الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] ، فالله سبحانه وتعالى نسب الذين أسرفوا في ارتكاب المعاصي والكبائر إلى نفسه الكريمة، فقال: يا عِبادِيَ
، وتأمل مواطن رحمة الله العظيمة في هذه الآية، وكيف تلطّف الله عز وجل بأصحاب الكبائر؟ بأن وجه إليهم النداء، ووصفهم بأعظم الصفات، صفة العبودية، ونسبهم إلى نفسه، ونهاهم عن اليأس والقنوط من رحمته التي وسعت كل شيء، وفتح لهم باب التوبة ورغبهم فيها بأن بين لهم أنه سبحانه وتعالى يغفر جميع الذنوب، ويدخل في ذلك الشرك، ثم ختم الآية بأن ذكرهم بصفتين كريمتين من صفاته، المغفرة والرحمة، توكيدا لكل ما ذكر بالآية، وليعلمهم أن يتوسلوا بهما، إذا أرادوا الإنابة إليه والاستغفار، أبعد كل ذلك يزين لنا الشيطان أن نترك دعاءه سبحانه وحده لا شريك ونذهب إلى غيره؟!
أما من يقول: إنه يذهب إلى القبور، لا ليدعو أهلها، ولكن ليدعو عندها، أقول له:
إنها بدعة منكرة؛ لأن القبور ليست مكان دعاء، وليس الغرض من زيارة القبر الدعاء، بل الغرض المشروع هو التذكرة بالموت، والدعاء لصاحب القبر، ولو كان الدعاء للنفس عند القبر أرجى في القبول لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولفعله ولأمرنا به، إذ كيف يخفي علينا شيئا فيه مرضاة للرب جل وعلا وفيه خير لنا، وهو الناصح الأمين، وإذا كان ذلك مشروعا، لفعله الصحابة، وهم يمرون على قبر سيد البشر في الغداة والعشي، فهل عرفوا أن هذا خير ولم يفعلوه؟!
وأقول لمن يذهب إلى القبر، ليدعو الله: كيف تذهب إلى مكان يشرك فيه بالله، وينذر فيه لغير الله؟ ويطاف بصاحب القبر، وتقال فيه أوراد وأذكار ما شرعها لنا الله ورسوله، ويختلط فيه الرجال والنساء، ويكثر فيه المشعوذون، وهذه كلها منكرات تغضب الله ورسوله، كيف تقول: إن هذا مكان يستجاب فيه الدعاء؟ هذا مكان أبعد ما يكون لاستجابة الدعاء.
فائدة: قد يحدث أن يدعو الرجل عند القبر، أو يدعو صاحب القبر، وتتحقق في اعتقاده الدعوة، أقول: إن دعوة الرجل صادفت قدر الله عز وجل برفع النقمة أو حدوث النعمة، ويكون ذلك ابتلاء من الله عز وجل للرجل الذي ظلم نفسه بابتداعه في الدين، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] .
ب- الدعاء لا يناقض التوكل
، ولا يناقض اليقين بأن الله عز وجل يرى حاله، ويعلم حاجته، كما أن الدعاء لا يشغل المسلم عن عبادة الله؛ لأن الدعاء هو العبادة، وأدلة ذلك
كثيرة نذكر منها على سبيل المثال:
1-
أمرنا الله بالدعاء في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وقد وضحت بعضها في الفقرة السابقة، وكفى أنه سمى الدعاء عبادة، وأكثر من ذلك أن الله وضح أن التوجه إليه بالدعاء والتضرع هو استجابة له وإيمان به، قال تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186] ، كما أن ذم الذين يصرفون الدعاء لغير الله، والتشنيع بهم هو في ذاته مدح وثناء لمن يدعو الله مخلصا له الدين.
2-
إن الله عز وجل يحب أن يظهر العبد الافتقار إليه، والتذلل بين يديه، والثناء عليه ومدحه بما هو أهله، وإنما يتحقق ذلك بوضوح وجلاء إذا رفع العبد يديه إلى السماء، معلنا بالغ عجزه، وكمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وأبلغ ما يدلل على حب الله للدعاء، الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مضى شطر اللّيل- أو ثلثاه- ينزل الله تبارك وتعالى إلى السّماء الدّنيا فيقول: هل من سائل يعطى؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ حتّى ينفجر الصّبح» «1» .
فالنزول الإلهي- على الوجه الذي يليق بالعلي القدير- الحكمة منه أن يتفضل الرب تبارك وتعالى، على السائل وعلى الداعي وعلى المستغفر، ولولا رضى الله عز وجل، على هؤلاء ما توجه إليهم خطاب المولى سبحانه وتعالى في هذا الوقت المبارك، ولو أن أحدا أفضل منهم لتوجه إليه الخطاب بدلا منهم، أو معهم؛ لأنه لا يعقل من الشارع الحكيم أن يتفضل على هؤلاء، وفيه من هو أفضل منهم، ولا يتوجه إليه الخطاب.
3-
الدعاء هو سبيل الأنبياء كلهم جميعا، دعوا الله بخيري الدنيا والآخرة، منهم من دعاه أن يرزقه الذرية الصالحة، قال تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء: 89] ، ومنهم من دعاه بالملك العظيم، قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص: 35] ، ومنهم من دعاه بأن يكتب له الذكر الحسن، قال تعالى على لسان إبراهيم صلى الله عليه وسلم: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] ، ومنهم من دعاه بالجنة ومرافقة الصالحين، قال تعالى على لسان يوسف:
أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] ، ومنهم من دعاه بهلاك الكافرين، قال تعالى: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ، ومنهم
(1) رواه مسلم، كتاب: صلاة المسافرين، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، برقم (758) .
من دعاه بالنجاة من الهلاك، قال تعالى على لسان يونس عليه السلام: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ [الأنبياء: 87] ، ومنهم من دعاه بمغفرة الذنوب، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص: 16] ، ولو كان عدم الدعاء أولى، لكان أولى الناس بذلك صفوة الخلق، وكيف يذكر الله عز وجل في كتابه الكريم كل هذه الأدعية للأنبياء في سياق المدح والثناء عليهم، ولا يبين لنا أن الأولى في حقهم عدم الدعاء، ولا يختلف اثنان أن الأولى في حق الأنبياء هو فعل الأولى من كل الطاعات.
4-
ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يدعو- وبغير طلب من أحد- خاصة في أوقات المحن والشدائد، كدعائه في غزوة بدر، وإلحاحه الشديد على الله بطلب النصرة، وكدعائه على قريش لما آذته، ووضعوا على ظهره الشريف سلى الجزور، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بخيري الدنيا والآخرة بطلبهم كدعوته لأنس بن مالك في الحديث الذي (رواه البخاري) عن أنس، وفيه: (فقالت أمّ سليم: يا رسول الله إنّ لي خويصة قال: «ما هي؟» ، قالت:
خادمك أنس فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلّا دعا لي به قال: «اللهمّ ارزقه مالا وولدا وبارك له فيه» ) «1» ، وبغير طلبهم، كان النبي يدعو ربه ويجتهد في الدعاء، ويعلم أمته ذلك، مع كامل توكله على الله، ورضاه بقضائه وقدره، وهو أعلم الأمة، بل أعلم الأنبياء، بما ينبغي أن يسلكه مع الله عز وجل من الأدب.
5-
يتفرع على ما ذكر، أن نقطع بأفضلية الدعاء، وأنه عبادة مستقلة، وأن الذي يدعو مع الصبر على البلاء، والشكر على النعماء- خير من الذي لا يدعو مع صبره وشكره، فعلينا جميعا أن نتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء بكل ما نرجوه ونأمله من أمري الدين والدنيا، والأولى والآخرة، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يسمع صوت عبده.
فإن احتج أحد بحديث المرأة التي سألت الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء لها بالشفاء من الصرع، فخيّرها بين الشفاء أو الصبر ودخول الجنة، فاختارت الصبر والجنة، هذا الحديث ليس بحجة في عدم الدعاء، وذلك لأن النبي عرض عليها الدعاء، وهذا حجة في مشروعيته، ولو كان عدم الدعاء لها أولى لبين ذلك لها، ولكنه عرض عليها الصبر مقابل أن تدخل الجنة، فوجدت المرأة أن الصبر والجنة أعظم مما تلاقيه من شدة الصرع، ومع هذا فقد طلبت
(1) رواه البخاري، كتاب: الصوم، باب: من زاد قوما فلم يفطر عندهم، برقم (1982) .