الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيل: القرآن قد نطق بهذا وهذا، قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]، وقال:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41]، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام: 125].
فإن قيل: ف
كيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر
؟
قيل: الأثر إن كان وجوديًا فلا بدّ له من مؤثِّر وجودي، وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجِبه، فيبقى على العدم الأصلي، فإذا أضيف إليه كان من باب إضافة الشيء إلى دليله، فعدم السبب دليل على عدم المسبَّب، وإذا سُمّي موجِبًا ومقتضيًا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك، وأما أن يكون العدم أثرًا ومؤثّرًا فلا، وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه، وتفريطه في أمره.
قال مجاهد: " {كَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي: ضياعًا"
(1)
.
وقال قتادة: "أضاع أكبر الضيعة"
(2)
.
وقال السُّدِّي: "هلاكًا"
(3)
.
وقال أبو الهيثم: "أمرٌ فُرطٌ، أي: متهاون به، مُضيَّع"
(4)
، والتفريط تقديم العجز.
(1)
التفسير المنسوب إليه (447)، وأسنده الطبري (15/ 242).
(2)
نسبه إليه في "البسيط"(13/ 600).
(3)
نسبه إليه في "البسيط"(13/ 600).
(4)
انظر: "تهذيب اللغة"(13/ 332).
قال أبو إسحاق: "من قدم العجز في أمر أضاعه وأهلكه"
(1)
.
قال الليث: "الفُرُط: الأمر الذي تفرّط فيه، تقول: كل أمر فلان فُرُط"
(2)
.
قال الفراء: "فُرُطًا: متروكًا"
(3)
.
ففرّط فيما لا ينبغي التفريط فيه، واتبع ما لا ينبغي اتباعه، وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه.
فصل
وأما المرض فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال:{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، وقال:{إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ} [المدثر: 31].
ومرض القلوب خروجها عن كمال صحتها واعتدالها، فإن صحتها أن تكون عارفة بالحق، محبة له، مؤثرة له على غيره، فمرضها إما بالشك فيه،
(1)
كذا نسب المصنف العبارة إلى أبي إسحاق وليست له، بل هي من تعليق الواحدي الذي ينقل عنه المصنف هنا، قال في "البسيط" (13/ 600) بعد أن حكى قول أبي الهيثم:"و [يـ]ـشبه أن يكون أصل هذا من التفريط، وهو تقديم العجز، وهذا بمعنى قول أبي إسحاق. ومن قدّم العجز في أمره أضاعه وأهلكه"، ونص أبي إسحاق:"أي كان أمره التفريط، والتفريط تقديم العجز""معاني القرآن وإعرابه"(3/ 281).
(2)
"العين"(7/ 420).
(3)
"معاني القرآن"(2/ 140).
وإما بإيثار غيره عليه، فمرض المنافقين مرض شك وريب، ومرض العصاة مرض غيّ وشهوة، وقد سمَّى الله سبحانه كلًّا منهما بالمرض.
قال ابن الأنباري: "أصل المرض في اللغة: الفساد، مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله، ومرضت الأرض تغيرت وفسدت"
(1)
.
قالت ليلى الأَخْيَلية:
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة
…
تتبع أقصى دائها فشفاها
(2)
وقال آخر:
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة
…
لفَقْد الحسين
(3)
والبلاد اقشعرّت
(4)
والمرض يدور على أربعة أشياء: فساد، وضعف، ونقصان، وظلمة، ومنه: مَرَّضَ الرجل في الأمر: إذا ضعف فيه ولم يبالغ، وعين مريضة النظر، أي: فاترة ضعيفة، وريح مريضة إذا ضعف هبوبها، كما قال:
راحت لأرْبُعكِ الرياح مريضة
(5)
(1)
حكاه في "البسيط"(2/ 144)، وفي "الزاهر"(1/ 457) معنى آخر.
(2)
"الديوان" جمع عطية (121) من عشرة أبيات في مدح الحجاج، وهي في "الكامل"(1/ 242).
(3)
كذا في "البسيط" وعنه المؤلف: "الحسين" ولا يستقيم به الوزن، وفي سائر المصادر:"حسين".
(4)
من قصيدة لسليمان بن قَتّة يرثي الحسين بن علي رضي الله عنهما، أنشدها في "نسب قريش"(41)، و"مقاتل الطالبيين"(121).
(5)
صدر بيت للبحتري من قصيدة يمدح فيها إسحاق المصعبي، وعجزه:
وأصاب مغناكِ الغمامُ الصِّيّبُ
انظر: "ديوان البحتري" جمع الصيرفي (1/ 72)، و"الصناعتين"(329).
أي: ليّنة ضعيفة حتى لا تعفي أثرَها.
وقال ابن الأعرابي: "أصل المرض النقصان، ومنه بدن مريض: ناقص القوة، وقلب مريض: ناقص الدين، ومَرَّض في حاجتي إذا نقصتْ حركتُه فيها"
(1)
.
وقال الأزهري، عن المنذري، عن بعض أصحابه: المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها، قال: والمرض الظلمة، وأنشد:
وليلة مَرِضتْ من كل ناحية
…
فما يضيء لها شمس ولا قمر
(2)
هذا أصله في اللغة، ثم الشك والجهل، والحيرة والضلال، وإرادة الغي، وشهوة الفجور في القلب، تعود إلى هذه الأمور الأربعة، فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض، فيعاقبه الله بزيادة المرض؛ لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.
فصل
وأما تقليب الأفئدة فقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ
(1)
انظر: "تهذيب اللغة"(12/ 34).
(2)
"تهذيب اللغة"(12/ 34 - 35)، وفيه:"وأنشد أبو العباس"، والمؤلف صادر عن "البسيط"(2/ 146) ومتابع له في هذا.
والبيت لأبي حية النميري في "ديوانه" جمع الجبوري (148)، وفيه:"نجم" بدل "شمس"، والأخيرة رواية الأزهري والواحدي.
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وهذا عطف على {إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]، أي: نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون.
واختُلِف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، فقال كثير من المفسرين: المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرَّة.
قال ابن عباس في رواية عطاء عنه: "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي، قال: وهذا كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ} [الأنفال: 24] "
(1)
.
وقال آخرون: المعنى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة، فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم
(2)
. وهذا معنى حسن؛ فإن كاف التشبيه تتضمن نوعًا من التعليل، كقوله:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، وقوله:{(150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي} [البقرة: 151 - 152]، والذي حَسَّن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلامُ بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
والتقليب: تحويل الشيء من وجه إلى وجه، وكان الواجب من مقتضى
(1)
نسبه إليه في "البسيط"(8/ 358).
(2)
انظر: "البسيط"(8/ 362).
إنزال الآية ووصولها إليهم كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم؛ لأنهم رأوها عيانًا وعرفوا دلالتها، وتحققوا صدقها، فإذا لم يؤمنوا كان ذلك تقليبًا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه.
وقد روى مسلم في "صحيحه"
(1)
من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه كيف يشاء"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم مصرّف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك".
وروى الترمذي
(2)
من حديث أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:"نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلبها كيف يشاء"، قال:"هذا حديث حسن".
وروى حماد، عن أيوب وهشام ويعلى
(3)
بن زياد، عن الحسن قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: دعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله، دعوة كثيرًا ما تدعو بها! قال:"إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه"
(4)
.
(1)
برقم (2654).
(2)
برقم (2140)، وأخرجه أحمد (12107)، وصححه الحاكم (1927).
(3)
كذا في الأصول: "أيوب وهشام ويعلى"، صوابه:"يونس وهشام ومعلّى" كما في مصادر التخريج.
(4)
أخرجه أحمد (24604)، والنسائي في "الكبرى"(7690)، والآجري في "الشريعة"(321)، وفي سماع الحسن من عائشة كلام، كما في "تحفة التحصيل"(74)، لكن الحديث يصح بما قبله من شواهد.
وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، قال ابن عباس:"أخذُلُهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون"
(1)
.
فصل
وأما إزاغة القلوب، فقال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال عن عباده المؤمنين أنهم سألوه:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
وأصل الزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس إذا مالت، فإزاغة القلب إمالته، وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال، والزيغ يوصف به القلب والبصر، كما قال تعالى:{وَإِذ زَّاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10].
قال قتادة ومقاتل: "شَخَصتْ فَرَقًا"
(2)
، وهذا تقريب للمعنى؛ فإن الشخوص غير الزيغ، وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا يطرف، ومنه شَخَص بصرُ الميت.
ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب؛ اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه، وشخصت بالنظر إلى الأحزاب.
(1)
أخرجه مختصرًا الطبري (1/ 323)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(149)، وهو بنصه في "البسيط"(8/ 363).
(2)
أخرجه عن قتادة بنحوه الطبري (19/ 35)، وهو في "تفسير مقاتل"(3/ 476).
قال الكلبي: "مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم"
(1)
.
وقال الفراء: "زاغت عن كل شيء، فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيّرة تنظر إليه"
(2)
.
قلت: القلب إذا امتلأ رعبًا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المَخُوف، فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابِلُه.
فصل
وأما الخذلان، فقال تعالى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]، وأصل الخذلان: الترك والتخلية، ويقال للبقرة والشاة إذا تخلّفت مع ولدها في المرعى، وتركت صواحباتها: خَذُول.
قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: "إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس، ولن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس، أي: لا تترك أمري للناس، وارفضِ الناسَ لأمري"
(3)
.
فالخذلان أن يخلّي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها، والتوفيق ضده: أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها، بل يصنع له ويلطف به، ويعينه ويدفع عنه، ويكلؤه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه، فمن خلّى بينه وبين نفسه، فقد هلك كل الهلاك.
(1)
نسبه إليه في "البسيط"(18/ 186).
(2)
"معاني القرآن"(2/ 336).
(3)
أسنده ابن المنذر في "التفسير"(1123)، وانظر:"سيرة ابن هشام"(3/ 159).