الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقالت القدرية: هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالًا، وليس للربّ صُنْع فيه، ولا هو خالق فعله، ولا مكوّنه، ولا مريد له.
وقالت الجبرية: الكَسْب اقتران الفعل بالقدرة الحادثة، من غير أن يكون لها فيه أثر.
وكلا الطائفتين فرّق بين الخَلْق والكسب، ثم اختلفوا فيما وقع به الفرق.
فقال الأشعري في عامة كتبه: معنى الكَسْب: أن يكون الفعل بقدرة مُحدَثة، فمن وقع منه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة مُحدَثة فهو مُكتسِب.
وقال قائلون: من يفعل بغير آلة ولا جارحة فهو خالق، ومن يحتاج في فعله إلى الآلات والجوارح فهو مُكتسِب، وهذا قول الإسكافي وطوائف من المعتزلة.
قال
(1)
: "واختلفوا
هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة
؟
فقالت المعتزلة كلُّها إلا الناشئ
(2)
: إن الإنسان فاعل مُحدِث ومُخْتَرِع ومنشئ على الحقيقة دون المجاز.
وقال الناشئ: الإنسان لا يفعل في الحقيقة، ولا يُحدِث في الحقيقة،
(1)
أي الأشعري.
(2)
عبد الله بن محمد أبو العباس الناشئ الشاعر من كبار المعتزلة (293 هـ)، "تاريخ الإسلام"(6/ 966).
وكان [لا]
(1)
يقول: إن البارئ أحدث كسب الإنسان، قال: فلَزمَه مُحدَث لا لمُحدِث في الحقيقة، ومفعول لا لفاعل
(2)
في الحقيقة"
(3)
.
قلت: وجه إلزامه ذلك أنه قد أعطى أن الإنسان غير فاعل لفعله، وفعله مُحدَث مفعول، وليس هو فعلًا لله، ولا فعلًا للعبد، فلزمه مفعول من غير فاعل.
ولعمر الله؛ إن هذا الإلزام لازم لأبي الحسن
(4)
وللجبرية؛ فإن عندهم الإنسان ليس بفاعل حقيقة، والفاعل هو الله، وأفعال الإنسان قائمة به لم تقم بالله، فإذا لم يكن الإنسان فاعلها مع قيامها به، فكيف يكون الله سبحانه هو فاعلها؟! ولو كان هو فاعلها لعادت أحكامها عليه، واشتُقّت له منها أسماء، وذلك ممتنع مستحيل على الله، فيلزمك أن تكون أفعالًا لا فاعل لها؛ فإن العبد ليس بفاعل عندك، ولو كان الربّ فاعلًا لها لاشتُقّت له منها أسماء، وعاد حكمها عليه.
فإن قيل: فما تقولون أنتم في هذا المقام؟
قلنا: لا نقول بواحد من القولين، بل نقول: هي أفعال للعباد حقيقة ومفعولة للرب، فالفعل عندنا غير المفعول، وهو إجماع من أهل السنة، حكاه الحسين بن مسعود البغوي وغيره
(5)
، فالعبد فَعَلها حقيقة، والله
(1)
زيادة لازمة من مصدر النقل لإقامة السياق.
(2)
"م": "لا بمحدث .. لا بفاعل"، وما في النسخ الأخرى موافق للمصدر.
(3)
"مقالات الإسلاميين"(539).
(4)
يعني الأشعري.
(5)
لم أهتد إلى موضعه في مؤلفات البغوي، وثمة نقل في "شرح السنة" (1/ 186) عن سلف الأمة قولهم في القرآن: إنه كلام الله لا خالق ولا مخلوق الخ، وقد نقل شيخ الإسلام في عدة مواضع من كتبه نحوه عن البغوي كما في "الرد على المنطقيين"(230) و"درء التعارض"(2/ 264)، والله أعلم.
خالقه، وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة، وخالق فاعليّته.
وسر المسألة: أن العبد فاعل مُنْفَعِل باعتبارين، بل هو مُنْفَعِلُ فاعليّته، فربه تعالى هو الذي جعله فاعلًا بقدرته ومشيئته، وأقدره على الفعل، وأحدث له المشيئة التي يفعل بها.
قال الأشعري: "وكثير من أهل الإثبات يقولون: إن الإنسان فاعل في الحقيقة بمعنى: مُكْتَسِب، ويمنعون أنه مُحْدِث"
(1)
.
قلت: هؤلاء وقفوا مع ألفاظ الكتاب والسنة، فإنهما مملوآن من نسبة الأفعال إلى العبد باسمها العام وأسمائها الخاصة، فالاسم العام كقوله تعالى:" تَعْمَلُونَ، تَفْعَلُونَ، مَا "، والأسماء الخاصة:" الَّذِينَ يُقِيمُونَ، الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ، بِهِ، وَيَخَافُونَ، يَتُوبُونَ، الْكَافِرِينَ ".
وأما لفظ الإحداث فلم يجئ إلا في الذم، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله من أحدث حَدَثًا، أو آوى مُحْدِثًا"
(2)
، فهذا ليس بمعنى الفعل والكسب.
وكذلك قول عبد الله بن مغفّل لابنه: "إياك والحدث في الإسلام"
(3)
.
(1)
"مقالات الإسلاميين"(540).
(2)
أخرجه مسلم (1978)، وأبو عوانة (7844) ـ واللفظ له ـ من حديث علي بن أبي طالب.
(3)
أخرجه أحمد (20559)، والطحاوي في "شرح المعاني"(1196).
ولا يمتنع إطلاقه على فعل الخير مع التقييد، كما قال بعض السلف:"إذا أَحْدَثَ الله لك نعمة فأحْدِثْ لها شكرًا، وإذا أَحْدَثْتَ ذنبًا فأحْدِثْ له توبة"
(1)
.
ومنه قوله: هل أَحْدَثْتَ توبة؟ وأحْدِثْ للذنب استغفارًا.
ولا يلزم من ذلك إطلاق اسم المُحدِث عليه، والإحداث على فعله.
قال الأشعري: "وبلغني أن بعضهم أطلق في الإنسان أنه مُحدِث على الحقيقة بمعنى: مُكْتَسِب"
(2)
.
قلت: ههنا ألفاظ وهي: فاعل، وعامل، ومُكْتَسِب، وكاسب، وصانع، ومُحْدِث، وجاعل، ومؤثِّر، ومنشئ، وموجِد، وخالق، وبارئ، ومصوِّر، وقادر، ومريد.
وهذه الألفاظ ثلاثة أقسام:
قسم لم يُطلق إلا على الربّ سبحانه، كالبارئ والبديع والمبدِع.
وقسم لا يُطلق إلا على العبد، كالكاسب والمُكْتَسِب.
وقسم وقع إطلاقه على الرب والعبد، كاسم: صانع، وفاعل، وعامل، ومنشئ، ومريد، وقادر.
وأما الخالق والمصوِّر فإنِ استُعْمِلا مطلقيَن غير مقيدَين لم يُطلقا إلا على الربّ سبحانه، كقوله:{الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]، وإن
(1)
لم أقف عليه.
(2)
"مقالات الإسلاميين"(540).
استُعْمِلا مقيّدَين أُطْلِقا على العبد، كما يقال لمن قدّر شيئًا في نفسه: إنه خلقه.
قال:
ولأنت تَفْري ما خلقتَ وبعـ
…
ـض القوم يخلق ثم لا يَفْري
(1)
أي: لك قدرة تمضي وتنفذ بها ما قدّرته في نفسك، وغيرك يقدّر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها.
وبهذا الاعتبار صحّ إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، أي: أحسن المصوّرين والمقدّرين.
والعرب تقول: قدّرت الأَدِيم وخلقته إذا قسته لتقطع منه مَزَادة أو قربة ونحوها.
قال مجاهد: "يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين"
(2)
.
وقال الليث: "رجلٌ خالق، أي: صانع، وهن الخالقات: للنساء"
(3)
.
وقال مقاتل: "يقول الله تعالى: هو أحسن خلقًا من الذين يخلقون التماثيل وغيرها، التي لا يتحرك منها شيء"
(4)
.
وأما البارئ فلا يصح إطلاقه إلا عليه سبحانه؛ فإنه الذي برأ الخليقة وأوجدها بعد عدمها، والعبد لا تتعلق قدرته بذلك؛ إذ غاية مقدوره التصرف
(1)
البيت لزهير، وقد سلفت نسبته في (182).
(2)
أسنده الطبري (17/ 25).
(3)
انظر: "تهذيب اللغة"(7/ 25).
(4)
"تفسير مقاتل"(3/ 153)، وانظر:"البسيط"(15/ 542)، والمؤلف صادر عنه في هذه النقول.
في بعض صفات ما أوجده الربُّ تعالى وبرأه، وتغييرها من حال إلى حال على وجه مخصوص لا تتعدّاه قدرته.
وليس من هذا: بريت القلم؛ لأنه معتل لا مهموز. ولا: برأت من المرض؛ لأنه فعل لازم غير متعدّ.
وكذلك مُبدِع الشيء وبديعه لا يصح إطلاقه إلا على الربِّ تعالى، كقوله:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]، والإبداع: إيجاد المُبدَع على غير مثال سبق، والعبد يُسمّى: مُبتدِعًا لكونه أحدث قولًا لم تمضِ به سنة، ثم يقال لمن اتبعه عليه: مُبتدِع أيضًا.
وأما لفظ المُوجِد، فلم يقع في أسمائه سبحانه، وإن كان هو المُوجِد على الحقيقة، ووقع في أسمائه الواجد، وهو بمعنى: الغني الذي له الوُجْد.
وأما المُوجِد فهو مُفْعِل من أوجد، وله معنيان:
أحدهما: أن يجعل الشيء موجودًا، وهو تعدية وَجَدَ وأوجده.
قال الجوهري: "وجد الشيء عن عدم فهو موجود، مثل حُمّ، فهو محموم. وأوجده الله، ولا يقال: وجده"
(1)
.
والمعنى الثاني: أوجده: جعل له جِدَةً وغِنًى، وهذا يتعدّى إلى مفعولين.
قال في "الصحاح"
(2)
: "أوجده الله مطلوبه، أي: أظفره به، وأوجده، أي: أغناه".
(1)
"الصحاح"(2/ 547).
(2)
"الصحاح"(2/ 547).
قلت: وهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون من باب حذْف أحد المفعولين، أي: أوجده مالًا وغنى.
وأن يكون من باب: صَيّره واجدًا، مثل أغناه وأفقره؛ إذا صَيّره غنيًا وفقيرًا.
فعلى التقدير الأول يكون تَعْدية: وَجَد مالًا وغنى، وأوجده الله إيّاه.
وعلى الثاني يكون تَعْدية: وَجَد وُجْدًا إذا استغنى. ومصدر هذا الوُجْد بالضم والفتح والكسر، قال تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6].
فغير ممتنع أن يُطلَق على من يفعل بالقدرة المُحدَثة أنه أوجد مقدوره؛ كما يُطلَق عليه أنه فعله وعمله وصنعه وأحدثه، لا على سبيل الاستقلال.
وكذلك لفظ المؤثِّر، لم يرد إطلاقه في أسماء الربِّ، وقد وقع إطلاق الأثر والتأثير على فعل العبد، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].
قال ابن عباس: "ما أثروا من خير أو شر"
(1)
.
فسمى ذلك آثارًا؛ لحصوله بتأثيرهم.
ومن العجب أن المتكلمين يمتنعون من إطلاق التأثير والمؤثِّر على من أُطلِق عليه في القرآن والسنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني سَلِمة، ديارَكم تُكتب
(1)
أورده في "البسيط"(18/ 460).
آثارُكم"
(1)
، أي: الزموا ديارَكم، ويخصّونه بمن لم يقع إطلاقه عليه في كتاب ولا سنة، وإن استُعمِل في حقه الإيثار والاستئثار، كما قال إخوة يوسف:{تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91].
وفي الأثر: "إذا استأثر الله بشيء فَالْهَ عنه"
(2)
.
وقال الناظم:
استَأثَرَ اللهُ بالثَّنَاء وبالحَمْـ
…
ـدِ وَوَلَّى الملامَةَ الرّجُلا
(3)
ولما كان التأثير تفعيلًا من أثَّرت في كذا تأثيرًا، فأنا مُؤثِّر؛ لم يمتنع إطلاقه على العبد، قال في "الصحاح"
(4)
: "التأثير إبقاء الأثر في الشيء".
وأما لفظ الصانع فلم يرد في أسماء الربِّ تعالى، ولا يمكن وروده
(5)
؛ فإن الصانع مَنْ صَنَع شيئًا، عدلًا كان أو ظلمًا، سفهًا أو حكمة، جائزًا أو غير جائز. وما انقسم مسمّاه إلى مدح وذم لم يجئ اسمه المطلق في الأسماء
(1)
تقدم تخريجه في (136).
(2)
يروى هذا الأثر عن عمر بن الخطاب كما في "حلية الأولياء"(5/ 326)، وعن ابنه عبد الله أيضًا كما في "تاريخ دمشق"(31/ 154)، وعدّه المعافى في "الجليس"(2/ 25) من أمثال العرب.
(3)
هو للأعشى في "الديوان"(233)، ولفظه ـ وهو المشهور ـ:"استأثر الله بالوفاء وبالعدل"، وفي "الحيوان" (3/ 483):"استأثر الله بالبقاء وبالحمد"، وقد أورده المصنّف على أوجه في عدد من مؤلفاته، انظر: حاشية تحقيق الإصلاحي لـ "طريق الهجرتين"(1/ 11).
(4)
"الصحاح"(2/ 576).
(5)
في الأصول: "ورودها" تحريف.
الحسنى، كالفاعل والعامل والصانع والمريد والمتكلم؛ لانقسام معاني هذه الأسماء إلى محمود ومذموم، بخلاف العالم والقادر والحي والسميع والبصير.
وقد سمّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم العبدَ صانعًا.
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك، عن رِبْعِي بن حِرَاش، عن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته"
(1)
.
وقد أطلق سبحانه على فعله اسم الصُّنْع، فقال:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وهو منصوب على المصدر؛ لأن قوله تعالى:{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسِبُهَا جَامِدَةً وَهْيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، يدل على الصَنْعة.
وقيل: هو نَصْبٌ على المفعولية، أي: انظروا صُنْع الله.
فعلى الأول: يكون {صُنْعَ اللَّهِ} مصدرًا بمعنى الفعل.
وعلى الثاني: يكون بمعنى المصنوع المفعول، فإنه الذي يمكن وقوع النظر والرؤية عليه.
وأما الإنشاء فإنما وقع إطلاقه عليه سبحانه فعلًا، كقوله:{وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12]، وقوله:{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} [المؤمنون: 19]، وقوله:{وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61]، وهو كثير، ولم يرد لفظ المُنشِئ.
(1)
تقدم تخريجه في (359).
وأما العبد فيُطلَق عليه الإنشاء باعتبار آخر، وهو شروعه في الفعل وابتداؤه له، تقول: أنشأ يحدّثنا، وأنشأ السير، فهو منشئ لذلك.
وهذا إنشاء مقيّد، وإنشاء الربّ إنشاء مطلق.
وهذه اللفظة تدور على معنى الابتداء، أنشأه الله، أي: ابتدأ خلقه، وأنشأ يفعل كذا: ابتدأ، وفلان يُنْشِئ الأحاديث، أي: يبتدئ وضعَها، والناشئ أول ما ينشأ من السحاب.
قال الجوهري: "وناشئة الليل أول ساعاته"
(1)
.
قلت: هذا قد قاله غير واحد من السلف: إن ناشئة الليل أوله التي منها ينشأ الليل، والصحيح أنها لا تختص بالساعة الأولى، بل هي ساعاته ناشئة بعد ناشئة، كلما انقضت ساعة نشأ بعدها أخرى.
قال أبو عبيدة: "ناشئة الليل: ساعاته وآناؤه ناشئة بعد ناشئة"
(2)
.
قال الزَّجّاج: "ناشئة الليل: كلّ ما نشأ منه، أي: حدث منه، فهو ناشئة"
(3)
.
قال ابن قتيبة: "هي آناء الليل وساعاته، مأخوذة من نَشَأَتْ تنشأ نشْأً، أي: ابتدأت وأقبلت شيئًا بعد شيء، وأنشأها الله فنشأت"
(4)
.
(1)
"الصحاح"(1/ 78).
(2)
"مجاز القرآن"(2/ 273).
(3)
"معاني القرآن وإعرابه"(5/ 240).
(4)
"تأويل مشكل القرآن"(365).
والمعنى أن ساعات الليل الناشئة، وقول صاحب "الصحاح" منقول عن كثير من السلف.
قال علي بن الحسين: "ناشئة الليل: ما بين المغرب إلى العشاء"
(1)
.
وهذا قول أنس، وثابت، وسعيد بن جبير، والضحّاك، والحَكَم، واختيار الكسائي، قالوا: ناشئة الليل أوله
(2)
، وهؤلاء راعوا معنى الأولية في الناشئة.
وفيها قول ثالث: أن الليل كله ناشئة، وهذا قول عكرمة، وأبي مِجْلَز، ومجاهد، والسُّدِّي، وابن الزبير، وابن عباس في رواية.
قال ابن أبي مُلَيْكة: سألت ابن الزبير وابن عباس عن ناشئة الليل، فقالا: الليل كلّه ناشئة
(3)
.
فهذه أقوال من جعل ناشئة الليل زمانًا.
وأما من جعلها فعلًا ينشأ بالليل؛ فالناشئة عندهم اسم لما يُفعل بالليل
(1)
أسنده الثعلبي في "الكشف والبيان"(10/ 61)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4756).
(2)
قولا أنس وسعيد أسندهما ابن أبي شيبة في "المصنف"(5977، 5975)، وأورد الأزهري في "تهذيب اللغة"(11/ 419) قول الضحاك ـ وفي "جامع البيان"(23/ 368) عنه ما يوافق القول الثالث ـ والحكم واختيار الكسائي، ولم أقف على نسبته لثابت، قال في "البسيط" (22/ 358) بعد حكاية القول:"وهو قول أنس. روى ثابت أنه كان يصلي ما بين المغرب والعشاء، ويقول: هي: (ناشئة الليل) "، فلعل المصنف نسب القول إلى ثابت سهوًا مع أنه هو الراوي عن أنس فحسب، والله أعلم.
(3)
أقوال عكرمة وأبي مجلز ومجاهد أسندها الطبري (23/ 367)، وفي "غريب الحديث" للحربي (2/ 879) نسبته إلى السدي.
من القيام، هذا قول ابن مسعود، ومعاوية بن قُرّة، وجماعة، قالوا: ناشئة الليل: قيام الليل
(1)
.
وقال آخرون ــ منهم عائشة ــ: إنما يكون القيام ناشئة إذا تقدمه نوم، قالت عائشة:"ناشئة الليل القيام بعد النوم"
(2)
.
وهو قول ابن الأعرابي، قال:"إذا نمتَ من أول الليلة نومة، ثم قمتَ فتلك النشأة، ومنه ناشئة الليل"
(3)
.
فعلى قول الأولين: "ناشئة الليل" إضافة بمعنى "من"، إضافة نوع إلى جنسه، أي: ناشئة منه.
وعلى قول هؤلاء: إضافة بمعنى "في"، أي: طاعة ناشئة فيه.
والمقصود: أن الإنشاء ابتداء، سواء تقدمه مثله كالنشأة الثانية، أو لم يتقدمه كالنشأة الأولى.
وأما الجَعْل فقد أُطلق على الله سبحانه بمعنيين:
أحدهما: الإيجاد والخلق.
والثاني: التصيير.
فالأول يتعدى إلى مفعول، كقوله:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]،
(1)
قول ابن مسعود أسنده ابن أبي شيبة في "المصنف"(30592)، وقول ابن قرة نسبه إليه المروزي في "قيام الليل" ـ مختصره ـ (40).
(2)
أورده الثعلبي في "الكشف والبيان"(10/ 61).
(3)
أورده الواحدي في "البسيط"(22/ 359)، والمصنف مقتبس في هذا الموضع منه.
والثاني أكثر ما يتعدى إلى مفعولين، كقوله:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]، وأُطلق على العبد بالمعنى الثاني خاصّة، كقوله:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} ، وغالب ما يُستعمل في حق العبد في جَعْل التسمية والاعتقاد، حيث لا يكون له صُنْع في المجعول، كقوله:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، وقوله:{(58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا} [يونس: 59]، وهذا متعدٍّ إلى واحد، وهو جَعْل اعتقادٍ وتسمية.
وأما الفعل والعمل فإطلاقه على العبد كثير، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا} [المائدة: 79]، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62]، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].
وأطلقه على نفسه فعلًا واسمًا، فالأول كقوله:{وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، والثاني كقوله:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]، وقوله:{وَكُنَّا فَاعِلِينَ} في موضعين من كتابه: أحدهما قوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79]، والثاني قوله:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].
فتأمل قوله: {كُنَّا فَاعِلِينَ} في هذين الموضعين المتضمنين للصنع العجيب الخارج عن العادة: كيف تجده كالدليل على ما أخبر به، وأنه لا يستعصي على الفاعل حقيقة، أي: شأننا الفعل، كما لا يخفى الجهر والإسرار بالقول على من شأنه العلم والخبرة، ولا تصعب المغفرة على من
شأنه أن يغفر الذنوب، ولا الرزق على من شأنه أن يرزق العباد.
وقد وقع الزَّجّاج على هذا المعنى بعينه، فقال:"و {كُنَّا فَاعِلِينَ} أي: قادرين على فعل ما نشاء"
(1)
.
* * * *
(1)
"معاني القرآن وإعرابه"(3/ 400) وعبارته:" أي: وكنا نقدر على ما نريده".