المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض

- ‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابعفي ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامسفي ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادسفي ذكر التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابعفي أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب

- ‌الباب الثامنفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسعفي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌المخاصمون في القدر نوعان:

- ‌الباب العاشرفي مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌ لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:

- ‌المقدور يكتنفه أمران:

- ‌الباب الحادي عشرفي ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشرفي ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها

- ‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشرفي الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى

- ‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه

- ‌كيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه

- ‌كيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر

- ‌ما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها

- ‌هل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

- ‌ما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه

- ‌هل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي

- ‌ما ذنب من لا يصلح

- ‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته

- ‌ العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار

- ‌الباب السابع عشرفي الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك

- ‌ هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة

- ‌الباب الثامن عشرفي فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال

- ‌ الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل

- ‌الباب التاسع عشرفي ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌ ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته:

الفصل: ‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

‌الباب الثاني عشر

في ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

وهذه المرتبة قد دلَّ عليها إجماعُ الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميعُ الكتب المنزلة من عند الله، والفطرةُ التي فَطَر عليها خلقه، وأدلةُ العقول

(1)

والعيان.

وليس في الوجود موجِب ومقتضٍ على الحقيقة إلا مشيئة الله وحده، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، هذا عمودُ التوحيد الذي لا يقوم إلا به، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع، وإن كان منهم في موضع آخر، فجوزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يكون.

وخالفَ الرسلَ كلَّهم وأتباعَهم مَن نفى مشيئة الله بالكلية، ولم يثبت له سبحانه مشيئة واختيارًا أوجد بها الخلق، كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم.

والقرآن والسنّةُ مملوءان بتكذيب الطائفتين، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ

(1)

"م": "المعقول".

ص: 147

اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وقال تعالى:{كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]، وقال:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقال:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقال:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]، وقال:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35]، وقال:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقال:{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: 4]، وقال:{قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي} [الإسراء: 86]، وقال:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، وقال:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133]، وقال:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27].

وقال عن نوح إنه قال لقومه: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ} [هود: 33]، وقال إمام الحنفاء وأبو الأنبياء لقومه:{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80]، وقال الذبيح له:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، وقال خطيب الأنبياء شعيب:{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89]، وقال الصديق الكريم ابن الكريم ابن الكريم:{اَدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]، وقال حمو موسى: {وَمَا

ص: 148

أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، وقال كليم الرحمن للخضر:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69]، وقال قوم موسى له:{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70]، وقال لسيد ولد آدم وأكرمهم عليه صلوات الله وسلامه عليه:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، وقال:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس: 49]، وقال:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7]، وقال عن أهل الجنة:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 108] وعن أهل النار كذلك؛ ليبين أن الأمر راجع إلى مشيئته، ولو شاء لكان غير ذلك.

وقال: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} [الإسراء: 54]، وقال:{يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 129]، وقال:{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30]، وقال:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنزِلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27]، وقال:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، وقال:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [لِيُبَيِّنَ لَهُمْ]

(1)

فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]، وقال:{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، وقال:{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}

(1)

قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ساقط من "د""م"، وألحقها في حاشية "ج" مصحِّحًا ..

ص: 149

[الشورى: 52]، وقال:{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، وقال:{أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا إِلَى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 213]، وقال:{(15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16]، وقال:{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الإنسان: 28]، وقال:{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56]، وفي الآية الأخرى:{وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فأخبر أن مشيئتهم وفعلهم موقوفان

(1)

على مشيئته لهم هذا وهذا.

وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقال:{(24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ إِلَى إِلَى صِرَاطٍ} [يونس: 25]، وقال:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَا أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24].

وقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74]، وقوله:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وقوله:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]، وقوله:{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 56]، وقوله:{نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]، وقوله:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة: 4]، وقوله:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، وقوله:{فَنُجِي مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 110]، وقوله:{فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ}

(1)

"موقوفان" ساقطة من "د"، واستدرك موضعها الناسخ بلحق لم أتمكن من قراءته.

ص: 150

[الروم: 48]، وقوله:{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100]، وقوله:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269]، وقوله:{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66]، وقوله:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20]، وقوله:{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} [الشورى: 33]، وقوله:{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65]، {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70]، وقوله:{فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]، وقوله:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الأنعام: 133]، وقوله:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220]، وقوله:{اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ} [الشورى: 13]، وقوله عن كليمه موسى أنه قال:{إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155].

وهذه الآيات ونحوها تتضمن الرد على طائفتي الضلال: نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم.

وهو سبحانه تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف المقدر

(1)

الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء لما عُصِيَ، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته.

وهذا حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه ربّ العالمين، وكونه القيّوم القائم

(1)

"م""ج": "القدر"، والمثبت من "د".

ص: 151

بتدبير عباده، فلا خلق، ولا رزق، ولا عطاء، ولا منع، ولا قبض، ولا بسط، ولا موت، ولا حياة، ولا إضلال، ولا هدى، ولا سعادة، ولا شقاوة، إلا من بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه؛ إذ لا مالك غيره، ولا مدبّر سواه، ولا ربَّ غيره.

قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وقال:{وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5]، وقال:{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، وقال:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49 - 50]، وقال:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35].

وقد تقدم

(1)

من حديث حذيفة بن أَسِيد في "صحيح مسلم" في شأن الجنين: "فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك".

وفي "الصحيحين"

(2)

من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء".

وفي "صحيح البخاري"

(3)

من حديث علي بن أبي طالب، حين طرقه النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة ليلًا فقال:"ألا تصليان؟ " فقال علي: إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثها بعثها.

(1)

في (64).

(2)

"البخاري"(1432) واللفظ له، "مسلم"(2627).

(3)

تقدم تخريجه في (59).

ص: 152

وفي "صحيحه"

(1)

أيضًا في قصة نومهم في الوادي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء".

وفي حديث ابن مسعود الذي في "المسند"

(2)

وغيره في قصة رجوعهم من الحديبية، ونومهم عن صلاة الصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله لو شاء لم تناموا عنها، ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم، فهكذا لمن نام ونسي"، وفي لفظ آخر:"إن الله سبحانه لو شاء أيقظنا، ولكنه أراد أن يكون لمن بعدكم"

(3)

.

وفي "مسند الإمام أحمد"

(4)

عن طُفَيل بن سَخْبرة أخي عائشة لأمها أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مرَّ برهط من اليهود، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قال: إنكم أنتم القوم، لولا أنكم تزعمون أن عزيرًا ابن الله. فقالت اليهود: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مرّ برهط من النصارى، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قال: إنكم أنت القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح أخبر بها من أخبر، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره،

(1)

تقدم تخريجه في (60).

(2)

برقم (3710)، وأخرجه ابن ماجه (2118)، والطيالسي (377)، والنسائي في "الكبرى"(8854)، والبيهقي في "الكبرى"(3182) واللفظ له، وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي اختلط بأخرة، وللحديث شواهد تقويه.

(3)

أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في "الأسماء والصفات"(290).

(4)

برقم (20694)، وأخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2743)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(292)، وصححه الحاكم (5945).

ص: 153

قال: "هل أخبرت أحدًا؟ " قال: نعم، فلما صلّوا خَطَبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن طفيلًا رأى رؤيا، فأخبر بها من أخبر منكم، وإنكم تقولون كلمةً كان يمنعني الحياءُ منكم

(1)

ــ زاد البيهقي: ــ فلا تقولوها، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده، لا شريك له".

وروى جعفر بن عون، عن الأجلح، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلّمه في بعض الأمر، فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أجعلتني لله عدلًا؟! بل ما شاء الله وحده"

(2)

.

وروى شعبة، عن منصور، عن عبد الله بن يسار، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان: ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان"

(3)

.

قال الشافعي ـ في رواية الربيع عنه ـ: "المشيئة إرادة الله، قال الله عز وجل:{وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه، وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء الله، فيقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله ثم شئتَ، ولا يُقال: ما شاء الله وشئت. قال: ويقال: من

(1)

تكملة الخبر: "أن أنهاكم عنها".

(2)

أخرجه من هذا الوجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(293)، ورواه أحمد (1839)، والنسائي في "الكبرى"(10759)، وابن ماجه (2117) بنحوه، بإسناد لا بأس به.

(3)

أخرجه أحمد (23265)، وأبو داود (4980)، والنسائي في "الكبرى"(10755) بإسناد صحيح.

ص: 154

يطع الله ورسوله، فإن الله تعبَّدَ العباد بأن فرض عليهم طاعة رسوله، فإذا أطيع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقد أُطيع الله بطاعة رسوله"

(1)

.

وفي "صحيح مسلم"

(2)

من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرِّفها كيف يشاء"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا مصرِّف القلوب، صرِّفْ قلوبنا على طاعتك".

وفي حديث النواس بن سمعان، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهم يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك، والميزان بيد الرحمن، يرفع أقوامًا ويخفض آخرين إلى يوم القيامة"

(3)

.

وفي "الصحيحين"

(4)

من حديث عبد الله بن عمر، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول:"إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ــ فذكر الحديث، وقال في آخره ــ: فذلك فضلي أوتيه من أشاء".

(1)

"الأم"(1/ 416)، وأسنده البيهقي في "الأسماء والصفات"(295)، ومنه اقتبس المؤلف.

(2)

برقم (2654)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(298) ولفظه أقرب لسياق المؤلف.

(3)

أخرجه أحمد (17630)، والنسائي في "الكبرى"(7691)، وابن ماجه (199)، وصححه ابن حبان (943).

(4)

هو في البخاري وحده برقم (7467).

ص: 155

وفي "صحيح البخاري"

(1)

مرفوعًا: "مثل الكافر كمثل الأَرْزَة: صَمّاء

(2)

معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء".

وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن همام، هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: لا يقل ابن آدم: يا خيبةَ الدّهرِ؛ فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما"

(3)

.

قال الشافعي: "تأويله ــ والله أعلم ــ: أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر، وتسبَّه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هدم أو تلف أو غير ذلك، فيقولون: إنما يهلكنا الدهر، وهو الليل والنهار، ويقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهرُ، فيجعلون الليل والنهار اللذين يفعلان ذلك، فيذمون الدهر بأنه الذي يفنينا ويفعل بهم

(4)

، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا الدهر" على أنه يفنيكم، والذي يفعل بكم هذه الأشياء؛ فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى، فإنه فاعل هذه الأشياء"

(5)

.

وفي حديث أنس يرفعه: "اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات

(1)

برقم (7466) من حديث أبي هريرة.

(2)

تحرفت في "د""م" إلى: "حما"، وجاءت على الصواب في "ج".

(3)

أخرجه بهذا السياق من طريق عبد الرزاق به أحمد (8232)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(305)، وهو في البخاري (6181)، ومسلم (2246) من طرق عن أبي هريرة بألفاظ متقاربة.

(4)

كذا في الأصول، وفي مصدر القول:"يفنينا ويفعل بنا".

(5)

أورده البيهقي في "الأسماء والصفات" عقب الحديث (305)، وفي "مناقب الشافعي"(1/ 336)، وانظر:"شأن الدعاء"(108).

ص: 156

رحمة الله، فإن لله عز وجل نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم"

(1)

.

وفي "الصحيحين"

(2)

من حديث عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فهو إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له".

وفيهما أيضًا

(3)

في حديث احتجاج الجنة والنار، قول الله للجنة:"أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"، وللنار:"أنت عذابي أعذب بك من أشاء".

وفيهما أيضًا

(4)

من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، وارحمني إن شئت، وارزقني إن شئت. ليعزم مسألته؛ إنه يفعل ما شاء، لا مُكْرِه له".

وفي "صحيح مسلم"

(5)

عنه يرفعه: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله،

(1)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(720)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(306) واللفظ له، وإسناده ضعيف، فيه عيسى بن موسى ضعيف، كما في "الميزان"(3/ 325)، ووقع فيه اختلاف أيضًا، انظر:"العلل" للدارقطني (12/ 97).

(2)

"البخاري"(18)، و"مسلم"(1709).

(3)

"البخاري"(4850)، و"مسلم"(2846) من حديث أبي هريرة.

(4)

"البخاري"(7477)، و"مسلم"(2679).

(5)

تقدم تخريجه في (60).

ص: 157

ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، [ولكن]

(1)

قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان".

وفي حديث أبي ذر: "يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته

" الحديث، وفي آخره: "ذلك بأني جواد ماجد، أفعل ما أشاء، عطائي كلام، فإذا أردت شيئًا فإنما أقول له: كن، فيكون"

(2)

.

وفي حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد من نعمة، من أهلٍ وولدٍ، فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرى فيه آفة دون الموت"

(3)

.

وهذا الحديث الصحيح مشتق من قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذ دَّخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39].

وفي حديث الشفاعة: "فإذا رأيتُ ربي وقعت له ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني"

(4)

.

وفي حديث آخرِ أهل الجنة دخولًا إليها: "فيسكت ما شاء الله أن يسكت،

(1)

زيادة لازمة من مصدر الخبر.

(2)

أخرجه بهذا السياق أحمد (21367)، والترمذي (2495) وحسنه، وابن ماجه (4257)، ومداره على شهر بن حوشب وفيه ضعف، وأصله عند مسلم (2577) بسياق آخر ليس فيه موضع الشاهد.

(3)

أخرجه ابن أبي الدنيا في "الشكر"(1)، والطبراني في "الأوسط"(4261)، وأبو يعلى كما في "إتحاف الخيرة"(4/ 460) وضعفه الأزدي كما في "تفسير ابن كثير"(5/ 159)، وانظر:"فيض القدير"(5/ 429).

(4)

أخرجه البخاري (7410)، ومسلم (193) من حديث أنس.

ص: 158

ــ وفيه قوله سبحانه: ــ لا أهزأ بك، ولكني على ما أشاء قادر"

(1)

، والحديثان في "الصحيحين".

وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة، فأريد ـ إن شاء الله ـ أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة"

(2)

.

وقال: "لا يدخل النار ـ إن شاء الله ـ مِن أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد"

(3)

.

وقال: "إني لأطمع أن يكون حوضي ــ إن شاء الله ــ أوسع ما بين أيلة إلى كذا"

(4)

.

وقال في المدينة: "لا يدخلها الطاعون ولا الدجال ــ إن شاء الله ــ"

(5)

.

وقال في زيارة المقابر: "وإنَّا ــ إن شاء الله ــ بكم لاحقون"

(6)

.

وقال لما حاصر الطائف: "إنا قافلون غدًا ــ إن شاء الله ــ "

(7)

.

(1)

أخرجه البخاري (6573)، ومسلم (182) من حديث أبي هريرة، وموضع الشاهد عند مسلم (187) من حديث ابن مسعود.

(2)

أخرجه البخاري (7474)، ومسلم (198) من حديث أبي هريرة.

(3)

أخرجه مسلم (2496) من حديث أم مبشر.

(4)

أخرجه من حديث أبي هريرة به الطبراني في "مسند الشاميين"(3342)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(350)، وأصله عند مسلم (2496) من وجه آخر.

(5)

أخرجه البخاري (7134)، ومسلم (2943) ـ وليس فيه موضع الشاهد ـ، والترمذي (2242) من حديث أنس.

(6)

أخرجه مسلم (249) من حديث أبي هريرة.

(7)

أخرجه البخاري (6086)، ومسلم (1778) من حديث ابن عمر.

ص: 159

وقال لما قدم مكة: "منزلنا غدًا ــ إن شاء الله ــ بخَيْف بني كنانة"

(1)

.

وقال في يوم بدر: "هذا مصرع فلان غدًا ــ إن شاء الله ــ، وهذا مصرع فلان ــ إن شاء الله ــ "

(2)

.

وقال في بعض أسفاره: "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، ثم تأتون الماء غدًا ــ إن شاء الله ــ "

(3)

.

وقال للأعرابي الذي عاده من الحمى: "لا بأس طهور ــ إن شاء الله ــ "

(4)

.

وأخبر عن سليمان بن داود أنه قال: "لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله، فقال له المَلَك: قُل: إن شاء الله. فلم يقل، فطاف عليهن جميعًا، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل. وايم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون"

(5)

.

وقال: "مَن حَلَف فقال: إن شاء الله، فإن شاء مضى، وإن شاء رجع غير

(1)

أخرجه البخاري (1589)، ومسلم (1314) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه مسلم (2873) من حديث أنس.

(3)

أخرجه مسلم (681)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(350) ــ واللفظ له ــ من حديث أبي قتادة.

(4)

أخرجه البخاري (3616) من حديث ابن عباس.

(5)

أخرجه البخاري (3424)، ومسلم (1654) من حديث أبي هريرة.

ص: 160

حَنِث"

(1)

.

وقال: "لأغزونَّ قريشًا"، ثم قال في الثالثة:"إن شاء الله"

(2)

.

وقال: "ألا مشمّر للجنة؟ " فقال الصحابة: نحن المشمّرون لها يا رسول الله. فقال: "قولوا: إن شاء الله"

(3)

.

وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، قال الحسن:"إذا نسيت أن تقول: إن شاء الله"

(4)

.

وهذا هو الاستثناء الذي كان يجوّزه ابن عباس متراخيًا

(5)

، ويتأول عليه الآية، لا الاستثناء في الإقرار واليمين والطلاق والعِتَاق، وهذا من كمال علم ابن عباس وفقهه في القرآن.

(1)

أخرجه أبو داود (3262)، والترمذي (1531) وحسنه، والنسائي (3793)، وابن ماجه (2105)، وصححه ابن حبان (4340)، واختلف في إسناده وقفًا ورفعًا، انظر:"العلل" للدارقطني (2986).

(2)

أخرجه أبوداود (3285)، وأبو يعلى (2674)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(1928)، وابن حبان (4343) من طرق عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس به، واضطرب فيه سماك وصلًا وإرسالًا، ورجح غير واحد من الحفاظ إرساله، انظر:"العلل" لابن أبي حاتم (1322)، "الكامل"(3/ 532).

(3)

أخرجه ابن ماجه (4332)، وابن أبي عاصم في "الجهاد"(1)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(2)، وإسناده ضعيف، مداره على الضحاك المعافري مجهول، كما في "الميزان"(2/ 327).

(4)

أسنده الطبري (15/ 226)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(366).

(5)

أسنده الطبري (15/ 225)، والطبراني في "الأوسط"(119).

ص: 161

وقد أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصلًا بها، فقال: لأفعلن كذا، أو لا أفعله إن شاء الله؛ أنه لا يحنث إذا خالف ما حلف عليه؛ لأن من أصل أهل الإسلام أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله، فإذا علّق الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة، ولا تجب عليه الكفارة.

ولو ذهبنا نذكر كل حديث أو أثر جاء فيه لفظ المشيئة، وتعليق فعل الربِّ تعالى بها لطال الكتاب جدًّا.

وأما الإرادة فورودها في نصوص القرآن والسنة معلوم أيضًا، كقوله تعالى:{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82]، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ} [البقرة: 185]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، وقول نوح:{(33) وَلَا نُصْحِيَ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ} [هود: 34]، وقوله:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، وقوله:{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]، وقوله:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27 - 28].

وأخبر أنه إذا لم يرد تطهير قلوب عباده لم يكن لهم سبيل إلى تطهيرها،

ص: 162

فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].

وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج: 16]، وقال: {إِنَّ

(1)

اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، وقال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، وقوله:{فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17]، وقوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، وقوله:{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17]، وقول صاحب يس:{(22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا} [يس: 23]، وقوله:{أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ إِللَّهِ إِنء أَرَادَنِيَا للَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتٌ رَّحْمَتَهُ} [الزمر: 38]، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 176]، وقوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18].

والنصوص النبوية في إثبات إرادة الله سبحانه أكثر من أن تحصر، كقوله:"مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"

(2)

، "من يرد الله به خيرًا يُصِب منه"

(3)

،

(1)

"د""م": (وإن).

(2)

أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037) من حديث معاوية.

(3)

أخرجه البخاري (5645) من حديث أبي هريرة.

ص: 163

"إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق"

(1)

، "إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها، وإذا أراد الله هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأقر عينه بهلكتها"

(2)

، "إذا أراد الله بعبد خيرًا عجَّل له العقوبة في الدنيا"، "إذا أراد الله بعبد شرًّا أمسك عنه بذنبه، حتى يوافي به يوم القيامة كأنه عَيْر"

(3)

، "إذا أراد الله قَبْض عبد بأرض جعل له إليها حاجة"

(4)

، "إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم باب الرفق"

(5)

، "إذا أراد الله بقوم عذابًا أصاب مَن كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم"

(6)

.

والآثار النبوية في ذلك أكثر من أن نستوعبها.

فصل

وههنا أمر يجب التنبيه عليه، والتنبه له، وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة

(1)

أخرجه أحمد (24414)، وأبو داود (2932)، والنسائي (4204) من حديث عائشة، وصححه ابن حبان (4494).

(2)

أخرجه مسلم (2288) من حديث أبي موسى.

(3)

هذا وسابقه جزء من حديث أخرجه بنحوه أحمد (16806)، والطبراني في "الكبير"(11842) من حديث عبد الله بن مغفل، وصححه ابن حبان (2911).

وقوله: "كأنه عير" أراد جبل عير بالمدينة، شبه عظم ذنوبه به، وقيل: العير هنا الحمار الوحشي، انظر:"النهاية في الغريب"(3/ 328).

(4)

أخرجه أحمد (15539)، والترمذي (2147) من حديث يسار بن عبد، وصححه الترمذي، وابن حبان (6151).

(5)

أخرجه أحمد (24734)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 416) من حديث عائشة.

(6)

أخرجه البخاري (7108)، ومسلم (2879) من حديث ابن عمر، وفيهما:"يبعثون على أعمالهم"، ولفظ المؤلف أخرجه أبو يعلى (5696) وغيره.

ص: 164

تعرض لمن لم يُحط به علمًا.

وهو أن الله سبحانه له الخلق والأمر، وأمره سبحانه نوعان: أمرٌ كوني قدري، وأمر ديني شرعي.

فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني، ولذلك تتعلق بما يحبه وبما يكرهه، كله داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يبغضه، وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها، فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله.

وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني

(1)

، وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله، فما وُجِد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعًا، فهو محبوب للربّ واقعٌ بمشيئته، كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين. وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني، ولم تتعلق به مشيئته. وما وُجِد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته، ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني. وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته.

فلفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى: إرادة كونية فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية فتكون هي المحبة.

إذا عُرِف هذا؛ فقوله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، وقوله:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقوله:{الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ} [البقرة: 185]، لا يناقض نصوص القدر، والمشيئة العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته

(1)

زاد سهوًا في "م": "وشرعه الديني".

ص: 165

وقضائه وقدره؛ فإن المحبة غير

(1)

المشيئة، والأمر غير

(2)

الخلق.

ونظير هذا لفظ الأمر، فإنه نوعان: أمر تكوين، وأمر تشريع، والثاني قد يُعصى ويخالَف، بخلاف الأول، فقوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16]، لا يناقض قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، ولا حاجة إلى تكلّف تقدير: أمرنا مترفيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها، بل الأمر ههنا أمر تكوين وتقدير لا أمر تشريع؛ لوجوه:

أحدها: أن المستعمل في مثل هذا التركيب أن يكون ما بعد الفاء هو المأمور به، كما تقول: أمرته فقام، وأمرته فأكل، كما لو صرح بلفظة "افعل"، كقوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: 34]، وهذا كما تقول: دعوته فأقبل، قال تعالى:{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52].

الثاني: أن الأمر بالطاعة لا يختص بالمترفين، فلا يصح حمل الآية عليه، بل تسقط فائدة ذكر المترفين؛ فإن جميع المبعوث إليهم مأمورون بالطاعة، فلا يصح أن يكون أَمْر المترفين علة إهلاك جميعهم.

الثالث: أن هذا النسق العجيب، والتركيب البديع، مقتضٍ ترتب ما بعد الفاء على ما قبلها ترتب المسبَّب على سببه، والمعلول على علته. ألا ترى أن الفسق علة "حق القول عليهم"، و"حق القول عليهم" علة لتدميرهم،

(1)

"م": "عين".

(2)

"د""م": "عين" تصحيف، وجاءت على الصواب في "ج"، هذا والأشبه بسياق الجملة وما بعدها أن تكون:"والإرادة غير الخلق".

ص: 166

فهكذا الأمر سبب لفسقهم ومقتضٍ له، وذلك هو أمر التكوين لا التشريع.

الرابع: أن إرادته سبحانه لإهلاكهم إنما كانت بعد معصيتهم ومخالفتهم لرسله، فمعصيتهم ومخالفتهم قد تقدمت، فأراد الله سبحانه هلاكهم فعاقبهم بأن قدّر عليهم الأعمال التي تحتّم معها هلاكهم.

فإن قيل: فمعصيتهم السابقة سببٌ لهلاكهم، فما الفائدة في قوله:{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} ، وقد تقدم الفسق منهم؟

قيل: المعصية السابقة ــ وإن كانت سببًا للهلاك ــ، لكن يجوز تخلف الهلاك عنها ولا يتحتم، كما هو عادة الربّ تعالى المعلومة في خلقه: أنه لا يحتم هلاكهم بمعاصيهم، فإذا أراد هلاكهم ولابُدَّ أحدث سببًا آخر يتحتم معه الهلاك.

ألا ترى أن ثمودًا لم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أخرج لهم الناقة فعقروها، فأهلكوا حينئذ.

وقوم فرعون لم يهلكهم بكفرهم السابق بموسى حتى أراهم الآيات المتتابعات، واستحكم بغيهم وعنادهم، فحينئذ أهلكوا.

وكذلك قوم لوط لما أراد إهلاكهم أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف، فقصدوهم بالفاحشة، ونالوا من لوط وتواعدوه

(1)

.

وكذلك سائر الأمم إذا أراد الله هلاكها أحدث لها بغيًا وعدوانًا وظلمًا

(1)

كذا في الأصول: "تواعدوه"، والأشبه بالسياق:"توعّدوه"؛ فإن الأولى تستعمل في الوعد بالخير، والثانية للتهديد، انظر:"تاج العروس"(9/ 308 - 309).

ص: 167

فأخذها على أثره.

وهذه عادته مع عباده عمومًا وخصوصًا، فيعصيه العبد وهو يحلم عنه ولا يعاجله، حتى إذا أراد أخذه قَيَّضَ له عملًا يأخذه به مضافًا إلى أعماله الأُوَل، فيظن الظان أنه أخذه بذلك العمل وحده، وليس كذلك، بل حق عليه القول بذلك العمل، وكان قبل ذلك لم يحق عليه القول، فأعماله الأُوَل تقتضي ثبوت الحق عليه، ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين، ولم يُمضِ الحكم، فإذا عمل بعد ذلك ما يقرر غضب الربّ عليه أمضى حكمه عليه وأنفذه.

قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله، ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقرَّ واستحكم عليهم؛ إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم، فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضبُ واستحكم، فحلت العقوبة.

وهذا الموضع من أسرار القرآن، وأسرار التقدير الإلهي، وفِكْر العبد فيه من أنفع الأمور له؛ فإنه لا يدري أي المعاصي هي الموجبة التي يتحتم عندها عقوبته فلا يُقال بعدها، والله المستعان.

وسنعقد لهذا الفصل بابًا في الفرق بين القضاء الكوني والديني، نشبع الكلام فيه ـ إن شاء الله ـ لشدة الحاجة إليه

(1)

؛ إذ المقصود في هذا الباب ذِكْرُ مشيئة الربّ تعالى، وأنها الموجبة لكل موجود، كما أن عدم مشيئته موجب

(1)

الباب التاسع والعشرون (2/ 377).

ص: 168

لعدم وجود الشيء، فهما الموجبتان، ما شاء الله وجب وجوده

(1)

، وما لم يشأ وجب عدمه وامتناعه، وهذا أمر يعم كل مقدور من الأعيان والأفعال والحركات والسكنات.

فسبحانه أن يكون في مملكته ما لا يشاء، أو أن يشاء شيئًا فلا يكون، وإن كان فيها ما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان يحب الشيء فلا يكون لعدم مشيئته له، ولو شاءه لوُجِد.

* * * *

(1)

من قوله: "كما أن عدم" إلى هنا ساقط من "م".

ص: 169