَمَ البذرَ في الأرض إذا غَطَّاه"
(1)
.
وقال أبو إسحاق: "معنى: خَتَم وطَبَعَ في اللغة واحد، وهو: التغطية على الشيء والاستيثاق منه، فلا يدخله شيء، كما قال تعالى: {الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، وكذلك قوله: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16] "
(2)
.
قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذُكِر، ويفترقان في معنى آخر، وهو: أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق.
وأما الأكنّة ففي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الإسراء: 46]، وهي جمع كِنَان، كعِنَان وأعِنّة، وأصله من الستر والتغطية، ويقال: كَنّهُ وأكنّهُ، وليسا بمعنى واحد، بل بينهما فرق، فأكنّهُ إذا ستره وأخفاه، كقوله تعالى:{أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235]، وكَنّهُ إذا صانه وحفظه، كقوله:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ} [الصافات: 49]، ويشتركان في الستر، والكِنَان ما أكنَّ الشيء وسَتَره، وهو كالغلاف، وقد أقرّوا على أنفسهم بذلك فقالوا:{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، فذكروا غطاء القلب وهي الأكنّة، وغطاء الأذن وهو الوَقْر، وغطاء العين وهو الحجاب، والمعنى: لا نفقه كلامك، ولا نسمعه، ولا نراك، والمعنى: إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول، ولا يسمعه، ولا يراك.
(1)
"تهذيب اللغة"(7/ 316).
(2)
"معاني القرآن وإعرابه"(1/ 82).
قال ابن عباس: " {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} مثل الكنانة التي فيها السهام"
(1)
.
وقال مجاهد: "كجَعْبة النّبْل"
(2)
.
وقال مقاتل: "عليها غطاء فلا تفقه ما تقول"
(3)
.
فصل
وأما الغطاء فقال تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 100 - 101]، وهذا يتضمن معنيين:
أحدهما: أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته.
والثاني: أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به، وهذا الغطاء للقلب أولًا، ثم يسري منه إلى العين.
فصل
وأما الغلاف فقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، وقد اختلف في معنى قولهم:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} .
فقالت طائفة: المعنى: قلوبنا أوعية للحكمة والعلم، فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به؟ أو لا تحتاج إليك، وعلى هذا فيكون "غلفٌ" جمع غلاف.
(1)
نسبه إليه في "البسيط"(19/ 419).
(2)
أسنده عبد الرزاق في "التفسير"(2688)، وانظر: التفسير المنسوب إلى مجاهد (585).
(3)
نسبه إليه في "البسيط"(19/ 419)، وانظر:"تفسير مقاتل"(3/ 735).