الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفائدة الثالثة:
إثبات أن كفر المشركين يعود جلّه إلى العناد والاستكبار عن الحق، وليس إلى عدم رؤيتهم الآيات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ عن ربه.
فالحاصل أنهم كانوا يوقنون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير بيت المقدس من قبل، وإلا لما سألوه عن أوصافه، وإنما سألوه ليعجزوه ويظهروا عدم صدقه في خبر إسرائه، وكان من المفترض مع كل جواب للنبي صلى الله عليه وسلم أن يزدادوا تصديقا به وتشككا فيما هم عليه من مسلك، ولكن هذا لم يحدث، لما انطويت عليه قلوبهم من الحسد والعناد.
والغريب أيضا في الأمر، أنه ما قال لهم: إنه مكث أياما في بيت المقدس، أو حتى يوما واحدا بل أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد وصلى بالأنبياء في جزء من الليل، فهل الذي يدخل مكانا مثل بيت المقدس في مثل هذا القدر من الزمان بهدف الصلاة، هل يقدر أن يجيب عن كل سؤال يوجّه له؟ خاصة إذا كان السائل يريد تعجيزه، بالطبع لا يستطيع.
فأقول: كان على الكفار لما سمعوا الإجابات الشافية عن كل أسئلتهم ألا يصدقوا فقط بصدق قصة الإسراء، بل كان عليهم أن يعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوحي إليه بأجوبة أسئلتهم، ولكن أين العقول؟.
الفائدة الرابعة:
ثبوت بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يعلم الغيب، في قليل أو كثير، وأن الله عز وجل هو الذي يؤيده بالمعجزات، وأنه صلى الله عليه وسلم يعتريه ما يعتري البشر من عدم التثبت من أشياء رآها سريعا، ودليل كل ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أشياء لم يثبتها في حافظته كرب كربا شديدا، فكيف نثبت له علم أشياء لم يرها أصلا، أو لم يسمع بها من قبل؟. فكل ما يتكلم به النبي صلى الله عليه وسلم من ماض أو مستقبل، أو حتى حاضر لم يره، فهو قطعا وحي من الله عز وجل، ولا داعي أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في كل مرة: إن الله تعالى أوحى لي بكذا وكذا، ولكن هذا معلوم لنا من الدين بالضرورة، علمناه من صريح آيات الكتاب الكريم، مثل قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] ، وعلمناه أيضا من وقائع كثيرة حدثت في السنة الشريفة، مثل واقعة الحديث الذي معنا، وغير ذلك مما ذكرته متفرقا في هذا الكتاب.
4- انشقاق القمر:
قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1] .
عن ابن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل،
وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشهدوا» «1» .
وفي الحديث المتفق عليه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:(أنّ أهل مكّة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقّتين حتّى رأوا حراء بينهما)«2» .
قصة انشقاق القمر بلا شك من أعظم المعجزات الحسية التي أيد الله تبارك وتعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث شق الله له القمر فلقتين حتى ظهر بينهما جبل حراء، وهي من أعظم المعجزات للأسباب التالية:
1-
حدثت المعجزة بناء على طلب من الكفار، لما ثبت عند الشيخين من رواية أنس رضي الله عنه:«أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين» ، ولما ورد في حديث الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اشهدوا» . والآية التي تكون على طلب المتحدي أبلغ في إظهار قوة المتحدّى وألزم للخصم.
2-
حدثت المعجزة في آية من أعظم الآيات الكونية وهي القمر، الذي يتعلق به قلوب الناس وأبصارهم كل ليلة، خاصة في مثل هذا الزمن- فكون المعجزة في القمر نفسه أفاد الأمور التالية:
أ- كانت معجزة عامة لا يسع أحدا أن ينكرها فقد شاهدها المسلم والكافر، والكبير والصغير، والحاضر والبادي، فهي بذلك تختلف عن بقية معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي غالبا ما تقتصر رؤيتها على أصحابه رضي الله عنهم، كتكثير الطعام.
ب- يجمع أصحاب العقول السليمة والفطر السوية أنها معجزة لا يقدر عليها إلا الذي خلق الشمس والقمر، وهو الله تبارك وتعالى، كما يجمعون على أنها معجزة لا تأتي عن طريق السحر والشعوذة والإيحاء، وهل قدر السحرة من قبل ومن بعد على مثلها؟!.
فهل يعقل أن الحكيم العليم يؤيد من يكذب عليه- حاشا لله أقولها فقط تنزلا مع الخصم- بمعجزة تكون في واحد من أعظم مخلوقاته وهو القمر، فيجعل عباده في شك وريب من أمرهم، إن أخف الناس عقولا يقرون أن حكمة الله سبحانه وتعالى تأبى ذلك.
قال الشيخ السعدي- رحمه الله: (فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على صحة ما
(1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، برقم (4864) .
(2)
رواه البخاري، كتاب المناقب، باب: انشقاق القمر، برقم (3868) .