المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض

- ‌الباب الثانيفي تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالثفي ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابعفي ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامسفي ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادسفي ذكر التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابعفي أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب

- ‌الباب الثامنفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسعفي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌المخاصمون في القدر نوعان:

- ‌الباب العاشرفي مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌ لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:

- ‌المقدور يكتنفه أمران:

- ‌الباب الحادي عشرفي ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشرفي ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشرفي ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها

- ‌الباب الرابع عشرفي الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشرفي الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى

- ‌إن قيل: فالإضراب بـ "بل" على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه

- ‌كيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه

- ‌كيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر

- ‌ما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها

- ‌هل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله

- ‌ما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه

- ‌هل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي

- ‌ما ذنب من لا يصلح

- ‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته

- ‌ العبد فقير إلى الله من كل وجه، وبكل اعتبار

- ‌الباب السابع عشرفي الكَسْب والجَبْر ومعناهما لغة واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا، وما دلّ عليه السمع والعقل من ذلك

- ‌ هل يقال: إن الإنسان فاعل على الحقيقة

- ‌الباب الثامن عشرفي فَعَل وأفعلَ في القضاء والقدر والكسب، وذكر الفعل والانفعال

- ‌ الربّ تعالى فاعلٌ غير مُنْفعِل، والعبد فاعل مُنْفعِل

- ‌الباب التاسع عشرفي ذِكْر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌ ما يصدر عن العبد من الأفعال ينقسم أقسامًا متعددة، بحسب قدرته وعلمه وداعيه وإرادته:

الفصل: ‌الباب السادس عشرما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

‌الباب السادس عشر

ما جاء من السنة في تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

قال البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد"

(1)

: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك، عن رِبْعِي بن حِرَاش، عن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته"، قال البخاري: وتلا بعضهم عند ذلك: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].

حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شَقِيق، عن حذيفة نحوه موقوفًا عليه.

وأما استشهاد بعضهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، فحَمَلَ "ما" على المصدر، أي: خلقكم وأعمالكم، والظاهر خلاف هذا، وأنها موصولة، أي: خلقكم وخلق الأصنام التي تعملونها، فهو يدل على خلق أعمالهم من جهة اللزوم؛ فإن الصنم اسم للآلة التي حل فيها العمل المخصوص، فإذا كان مخلوقًا لله كان خلقه متناولًا لمادته وصورته.

قال البخاري: وحدثنا عمرو بن محمد، ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن طاووس، عن ابن عمر

(2)

: "كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على

(1)

(2/ 66)، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(357)، والبزار (2837)، وصححه الحاكم (85).

(2)

كذا في الأصول: "ابن عمر"، صوابه:"ابن عباس" كما في مصدر الخبر.

ص: 359

خدك"

(1)

.

قال البخاري: وحدثني إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن زياد بن سعد، عن عمرو بن مسلم، عن طاووس قال:"أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس"

(2)

.

ورواه مسلم في "صحيحه"

(3)

عن طاووس، وقال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس"

(4)

.

قال البخاري: وقال ليث: عن طاووس، عن ابن عباس:" {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] حتى العجز والكيس".

قال البخاري: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: "أفعال العباد مخلوقة".

قال البخاري: "حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة"

(5)

.

وقال جابر بن عبد الله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور،

(1)

"خلق أفعال العباد"(2/ 69)، وأخرجه الفريابي في "القدر"(206) وغيره من حديث ابن عباس.

(2)

"خلق أفعال العباد"(2/ 68) إلا أنه في مطبوعته حتى قول طاووس: "كل شيء بقدر"، وما بعده كسياق مسلم الآتي، وهو بمثل سياق المؤلف في "الإبانة الكبرى"(1663).

(3)

(2655).

(4)

من قوله: "ورواه مسلم" إلى هنا ساقط من "م".

(5)

"خلق أفعال العباد"(2/ 70).

ص: 360

كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول:"إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به"، قال:"ويسمي حاجته"، قال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"

(1)

.

فقوله: "إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر" صريحٌ في أنه الفعل الاختياري المتعلق بإرادة العبد.

وإذا عُلِم ذلك، فقوله:"أستقدرك بقدرتك" أي: أسألك أن تقدرني على فعله بقدرتك، ومعلوم أنه لم يسأل القدرة المُصَحِّحة التي هي سلامة الأعضاء وصحة البِنْيَة، وإنما سأل القدرة التي توجب الفعل، فعلم أنها مقدورة لله ومخلوقة له، وأكد ذلك بقوله:"فإنك تقدر ولا أقدر" أي: تقدر أن تجعلني قادرًا فاعلًا، ولا أقدر أجعل نفسي كذلك.

وكذلك قوله: "تعلم ولا أعلم" أي: حقيقة العلم بعواقب الأمور، ومآلها والنافع منها والضار عندك، وليس عندي.

وقوله: "يسّره لي، أو اصرفه عني" فإنه طَلَبَ من الله تيسيره إن كان له فيه

(1)

تقدم تخريجه، وهو في الترمذي برقم (480).

ص: 361

مصلحة، وصَرْفه عنه إن كان عليه فيه مفسدة. وهذا التيسير

(1)

والصرف متضمن إلقاء داعية الفعل في القلب، أو إلقاء داعية الترك فيه، ومتى حصلت داعية الفعل حصل الفعل، وداعية الترك امتنع الفعل.

وعند القدرية ترجيح فاعلية العبد على تركه منه، ليس للرب فيه صنع ولا تأثير، فطَلَبُ هذا التيسير منه لا معنى له عندهم؛ فإن تيسير الأسباب التي لا قدرة للعبد عليها موجود، ولم يسأله العبد.

وقوله: "ثم رضِّني به" يدل على أن حصول الرضا ــ وهو فعل اختياري من أفعال القلوب ــ أمر مقدور للرب تعالى، وهو الذي يلقيه في قلب عبده فيجعله راضيًا.

وعند القدرية هو الذي يجعل نفسه راضيًا.

وقوله: "فاصرفه عني واصرفني عنه" صريحٌ في أنه سبحانه هو الذي يصرف عبده عن فعله الاختياري إذا شاء صرفه عنه، كما قال سبحانه في حق يوسف الصديق:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: 24]، وصَرْف السوء والفحشاء هو صَرْف دواعي القلب وميله إليهما، فينصرفان عنه بصَرْف دواعيهما.

وقوله: "واقدر لي الخير حيث كان" يعم الخير المقدور للعبد من طاعاته، وغير المقدور له، فعُلِم أن فعل العبد للطاعة والخير أمر مقدور لله، إن لم يقدره الله لعبده لم يقع من العبد.

ففي هذا الحديث الشفاء في مسألة القدر.

(1)

من قوله: "إن كان له فيه مصلحة" إلى هنا ساقط من "د".

ص: 362

وأمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم الداعي به أن يقدم بين يدي هذا الدعاء ركعتين، عبودية منه بين يدي نجواه، وأن تكونا من غير الفريضة؛ ليتجرد فعلهما لهذا الغرض المطلوب.

ولما كان الفعل الاختياري متوقّفًا على العلم والقدرة والإرادة، لا يحصل إلا بها؛ توسّل الداعي إلى الله بعلمه وقدرته وإرادته التي يؤتيه بها من فضله، وأكد هذا المعنى بتجرده وبراءته من ذلك، فقال:"إنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر"، وأَمَرَ الداعي أن يعلق التيسير والصرف بالشرط ـ وهو علم الله سبحانه ـ تحقيقًا للتفويض إليه، واعترافًا بجهل العبد بعواقب الأمور، كما اعترف بعجزه، ففي هذا الدعاء إعطاء العبودية حقها، وإعطاء الربوبية حقها، وبالله المستعان.

وفي الترمذي

(1)

وغيره من حديث الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت، إنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تبارك وتعاليت".

فقوله: "اهدني" سؤال للهداية المطلقة التي لا يتخلف عنها الاهتداء.

وعند القدرية أن الربّ ــ سبحانه وتعالى عن قولهم ــ لا يقدر على هذه الهداية، وإنما يقدر على هداية البيان والدلالة المشتركة بين المؤمنين والكفار.

(1)

برقم (464)، وأخرجه أحمد (1718)، وأبو داود (1425)، والنسائي (1745)، وابن ماجه (1178)، وصححه ابن خزيمة (1095)، وابن حبان (945).

ص: 363

وقوله: "فيمن هديت" فيه فوائد:

أحدها: أنه سؤال له أن يدخله في جملة المهتدين وزمرتهم ورفقتهم.

الثانية: توسل إليه بإحسانه وإنعامه، أي: إنك قد هديت من عبادك بشرًا كثيرًا فضلًا منك وإحسانًا، فأحسن إليّ كما أحسنت إليهم، كما يقول الرجل للمَلِك: اجعلني من جملة من أغنيتَه وأعطيتَه وأحسنتَ إليه.

الثالثة: أن ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم ولا بأنفسهم، وإنما كان منك، فأنت الذي هديتهم.

وقوله: "وعافني فيمن عافيت" إنما يسأل ربّه العافية المطلقة، وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والإعراض، وفعل ما لا يحبه، وترك ما يحبه، فهذا حقيقة العافية، ولهذا ما سُئل الربّ سبحانه شيئًا أحب إليه من العافية؛ لأنها كلمة جامعة للتخلص من الشرّ كله وأسبابه.

وقوله: "وتولّني فيمن تولّيت" سؤال للتولّي الكامل، ليس المراد به ما فعله بالكافر من خَلْق القدرة وسلامة الآلة وبيان الطريق، فإن كان هذا هو ولايته للمؤمنين فهو ولي الكفار كما هو ولي المؤمنين، وهو سبحانه يتولّى أولياءه بأمور لا توجد في حق الكفار؛ من توفيقهم وإلهامهم وجعلهم مهتدين مطيعين.

ويدل عليه قوله: "إنه لا يذل من واليت"؛ فإنه منصور عزيز غالب بسبب تولّيك له، وفي هذا تنبيه على أن من حصل له ذلّ في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله له، وإلا فمع الولاية الكاملة ينتفي الذل كلّه، ولو سُلّط عليه بالأذى مَن بأقطارها فهو العزيز غير الذليل.

ص: 364

وقوله: "وقني شرَّ ما قضيت" يتضمن أن الشرّ بقضائه، وأنه هو الذي يقي منه.

وفي "المسند"

(1)

وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: "يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أَعِنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، وهذه أفعال اختيارية، وقد سأل الله أن يعينه على فعلها.

وهذا الطلب لا معنى له عند القدرية؛ فإن الإعانة عندهم: الإقدار، والتمكين، وإزاحة الأعذار، وسلامة الآلة، وهذا حاصل للسائل وللكفار أيضًا، والإعانة التي سألها أن يجعله ذاكرًا له، شاكرًا، محسنًا لعبادته، كما في حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه المشهور: "رب، أعنِّي ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي

(2)

، رب اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مِطْواعًا، لك مُخْبِتًا، إليك أوّاهًا منيبًا، رب، تقبل توبتي، واغسل حَوْبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، واهد قلبي، وسدّد لساني، واسلل سَخِيمة صدري" رواه الإمام أحمد في "المسند"، والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"

(3)

، وفيه أحد وعشرون دليلًا، فتأملها.

(1)

برقم (22119)، وأخرجه أبو داود (1522)، والنسائي (1303)، وصححه ابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020).

(2)

من قوله: "واهدني" إلى هنا ساقط من "د".

(3)

تقدم تخريجه في (191).

ص: 365

وفي "الصحيحين"

(1)

أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد انقضاء صلاته: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ"، وكان يقول ذلك الدعاء عند اعتداله من الركوع، ففي هذا نفي الشريك عنه بكل اعتبار، وإثبات عموم الملك له بكل اعتبار، وإثبات عموم الحمد، وإثبات عموم القدرة، وأن الله سبحانه إذا أعطى عبدًا فلا مانع له، وإذا منعه فلا معطي له.

وعند القدرية أن العبد قد يمنع مَن أعطى الله، ويعطي مَن منعه؛ فإنه يفعل باختياره عطاءً ومنعًا لم يشأه الله، ولم يجعله معطيًا مانعًا، فيتصور أن يكون لمن أعطى مانع، ولمن منع معطٍ.

وفي الصحيح عنه أن رجلًا سأله أن يدله على عمل يدخل به الجنة، فقال:"إنه ليسير على من يسّره الله عليه"

(2)

، فدلَّ على أن التيسير الصادر من قبله سبحانه يوجب اليسر في العمل، وعدم التيسير يستلزم عدم العمل؛ لأنه ملزومه، والملزوم ينتفي لانتفاء لازمه، والتيسير بمعنى التمكين، وخَلْق العقل، وإزاحة العذر، وسلامة الأعضاء؛ حاصل للمؤمن والكافر، والتيسير المذكور في الحديث أمر آخر وراء ذلك، وبالله التوفيق والتيسير.

(1)

البخاري (844)، ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة.

(2)

جزء من حديث طويل أخرجه أحمد (22016)، والنسائي في "الكبرى"(11330)، والترمذي (2616) وقال:"حسن صحيح"، وابن ماجه (3973)، من حديث معاذ بن جبل، وصححه ابن حبان (214).

ص: 366

وفي "الصحيح"

(1)

عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي موسى: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقد أجمع المسلمون على هذه الكلمة وتلقيها بالقبول، وهي شافية كافية في إثبات القدر، وإبطال قول القدرية.

وفي بعض الحديث إذا قالها العبد قال الله: "أسلم عبدي واستسلم"

(2)

، وفي بعضه:"فوَّض إليّ عبدي"

(3)

.

قال بعض المنتسبين للقدر: لما كانت القدرة بالنسبة إلى الفعل وإلى الترك على السويّة، وما دام الأمر كذلك امتنع صدور الفعل، فإذا رَجَح جانب الفعل على الترك بحصول الدواعي، وإزالة الصوارف حصل الفعل، وهذه القوة هي المشار إليها بقولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وشأن الكلمة أعظم مما قال؛ فإن العالم العلوي والسفلي كله في تحوّل من حال إلى حال، وذلك التحوّل لا يقع إلا بقوة يقع بها التحوّل، فذلك

(4)

الحول وتلك القوة عليه بالله وحده ليست بالتحوّل، فيدخل في هذا كل حركة في العالم العلوي والسفلي، وكل قوة على تلك الحركة، سواء كانت الحركة قسرية أو إرادية أو طبيعية، وسواء كانت من الوسط أو إلى الوسط أو على الوسط، وسواء كانت في الكَمّ أو في الكيف أو في الأين، كحركة النبات،

(1)

البخاري (4205)، ومسلم (2704).

(2)

أخرجه أحمد (7966)، والترمذي (3601)، والنسائي في "الكبرى"(9757) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم (54).

(3)

لم أهتد إليه.

(4)

"م": "وذلك".

ص: 367

وحركة الطبيعة، وحركة الحيوان، وحركة الفَلَك، وحركة النفس والقلب، والقوة على هذه الحركات التي هي حَوْل، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ولما كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي يخفى على أكثر الناس، وكان هذا شأن هذه الكلمة؛ كانت كنزًا من كنوز الجنة، وأوتيها النبي صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش، وكأن قائلها أسلم واستسلم لمن أزمَّة الأمور بيديه، وفوّض إليه.

وفي "المسند" و"السنن"

(1)

عن ابن الديلمي قال: أتيت أبيّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي. فقال: إن الله لو عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير ذلك لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت؛ فكل منهم حدثني بمثل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث حديث صحيح، رواه الحاكم في "صحيحه"، وله شأن عظيم، وهو دالٌّ على أن من تكلم به أعرف الخلق بالله، وأعظمهم له توحيدًا، وأكثرهم له تعظيمًا، وفيه الشفاء التام في باب العدل والتوحيد؛ فإنه لا يزال يجول في نفوس كثير من الناس كيف يجتمع القضاء والقدر، والأمر والنهي؟ وكيف يجتمع العدل والعقاب على المَقْضِي المُقَدَّر الذي لا بدّ للعبد من

(1)

تقدم تخريجه في (196).

ص: 368

فعله؟

ثم سلك كل طائفة في هذا المقام واديًا وطريقًا.

فسلكت الجبرية وادي الجَبْر وطريق المشيئة المحضة التي تُرَجِّح مِثْلًا على مِثْل من غير اعتبار علة، ولا غاية، ولا حكمة.

قالوا: وكل ممكن عدل، والظلم هو الممتنع لذاته، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لكان متصرفًا في ملكه، والظلم تصرف القادر في غير ملكه، وذلك مستحيل عليه سبحانه.

قالوا: ولما كان الأمر راجعًا إلى محض المشيئة لم تكن الأعمال سببًا للنجاة، فكانت رحمته للعباد هي المستقلة بنجاتهم لا أعمالهم، فكانت رحمته خيرًا من أعمالهم، وهؤلاء راعوا جانب المُلْك، وعطّلوا جانب الحمد، والله سبحانه له المُلْك وله الحمد.

وسلكت القدرية وادي العدل والحكمة، ولم يوفّوه حقه، وعطّلوا جانب التوحيد والمُلْك، وحاروا في هذا الحديث، ولم يدروا ما وجهه، وربما قابله كثير منهم بالتكذيب والردّ له، وأن الرسول لم يقل ذلك.

قالوا: وأيُّ ظلم يكون أعظم من تعذيب من استنفذ أوقات عمره كلّها، واستفرغ قواه في طاعته، وفعل ما يحبّه، ولم يعصه طرفة عين، وكان يعمل بأمره دائمًا، فكيف يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: إن تعذيب هذا يكون عدلًا لا ظلمًا؟!

قالوا: ولا يقال: إن حقّه عليهم وما ينبغي له أعظم من طاعاتهم، فلا تقع تلك الطاعات في مقابلة نعمه وحقوقه، فلو عذبهم لعذبهم بحقّه عليهم؛ لأنهم

ص: 369

إذا فعلوا مقدورهم من طاعته لم يُكلَّفوا بغيره، فكيف يُعذَّبون على ترك ما لا قدرة لهم عليه، وهل ذلك إلا بمنزلة تعذيبهم على كونهم لم يَخْلقوا السماوات والأرض، ونحو ذلك مما لا يدخل تحت مقدورهم؟!

قالوا: فلا وجه لهذا الحديث إلا ردّه، أو تأويله وحمله على معنى يصح، وهو أنه لو أراد تعذيبهم لجعلهم أمة واحدة على الكفر، فلو عذبهم في هذه الحال لكان غير ظالم لهم، وهو لم يقل: لو عذّبهم مع كونهم

(1)

مطيعين له، عابدين له؛ لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ثم أخبر أنه لو عمّهم بالرحمة لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم، ثم أخبر أنه لا يُقبل من العبد عملٌ حتى يؤمن بالقدر، والقدر هو علم الله بالكائنات وحكمه فيها.

ووقفت طائفة أخرى في وادي الحيرة بين القدر والأمر، والثواب والعقاب، فتارة يغلب عليهم شهودُ القدر فيغيبون به عن الأمر، وتارة يغلب عليهم شهودُ الأمر فيغيبون به عن القدر، وتارة يبقون في حيرة وعمى.

وهذا كله إنما سببه الأصول الفاسدة، والقواعد الباطلة التي بنوا عليها، ولو جمعوا بين المُلْك والحمد، والربوبية والإلهية، والحكمة والقدرة، وأثبتوا له الكمال المطلق، ووصفوه بالقدرة التامة الشاملة، والمشيئة العامة النافذة التي لا يوجد كائن إلا بعد وجودها، والحكمة البالغة التي ظهرت في كل موجود= لعلموا حقيقة الأمر، وزالت عنهم الحيرة، ودخلوا إلى الله سبحانه من باب أوسع من السماوات السبع، وعرفوا أنه لا يليق بكماله المقدس إلا ما أخبر به عن نفسه على ألسنة رسله، وأن ما خالفه ظنون كاذبة،

(1)

من قوله: "فلو عذبهم" إلى هنا ساقط من "د".

ص: 370

وأوهام باطلة، تولّدت من بين أفكار باطلة، وآراء مظلمة، فنقول وبالله التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به:

الربّ تبارك اسمه وتعالى جَدّه ولا إله غيره هو المنعم على الحقيقة بصنوف النعم التي لا يحصيها أهل سماواته وأرضه، فإيجادهم نعمة منه، وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه، وإعطاؤهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه، وإدرار الأرزاق عليهم على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة منه، وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه، وإجراء ذكره على ألسنتهم ومحبته ومعرفته على قلوبهم نعمة منه، وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه، وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه، وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعاشهم نعمة منه. وذِكْر نعمه على سبيل التفصيل لا سبيل إليه، ولا قدرة للبشر عليه.

ويكفي أن النّفَس من أدنى نعمه التي لا يكادون يعتدّون بها، وهو أربعة وعشرون ألف نَفَس في كل يوم وليلة، فلله على العبد في النّفَس خاصة أربعة وعشرون ألف نعمة كل يوم وليلة، دع ما عدا ذلك من أصناف نعمه على العبد.

ولكل نعمة من هذه النعم حق من الشكر يستدعيه ويقتضيه، فإذا وُزّعت طاعات العبد كلها على هذه النعم لم يَخْرُج في قسط

(1)

كل نعمة منها إلا جزءًا يسيرًا جدًّا، لا نسبة له إلى قدر تلك النعمة بوجه من الوجوه.

قال أنس بن مالك: "يُنشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه

(1)

"د": "لم يخرج قسط".

ص: 371

ذنوبه، وديوان فيه النعم، وديوان فيه العمل الصالح، فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه فتقوم فتستوعب عمله كله، ثم تقول: أي ربِّ، وعزتك وجلالك ما استوفيت ثمني. وقد بقيت الذنوب والنعم؛ فإذا أراد الله بعبد خيرًا قال: ابنَ آدم، ضعَّفْتُ حسناتك، وتجاوزتُ عن سيئاتك، ووهبتُ لك نعمي فيما بيني وبينك"

(1)

.

وفي "صحيح الحاكم"

(2)

حديث صاحب الرمّانة الذي عَبَدَ الله خمسمائة سنة، يأكل كل يوم رمّانة تخرج له من شجرة، ثم يقوم إلى صلاته، فيسأل ربَّه وقت الأجل أن يقبضه ساجدًا، وأن لا يجعل للأرض عليه سبيلًا حتى يُبعث وهو ساجد، فإذا كان يوم القيامة وقف بين يدي الربّ، فيقول تعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي. فيقول: يا ربِّ، بل بعملي. فيقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي. فيقول: ربِّ، بل بعملي. فيقول الربّ جل جلاله: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله. فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة، وبقيت نعمة الجسد فضلًا عليه. فيقول: أدخلوا عبدي النار. فيُجرّ إلى النار، فينادي: ربِّ، برحمتك، ربِّ، برحمتك أدخلني الجنة. فيقول: رُدّوه. فيوقف بين يديه، فيقول: يا عبدي، من خلقك ولم تكن شيئًا؟ فيقول: أنت يا ربِّ. فيقول: من قوّاك على عبادة خمسمائة سنة؟ فيقول: أنت يا ربِّ. فيقول: من أنزلك في جبل وسط اللُّجَّة؟ وأخرج لك الماء العذب من

(1)

أخرجه البزار (6462)، والدينوري في "المجالسة"(1/ 291).

(2)

برقم (7637)، وأخرجه الخرائطي في "فضيلة الشكر"(59)، والعقيلي في "الضعفاء"(2/ 166)، ومداره على سليمان بن هرم، قال العقيلي:"مجهول بنقل الحديث، وحديثه غير محفوظ"، وبه أعل الحديث جماعة، انظر:"الميزان"(2/ 228).

ص: 372

الماء المالح؟ وأخرج لك كل يوم رمّانة، وإنما تخرج مرّة في السنة؟ وسألتني أن أقبضك ساجدًا ففعلت ذلك بك. فيقول: أنت يا ربِّ. فيقول الله: فذلك برحمتي، وبرحمتي أدخلك الجنة".

رواه من طريق يحيى بن بُكَير، ثنا الليث بن سعد، عن سليمان بن هرم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، والإسناد صحيح، ومعناه صحيح لا ريب فيه.

فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن ينجو أحدٌ منكم بعمله"، وفي لفظ:"لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"

(1)

.

فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجي أحدًا عمُلُه، لا من الأولين ولا من الآخرين، إلا أن يرحمه ربه تبارك وتعالى، فتكون رحمته له خيرًا من عمله؛ لأن رحمته تنجّيه، وعمله لا ينجّيه، فعُلِم أنه سبحانه لو عذّب أهل سماواته وأرضه لعذّبهم ببعض حقه عليهم.

ومما يوضحه: أنه كلما كملت نعمة الله على العبد عظم حقّه عليه، وكان ما يُطَالَب به من الشكر أكثر مما يُطَالَب به مَنْ هو دونه، فيكون حق الله عليه أعظم، وأعماله لا تفي بحقه عليه، وهذا إنما يعرفه حق المعرفة مَنْ عرف الله وعرف نفسه.

هذا كله لو لم يحصل للعبد من الغفلة والإعراض والذنوب ما يكون في قبالة طاعاته، فكيف إذا حصل له من ذلك ما يوازي طاعاته أو يزيد عليها؟!

(1)

تقدم تخريجه في (196).

ص: 373

فإن من حق الله على عبده أن يعبده لا يشرك به شيئًا، وأن يذكره ولا ينساه، وأن يشكره ولا يكفره، وأن يرضى به ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، وليس الرضا بذلك مجرد إطلاق هذا اللفظ، وحاله وإرادته تكذبه وتخالفه، فكيف يرضى به ربًّا مَنْ يتسخّط ما يقضيه له إذا لم يكن موافقًا لإرادته وهواه، فيظل ساخطًا به مُتبَرِّمًا، يرضى وربه غضبان، ويغضب وربّه راض، فهذا إنما رضي بحظه من ربه حظَّ [من] لم يرض

(1)

بالله ربًّا.

وكيف يدّعي الرضا بالإسلام دينًا مَنْ ينبذ أصوله خلف ظهره إذا خالفت بدعته وهواه، وفروعه وراءه إذا لم توافق غرضه وشهوته؟!

وكيف يصح الرضا بمحمد رسولًا لمن لم يحكّمه على ظاهره وباطنه، ويتلقَّ أصول دينه وفروعه من مشكاته وحده؟!

وكيف يرضى به رسولًا من يترك ما جاء به لقول غيره، ولا يترك قول غيره لقوله، ولا يحكّمه ويحتج بقوله إلا إذا وافق تقليده ومذهبه، فإذا خالفه لم يلتفت إلى قوله؟!

والمقصود أن من حقه سبحانه على كل أحد من عبيده أن يرضى به ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، وأن يكون حبه كله لله، وبغضه في الله، وقوله لله، وفعله لله، وتركه لله، وأن يذكره ولا ينساه، ويطيعه ولا يعصيه، ويشكره ولا يكفره.

وإذا قام بذلك كله كانت نعم الله عليه أكثر من عمله، بل ذلك نفسه من

(1)

في الأصول: "حظا لم يرض"، ولا يستقيم، والمثبت مع ما زدته هو الصواب إنْ شاء الله.

ص: 374

نعم الله عليه، حيث وفّقه له، ويسَّره وأعانه عليه، وجعله من أهله، واختصه به على غيره، فهو يستدعي شكرًا آخر عليه، فلا سبيل له إلى القيام بما يجب لله من الشكر أبدًا، فنعم الله تطالبه بالشكر، وأعماله لا تقابلها، وذنوبه وغفلته وتقصيره قد تستنفذ عمله. فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفذان طاعاته كلها.

هذا وأعمال العبد مُستحَقَّة عليه بمقتضى كونه عبدًا مملوكًا مُسْتعمَلًا فيما يأمره به سيده، فنفسه مملوكة، وأعماله مُستحَقَّة بموجِب العبودية، فليس له شيء من أعماله، كما أنه ليس له ذرة من نفسه، فلا هو مالك لنفسه ولا صفاته ولا أعماله ولا لما بيده من المال في الحقيقة، بل كل ذلك مملوك عليه، مُستحَقّ عليه لمالكه، أعظم استحقاقًا من سيد اشترى عبدًا بخالص ماله، ثم قال: اعمل، وأدِّ إليَّ، فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء. فلو عمل هذا العبد من الأعمال ما عمل لرأى ذلك كله مُستحَقًّا عليه لسيده، وحقًّا من حقوقه عليه.

فكيف بالمنعم المالك على الحقيقة، الذي لا تُعدّ نعمه وحقوقه على عبده، ولا يمكن أن تقابلها طاعاته بوجه، فلو عذّبه سبحانه لعذّبه وهو غير ظالم له، وإذا رحمه فرحمته خير له من أعماله، ولا تكون أعماله ثمنًا لرحمته البتَّة.

فلولا فضل الله ورحمته ومغفرته ما هنأ أحدًا عيشٌ البتة

(1)

، ولا عرف

(1)

كذا في الأصول: "ما هنأ أحدا عيش"، ولم يظهر لي وجهها، والأشبه:"ما هنأ أحدٌ بعيش" ونحوها، يقال: هنأني الطعام تيسّر بلا مشقة، وهنأتُ الرجلَ أعطيته، وهنِئتُ به إذا فرحت، وهنِئتُ الرجلَ إذا أعطيته وسررته، انظر:"الأفعال" لابن القطاع (3/ 360 - 361).

ص: 375