الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قلتَ: فالرغبة والرهبة بيده لا بيد العبد!
قلتُ: نعم والله، وهما مجرد فضله ومنّته، وإنما يجعلهما في المحل الذي يليق بهما، ويحبسهما عمن لا يصلح.
فإن قلتَ: ف
ما ذنب من لا يصلح
؟
قلتُ: أكبر ذنوبه أنه لا يصلح؛ لأن عدم صلاحيته بما اختاره لنفسه وآثره وأحبّه من الضلال والعمى
(1)
على بصيرة من أمره، فآثر هواه على حق ربّه ومرضاته، واستحب العمى على الهدى، وكان كُفْر المُنْعِم عليه بصنوف النعم، وجَحْد إلهيته والشرك به، والسعي في مساخطه؛ أحبَّ إليه من شكره وتوحيده، والسعي في مرضاته، فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه، وأي ذنب فوق هذا؟!
فإذا أمسك الحَكَمُ العدلُ توفيقه عمن هذا شأنه كان قد عَدَل فيه، وانسدَّت عليه أبواب الهداية وطرق الرشاد، فأظلم قلبه، فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه، فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالًا وكفرًا.
وإذا تأمل من شرح الله صدره للإسلام والإيمان هذه الآية، وما تضمنته من أسرار التوحيد والقدر والعدل وعظمة شأن الربوبية؛ صار لقلبه عبودية أخرى ومعرفة خاصة، وعلم أنه عبد من كل وجه وبكل اعتبار، وأن الربّ تعالى ربّ كل شيء ومليكه من الأعيان والصفات والأفعال، والأمر كله بيده، والحمد كله له، وأزمّة الأمور بيديه، ومرجعها كلها إليه.
ولهذه الآية شأن فوق عقولنا، وأجلّ من أفهامنا، وأعظم مما قال فيها
(1)
"د": "والغي"، والمثبت من "م".
المتكلمون الذين ظلموها معناها، وأنفسهم كانوا يظلمون. تالله لقد غلظ عنها حجابهم، وكثفت عنها أفهامهم، ومنعتهم الوصولَ إلى المراد بها أصولُهم التي أصّلوها، وقواعدُهم التي أسّسوها؛ فإنها تضمنت إثبات التوحيد والعدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، لا التوحيد والعدل الذي يقوله معطلو الصفات ونفاة القدر، وتضمنت إثبات الحكمة، والقدرة، والشرع، والقدر، والسبب، والحكم، والذنب، والعقوبة، ففتحت للقلب الصحيح بابًا واسعًا من معرفة الرب تعالى بأسمائه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وحكمته في شرعه وقدره، وعدله في عقابه، وفضله في ثوابه.
وتضمنت كمال توحيده في ربوبيته
(1)
وقيّوميته وإلهيته، وأن مصادر الأمور كلها عن محض إرادته، ومردّها إلى كمال حكمته، وأن المهتدي من خصّه بهدايته، وشرح صدره لدينه وشريعته، وأن الضال من جعل صدره ضيقًا حرجًا عن معرفته ومحبته، كأنما تصاعد في السماء، وليس ذلك في قدرته، وأن ذلك عدل منه في عقوبته لمن لم يقدره حق قدره، وجحد كمال ربوبيته، وكفر بنعمته، وآثر عبادة الشيطان على عبوديته، فَسدَّ عليه باب توفيقه وهدايته، وفتح عليه أبواب غيّه وضلالته، فضاق صدره، وقسا قلبه، وتعطلت من عبودية ربِّها جوارحه، وامتلأت بالظلمة جوانحه.
والذنب له حيث أعرض عن الإيمان، واستبدل به الكفر والفسوق والعصيان، ورضي بموالاة الشيطان، وهانت عليه معاداة الرحمن، لا يحدّث نفسه بالرجوع إلى مولاه، ولا يعزم يومًا على إقلاعه عن هواه، قد ضادّ الله في أمره بحب ما يبغضه، وببغض ما يحبه، ويوالي من يعاديه، ويعادي من يواليه،
(1)
"م": "ديموميته".
فيغضب إذا رضي الربّ، ويرضى إذا غضب، هذا وهو يتقلب في إحسانه، ويسكن في داره، ويغتذي برزقه، ويتقوى على معاصيه بنعمه.
فمَنْ أعدلُ منه ــ سبحانه عما يصفه به الجاهلون والظالمون ــ إذا جعل الرجس على أمثال هؤلاء من الذين لا يؤمنون؟!
فصل
إذا شرح اللهُ صدرَ عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه أراه في ضوء ذلك النور حقائق الأسماء والصفات التي تصل إليها معرفة العبد؛ إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر، وأراه في ضوء ذلك النور حقائق الإيمان، وحقائق العبودية وما يصححها وما يفسدها.
وتفاوُت الناس في معرفة الأسماء والصفات، والإيمان والإخلاص، وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور، قال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقال:{آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد: 28].
فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النور عن حقيقة المثل الأعلى، مستويًا على عرش الإيمان في قلب العبد المؤمن، فيشهد بقلبه ربًّا عظيمًا قاهرًا قادرًا، أكبر من كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، السماوات السبع قبضة إحدى يديه، والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى، يمسك السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، ثم يهزّهن، ثم يقول: أنا الملك. فالسماوات
السبع في كفه كخردلة في كفّ العبد.
يحيط ولا يحاط به، ويحصر خلقه ولا يحصرونه، ويدركهم ولا يدركونه، لو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفًّا واحدًا ما أحاطوا به سبحانه.
ثم يشهده في علمه فوق كل عليم، وفي قدرته فوق كل قدير، وفي جوده فوق كل جواد، وفي رحمته فوق كل رحيم، وفي جماله فوق كل جميل، حتى لو كان جمال الخلائق كلهم على شخص واحد منهم، ثم أُعطي الخلق كلهم مثل ذلك الجمال؛ لكان نسبته إلى جمال الرب تبارك وتعالى دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس.
ولو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحد منهم، ثم أُعطي كلٌّ منهم مثل تلك القوة؛ لكان نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى الأسد.
ولو كان جودهم على رجل واحد، وكل الخلائق على ذلك الجود؛ لكانت نسبته إلى جوده دون نسبة قطرة إلى البحر.
وكذلك علم الخلائق إذا نُسِب إلى علمه كان كنقرة عصفور من البحر.
وهكذا سائر صفاته، كحياته وسمعه وبصره وإرادته، فلو فرض البحر المحيط بالأرض مدادًا تحيط به سبعة أبحر، وجميع أشجار الأرض شيئًا بعد شيء أقلام؛ لفني ذلك المداد والأقلام، ولا تفنى كلماته ولا تنفد، فهو أكبر في علمه من كل عالم، وفي قدرته من كل قادر، وفي جوده من كل جواد، وفي غناه من كل غني، وفي علوه من كل عال، وفي رحمته من كل رحيم.
استوى على عرشه، واستولى على خلقه، متفرّد بتدبير مملكته، فلا قبض ولا بسط، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا سعادة ولا شقاوة، ولا موت ولا حياة، ولا نفع ولا ضر إلا بيده، لا مالك غيره، ولا مدبر سواه، لا يستقل أحد معه بملك مثقال ذرة في السماوات والأرض، ولا يشركه في ملكها، ولا يحتاج إلى وزير ولا ظهير ولا معين، ولا يغيب فيخلفه غيره، ولا يعيى
(1)
فيعينه سواه، ولا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء فيمن شاء.
فهذا أول مشاهد المعرفة.
ثم يترقى منه إلى مشهد آخر فوقه، لا يتم الإيمان إلا به، وهو مشهد الإلهية، فيشهده سبحانه متجلّيًا في كلامه بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، وعدله في عقابه، وفضله في ثوابه، فيشهد ربًّا قيّومًا متكلّمًا، آمرًا ناهيًا، يحبّ ويبغض، ويرضى ويغضب، قد أرسل رسله، وأنزل كتبه، وأقام على عباده حجته البالغة، وأتم عليهم نعمته السابغة، يهدي من يشاء نعمة منه وفضلًا، ويضل من يشاء حكمة منه وعدلًا، تنزل إليهم أوامره، وتعرض عليه أعمالهم، لم يخلقهم عبثًا، ولم يتركهم سدى، بل أَمْره جارٍ عليهم في حركاتهم وسكناتهم، وظواهرهم وبواطنهم، فلله عليهم حُكْم وأَمْر في كل تحريكة وتسكينة، ولحظة ولفظة.
وينكشف له في ضوء هذا النور عدله وحكمته، ورحمته ولطفه، وإحسانه وبرّه، في شرعه وأحكامه، وأنها أحكام ربّ رحيم محسن لطيف
(1)
عدا "ج": "معين".
حكيم، قد بهرت حكمته العقول، وأقرت بها الفطر، وشهدت لمنزلها بالوحدانية، ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة.
وينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال، وتنزيهه سبحانه عن النقائص والمثال، وأن كل كمال في الوجود فمعطيه وخالقه أحق به وأولى، وكل نقص وعيب فهو سبحانه منزّه عنه، متعال عنه.
وينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم الآخر، وما أخبر به الرسول عنه، حتى كأنه يشاهده عيانًا، وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده؛ إخبارَ من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما أخبر به.
فمن أراد الله سبحانه هدايته شرح صدره لهذا، فاتسع له وانفسح، ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج، لا يجد فيه مسلكًا ولا منفذًا، والله الموفق المعين.
وهذا الباب يكفي اللبيب في معرفة القدر والحكمة، ويطلعه على العدل والتوحيد اللذيْن تضمنهما قوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18 - 19].
* * * *