المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قويتموه ما معناه - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض

- ‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابعفي ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامسفي ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادسفي ذكر التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابعفي أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب

- ‌الباب الثامنفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسعفي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌المخاصمون في القدر نوعان:

- ‌الباب العاشرفي مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌ لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:

- ‌المقدور يكتنفه أمران:

- ‌الباب الحادي عشرفي ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشرفي ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها

- ‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشرفي الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى

- ‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه

- ‌كيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه

- ‌كيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر

- ‌ما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها

- ‌هل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

- ‌ما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه

- ‌هل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي

- ‌ما ذنب من لا يصلح

- ‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته

- ‌ العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار

- ‌الباب السابع عشرفي الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك

- ‌ هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة

- ‌الباب الثامن عشرفي فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال

- ‌ الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل

- ‌الباب التاسع عشرفي ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌ ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته:

الفصل: ‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قويتموه ما معناه

والصحيح قول أكثر المفسرين أن المعنى: قلوبنا لا تفقه ولا تفهم ما تقول، وعلى هذا فهو جمع "أَغْلف" كأَحْمر وحُمْر.

قال أبو عبيدة: "كل شيء في غلاف فهو أغلف، كما يقال: سيف أغلف، وقوس غَلْفاء، ورجل أغلف غير مختون"

(1)

.

قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: على قلوبنا غشاوة، فهي في أوعية، فلا تعي ولا تفقه ما تقول

(2)

.

وهذا هو الصواب في معنى الآية؛ لتكرر نظائره في القرآن، كقولهم:{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5]، وقوله تعالى:{كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101]، ونظائر ذلك.

وأما قول من قال: هي أوعية للحكمة، فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة، وليس له في القرآن نظير يُحمل عليه، ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة، فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل: قلبي غلاف، وقلوب المؤمنين العالمين غُلْف، أي: أوعية للعلم؟

والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء، فلا يلزم من كون القلب غلافًا أن يكون داخله العلم والحكمة، وهذا ظاهر جدًا.

ف‌

‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه

؟ وأما على القول الآخر فظاهر، أي: ليست قلوبكم محلًا للعلم والحكمة، بل مطبوع عليها.

(1)

"مجاز القرآن"(1/ 46).

(2)

انظر: "جامع البيان"(2/ 228)، "البسيط"(3/ 134).

ص: 306

قيل: وجه الإضراب في غاية الظهور، وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته، بل جعل قلوبهم داخلة في غُلْف فلا تفقهه، فكيف تقوم به عليهم الحجة، وكأنهم ادعوا أن قلوبهم

(1)

خلقت في غُلْف، فهم معذورون في عدم الإيمان، فأكذبهم الله سبحانه وقال:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال في الآية الأخرى:{بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88].

فأخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم، وآثروه على الإيمان، فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة، والمعنى: لم نخلق قلوبهم غلفًا لا تعي ولا تفقه ثم نأمرهم بالإيمان وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه، بل اكتسبوا أعمالًا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها.

فصل

وأما الحجاب ففي قوله تعالى حكاية عنهم: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، وقوله:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45]، على أصح القولين، والمعنى: جعلنا بين القرآن ــ إذا قرأته ــ وبينهم حجاب

(2)

، يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به، ويبينه قوله:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25]، وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا

(1)

من قوله: "داخلة" إلى هنا ساقط من "د".

(2)

كذا في الأصول: "حجاب" دون تنوين، والوجه النصب على المفعولية.

ص: 307

إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، فأخبر سبحانه أن ذلك جَعْله، فالحجاب يمنع عن رؤية الحق، والأكنّة تمنع من فهمه، والوَقْر يمنع من سماعه.

وقال الكلبي: "الحجاب ههنا مانع يمنعهم عن الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه"

(1)

.

ووصفه بكونه مستورًا، فقيل: بمعنى ساتر، وقيل: على النسب، أي: ذو ستر، والصحيح: أنه على بابه، أي: مستورًا عن الأبصار فلا يُرى، ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت، والنسب في مفعول لم يُشتق من فعله، كمكان مهول، أي: ذي هول، ورجل مرطوب، أي: ذي رطوبة، فأما مفعول فهو جار على فعله، فهو الذي وقع عليه الفعل، كمضروب ومجروح ومستور

(2)

.

فصل

وأما الران فقد قال تعالى: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، قال أبو عبيدة:"غلب عليها، والخمر تَرِين على عقل السكران، والموت يَرِين على الميت فيذهب به"

(3)

.

ومن هذا حديث أُسَيْفِع جهينة، وقول عمر:"فأصبح قد رِينَ به"

(4)

، أي غلب عليه، وأحاط به الرَّيْن.

(1)

لم أقف عليه.

(2)

انظر: "البسيط"(13/ 348).

(3)

"مجاز القرآن"(2/ 289).

(4)

أخرجه مالك (2/ 770)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(11/ 71).

ص: 308

وقال أبو معاذ النحوي: "الرَّيْن: أن يسْوَدّ القلب من الذنوب، والطبع: أن يُطْبع على القلب، وهو أشد من الرَّيْن، والإقفال أشد من الطبع، وهو أن يُقْفل على القلب"

(1)

.

وقال الفراء: "كثرت الذنوب والمعاصي منهم، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرَّيْن عليها"

(2)

.

وقال أبو إسحاق: "ران: غَطَّى، يقال: ران على قلبه الذنب، يَرِين رَيْنًا، أي: غشيه، قال: والرَّيْن كالغشاء يغشى القلب، ومثله الغَيْن"

(3)

.

قلت: أخطأ أبو إسحاق، فالغين ألطف شيء يكون وأرقّه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه ليُغَان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"

(4)

، وأما الرَّيْن والران فهو من أغلظ الحجب على القلب، وأكثفها.

قال مجاهد: "هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه، فيموت القلب"

(5)

.

وقال مقاتل: "غَمَرت القلوبَ أعمالُهم الخبيثةُ"

(6)

.

(1)

نقله في "تهذيب اللغة"(15/ 224).

(2)

"معاني القرآن"(3/ 246).

(3)

بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه"(5/ 299).

(4)

أخرجه مسلم (2702) من حديث الأغر المزني.

(5)

أسنده بنحوه الطبري (24/ 201)، وانظر: التفسير المنسوب إلى مجاهد (711)، "البسيط"(23/ 325).

(6)

حكاه في "البسيط"(23/ 325).

ص: 309

وفي "سنن النسائي" و"الترمذي"

(1)

، من حديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زِيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكره الله: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} " قال الترمذي: "هذا حديث صحيح".

وقال عبد الله بن مسعود: "كلما أذنب، نُكِت في قلبه نكته سوداء، حتى يَسْوَدّ القلب كله"

(2)

.

فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي كسبوها أوجبت لهم رَيْنًا على قلوبهم، فكان سبب الران منهم، وهو خلق الله فيهم، فهو خالق السبب ومسبَّبه، لكن السبب باختيار العبد، والمسبَّب خارج عن قدرته واختياره.

فصل

وأما الغل فقال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 7 - 9]، قال الفراء:"حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله"

(3)

.

(1)

النسائي في "الكبرى"(10179)، والترمذي (3334)، وأخرجه أحمد (7952)، وابن ماجه (4244).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(30958)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(6809).

(3)

"معاني القرآن"(2/ 373).

ص: 310

وقال أبو عبيدة: "منعناهم عن الإيمان بموانع"

(1)

.

ولما كان الغل مانعًا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعًا من الإيمان.

فإن قيل: فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب، فكيف ذكر الغل الذي في العنق؟

قيل: لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكره ذكر محله، والمراد به القلب، كقوله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].

ومن هذا قولهم: إثمي في عنقك، وهذا في عنقك.

ومن هذا قوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]، شبّه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غُلّت إلى العنق.

ومن هذا قال الفراء: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} : "حبسناهم عن الإنفاق".

قال أبو إسحاق: "وإنما يقال للشيء اللازم: هذا في عنق فلان، أي: لزومه له كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق"

(2)

.

قال أبو علي: "هذا مثل قولهم: طوّقتك كذا وقلَّدتك كذا، ومنه قلّده السلطان كذا، أي: صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان

(1)

نسبه إليه في "البسيط"(18/ 455).

(2)

"معاني القرآن وإعرابه"(3/ 230) بتصرف.

ص: 311

الطوق"

(1)

.

قلت: ومن هذا قولهم: قلّدت فلانًا حكم كذا وكذا، كأنك جعلته طوقًا في عنقه.

وقد سمّى سبحانه التكاليف الشاقّة أغلالًا في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، فشبّهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها.

قال الحسن: "هي الشدائد التي كانت في العبادة، كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة

(2)

، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروق من اللحم"

(3)

.

وقال ابن قتيبة: "هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرًا مما أطلقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلها أغلالًا؛ لأن التحريم يمنع، كما يقبض الغل اليد"

(4)

.

وقوله: {فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} قالت طائفة: الضمير يعود على الأيدي وإن لم تذكر؛ لدلالة السياق عليها.

قالوا: لأن الغل يكون في العنق فتُجْمع إليه اليد، ولذلك سُمّي جامِعَة.

وعلى هذا فالمعنى: فأيديهم أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم. هذا قول الفرّاء والزجاج.

(1)

"الحجة للقراء السبعة"(5/ 89).

(2)

"د": "النفس"، سبق قلم.

(3)

لم أقف عليه، ونسبه في "البسيط"(9/ 401) إلى المفسرين، وانظر:"جامع البيان"(10/ 495).

(4)

"تأويل مشكل القرآن"(148).

ص: 312

وقالت طائفة: الضمير يرجع إلى الأغلال، وهذا هو الظاهر، وقوله:{فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} أي: واصلة ومَلْزُوزة إليها

(1)

، فهو غلّ عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن.

وقوله: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} قال الفراء والزجاج: "المُقْمَح هو الغاضّ بصره بعد رفع رأسه"

(2)

.

ومعنى الإقماح في اللغة: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه، وقمح.

وقال الأصمعي: "بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض، ولم يشرب"

(3)

.

قال الأزهري: "لما غُلّت أيديهم إلى أعناقهم رَفَعتِ الأغلالُ أذقانَهم ورؤوسهم صعدًا، كالإبل الرافعة رؤوسها"

(4)

، انتهى.

فإن قيل: فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان؟

قيل: أحسن وجه وأبينه؛ فإن الغلّ إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها مَنَع اليد عن التصرف والبطش، فإذا كان عريضًا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن مَنَع الرأس من تصويبه، وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا

(1)

من لزّ الشيء إذا شدّه وألصقه إليه، "الصحاح"(3/ 894).

(2)

"معاني القرآن" للفراء (2/ 373)، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج (4/ 279).

(3)

بنحوه في "الأضداد"(16)، وانظر:"غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 303).

(4)

"تهذيب اللغة"(4/ 82)، وانظر:"البسيط"(18/ 456).

ص: 313

يستطيع له حركة.

ثم أكد هذا المنع والحبس بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا} [يس: 9]، قال ابن عباس:"منعهم من الهدى لما سبق في علمه"

(1)

.

والسد الذي جُعِل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سدّ عليهم طريق الهدى، فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم، ومثّلها أحسن تمثيل وأبلغه، وذلك حال قوم قد وُضِعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم، وضُمّت أيديهم إليها، وجُعِلوا بين سدين لا يستطيعون النفوذ من بينهما، وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئًا.

وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له، ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة؛ وجدت هذا المثل مطابقًا له أتم مطابقة، وأنه قد حيل بينه وبين الإيمان، كما حيل بين هذا وبين التصرف، والله المستعان.

فصل

وأما القفل، فقال تعالى:{(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، قال ابن عباس:"يريد على قلوب هؤلاء أقفال"

(2)

.

وقال مقاتل: "يعني الطبع على القلب"

(3)

.

فكأن القلب بمنزلة الباب المُرْتَج الذي قد ضُرِب عليه قفل، فإنه ما لم

(1)

نسبه إليه في "البسيط"(18/ 458).

(2)

نسبه إليه في "البسيط"(20/ 255).

(3)

"تفسير مقاتل"(4/ 49).

ص: 314

يفتح القفل

(1)

لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه، كذلك ما لم يُرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخله الإيمان والقرآن.

وتأمل تنكير القلوب وتعريف الأقفال، فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء، وقلوب من هم بهذه الصفة، ولو قال:(أم على قلوبهم) لم تدخل قلوب غيرهم في هذه الجملة.

وفي قوله: {قُلُوبٍ} بالتعريف: نوع تأكيد، فإنه لو قال (أقفال) لذهب الوهم إلى ما يُعْرف بهذا الاسم، فلما أضافها إلى القلوب عُلِم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب، فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها، والله أعلم.

فصل

وأما الصمم والوَقْر، ففي قوله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، وقوله:{(22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى} [محمد: 23]، وقوله: {وَلَقَد ذَّرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ

(2)

بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَهْوَ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ} [فصلت: 44]، قال ابن عباس: "في آذانهم صمم عن استماع القرآن، {وَهْوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أعمى الله قلوبهم فلا

(1)

"م": "القلب".

(2)

في جميع الأصول: "لا يعقلون".

ص: 315

يفقهونه، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ} مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء"

(1)

.

وقال مجاهد: "بعيد من قلوبهم"

(2)

.

وقال الفراء: "تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تُنادَى من مكان بعيد"، قال:"وجاء في التفسير: كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون"

(3)

انتهى.

والمعنى: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون، كما أن من دُعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم.

فصل

وأما البَكَم فقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، والبُكْم جمع أبكم، وهو الذي لا ينطق، والبَكَم نوعان: بَكَم القلب، وبَكَم اللسان، كما أن النطق نطقان: نطق القلب، ونطق اللسان، وأشدهما بَكَم القلب، كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن. فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق، ولا تنطق به ألسنتهم.

والعلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: من سمعه، وبصره، وقلبه، وقد سُدّت عليهم هذه الأبواب الثلاثة، فسُدّ السمعُ بالصمم، والبصرُ

(1)

نسبه إليه في "البسيط"(19/ 470 - 471).

(2)

أسنده الطبري (20/ 451).

(3)

"معاني القرآن"(3/ 20).

ص: 316

بالعمى، والقلبُ بالبَكَم، ونظيره قوله تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وقد جمع سبحانه بين الثلاثة في قوله:{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف: 26].

فإذا أراد الله سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره، وإذا أراد ضلاله أصمّه وأعماه وأبكمه، وبالله التوفيق.

فصل

وأما الغشاوة فهو غطاء العين، كما قال تعالى:{وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]، وهذا الغطاء سرى إليها من غطاء القلب؛ فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر، فالعين مرآة القلب تُظْهِر ما فيه، وأنت إذا أبغضت رجلًا بغضًا شديدًا، وأبغضت كلامه ومجالسته؛ تجد على عينيك غشاوة عند رؤيته ومخاطبته

(1)

، فتلك أثر البغض والإعراض عنه.

وغُلّظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول، وجاءت الغشاوة عليها تشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة.

ولما عَشَوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العَشَا غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى.

(1)

"د""ج": "ومخالطته".

ص: 317

فصل

وأما الصدّ فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر: 37]، قرأها أهل الكوفة:{وَصُدَّ} على البناء للمفعول حملًا على (زُيّن)، وقرأ الباقون:{وَصَدَّ} بفتح الصاد، ويحتمل وجهين:

أحدهما: أعرَض، فيكون لازمًا.

والثاني: صَدَّ غيره، فيكون متعديًا.

والقراءتان كالآيتين لا تتناقضان.

وأما الشَدّ على القلب ففي قوله تعالى: {(87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَضِلُّوا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 88 - 89]، فهذا الشّد على القلب هو الصدّ والمنع، ولهذا قال ابن عباس:"يريد امنعها"

(1)

، والمعنى: قسِّها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.

وهذا مطابق لما في التوراة، أن الله سبحانه قال لموسى:"اذهب إلى فرعون فإني سَأقسّي قلبه، فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر"

(2)

.

وهذا الشَّدُّ والتقسية من كمال عدل الربّ تعالى في أعدائه، جَعَله عقوبة لهم على كفرهم وإعراضهم، كعقوبته لهم بالمصائب، ولهذا كان محمودًا

(1)

نسبه إليه في "البسيط"(11/ 295).

(2)

انظر: "العهد القديم: سفر الخروج"(الإصحاح 10/ 1).

ص: 318

عليه، وهو حسن منه سبحانه، وأقبح شيء منهم، فإنه عدل منه وحكمة، وهو ظلم منهم وسفه.

فالقضاء والقدر فِعْلُ عادلٍ حكيم غني عليم، يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما، والمَقْضي المُقدَّر يكون ظلمًا وجورًا وسفهًا، وهو فِعْلُ جاهلٍ ظالم سفيه.

فصل

وأما الصرف، فقال تعالى:{وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَة نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]، فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف، وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره؛ لأنهم ليسوا أهلًا له، فالمحلّ غير صالح ولا قابل، فإن صلاحية المحل بشيئين: حسن فهم، وحسن قصد، وهؤلاء قلوبهم لا تفقه، وقصودهم سيئة.

وقد صرَّح سبحانه بهذا في قوله: {(22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ} [الأنفال: 23]، فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه الإيمان إلى قلوبهم، فلم يُسْمِعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعًا تقوم به عليهم حجته، فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم.

ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص، وهو الكبر والتولي والإعراض، فالأول مانع من الفهم، والثاني مانع من الانقياد والإذعان، فأفهام سيئة وقصود رديئة،

ص: 319